ص1      الفهرس    المحور 

التوازي ولغة الشعر*

محمد كنوني

تمهيد:

لئن كان الشعر نتاج العلاقة القائمة بين فاعل الكلام والوظيفة الشعرية(1) حسب تعريف ج.ب.بالب J.P.Balpe، فهذا يعني أنه مصدر أصيل من مصادر الإحساس بالكينونة، وهو يلهمنا هذا الإحساس بفعل الوحدة المتميزة لنسقه اللغوي. وتتحقق هذه الوحدة التي يكشف الشعر بمقتضاها عن النزوع إلى الدوام في الذاكرة الإنسانية(2) عبر مجموعة من سمات التشابه التي يعتبر التوازي Le parallelisme من أبلغ صيغها بوصفه: "التشابه الذي هو عبارة عن تكرار بنيوي في بيت شعري أو في مجموعة شعرية"(3).

مفهوم التوازي:

في محاولة تأصيل المفهوم في النقد الغربي، أجمع الدارسون على أنه مفهوم جديد إذا ما قورن بالمفاهيم المتواضع عليها في البلاغة الغربية، تلك المفاهيم وإن كانت قريبة منه، إلا أنها لا تشكل معادله الصحيح(4). ذلك أن التوازي بديل لساني حل محل المفاهيم التي تختزل كل أشكال التوازن والتناظر(5) البلاغية. وبالرجوع إلى القرن الثامن عشر نجد أن أول من اقترح التوازي وسيلة للتحليل هو الراهب ر.لوث R.Lowth 1753 الذي حلل الآيات التوراتية في ضوء ثلاثة مظاهر من التوازي هي: التوازي الترادفي و التوازي الطباقي والتوازي التوليفي. ومنطلق لوث في تحديد التوازي، هو أنه عبارة عن تماثل قائم بين طرفين من نفس السلسلة اللغوية. وقد فسر بلير Blair 1808، أحد معاصري لوث ذلك، بأن هذين الطرفين عبارة عن جملتين لهما نفس البنية، بحيث يكون بينهما علاقة متينة تقوم إما على أساس المشابهة أو على أساس التضاد(6).

لكن الأثر الكبير في تحديد هذا المفهوم يرجع إلى التقاطع الحاصل في الدرس النقدي الحديث بين اللسانيات والشعرية، حيث نص ر.جاكبسون R.Jakobson على أن التوازي: "عنصر قد يحتل المنزلة الأولى بالنسبة للفن اللفظي"(7) ومن تطبيقات جاكوبسون التي تقتصر أو تكاد على الشعر المنظوم، نتبين أن التوازي عنصر شعري في المقام الأول، حيث تشكل القافية حالة خاصة ومكثفة "للمسألة الأساسية للشعر التي هي التوازي"(8) ومرجعية جاكوبسون في بلورة هذا المفهوم تعود لـ: ج.م.هوبكنس J.M.Hopkins الذي يرى أن "الجزء المصنوع من الشعر ويمكن بلا شك، أن نصيب القول بأن كل صنعة تختزل إلى مبدأ التوازي. فبنية الشعر تتميز بتواز مستمر.."(9).

وللإشارة، فإن التوازي نتج في شعرية جاكوبسون عن مفهومه الذي يقضي بأن الوظيفة الشعرية تسقط مبدأ التماثل لمحور الاختيار على محور التأليف(10). وبما أن الوظيفة الشعرية حسب ف.فانوي F.Vanoye تستقطب الاهتمام بجميع تجليات اللغة الشعرية(11)، فبمجرد ما يتحول التماثل من محور الاختيار إلى محور التأليف فإنه يساهم في بناء متواليات شعرية متوازية حصرها ج.ك.كوكي J.V.Coquet في التوازيات النحوية والتوازيات الاصطلاحية والتوازيات الصوتية والعروضية والتوازيات الدلالية(12).

