ص1      الفهرس    المحور 

 

الفاعل والنظام:

حول وظائف الجرم السماوي في الكوسمولوجيا الرشدية

 

العربي اشماعو

I

يشغلني في شروحات ابن رشد على أرسطو، وفي توضيحاته لأشكال العلاقة بين الوجود المطلق ومظاهره المحايثة سؤال مقلق تتفرع صيغه الإستفهامية كالتالي: لماذا كان المتن الرشدي الشارح في كل نصوصه الطبيعية والأنطولوجية المكونة له ينحو بهذه العلاقة الاتصالية بين المبدإ المطلق والعالم منحى متعارضا يضعها على حافة "تناقض" بسبب جمعها بين الفاعلية الطبيعية والكونية التي ترتقى مراتبها من المحايث إلى المفارق، وبين فهم آخر يتغاضى مؤقتا عن أصالة الوجود ليصب في اتجاه الاستقلال الذاتي للعقل الكلي عن عالم الحقيقة الطبيعية والإنسانية؟

لقد ألزمت صيغ معينة في ميتافيزيقا أرسطو فيلسوف قرطبة على الأخذ بغائية الجوهر المطلق، كما أغرته أشكال أخرى لها بالأخذ بتصور دينامي للكون يصف انخراط مختلف المتحركات والعلل السماوية في إنجاز وظائفها الكونية في مساراتها الدورية المنتظمة، والتي على أساسها تتعاقب الصيرورة المنتجة للكون والفساد على أشياء وموجودات هذا العالم. لكن بموازاة ذلك تفترض مواقف رشدية أخرى انفصال الحركة الأولى الدافعة لدينامية الكون عن حركة الجرم السماوي، مما يعني دوران العالم في بعد كوني يتخذ اتجاها مضادا لحركة الجوهر المطلق، من غير أن يمس هذا التعارض بنظام العالم أو يكون له تأثير على مختلف المسارات الوجودية التي تنتج وحدة الكل المنتظم، ومن غير أن يتوقف الاتصال الزماني والانتظام المكاني للكون… فهل يعكس هذا الأمر نوعا من الازدواجية التي تشطر عالم ابن رشد إلى بعدين كونيين متقابلين، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون أخذا بسببية متعددة تتضافر من خلالها علل الموجودات وأسبابها المتكثرة لتولد حركة "السماء والعالم"؟

من الأكيد أن أرسطو كان في هذه المسألة بالذات أستاذ ابن رشد الأوحد دون غيره من المفسرين، ومن الأكيد أيضا أن موقف فيلسوف قرطبة من أسئلة المعلم الأول الأنطولوجية لا يكاد يشذ عن مكونات ثقافة شراح العصور الوسطى، وعن مختلف أنساق القراءة التي حددت موقفهم المعرفي من أرسطو والأرسطية وأشكال تمثلاتهم لعالمها، فالحقيقة لا ينبغي البحث عنها في العالم المادي نفسه، بل إنها تنكشف كذلك أو تلج مقام الانفتاح من خلال تفسير وتأويل كتابات أرسطو(1) على ضوء مرجعية برهانية صارمة. إلا أن هذا المعطى لا يضير ابن رشد في شيء ولا ينتقص من قيمة مشروعه الفكري، فقد كان الرجل، وهو يمارس شروحاته على نصوص أرسطية سيئة الترجمة ومبهمة الدلالة ويتمرس بإشكالياتها، على وعي بحدود السلطة المعرفية الأرسطية وخصوصية رؤيتها للعالم، ذلك أن طموحه إلى إحياء "الأرسطية الأولى"، وإلى إلغاء كل المسافات التأويلية الفاصلة بين المفسر وبين المتن المشروح، بالرغم من اعتقادنا باستحالة النهوض بهذا الأمر مبدئيا وواقعيا، إذ لم يكن هناك غناء لابن رشد وهو يباشر شروحاته على ترجمات متعددة لنص إغريقي توسطت في تعريبه اللغة السريانية وغيرت من ترتيبه ووظائفه، فضلا عن استحضاره نماذج من الصور التأويلية التي أنتجها الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وغيرهم من شراح الحقبة الإسكندرانية، كما أنه كان على اتصال بالكيفية التي استعادت بها التفاسير الإسلامية المتأخرة عالم أرسطو، إن هذا الطموح لم يكن يعني شيئا آخر أكثر من التمييز المنهجي بين أرسطو وبين أنساق القراءة وعوالمها الإيديولوجية المختلفة التي أفرزتها حقب طويلة من النتاج الفلسفي التفسيري، بمختلف حمولاتها المذهبية التي يغلب عليها حضور الهاجس الديني والإحساس بتغلب محور المفارقة والتعالي على ما عداه.

هناك مسألة هامة يفضي إليها موقف ابن رشد النقدي من نتاج أكثر من عشرة قرون من الأدب الفلسفي التفسيري تفصله عن زمانية الفكر الأرسطي، تخص أشكال التناظر البنيوي بين صورة الكون الرشدية، وبين حدودها التي رسمتها المدرسة الفلسفية المشرقية، ابتداء بالكندي وانتهاء بابن سينا، اعتمادا على مقدمات أفلاطونية حديثة تمزج بين مبدإ العلم وبين تمظهراته الوجودية الذاهبة بالمد الفيضى من المبدإ الأول الفياض إلى كل المراتب الكونية اللاحقة، وربما كان أهم سؤال في هذا المستوى يصب في محاولة فحص مدى تمكن ابن رشد، في كل النصوص المشكلة لمتنه الفلسفي الشارح، من التخلص الفعلي، من كل رواسب هذه الإشكالية الأفلاطونية الحديثة التي رسخت ثغرة خطيرة بين طرفي العلاقة الثنائية بين الله والعالم دون أن تتمكن من ردمها وتجاوزها، خاصة في فرضها لتدخل المطلق "الفلسفي" والعقائدي في عالم تؤطره المعقولية ويحكمه النظام، فهل توفق ابن رشد فعلا في إنتاج تشكيلة مفاهيمية تمكن النظام الكوني الرشدي من تعويض الغياب وملء الفراغ الذي خلفته القطيعة مع الإشكالية الفيضية، وكتابة تاريخ جديد لحقيقة الموجود يبعث الحياة من جديد لميتافيزيقا الجوهر الأرسطية التي فرض عليها أن تتنفس في مناخ دلالي جديد محكوم بسلطة الفعل المتعالي، وبإلزامات الأمر المقدس؟

