ص1     السابق

 

الهوية العربية : من صحيفة النبي إلى تفكك الخلافة العباسية

 

محمد عابد الجابري

عندما نتحدث عن "الأمة العربية" كما تقوم اليوم في وجدان الشعوب العربية فنحن نتحدث عن كيان نشأ وتطور مع الإسلام وانتشاره. لقد بدأ هذا الكيان في التشكل "دستوريا" مع "الصحيفة" المعروفة بـ"صحيفة النبي"، وهي عبارة عن ميثاق "قومي" أبرمه النبي (ص) بعد الهجرة مع سكان "المدينة" من عرب ويهود. كان هذا الميثاق "قوميا" بالفعل لأنه اعتبر في إحدى بنوده أن المهاجرين والأنصار واليهود هم جميعا أمة واحدة متضامنون متعاونون ضد أي اعتداء خارجي. فها هنا وحدة قومية بين المهاجرين الآتين من مكة، والأنصار سكان المدينة، واليهود القاطنين فيها.

في إطار هذه "الوحدة القومية" أو "الهوية الجامعة" حافظت الوثيقة لكل قبيلة من قبائل يثرب اليهودية منها والعربية، وللمهاجرين من قريش، على أعرافهم خصوصا في المسألة الأساسية التي تهم المجتمع البدوي، مسألة معالجة جريمة القتل، سواء كان القتل خطأ أو عمدا. وبذلك أقرت نوعا من الهدنة الاجتماعية بين "الهويات الصغرى" وفتحت الباب للإخاء والتعاون حتى قبل أن تكتمل الشريعة المحمدية.

أخذ هذا الكيان الجامع في التوسع مع غزوات النبي (ص) حتى شمل أو كاد مجموع جزيرة العرب. ثم تابع الخلفاء الراشدون من بعده تأسيس دولة الإسلام التي كانت في الوقت نفسه دولة العرب. وقد برز "المظهر العربي" في كيان هذه الدولة على عهد الأمويين. وهذا شيء تبرزه كتب التاريخ والأدبيات العربية عموما.

كانت الدولة الأموية دولة عربية، بمعنى أن السلطة فيها كانت موزعة على القبائل العربية الحاكمة وحدها، في حين كان الأقوام الذين دخلوا في الإسلام محرومين أو مبعدين بصورة أو بأخرى عن ممارسة السلطة السياسية. والواقع أن استئثار بني أمية بالحكم إنما هو نتيجة حتمية لمسلسل التطور الذي شهده مجتمع مكة قبل الإسلام، والمجتمع الإسلامي على عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين.

لقد كان بنو أمية قبيل الإسلام يشكلون هم وبنو مخزوم القوة ذات النفوذ المالي والعددي العسكري في مكة قبل البعثة النبوية، وحين قام الرسول (ص) بالدعوة كان أكثر الناس عداوة له هم الملأ من قريش، وبكيفية خاصة زعماء بني أمية وبني مخزوم. وعندما هاجر النبي (ص) إلى المدينة ودخل مع قريش في صراعات كانت غزوة بدر الكبرى منعطفا تاريخيا في هذا الصراع. لقد انهزم فيها بنو مخزوم وانحل الحلف الذي كان بينهم وبني أمية فانفرد هؤلاء بالزعامة، وتولى أبو سفيان التاجر الماهر المساوم المفاوض قيادة قريش لإنهاء الصراع. وهكذا تم فتح مكة بصورة سلمية ونادى المنادي بأمر الرسول : "من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن".

ما أريد التأكيد عليه من خلال هذه التفاصيل المعروفة هو أن دخول بني أمية في الإسلام كان شبه جماعي في إطار نوع من التفاوض. ومن أجل أن يدعم الرسول (ص) هذا الإسلام المتفاوض عليه عامل أبا سفيان وجماعته، ومنهم معاوية نفسه، وكلهم كانوا أغنياء أقوياء، عاملهم معاملة "المؤلفة قلوبهم"، فخصهم بحصص كبيرة من الغنائم، الشيء الذي أثار امتعاض كثير من الأنصار فأقنعهم النبي (ص) بأن المسألة هي مسألة تدعيم إسلام هؤلاء المسلمين الجدد وكسبهم إلى جانب قضية الإسلام.