وإذا كان جاكوبسون قد حدد خصائص التوازي في أنه عبارة عن تأليف ثنائي يقوم على أساس التماثل الذي لا يعني التطابق(13)، فهذا التحديد قد شكل قاعدة مثلى ومنطلقا أساسيا لحل الدراسات اللاحقة. فيوري لوتمان V.Lotman الذي يرى أن معالجة التوازي تتم أثناء تحليل دور التكرار في الشعر، يعرف التوازي بأنه: "مركب ثنائي التكوين، أحد طرفيه لا يعرف إلا من خلال الآخر، وهذا الآخر -بدوره- يرتبط مع الأول بعلاقة أقرب إلى التشابه(…)، ومن تم فإن هذا الطرف الآخر يحظى من الملامح العامة بما يميزه الإدراك من الطرف الأول، ولأنهما في نهاية الأمر طرفا معادلة وليسا متطابقين تماما فإننا نعود ونكافئ بينهما على نحو ما، بل ونحاكم أولهما بمنطق وخصائص سلوك ثانيهما"(14).

ولأن التوازي في رأي ج.مولينو J.Molino و ج.تامين J.Tamine قد ظهر تاريخيا ليعيد الاعتبار لظواهر تتعلق بالمستوى الصرفي-النحوي، وبدرجة أقل المستوى المعجمي الدلالي، فهما يعرفانه بأنه "بمثابة متواليتين متعاقبتين أو أكثر لنفس النظام الصرفي-النحوي المصاحب بتكرارات أو باختلافات إيقاعية وصوتية أو معجمية-دلالية"(15) من هذين التعريفين إذن، نتبين أن التوازي يتضمن خاصيتين متلازمتين:

أولا: إنه عبارة عن علاقة تماثل -تتم على مستوى أو مستويات لسانية- بين طرفين أو أكثر.

ثانيا: إن العلاقة القائمة بين هذين الطرفين تنبني على مبدأين هما التشابه والتضاد، ما دام كل الطرف يحتفظ رغم التشابه بما يتميز به عن الآخر.

وعند القيام بتأصيل هذا المفهوم في النقد البلاغي عند العرب، نصادف مجموعة من المصطلحات البلاغية التي تمتلك في النص وظيفة إما إعجازية أو شعرية. وفي هذا الإطار يمكن أن نستأنس بما ورد في كتاب "الطراز" من كلام عن السجع، يقول يحيى بن حمزة: "ويقع (أي السجع) في الكلام المنثور وهو في مقابلة التصريع في الكلام المنظوم الموزن في الشعر (…) ومعناه في ألسنة علماء البيان، اتفاق الفواصل في الكلام المنثور في الحرف أو في الوزن أو في مجموعهما (…) فإن اتفقت الأعجاز في الفواصل مع اتفاق الوزن سمي المتوازي (…) وإن اتفقا في الإعجاز من غير وزن، سمي المطرف(…) وإن اتفقا في الوزن دون الحرف سمي المتوازن…"(16).

إن الأهم في هذا النص هو مصطلح المتوازي الذي يجمع بين المطرف والمتوازن، ولهذا السبب فهو يلعب في النثر نفس الدور الذي تلعبه القافية في الشعر، نظرا لامتلاكهما نفس الوظيفة الجمالية F.Esthetique الناجمة عن وجود مبدأين متلازمين هما: مبدأ الاجانس الصوتي Homophonie "أي اتفاق الفواصل في الحرف" ومبدأ التجانس الخطي homographie" أي اتفاق الفواصل في الوزن".

وإذا كان جاكوبسون بمقتضى هذه الوظيفة الجمالية قد اعتبر القافية حالة خاصة ومكثفة لمسألة أساسية للشعر هي التوازي، فإن المتوازي وبمقتضى هذه الوظيفة أيضا يعتبر صورة بسيطة تختزل التوازي في أقل كلفة لغوية. أكثر من ذلك، إن اشتقاق مصطلح المتوازي ينم عن الوعي النقدي بالبعد الهندسي القائم بين الأطراف المتوازية، وهو نفس البعد الذي أدى إلى نحت مصطلح التوازي: Le parallelisme في المقد الغربي، لأن أصل مفهوم التوازي هو: "المجال الهندسي، ولكنه نقل مثلما تنقل كثير من المفاهيم الرياضية والعلمية إلى ميادين أخرى، ومنها الميدان الأدبي والشعري على الخصوص"(17).