من الممكن هنا أن نصادر على مطلوبنا بتأطير التصور الرشدي لمسألة الفاعل، ولعلاقة الله بالعالم تحديدا، في إطار الوحدة الكونية، أو وحدة الكل حيث لا يعود هناك إمكان لاستحضار الثنائية الكونية القديمة، وحيث يكون الكون في فهم فيلسوف قرطبة مأخوذا باعتباره كلا موحدا وسلسلة وجودية متماسكة تسبق كل حلقة منها الحلقات الكونية الأخرى وتدخل معها في علاقة ترتبية لا ترتفع، لكن السؤال الحاسم في نظري بصدد هذا الأمر هو: ما طبيعة المدخل النظري الذي أفضى بابن رشد إلى القول بالوحدة الكونية؟ وهل صحيح أن الأمر يتعلق ببصمات أو "بآثار" أفلاطونية حديثة على شروحاته جعلته يرى ظلال الواحد في هذه الوحدة الكونية، مع أن مورد تذويب الثنائية الأنطولوجية السابقة الذكر في الوحدة الوهمية التي تنعكس فيها صورة المثل المعلقة في كل التراث الأفلاطوني هو القول بالمشاركة، هذه المشاركة التي كانت الأفلاطونية الحديثة قد اعتبرتها مظهرا لحضور الواحد في الوحدة، عبر تواتر زخم المد الفيضي الذي يقطع كل مستويات "الواقع"(2) وينتجها في الوقت نفسه من خلال فعله الخلاق في كل المستويات الوجودية الدنيا..؟ فكيف إذن يختلف المفهوم الرشدي للوحدة الكونية عن مفهومها في الطرح الأفلاطوني الحديث، والتي يفترض البعض(3) أن ابن رشد نهل منها دونما تبين لخصوصية نظامه الكوني، مع العلم أن نموذج هذه الوحدة لم يكن واحدا ولا موحدا في تاريخ الفلسفة.

II

من الأكيد أن أرسطية ابن رشد كانت تقتضي منه التسليم بداهة بالعلاقة الدورية بين العلة التامة ومعلولاتها والتي تقوم بالوصل بين الجوهر المطلق والجواهر الحادثة، ذلك أن صورة الكون الرشدية إنما تتحصل من هذا التفاعل الحتمي بين سلاسل العلل والمعلومات، فلا يتغير النظام حتى مع وضعنا فاعلا أول للعالم. فإذا كان هذا الفاعل لا أول ولا آخر له في الزمان، وما دام هذا الفاعل باقيا وفعله الكوني متصلا إلى غير نهاية، فبالواجب أن يكون الفعل الساري في نظام العالم وطبائع الموجودات لا أول لوجوده ولا آخر، لأنه لا يمكن له أن يتعالى عن حركة العالم، ولأنه لا يستقل عن دوره الوظيفي المتمثل في اتصال الحركة الدورية التي تدفع الجرم السماوي إلى توليد مظاهر الصيرورة في عالمنا(4).

ولا شك أن هذا الربط الوثيق لدى ابن رشد بين الفعل الكوني ومنتجاته وبين الفاعل، أي بين المعلول وعلته الكافية يدل دلالة واضحة على ذلك السبيل الذي رسمته التجربة الأنطولوجية الرشدية، والمؤدي حتما إلى جلاء معنى الوجود وجعله يتكشف وينفتح من تلقاء ذاته. فنحن، كما يقول أحد معاصرينا، كلما أبعدنا الوجود عن علله وأسبابه، كلما شعرنا بأهمية السؤال: كيف يتوصل الوجود والعلة إلى أن يتحدا؟. فالوجود بمعناه العقلي، أي بمعنى اللوغوس، هو ذلك الجمع الذي يدع أشياء العالم منبسطة أمام أعيننا، فبه تأتينا الأشياء، وبه تحضر أمامنا في النور، وهو الذي يضمن مبدأ ثباتها حين يجعل العالم على ما هو عليه في كل مرة، وعلى النحو الذي هو عليه دون نحو آخر. وبهذا صح ما يراه الوسيطيون من أن الوجود والعلة يدلان على نفس الشيء ويعكسان في تطابقهما وحدة الحركة الأولى بهذا الوجود، ما دام التعليل هو ما يجعل الموجودات تحضر من تلقاء ذاتها في مقام الحضور(5).

إن شروح وتفاسير ابن رشد، إذا ما نحن تناولناها من هذا المنظور، لا تكون مادتها الأولى هي معاني النص الأرسطي المشروح فقط، بل علامات الوجود الذي يتخفى أصله الجوهري وراء حجاب العلة الكثيف، ووراء سلاسل الأسباب والمسببات. وذلك لأن تراتب العلل في الخطاب هو وحده ما يضمن، باجتماعها، ثبات الموضوع وصلابته إزاء التصور الإنساني، ويقود إلى ترسيخ الأشياء والموضوعات، وتوفير الضمانة الكافية لوجودها(6). ولهذا يتحدد النظام السببي الذي يوجه الموجودات، في عمومها، حسب هرمية منطقية وقيمية صارمة، تسير لدى فيلسوف قرطبة، من الخاص إلى العام، ومن المتعدد إلى الواحد، إذ منها ما هو قريب خاص بموجود موجود، ومنها ما هو بعيد عام مشترك بين سائر الموجودات. وأول الأسباب الخاصة هما المادة والصورة القريبتان، أما الأسباب المشتركة، فأولها المادة الأولى، وهي السبب الأقصى للتحرك والانفعال، فالمحرك الأول الذي هو، بالتالي، السبب الأقصى للتحريك والفعل، إضافة إلى الصورة والغاية(7).