لنضف إلى ذلك أن الرسول (ص) كان قد تزوج بنت أبي سفيان قبل إسلام هذا الأخير.  كما أنه استعمل معاوية كاتبا له، واستعمل أناسا آخرين من شخصيات بني أمية عمالا له على بعض النواحي. ولم يتغير وضع بني أمية خلال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، بل بالعكس قوي نفوذهم، خصوصا في الشام ومصر التي كانوا ولاة عليها، مما نشأ عنه وضع سياسي خاص يتلخص في وجود نفوذ قوي لبني أمية في الشام، وهو نفوذ برز أثره واضحا وملموسا في الصراع بين علي ومعاوية، وهكذا لم يتغير وضع بني أمية في الجاهلية عنه في الإسلام، بل إن الإسلام على عهد الرسول والخلفاء الراشدين "قد حدد أنيابهم"، كما يقول المقريزي في عبارة مشهورة له.

إذن، فالدولة الأموية منظورا إليها من زاوية التطورات الاجتماعية السياسية التاريخية، هي دولة قوم من العرب دخلوا الإسلام وأبلوا فيه البلاء الحسن خلال الفتوحات التي تمت في زمنهم، ولكن دولة الإسلام في عهدهم بقيت دولة أموية، أعني دولة أكبر قبيلة عربية في عصرها.

وعندما قامت الدولة العباسية، في أعقاب ثورة شعبية منظمة ومحكمة، حاولت أن تكون دولة "الجميع"، فأقامت نوعا من اقتسام النفوذ: فالخليفة عربي، وقواد الجيش عرب أو تحت إمرة خليفة عربي، والجنود والكتاب وأعضاء الحاشية الآخرون كانوا من الموالي، من الفرس والخراسانيين أولا، ثم من الأتراك فيما بعد. وفي خضم الصراع بين هذه القوات التي تشكلت منها الدولة العباسية برزت هويتان: واحدة عبرت عن نفسها انثربولوجيا فيما أطلق عليه "الحركة الشعوبية" بينما عبرت الأخرى عن مضمونها دينيا في ما سماه المستشرقون بـ"الانقلاب السني" زمن المتوكل.

كانت الدولة العباسية قد تحولت بعد وقت قصير من قيامها (وبالضبط على عهد هارون الرشيد) إلى ما يشبه "الإمبراطورية". وكما هو الشأن في الإمبراطوريات عموما فالهوية الجامعة التي ترتكز عليها الدولة القومية تترك مكانها للهويات الصغرى التي تتنازع أو تتآلف حسب الظروف والمصالح. في هذا الإطار أصبح "الأنا العربي الإسلامي" يتحدد عبر "الآخر"، الأعجمي غير المسلم. الشيء الذي أفقد التمييز بين "عرب" و"مسلمين"  فحواه على صعيد الهوية. لم يكن هناك تمييز بين عروبة وإسلام، وحتى في النقاشات التي دارت خلال المعارك ضد الشعوبية كان الوعي سائدا وواضحا بأن ما تستهدفه الحركة الشعوبية هو تقويض سلطة العرب وصولا إلى القضاء على الإسلام. وبعبارة أخرى فالذين هاجموا العرب (المانوية ومن في معناهم) هاجموهم بوصفهم حاملي دين مكنهم من إقامة إمبراطورية على أنقاض إمبراطورية كانوا يحلمون بأن يكونوا هم الوارثين لها.

ظل الأمر على هذه الحال طوال القرون الوسطى: فكان العربي هو المسلم، والمسلم هو العربي. لم تكن الهوية تتحدد بالنسب بل كانت تتحدد حضاريا بالانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية، وسياسيا واجتماعيا ودينيا بالانتماء إلى إحدى الهويات الصغرى: عرقية، مذهبية دينية، طائفية...

للمقال صلة