هذا، وللاقتراب أكثر من مفهوم التوازي يعتبر جنسا المعادلة والمناسبة من أبلغ الصياغات البلاغية الواردة في كتاب المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع لأبي محمد القاسم السجلماسي. فالمعادلة "إعادة اللفظ الواحد بنوع الصور فقط في القول بمادتين مختلفتي البناء مرتين فصاعدا". ويندرج ضمنها نوعان هما: الترصيع والموازنة(18). أما المناسبة فهي: "تركيب القول من جزءين فصاعدا كل جزء منهما مضاف إلى الآخر، ومنسوب إليه بجهة ما من جهة الإضافة، ونحو ما من أنحاء النسبة". ويندرج تحتها أربعة أنواع هي: إيراد الملائم، وإيراد النقيض، والإنجرار، والتناسب.

يشترك تعريف المعادلة أو المناسبة مع التعاريف الأجنبية للتوازي في مجموعة من الخصائص نجملها في نقطتين:

أولا: أن التوازي علاقة تماثل أو تعادل بين طرفين أو أكثر كما يتحدد من قول السجلماسي: إعادة اللفظ الواحد في القول أو تركيب القول من جزئين "مرتين فصاعدا"

ثانيا: إن مفهوم المعادلة يستقطب الاهتمام بمجموعة من سمات التوازي على المستوى الصوتي. وإذا كان السجلماسي قد حدد ذلك في الترصيع والموازنة فإحساسه بالقيمة التعبيرية للأصوات، تلك القيمة التي تقترن في نظر ج.مو G.Mu بعلاقات مجازية مرسلة(20) Synecdochique، هو الذي شكل منطلق تعريفه للمعادلة، فالصورة في قوله "بإعادة اللفظ الواحد بنوع الصور" تدل على مراعاة نسق الصوائت في اللفظ. والمادة في قوله" بمادتين مختلفتي البناء" تدل على مراعاة نسق الصوامت في اللفظ.

كما أن جنس المناسبة الذي يرادف التكرير المعنوي(21)، يستقطب بأنواعه الأربعة جل العلاقات التي يفرزها التوازي على المستوى الدلالي.

مستويات التوازي في لغة الشعر:

1 ـ المستوى الدلالي:

يرى مولينو وتامين أنه بإمكاننا تصنيف التوازيات وفق معايير دلالية، وذلك بالتمييز بين أربع علاقات أساسية(22). وبعد إعادة النظر في هذه العلاقات نلاحظ أنها تنسجم أيما انسجام مع الأنواع الأربعة التي حدد في ضوئها السجلماسي جنس المناسبة(23)، وهذه العلاقات هي:

أولا: علاقة دلالية تنبني على أساس الترادف، وهو ما يسمى بإيراد الملائم؛ أي الإتيان بالشيء وشبيهه من ذلك بيتي المتنبي(24):

وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمـــة ووجهك وضاح وثغرك باســـم

فالملاءمة الدلالية القائمة بين المترادفات "الموت-الردى" و"كلمى-هزيمة" و"وضاح-باسم" التي أفرزت توازيا دلاليا بين حالتين متقابلتين "حالة المنهزم وحالة المنتصر" هذه الملاءمة هي التي سوغت للمتنبي الرد على منتقديه أمام سيف الدولة.

ثانيا: علاقة دلالية تنبني على أساس التضاد، وهو ما يسمى بإيراد النقيض أي الإتيان بالأضداد. ومن هذا القبيل قصيدة "المواكب"(25) لجبران خليل جبران التي تشكل نسقا مفارقا يقوم على الجمع بين الأضداد في صورة ثنائيات: "الموت/الحياة" و"الخير/الشر" و"العدل/الظلم" و"الشقاء/السعادة" و"الروح/الجسد" و"العبد/ الحر". وهذه المفارقة تتبلور منذ مطلع القصيدة في قول الشاعر:

الخير في الناس مصنوع إذا جبروا والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا

فالتضاد القائم بين "الخير والشر" والذي تم في مواقع متماثلة أفرز التضاد بين مجمل عناصر البيت في مواقع متماثلة أيضا، حيث نجد نسقا من المتقابلات:

 

 

الخير # الشر

 

 

في الناس # في الناس

 

(حاصل صناعي) ـ مصنوع # لا يفنى ـ (حاصل طبيعي)

(عرضي) ـ إذا جبروا # وإن قبروا ـ (أبدي)

 

ثالثا:علاقة دلالية تنبني على أساس الارتباط الشرطي، وهو ما يسمى بالانجرار، أي الإتيان بالشيء وما يتسعمل فيه. وهذه العلاقة تتم إما بين لفظين يشترط بعضهما الآخر. وإما بين سلسلة من الألفاظ المترادفة يشترطها موقع واحد ثابت.

الصورة الأولى لهذه العلاقة نمثل لها بقول أبي القسام الشابي في مطلع قصيدة "النبي المجهول"(26):

أيها الشعب ليتني كنت حطابا فأهوي على الجذوع بفأسي

العلاقة قائمة بين الحطاب والفأس، لأن الفأس من شروط قيام الفعل الذي يقوم به الحطاب "فأهوي على الجذوع بفأسي".

والصورة الثانية لهذه العلاقة، يختزلها بيت أبي الطيب:(27)

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

حيث ترتد سلسلة من المترادفات إلى موقع ثابت وهو هنا الذات الأنوية التي يشير إليها الفعل "تعرفني". فالخيل والسيف والرمح ألفاظ ترتد إلى هذا الموقع لأنها من شروط إحساس الذات بالفروسية. والقرطاس والقلم يرتدان إلى نفس الموقع لأنهما من شروط إحساس الذات بالشاعرية.

رابعا: علاقة تنبني على أساس الاشتراك في مجموعة من السمات، وهذا ما يسمى بالتناسب، أي الإتيان بالأشياء المتناسبة. وهذه العلاقة على ضربين: فإما أن يكون التناسب في الوضع وإما أن يكون التناسب في الجنس.

فالتناسب في الوضع عليه مدار التشبيه في شعرنا العربي خصوصا في قصائد المدح وهو إما أن يرد في صورة تناسب وضعي بسيط لا يتجاوز حدود الشطر أو البيت مثل قول النابغة:

فإنك شمس والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

حيث وضع الممدوح بين الملوك يناسب وضع الشمس بين الكواكب لجامع الرفعة والسمو والسادة. وهذا مما يندرج في باب التمثيل الدقيق الذي لا يعني النغمية والتعقيد(28)، وإما أن يرد في صورة تناسب وضعي مركب يتجاوز حدود البيت الواحد ليمتد على مدى سلسلة من الأبيات كما هو الشأن في بيتي أبي الطيب(29):

أنا في أمة تداركها اللــــه غريب كصالح في ثمــــود

ما مقامي بأرض نخلـة إلا كمقام المسيح بين اليهــود

فوضع الأنا في أمته يناسب وضع صالح في ثمود في البيت الأول. كما أن وضع الأنا يناسب وضع المسيح بين اليهود في البيت الثاني. "وإذا كان هذا التوازي قيمة فنية في البيتين على المستوى العام، فهو يلخص محنة المتنبي في القرن الرابع على مستوى الواقع.

أما التناسب في الجنس، فيتم نتيجة انتماء العناصر اللغوية إلى نفس الجنس، مثل الانتماء إلى جنس الحيوانية في قول امرئ القيس(30):

له أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تثفل

 

2 ـ المستوى الإيقاعي:

يلخص هذا المستوى هنري ميشونيك H.Meschonic الذي يقول "إن الوعي الشعري هو أساسا، منذ النظم الأسكندراني إلى قصيدة النثر، وعي إيقاعي. "إذ الإيقاع" وكما عبر عن ذلك جرار مانلي هوبكنس هو "حركية الكلام في الكتابة"(31).