بيد أن حديث ابن رشد عن هذا السبب الأقصى، وعن متحركاته القريبة، يستدعي منا الانتباه إلى خاصياته الحركية الفاعلة، وإلى نظام حركته الدورية، الذي به يتم تنفيذ الفعل الكوني. وهذا ما يسملنا، بالتالي، إلى تبين الدور الذي ينهض به الجرم السماوي في المنظومة الرشدية، باعتباره حلقة واصلة بين المحرك الأول والعالم، تنوب عنه في تدبير نظام الكون، وتملأ ثغرة الممارسة الفاعلة، المرتبطة بصوريته المطلقة. إذ لا بد من وضع أسباب متوسطة، تتراتب فيها العقول المفارقة، بين السبب الأول والأسباب الطبيعية، ما دام الجوهر غير المتحرك لا يحرك إلا من حيث هو مبدأ عقلي للكل، بواسطة جهاز العلل السماوية والطبيعية، بأسبابها الأربعة، وما دام لا يؤثر في سيرورة اتحاد المواد بصورها إلا من حيث هو صورة مجردة تدفع ما يجاوها من الصور إلى بلوغ الكمال الخاص بها. فإنه "لما كان المحرك الأقصى للجميع، أعني للأول، الحال فيه كالحال في المحرك القريب، وكان المحرك الأول يحركه إلى جميع الصور، فبين أن المحرك الأول صورته جميع الصور"(8).

سيصبح الكشف عن الآليات المتعددة، التي تتحكم فيما ينجزه المحرك المتحرك من أدوار، أحد الهموم المركزية للشرح الرشدي. فهو يعترف بما يلحق معنى الفاعلية من تعقيد مرده إلى أن الفعل ليس معنى بسيطا في ذاته، بل يرتبط، في تجلياته، بمدارج ومستويات متعددة، إذ يرجع إلى الصورة التي هي مفارقة، أو إلى المجموع من الهيولى والصورة، الذي يظل هو الآخر مستوى من مستويات الفعل. إلا أننا نستطيع، مع ذلك، أن نمسك بأول وأهم مظهر لفاعلية المتحرك الأول، وهو توليده للقوة الحركية في العالم بشكل متدرج بحسب القرب والبعد من المحرك الأول، "ذلك أن هذا الفلك لشرفه وقربه من المبدأ الأول، أمكن فيه أن يحرك كواكب كثيرة، إذ كان يظهر أن الكواكب أشرف أجزاء الفلك. وأما ما دونه من الأفلاك فلبعدها من الشرف كان الأمر فيها بالعكس، أعني أن الأفلاك الكثيرة منها تدير كوكبا واحدا. كأن الطبيعة، في هذا كله، كما يقول أرسطو، عدلت إذ جعلت الفلك الأشرف يحرك بحركة واحدة كواكب كثيرة، وما دونه يحرك بحركات كثيرة كوكبا واحدا"(9).

يأتي هذا التقدم بالشرف، الذي يتميز به الفلك المحيط، لا يفضل به على سائر الأجرام السماوية من قدرة على الفعل. فهذا الفلك الأول، لما كان يظهر من أمره أنه مبدأ الحياة وعلة وجود الكائنات الحية، وغير الحية، أكثر من سائر الأفلاك، وجب أن تكون قوته أعظم من قوة سائر الأفلاك، وذلك لأن القوة العظمى تحرك أجراما أكثر، والقوة الصغرى تحرك أجراما أقل. ولهذه العلة العطالية صار الفلك الأول يحرك كواكب كثيرة بحركة واحدة(10). ولا يعني هذا التفاضل الحركي للأفلاك المتراتبة سيادة الانفصال الأنطولوجي والسببي في نظام الطبيعة، بل إنه يقتضي اتصال النظام، وغياب التكوين الصدفي للحركة الفلكية. ولهذا كان وجود الاتفاق والبخت في الأجرام السماوية أبعد من أن يليق بها، إذ هي في غاية النظام والترتيب، ولو سلمنا بوجود الاتفاق والبخت في هذه الأجرام الشريفة، لكان ذلك إنما يوجد منها على الأقل، أعني في كوكب أو كوكبين، فأما أن يعرض ذلك البخت في جميع الكواكب، فشيء خارج عن القياس"(11).

إن فرض الحتمية، والسير بمداها إلى حدود أطراف النظام السماوي، بحيث تنعكس صورتها في الجريان الحتمي للدورات الفلكية، هو أبعد ما يكون عن أية نظرة معيارية لا ترى في المجال الكوني إلا مظاهر للوحدة والتجانس والانسجام، إذ لا يحدث النظام ولا يكون إلا من حيث هو حصيلة للتضاد والتنافر والاختلاف، كما أن سيادة هذا التناقض الجدلي بين طرفي آلية الكون والفساد لا ينفي هو الآخر، خضوعه لمنطقه السببي الخاص به، ولا يتخذ أي شكل اعتباطي. وذلك لاقترانه السببي بالحركات الجرمية التي تضبط تناسب تفاعلاته داخل نظام الكون، في تعادل دقيق يبقي هذه الأجسام محفوظة بكليتها؛ "إذ كان وجودها دائما من ضرورة وجود المتحرك المستدير دائم الحركة. فواجب أن تكون الحركات المستديرة ليكون التعادل والتساوي الموجود لها، أعني للأسطقسات في الكون والفساد، ليس إنما وجد لها من قبل أنفسها فقط، بل ومن الحركات المختلفة المتجانسة بتحريكها لطبيعةٍ طبيعةٍ من هذه الطبائع الأربع، مثل مجانسة فعل القمر لتوليد الماء، ومجانسة فعل الأجرام لتوليد النار. فإن التعادل الذي يوجد لها في الكون والفساد إنما يلفى لها من هاتين الجهتين، أعني من قبل طبائعها المتضادة المتقاومة، ومن قبل اختلاف مقاومة الأسباب المجانسة لمضادة مضادة منها بعضها بعضا، فإنه واجب، إن كان مزمعا أن يكون ها هنا كون وفساد دائما، أن يجري ذلك عل التكافؤ، ونظام محدود"(12).

من هنا تتضح الأهمية الحاسمة لدور السماء الأولى، ببنيتها الأثيرية، في بلورة الفاعلية الوجودية، التي تستمد قوتها من الجرم السماوي، وتتبدى، بالتالي، فيما ينتج عن الحركة الذاتية للسماء من قوى وآثار تنطبع بصماتها في التنظيم الكوني العام. فهذا النظام الحاصل في عالمنا ليس، في نهاية التحليل، إلا محصلة لجملة التفاعلات الحركية التي يخلفها الجرم السماوي الأثيري على مستوى انتظام الحركات الكونية، شرط أن يفهم مدلول هذا الجرم في بعده الطبيعي الحركي، لا على شاكلة متابعي التقليد الأفلاطوني المحدث من الإسلامين حيث وحدوا بين محرك الكل، وبين النفس الكلية المدبرة للعالم، فابن رشد يحذرنا من دعوى هؤلاء المتأخرين "من أن ها هنا جوهرا أول هو أقدم من محرك الكل"، ويجزم ببطلان هذا القول، "وذلك لأن كل جوهر من هذه الجواهر هو مبدأ للجوهر المحسوس، على أنه محرك، وعلى أنه غاية"(13)

ومن ثمة لا بد من إقرار وجود أنظمة فرعية داخل النسق الكوني الشامل، تجسد كلها تقاطع الفاعلية والغائية في مبدئها الأول. ووظيفة هذه "العوالم" المصغرة والمنحصرة في حدود أفلاكها، هي إنقاذ العلة الأولى من الدخول في أي اتصال حركي مع العالم الطبيعي، من شأنه أن يورثه تغيرا مستمرا، بحيث يحافظ المحرك الأول على نسقيته الخاصة واستقلاله الأنطولوجي، باعتباره تلك النهاية المنطقية والوجودية التي لا بد أن تتوقف عندها سلاسل العلل، إذ أنه "يجب للشيء الروحاني الذي هو في نهاية الفضيلة ألا يتغير وألا يبيد. لأنه لو كانت له علة أخرى تحركه لكانت أفضل منه، ولا أفضل منه، وإذا لم تكن له علة تغيره فليس يمكن أن يتغير من قبل نفسه، ولا من قبل غيره، فليس يمكن أن يتغير أصلا(14)..

III

توحي نصوص رشدية عديدة للكثير من الدارسين بغلبة المدخل الأفلاطوني الحديث على فكر فيلسوف قرطبة، خاصة وأن منها ما يعتمد تصورا للفعل يتحول المحرك الأول الأرسطي فيها إلى علة مبدعة فعالة، فيكون إذن منطلق الرشدية بهذا المعنى متجها من الفاعل إلى الفعل لا من المفعولات إلى فاعلها كما عودنا على ذلك التصور الفلسفي المشائي لدينامية الكون، ذلك أن الشارح -فيما يرى جان جوليفه(15) J.Jolivet- إذ اتفق مع أرسطو بأن العلة الأولى عقل، يضيف إلى هذا المعطى نظرية الفيض المتعاقب المنظم للحركات والأفلاك عن المحرك الأول.

ولعل في هذا الطرح ما يمكن أن يشي بقناعة صاحبه الراسخة إلى درجة اليقين بإمكانية قيام نموذج محدد للأرسطية الصافية المنقاة من أية أخلاط غريبة عنها يرقى إلى مرتبة المثال الفلسفي والمعرفي النموذجي الذي يسمح على ضوء معاييره الصارمة بقياس مدى تطابق الرشدية معه أو ابتعادها منه؛ هذا مع أن السياق الفعلي الذي تم فيه تكوين المتن الأرسطي نفسه لم يكن يعكس ما يؤكد هذا المنحى، ذلك أن الفحص الدقيق للبناء الداخلي لمصنفات أرسطو يظهر بكامل الوضوح إلى أي حد لم تكن متساوية القيمة. وإذا ما نحن أغفلنا صمت شراح أرسطو عن ذلك وزعمهم بالانغلاق التام للمنظومة الأرسطية على نفسها، فإننا سنكتشف حتى أن مصنفات عديدة للمعلم الأول لم تكن لتنجو من تبديل وتحريف،سواء من جامعي المتن الأرسطي، أو من شراح الحقبة الإسكندرانية المتأخرة التي لقيت نصوصها ومتنوها الشارحة لأرسطو في المجال العربي الإسلامي ترحيبا منقطع النظير.

لقد كان هدف الشراح في إطار هذا التقليد الفكري يرمي إلى تحويل الممارسة التفسيرية إلى أداة للوصل بين أبعاد مختلفة ومكونات متعددة في فكر أرسطو نفسه. وما يهمنا من كل هذا الأمر هو أننا عند الحديث عن الصورة العربية لأرسطو والأرسطية يجب علينا أن نتسلح بالكثير من الحذر المنهجي ونعيد النظر في تلك المسبقات التي طالما شجعت حامليها على المبالغة في خطورة التأثير الأفلاطوني الحديث على المشائية العربية المتأخرة، إذ علينا أن نتجاوز تلك الأدوار النمطية المحددة التي رسمها تاريخ الفلسفة الرسمي عما كان يحمله الفكر العربي من قيم فلسفية، حيث تم حصر النتاجات الفكرية المنتسبة إليه في حدود مهمة فهم وتلقي خطاب أرسطو، أصيلا كان أم زائفا!!. والحال أن المتن الأرسطي العربي منذ بداياته التأسيسية على يد أبي نصر الفارابي كان يعكس علاقة "قلقة" بهذه الأصول ووعيا شقيا بتعارضاتها، دفعه مرة "للجمع بين الحكيمين" اعتمادا على أوثولوجيا أرسطو المنحول بغرض رفع شقة الخلاف بين العقيدة والفلسفة، لكنه في مرات عديدة، وخاصة حين يتعلق الأمر بالجانب الأخلاقي في الفكر الأرسطي، كان يحمل بدون شك مشروعا تاريخيا لقراءة أرسطو واستفهام عالمه لم يعلن عنه إلا بشكل هامس لا يكاد يبين في رسالته "تحصيل السعادة"، وربما كان قد فصل فيه في شرحه للأخلاق النيقوماخية المفقود، ويظهر أن أبا نصر قد أمسك بالحلقة الأخلاقية والمدنية في السلسلة الفكرية الأرسطية، وأنه كان بصدد تحريك حلقات أخرى من فكر المعلم الأول لا علاقة لها بأرسطو المنحول لولا أن الشروط الموضوعية المؤسسة للنظام الفكري السائد لم تكن لتسمح له بفتح هذا الأفق النظري، على خلاف الظرفية التي أطرت المدرسة المشائية في الغرب الإسلامي، والتي أتاحت لمنتجي القول الحكيم فرصة مساءلة مشروع الفارابي، الصامت هذا في اتجاه الإعلان عن كل مضمراته بوضوح.