بالانطلاق من هذا النص، نستنتج أن ما يقصد بالإيقاع لا يقتصر على الوزن فحسب، وإنما آثار الايقاع تنبع من قيم التوازن الصوتي التي تعتبر أساسية في كل شعر أصيل، لا يختلف في ذلك الشعر المنظوم عن الشعر المنثور أو النثر الشعري في بعض الأحيان، إذ ترتبط هذه القيم بعنصر التخييل الشعري فتخلق ما يسمى الصورة الإيقاعية، أي الصورة التي تغتني دلالتها بضرورات إيقاعية، وهذا واضح في شعر امرئ القيس من ذلك قوله(32):

مكر مفر مقبل مدبر معــــــــا كجلمود صخر حطه السيل من عل

فالذي برر التشبيه في الشطر الثاني هو بنية التوازن الصوتي في الشطر الأول وليس بنية الطويل.

وهذا لا يعني أن دور الوزن معطل في لغة الشعر، بل إن الاستثمار الجيد للوزن يساهم في تمتين الروابط النظمية للغة الشعرية، بحيث إذا ألغينا الوزن من هذه اللغة سيتحطم البناء النحوي المتماسك بواسطة الكلمات(33)، لأن الوزن وكما عبر عن ذلك توماشفسكي Tomachevski: هو المعيار الذي نصف وفقه مجموعة من الكلمات بالمقبولية أو بعدمها في صيغة شعرية مختارة"(34).

بهذا نستنتج أنه إذا كانت بنية الأصوات تخلق لونا من التوازي الظاهري، لأنها تمارس فعلها على مستوى خط الكلمات، فإن بنية الوزن تخلق لونا من التوازي الخفي الذي يساهم في بناء متواليات متوازية على المستوى الصرفي-النحوي، وذلك لوقوع صيغ متماثلة صرفيا بأدائها لنفس الوظائف النحوية في مواقع عروضية متماثلة. ولبيان ذلك كله سنكتفي بالإشارة إلى هذا المقطع من شعر محمود درويش(35):

وأنا التوازن بين من جاءوا ومن ذهبوا

وأنا التوازن بين من سلبوا ومن سلبوا

وأنا التوازن بين من صمدوا ومن هربوا

وأنا التوازن بينما يجب:

يجب الذهاب إلى اليسار

يجب التوغل في اليمين

يجب التمترس في الوسط

يجب الدفاع عن الغلط

يجب التشكك بالمسار

إن صح قول ج.ب.بالب: "إن الشاعر أمام اللغة يحلم بحرية…"(36) أمكننا القول بأن معادلة التوازن التي لم تتحقق على صعيد الواقع قد تحققت على صعيد اللغة، لأن الشاعر إنما يمارس صراعه مع الواقع عبر الصراع مع اللغة التي أفرزت في هذا النص مجموعة من قيم التوازن الناتج في الغالب عن تساوق التقطيع العروضي مع التقطيع الصرفي.

ومن سمات التوازن ما ورد:

ـ في صورة تكرار استهلالي Anaphore: وهو ما قد يعرف بتجنيس صدور الأبيات الناتج عن تماثل صيغ البداية "وأنا التوازن بين من/يجب".

ـ في صورة موازنة "التوغل -التمترس- التشكك/صمدوا-هربوا" حيث السمة المميزة هي الحفاظ على نسق الصوائت مع التباين في أغلب الصوامت.

ـ في صورة تجانس تكون فيه السمة المميزة إما صائتية "سلبوا-سلبوا" أو صامتية "اليسار-المسار".

ـ في صورة الترصيع "الوسط-الغلط/ذهبوا-هربوا-سلبوا" حيث السمة المميزة هي الحفاظ على الصامت الأخير.

ـ في صورة تسبيغ: وسمته المميزة تكرير الكرف الأخير في صدور الوحدات الموالية "يجب/يجب".

3 ـ المستوى التركيبي:

إذا كان "ما ندعوه بالشعر، يسعى باستمرار إلى خرق النحو"(37) على حد تعبير أ. غريماس A.Greimas، فليس معنى ذلك أن الشعر نسق لقواعد اللغة العادية، بقدر ما هو توسيع وإغناء تقتضيهما اللغة الشعرية. ويرجع ذلك إلى أمرين:

1 ـ أن النحو الشعري يخضع لضرورات إيقاعية. ففي مقال له تحت عنوان "الإيقاع والتركيب" ركز أو.بريك O.Brik على التعايش القائـم في الشعر بين الإيقاع والتركيب، حيث قوانين تأليف اللغة الشعرية هي نفسها قوانين الإيقاع التي تعقد الطبيعة النحوية للشعر(38)، الشيء الذي ينتج العديد من صور التوازي.

2 ـ أن النحو الشعري يمارس فعله في مساحة أوسع من الجملة حيث تصبح مؤشرات التعلق النحوي من أهم الأسس المساهمة في بناء وحدة النص. ولعل هذا ما يعبر عنه مفهوم "الازدواج" عند س. ر.ليفين S.R.Levin الذي سعى إلى تأسيس نحو خاص بالشعر يتجاوز حدود الجملة ليمتد على طول العديد من الجمل، وقد يتخطى ذلك ليشمل النص بأتمه(39). وفي ضوء هذا المفهوم الذي يتم بناء على نمطين من التماثل الموقعي "التماثل بين مواقع متوازنة والتماثل بين مواقع متقابلة" يمكن تفسير الكثير من القضايا التي تتعلق بالتوازي النحوي. لنتأمل مثلا قول حميد سعيد من قصيدة (ولادة في ساحة التحرير)(40):

للشارع الضيق.. للساحة.. للراكض في

الساحة..

للسيدة الضاحكة..

للأم التي تسكن فجر الوطن الوردة،

للشيخ الذي يغرق في قيلولة بيضاء

للطفل وللقصيدة

احتكمت

فجميع هذه المتواليات تعتبر متوازنة بأدائها لنفس الوظائف النحوية ومتقابلة في علاقاتها بالفعل (احتكمت) الذي يحضر بشكل ضمني مع بدأ كل متوالية على حدة.

احتكمت

 

 

للشارع ـ للساحة ـ للراكض ـ للسيدة -للشيخ ـ للطفل ـ للقصيدة

الضيق ـ الضاحكة

التي تسكن ـ الذي يغرق

في الساحة ـ في قيلولة

هذا وإذا كان الضمير تحديدا شكليا للفعل الذي يتسم بمؤشر شخصي(41) حسب تعبير بنفنيست E.Benveniste، فهو يعتبر من أهم المؤشرات النحوية التي تساهم في وحدة النص. لنأخذ مثلا هذا المقطع من شعر أبي الطيب:

وقفت وما في الموت شك لواقـــــــف كأنك في جفن الردى وهو نائـم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمــــــــــة ووجهك وضاح وثغرك باســــم

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهـــــى إلى قول قوم أنت بالغيب عالـم

ضممت جناحيهم على القلب ضمة تموت الخوافي تحتها والقـوادم

(…)

حقرت الردينيات حتى طرحتهــــا وحتى كأن السيف للرمح شاتم

(…)

نثرتهم فوق الأحيدب كلــــــــــــه كما نثرت فوق العروس الدراهم

تدوس بك الخيل الوكور على الذرى وقد كثرت حول الوكـور المطاعم

فالوحدة ناجمة في هذا النص عن تعلق المتواليات المتوازنة بمحور ثابت هو ضمير المخاطب المقترن بسلسلة من الأفعال التي تدل على سمو فعل الفاعل (سيف الدولة):

وقفت ـ تجاوزت ـ ضممت ـ حقرت ـ نثرتهم

أنت (سيف الدولة)

تدوس بك ـ تمر بك

فالوحدة المتحققة على صعيد اللغة عبر توازي الأطراف تمثل خلفية للوحدة التي يفتقدها الواقع (القرن الرابع الهجري). وهذا يعني أن التوازي الذي هو من أسس بناء وحدة النص يختزل رؤيا الذات الأنوية التي ترغب في تحقق الوحدة العروبية عبر الممدوح الذي لا يقصد به سيف الدولة في حد ذاته، بقدر ما يشكل خلفية لبطل ملحمي يمتلك من القدرة ما يكفي لتحقيق ذلك

 

الهوامش:

1 - Jean Pierre Balpe, Lire la poésie, Armand colin Bourrelier, Paris 1980, p.159.