وفي الواقع إن تلك الصورة المركبة التي استحضر من خلالها الفكر العربي في بواكيره الأولى تراث أرسطو بتلوينات فلسفية وعقائدية انعكست على بعض جوانبها ظلال الأفلاطونية الحديثة يدعونا إلى ربط النتائج بأسبابها ومقدماتها بأن ننتبه ليس فقط إلى انفتاح الأنطولوجيا الإسلامية المشرقية على الواحد الأفلاطوني، بل إلى حجم الرواسب الأفلاطونية التي ظلت تعتمد في الطبقات القاعدية لجوانب وأوجه عديدة من المتن الأرسطي، وقد بينت دراسات عديدة لا مجال لاستحضارها الآن إلى أي حد كان هذا المتن منطويا على سياقات فكرية متعددة كانت أقطابها المتعارضة تفتح ثغرة ملأتها فيما بعد نصوص أرسطية زائفة وشروحات أفلاطونية حديثة، وهي التي كانت مسؤولة عن تنشيط الذهنية التأويلية في الفكر العربي الوسيط.

ليست المشكلة منحصرة إذن في حدود افتراض أصل معين للرشدية بإدراجها تحت لواء السلطة الأفلاطونية أو الأرسطية، اللتين هيمنتا على أنساق المعنى في الفكر العربي أو اللاتيني الوسيطي، بل إنها تخص بشكل جوهري مدى تحرر أرسطو من الإشكالية الأفلاطونية ونمط تساؤلاتها. وتمهيدات المعلم الأول الكوسمولوجية في كتاب السماء والعالم كلها دالة على هذا المعنى، إذ لم يكن قد تمكن بعد من إقصاء فاعلية النفس الكلية ودورها الكوني في تحريك السماء. ومع أن فقرات عديدة من هذا المصنف توحي بمحاولات خجولة لتفسير الحركة الدورية للجرم السماوي بمفاهيم تعلن عن رغبة أرسطو في مغادرة حقل الأفلاطونية، إلا أن ذلك لا يعني اقترابه من الشكل الناضج التي تناول به إشكالية الحركة الأولى في المقالة السابعة والثامنة من السماع الطبيعي.

نعم إن كتاب السماء والعالم يقدم المادة الخام الأولى لبعض كتابات أرسطو اللاحقة كما يذهب إلى ذلك جوزيف مورو J.Moreau(16)، ومن الجائز القول بأن كتاب ما بعد الطبيعة قد تم التمهيد لبعض قضاياه وموضوعاته في "السماء والعالم" الذي يقدم إلى حد ما حدسا وإرهاصا بنظام حججه، لكن الحقيقة هي أن أرسطو لم يكن قد تمكن في هذا المستوى من صياغة فرضية المحركة الأول كبديل عن النفوس المحركة لأجرام السماء. ولعل في هذا الأمر ما يفسر اعتناء الشراح العرب بتطوير مفاهيم تأويلية تعينهم على اكتناه عالم أرسطو من مداخل نظرية مختلفة، فإذا كان التقليد الفلسفي العربي بالمشرق قد استعان بكتاب العلل لبرقلس لوصف التراتبية الكونية، فإن ابن رشد كان في كل ما، أعده عن مصنف "السماء والعالم"، من جوامع وتلاخيص وشروح كبرى، إضافة إلى رسالته " في الجرم السماوي" التي ضاع أصلها العربي وشاع ذكرها في الكتابات اللاتينية الوسيطية، حريصا على طرد الرواسب الأفلاطونية من مقالاته وإقفال الباب أمام تدخل المتن الأرسطي الزائف الذي راج لدى شراح أرسطو المدافعين عن المخطط الفيضي. فالعمل الرشدي على هذا النص هو استحضار أكيد للمرجعية الطبيعية الأرسطية في المجال الواجب حضورها فيه، وهو ما يفسر تشبث فيلسوف قرطبة بقراءته في ضوء مقتضيات القول الطبيعي الناضج، رغبة منه في الانفصال الكلي عن بعد معين في الأرسطية في اتجاه أبعاد وآفاق أخرى وجد فيها "الشارح الأكبر" ما يدل على أنها الأقل شكوكا والأقوى حجة في تقرير الحقيقة.

IV

إن آفة كل التحريجات التي كانت تصل بشكل أفقي بين كوسمولوجيا ابن رشد والنظام الأفلاطوني الجديد أنها لا تكاد تستبين طبيعة الأفق التساؤلي للرشدية في انفصالها عن ميتافيزيقا الواحد الأفلاطونية وأشكالها المتأخرة، وليس هناك أمعن في الخطإ من دمجها بين إشكاليات نظرية تنتمي إلى حقول معرفية متغايرة. صحيح أن ابن رشد كان قد حرص على إعادة إنتاج بعض النصوص التفسيرية المشائية، التي لم تكن تخل من إعادة نظر تأويلية في المتن الأرسطي، لكنه لا ينبغي مع ذلك أن نهمل أن العنصر المؤسس لمرجعية التأويل الرشدي يستقل بإطاره الإشكالي عما عداه، فكثير من المواقف التي تتضمنها الشروح الرشدية إنما أتت نتيجة سياق تواصل تأويلي بين المتن وشارحه، فرض تأطيره ضمن مقولات تفسيرية، تكشف عن الصياغة الدلالية التي انتهت إليها التجربة التأويلية الرشدية. وفي الواقع إن التمحيص الدقيق لمحتوى المفاهيم التي تقود هذه التجربة، يظهر إلى أي حد ظلت بعيدة عن المناخ الأفلاطوني الفيضي، الذي لم يكن ليجد صدى له عند مفكري الأندلس -إذا ما استثنينا إشراقية المتصوفة، وبعض الكتابات الفلسفية العبرية المتقدمة مثل كتاب "ينبوع الحياة" لابن جبرول- إلا في فيضية موسى بن ميمون، هذا الرجل الذي لم يجد في تعليله لظاهرة النبوة بدا من الجمع بين نوع من الأرسطية ذات المسوح الفارابية الباجية وبين نظرية الفيض الأفلاطونية، حيث يشبه المد الفيضي النازل من الإله إلى العالم بالعين الفائضة التي يتدفق فيضها الإلهي، فيفيض في العالم كل ما يحدث فيه(17).

فخلافا لما ذهب إليه ابن ميمون من تنزيل الفاعلية المطلقة للمبدإ الفياض، كأصل إبداعي للموجودات. يبقى ابن رشد، من بين المشائين، أشدهم تمسكا "بالأرسطية الجذرية"، حيث قرن بين وظيفة الشرح، وبين تنقية فلسفة المعلم الأول من الشوائب التي علقت بها، متجنبا ما وقع فيه التيار الأفلاطوني من خلط بين هويته المبدع الأول وبين المحرك الأول الأرسطي. ومما لا شك فيه أن تخطي ابن رشد لكل المفاهيم الفيضية عن الفاعلية الإلهية، بل ولكل صور ميتافيزيقا الخلق الكلامية التي كان الفكر السينوي قد أعطاها مشروعيتها الفلسفية، سوف يفرض على قارئه التخلي عن المفاهيم المعتادة لدلالة فعل الفاعل، ليصير فعل هذا الفاعل، في بعده الكوني، موجها توجيها غائيا لا فاعليا. إذ لا فرق في ارسطية فيلسوف قرطبة بين الفعل والصورة والغاية، يقول: "إن الذي يعطي الغاية في الموجودات المفارقة للمادة هو الذي يعطي الوجود، لأن الصورة والغاية هي واحدة في هذا النوع من الموجودات. فالذي يعطي الغاية في هذه الموجودات هو الفاعل، ولذلك يظهر أن المبدأ الأول هو مبدأ لجميع المبادئ، لأنه فاعل وصورة وغاية"(18).

وهكذا لم يخلف دفاع الفيضيين، وفي مقدمتهم ابن سينا، عن فرضية العلة المانحة للوجود، وكذا ما وضعوه من إمكان العالم في ذاته حتى يفسروا كيفية الصدور عن الواجب الوجود، أي صدى في فكر ابن رشد، بسبب نزوعه إلى إحياء فلسفة عقلية خالصة، مستقلة عن كل مسبقات ذات طابع ثيولوجي، بما فيها فكرة انقلاب العدم وجودا وابتداع العالم من لا شيء. لهذا كان فيلسوف قرطبة يتشدد في انكار المسار الذي سارت فيه التأويلات الفيضية المتأخرة المتجاوبة مع قضايا علم الكلام؛ فالرأي الذي يذهب إليه الفيضيون في الإسلام هو في حقيقته مذهب غريب عن أرسطو، ويعد شيئا غير معروف عند قدماء الفلاسفة، إذ أن كل ما يقصده القدماء هو أن المبادئ "الفاعلة" لها من المبدإ الأول مقامات معلومة لا يتم لها الوجود إلا بذلك المقام ومنه، والارتباط بين هذه المبادئ هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض، وجميعها عن المبدإ الأول، ولهذا كما يقول ابن رشد، لا يفهم من الفاعل والمفعول، والخالق والمخلوق، هذا المعنى(19).

V

لقد راح فيلسوف قرطبة يطرح أسئلته المشككة في قيمة الحلول الفيضية لمأزق العلاقة بين الوحدة والكثرة في الموجودات، بعد أن بان عجزها عن فهم طبيعة العلل السماوية، وكيفية ارتباطها العقلي الغائي بمعلولاتها. وتهدف هذه الأسـئلة كلها إلى إدراك الكثافة الأنطولوجية لما هو موجود، ضمن نظام يؤطر معناه ويعيد تجسيده في منظومات طبيعية أو كونية متعددة، يفسر كل منها الآخر. وبهذا لا تتضح العلاقة العلية بين الأجرام السماوية وما دونها من الموجودات الكائنة الفاسدة إلا على نمط يشبه الصلة القائمة بين الموجود الكامل وبين ما دونه من الموجودات. وهكذا فالموجود الكامل "يفيد" ما دونه من الموجودات من كماله على قدر الإمكان، وما دونه يفيد ما دونه من الموجودات من كماله، ثم يتسلسل الأمر على نحو لا تحرك فيه العقول الأجرام السماوية فحسب، بل تعطيها صورتها التي هي بما هي، فكانت إذن فاعلة لها بوجه ما. ذلك أن الفعل إن هو إلا إعطاء الشيء جوهره الخاص به، وهو صورته. ولما كانت العقول تحرك الأجرام على سبيل الشوق، فهي منها بمثابة العلة الغائية، فضلا عن الصورة والفاعل(20).

إن غائية العقل إذن هي البديل الممكن لمقولة الواحد الذي لا يصدر عنه إلا مثيله أما "الذي حركهم إلى هذا الظن فهو قياس يقف على فساده من ارتاض أدنى ارتياض في هذا العلم، ذلك أنهم قالوا: يظهر من أمر هذه العقول أن بعضها لازم لبعض، على درجة ما يلزم المعلول عن العلة، والسبب عن المسبب. والجوهر الأول يجب أن يكون بسيطا، والبسيط لا يصدر عنه، أو لا يلزم علته إلا واحد، ومحرك السماء لزم عنه نفس السماء الأولى، ومحرك الفلك الذي يليه، فواجب أن يكون غير بسيط، فلفعله علة هي أقدم منه. وهذا القول موهم، وذلك أنه ليس هناك صدور، ولا لزوم، ولا فعل، حتى تقول إن الفعل الواحد يلزم أن يكون عن فاعل واحد، وإنما هناك علة ومعلول، على جهة ما نقول إن المعقول هو علة العاقل"(21).