2 - ر.ليفين سموبل، البنيات اللسانية في الشعر، ترجمة: محمد الوالي والتوزاني خالد. منشورات الحوار الأكاديمي. دار الخطاب، مطبعة فضالة 1989، ص 12.

3 - محمد مفتاح، التشابه والاختلاف، نحو منهاجية شمولية، المركز الثقافي العربي، البيضاء 1996، ص 97.

4 - Jean Molino-Joélle, Tamine, Introduction à l’analyse de la poésie, presses universitaires de France Paris 1982, p. 211.

5 - D.Delas., J.Fill, Linguistique et poétique, langue et language, Larousse, Paris 1973, p.73.

6 - Introduction à l’analyse de la poésie, p. 211-213.

7 - ر.ياكبسون، قضايا الشعرية، ت.محمد الولي ومبارك حنون سلسلة المعرفة الأدبية. دار توبقال، الدار البيضاء 1981، ص 103.

8 - المرجع نفسه، ص 47

9 - المرجع نفسه، ص 47

10 - المرجع نفسه، ص 33

11 - F.Vanoye , Expression communication, Armand colin, Paris 1973, p.13.

12 - J.C.Coquet, Poetique et Linguistique, in Essais de sémiotique poétique, Larousse, Paris 1972, p.28.

13 - قضايا العشرية، ص 103.

14 - لوتمان، تحليل النص الشعري، بنية القصيدة، ت.محمد فتوح أحمد،ص 129.

15 - Molino Tamine, Introdiction, p. 209.

16 - الطراز، تأليف يحيى بن حمزة العلوي، دار الكتب العلمية بيروت 1982، ج.3، ص 18-19.

17 - محمد مفتاح، المرجع السابق، ص 96.

18 - أبو محمد السجلماسي، المترع البديع في تجنيس أساليب البديع، مكتبة المعارف الرباط 1980، ص 508-509.

19 - المصدر نفسه، ص 519.

20 - G.U, Rhétorique de la poésie, ed. Complexe copyright 1977, p.146.

21 - أبو محمد القاسم السجلماسي، المصدر السابق، ص 517

22 - Molino-Tamine, p. 214-215.

23 - أبو محمد القاسم السجلماسي، المصدر السابق، ص 518-519.

24 - الشيخ ناصيف اليازجي، العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، المجلد الثاني، دار صادر بيروت، ص 206.

25 - جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة، دار صادر بيروت، ص 353-364.

26 - رجاء النقاش، أبو القاسم الشابي، شاعر الحب والثورة، دار القلم بيروت 1971، ص88.

27 - الشيخ ناصيف اليازجي، العرف الطيب، ص 121.

28 - الإمام عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المطبوعات العربية، ص 119.

29 - الدكتور زكي المحاسني المتنبي سلسلة نوابغ الفكر العربي رقم 15 دار المعارف 1971، ص 29.

30 - مصطفى عبد الشافي، ديوان امرئ القيس، دار الكتب العلمية بيروت، ص 119.

31 - H.Meschonnic, Pour la poétique, Gallimard, Paris 1970, p. 68/

32 - مصطفى عبد الشافي، ديوان امرئ القيس، ص 119.

33 - محمد كنوني، اللغة الشعرية: دراسة في شعر حميد سعيد، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1997، ص 33.

34 - T.Todorov, Théorie de la litterature, Ed. Seuil, Paris 1965, p.165.

35 - محمود درويش، مديح الظل العالي، دار العودة بيروت 1984، ص 52.

36 - J.P.Balpe, Lire la poésie, p.169.

37 - A.Greimas, Sémantique structurale, p. 148.

38 - T.Todorov, Théorie de la littérature, p.148.

39 - س.ر.ليفين، المرجع السابق، ص 6.

40 - ديوان حميد سعيد، المجموعة الرابعة، ج/1، مطبعة الأديب البغدادية، بغداد 1984، ص 388.

41 - E.Benveniste, Problèmes de linguistique générale, Gallimard, Paris 1966, p.226.

42 - الشيخ ناصيف اليازيجي، العرف الطيب، ص 206-20.