تقوم هذه المحاكمة الرشدية الصارمة للإشكالية الفيضية على تطوير تحليل نقدي لها، يثري نفسه بنتائج التفكير السببي المنصب على نظام العلل الطبيعية الأرسطية، ويصف موضوعه انطلاقا من رفض فكرة الفيض التدريجي عن الأصل الميتافيزيقي الأول. لقد قاد هذا التصور ابن رشد إلى نحت صورة جديدة، تصف مراتب الكون وبنياته، إضافة إلى ما يخترقه من علاقات يهيمن عليها النظام الحتمي، ضمن إطار يتصل فيه وجوديا نسق السببية الما بعدية بنسق المعقولية المجردة. وعلى هذا النحو يكون العقل الثيولوجي كيانا جامعا لأنظمة سببية تلج بالكائنات إلى عالم الوجود، رغم تعدد لحظات "انبثاقها" عن عقل الجوهر المطلق، كذاتية عاقلة ملتذة بمعقولاتها. وظاهر من هذا أنه ليس يمتنع فيما بذاته عقل ومعقول أن يكون علة لموجودات شتى، وذلك متى وضعنا أن تلك العقول، التي تملأ الفضاء الفاصل بين الله والعالم، بمقدورها أن تتصور عنه بأنحاء مختلفة من التصور(22). ولهذا لا بد أن يكون تشكل النظام الكوني جاريا على هيئة "قوة روحية" في جميع أجزاء العالم كما يوجد في جميع أجزاء الأنظمة البيولوجية لدى الحيوان الواحد قوة تربط وظيفيا أجزاءه بعضها ببعض، والفرق بين هذه الاستعارة الدلالية وبين مرجعها أن الرباط في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم(23).

إن تفكيك ابن رشد لأهم المقولات المركزية التي قام عليها المخطط الفيضي الكوني، وإقصاءه لأهم قاعدة نظرية تؤسسه، وهي مقولة النفس الكلية، بما ترتب عنها من فهم سيكولوجي مثالي للحركات الكونية، بعيدا عن مسلمات القول الطبيعي، كل هذا ساقه إلى تشغيل المفاهيم المؤسسة للمنظومة الطبيعية الأرسطية، قصد الوقوف في وجه تأويلات ميتافيزيقا النفس وافتراضاتها الروحية عن ماهية الكواكب والأفلاك المتحركة بالعشق النفساني. وأمام هذه العودة الرشدية إلى صلابة الموضوع المادي، وإلغاءها للمنظور الإحيائي الفيضي، تتهاوى كل المستندات النظرية التي جعلت من الفاعل الفياض علة مانحة للوجود، فالمادة وحدها تحمل كل إمكانات الوجود وتتكفل الحركة المتحكمة في جدلية القوة والفعل في إعطاء هذا الوجود قوامه ومعناه، وهذا ما يؤكده فيلسوف قرطبة إذ يقول في تفسير ما بعد الطبيعة: "وأما ما جرت به العامة من أهل زماننا بأن يقال أن المحرك الكذا صدر عنه محرك كذا، أو فاض عنه أو لزم، أو ما أشبه هذه الألفاظ، فشيء لا يصبح مفهومه على هذه المبادئ المفارقة… فإن الفاعل لا يصدر عنه شيء إلا إخراج ما بالقوة إلى الفعل، وليس ها هنا قوة أصلا، ولذلك ليس هناك فاعل، وإنما ثمة عقل ومعقول، ومستكمل ومستكمل به، على الحال الذي تستكمل الصنائع بعضها ببعض، وذلك بأن تأخذ بعضها مبادئها من بعض"(24).

VI

على أنه ما دام بطلان الدليل يشي ببطلان مدلوله فإنه يكفينا عرض مقولة صدور الواحد عن الواحد على سلطة العقل القياسي، ومحاكمتها على ضوء ثوابته المنطقية، لنرى تهافتها واختلال بنيتها الاستدلالية، بما تحمله من صورة منطقية لا علمية، فهذه المقولة ذات المرجعية الأفلاطونية لا تقف بحدودها عند نظام الأدلة الفلسفية بقدر ما تنهل من دليل كلامي بين البطلان عماده قياس الغائب على الشاهد. ذلك أن القائلين بالفيض والصدور "لما سلموا لخصومهم أن الفاعل الذي في الغائب كالفاعل الذي في الشاهد، وأن الفاعل الواحد لا يصدر عنه إلا فعل واحد، وكان الأول عند الجميع واحدا بسيطا، عسر عليهم (فهم) كيفية صدور الكثرة عنه"(25).

وواضح مما تقدم أن اكتمال النظام النسقي الذي تنتمي إليه كلية العالم، يقتضي جمعا منطقيا وسببا محكما بين الوحدة والكثرة، والتدرج بين المراتب والمستويات الأنطولوجية المختلفة. فلا يكفينا التقوقع داخل هوية الأشياء لتحصيل معقوليتها، أو لإدراك مسار تحولاتها، ثم إنه لا ينبغي أن نشك في أن هاهنا جدلا لا يتفاعل في قلب نظام العالم، وأن الموجودات إذ تفعل بعضها بعضها، ومن بعضها، ليست مكتفية في نفسها بهذا الفعل، بل بفاعل "من خارج"، يشكل فعله شرطا أساسيا في فعلها عبر الحركة المنتجبة لوجودها.

بيد أن ضرورة إثبات هذا الفاعل، وإن بقيت كمطلب فلسفي أجمع عليه الحكماء، إلا أنها تتحكم فيما لديهم من أبنية تفسيرية متعددة يستعين كل منها بنظام مقولات خاص به، فإذا كان لهذا الفاعل تشكيلة دلالية تخصه في عالم المعنى، فهي ليست شيئا أكثر من طبقات تأويلية ينتج بها كل منظور فلسفي حقائقه، ويستوعب بها حضور ما هو متعالي على مستوى الحجة الفلسفية. يقول ابن رشد: "أما جوهر هذا الفاعل أو الفاعلات، ففيه اختلاف الحكماء من وجه، ولم يختلفوا من وجه، وذلك أنهم اتفقوا على أن هذا الفاعل بريء من المادة، وأن هذا الفاعل فعله شرط في وجود الموجودات، وفي وجود أفعالها. وأن هذا الفاعل فعله هذه الموجودات بواسطة مفعول له هو غير هذه الموجودات، فبعضهم جعله الفلك فقط، وبعضهم جعل مع الفلك موجودا آخر ريئا من الهيولى، هو الذي يسمونه واهب الصور"(26)

إن جوهر القضية هنا هو: إما الالتزام بفكر طبيعي يقيم فعاليته المنظمة داخل حدود العالم، أو الدعوة إلى رؤية نفسانية ترى في الوجود مفعولا لباطنيات النفس الكلية، وتلحقه بمصادر متعالية خارجة عنه. وهذا يعني أننا أمام نظامين أنطولوجيين متقابلين يحدد كل منها مقاربته المتميزة، فإذا كان الاختيار الأرسطي الرشدي يحرص على الانشداد إلى وجهة نظر طبيعية تلاحق الحركات الكونية، متتبعة أسبابها القصوى وبمادئها الوجودية، فإننا نصادف، خلافا لذلك، لدى مختلف النزعات الفيضية التي تبناها بعض حكماء الإسلام حرصا آخر على مركزية الواحد وتعاليه المطلق، وانشغالا بمتابعة حلقات الانتشار الفيضي النابع من العلة الوجودية الأولى، والذي يتشخص زخمه الفيضي في العقل الأول والنفس الكلية، ويتحدر فعله إلى حدود العقل الفعال.

VII

لهذا نستطيع أن نعاين بجلاء كيف يكون النظام الحركي الدينامي للعالم في تصور ابن رشد مدخلا لتأسيس وحدة الكل، إذ هناك جسر واصل بين المحرك الأول والمتحركات الطبيعية يشد أرضية البناء الميتافيزيقي الرشدي يتمثل أساسا في ما ينجزه الجرم السماوي من وظائف تحول "فعل" العلل الوجودية المفارقة إلى دينامية سماوية تدير الجهاز السماوي وتدير نظامه متخذة في الوقت نفسه وضعية العلة والمعلول؛ فهي تكون علة لدورها الفاعل في عالم الكون والفساد وهي معلول ونتيجة لكون الجرم السماوي بشكل في حركته الدورية يخضع لمنظومة حركية غائية تنشد الوحدة والاتصال بالمبدإ المطلق. وبهذا المعنى تضعنا الكوسمولوجيا الرشدية أمام شبكة من الأسباب والعلل الوجودية لا حد لها، ولا أولوية فيها لسبب على آخر لا باعتبار وظائفه في النسق الكوني الشامل. وبهذا أيضا يكون الجرم السماوي في عالم ابن رشد المنظم والمتراتب، حسب تعاقب مستوياته الوجودية وتدرجها وبين أهم أداة للربط بين الصوري والمادي وبين المعقول والمحسوس، فلا يعود هنالك مورد لاتسحضار الثنائيات الأنطولوجية القديمة في عالم من مقوماته الاندماج والوحدة والتماسك.

 

الهوامش

1 - Genequand (Charles): Ibn Rushd’s Metaphysics, pp. 56-58, E -J. Leiden Brill, 1986.

2 - Maria Isabel Santa Cruz: La Genese du monde sensible dans la philosophie de Plotin, pp. 18-21, Paris, 1982.

3 - Van den Berg, The Tahafut of at - Tahafut of Averroès, vol.II, N, 107 a, London 1954.

4 - ابن رشد، تهافت التهافت، ص 57-58، دار المشرق بيروت، 1986.

5 - مارتن هايدجر، مبدأ العلة، ترجمة د.نظير الجاهل، الصفحات 72-120، بيروت 1991.

6 - المرجع السابق، ص 13.

7 - د.ماجد فخري، ابن رشد، ص 47، بيروت 1960.

8 - ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، ج, 3، ص 1539، المطبعة الكاتوليكية، بيروت 1988.

9 - ابن رشد، جوامع السماء والعالم، ضمن رسائل ابن رشد، ص 57، حيدر آباد، 1947.

10 - ابن رشد، تلخيص السماء والعالم، ص 229، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس 1983.

11 - المرجع السابق، ص 236.

12 - المرجع السابق، ص 202

13 - ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 1648.

14 - تلخيص السماء والعالم، ص 141.

15 - J.Jolivet: Divergences entre les Metaphysiques d’Ibn Rusch et d’Aristote.

ضمن أعمال مهرجان ابن رشد، الجزائر، 1989.

16 - شدد ج.مورو في مقدمة ترجمته الفرنسية للسماء والعالم على الطابع المرحلي والانتقالي لهذا المصنف، وقد بسط الموضوع بتفصيل في:

L’ame du monde du Platon au Stoiciens, Paris, 1938.

17 - موسى بن ميمون، دلالة الحائزين، ص 303 تم حسين آتاي، مكدسة الثقافة الدينية القاهرة، بدون تاريخ.

18 - ابن رشد: تهافت التهافت، ص 232.

19 - المرجع السابق، ص 186.

20 - د.ماجد فخري، ابن رشد، ص 53.

21 - ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، الجزء الثالث، ص 1649.

22 - المرجع السابق،ص 1949.

23 - انظر تناول ابن رشد لهذه القضية في التهافت، الصفحات 228-232.

24 - تفسير ما بعد الطبيعة، ج 3، ص 1652.

25 - تهافت التهافت، ص 179.

26 - المرجع السابق، ص 524.