ص1     الفهرس    31-40

 

التحول هل هو بناء للهوية أم تشويه لها؟

 

محمد أرزقي بركان

مقدمـة:

إن الهوية الثقافية هي في واقع الأمر جزء من فكرة الثقافة لأنها مهما اختلفت أنواعها، فإن التعبير عنها يظل ذاتيا بصورة من الصور. وإذا كان ذلك حقا فإنه من الحق أيضا أن تكون الثقافة دائما عالمية من حيث الوظيفة لأنها تتوجه إلى كل إنسان، فهي تنطوي إذن على ظاهرتين متناقضتين: الخصوصية القومية، والعمومية الإنسانية من حيث الوظيفة. ومع هذا فإن الخصوصية القومية للثقافة شرط إيجابي لتحقيق التبادل الفكري في التعاون البشري، لأنه إذا افتقدت الخصوصية اتسم الإنتاج الثقافي بالمماثلة، ولم يعد ثمة منطق لفكرة المبادلة.

وهكذا فإن العنصر الهام في الإنتاج الثقافي هو خصوصيته وأصالته، أي هويته الثقافية التي تميزه، والتي تتأتى على التقليد وعلى الاستلاب وتقوم على العطاء والإضافة الثقافية والتجديد [10(*)، 29(**)]. فنحن ننتسب إلى حضارة عريقة مجيدة، وتاريخنا الطويل يشهد بمدى مساهمتنا في إثراء الحضارة الإنسانية، ولنا مخزون ثري على غاية من الثراء. وإن تشبثنا الواعي بهذه الحصون الحضارية يشكل سندا ضروريا  في معركة النهوض والرقي الحضاري. فالتحول ينطلق من الخصوصية، ومواكبة التحولات تفرض وجود زاد ثري، إنه ليس الهروب إلى الوراء أو الاختفاء وراء جدران الماضي، ولكنه التوظيف الواعي للمكتسبات والاستغلال المتطور للرصيد الحضاري، وتقديم الإضافة المطلوبة [11، 16].

1 ـ التطور والصراع بين القديم و الحديث:

وقد رأى "باجوت" "BAGEHORT WALTER" أن ديناميات المجتمع هي نتيجة التوتر الذي يحدث بين السلوك العرفي والعناصر الدخيلة التي تتصارع معه. ومن هذا الأساس النظري للتوتر بين العوامل العرفية والعوامل الدخيلة تمكن "باجوت" من عرض الصراع كظاهرة مركزية في النمو والبناء الاجتماعي. ويضيف "باجوت" إلى ذلك قوله: من الممكن وضع ثلاث قوانين.

القانون الأول: في كل مرحلة معينة للعالم، تميل الأمم الأشد قوة إلى السيطرة على الأمم الأخرى وفي حالات مميزة خاصة، تكون تلك الأمم الأشد قوة خير الأمم.

القانون الثاني: في كل أمة معينة، يميل النمط الخلقي الأشد جاذبية إلى أن تسود. وتلك الأنماط الأشد جاذبية فيما عدا بعض الحالات الاستثنائية هي التي ينطبق عليها الخلق الحسن.

القانون الثالث: في معظم الأحوال التاريخية، لا تشتد أي من هاتين المنافستين بوساطة قوة خارجية، ولكن في بعض الأحوال كتلك التي تسود الآن في جزء من العالم ذي التأثير البالغ، تشتد كلتاهما إلى درجة كبيرة [8، 89].

ونستخلص من ذلك حقيقة بالغة الأهمية، وهي أنه كلما تعقدت الثقافة وازدادت نسبة المدنية كان تطبيع الفرد وتربيته أمر بالغ الصعوبة، لأن الفرد وتطبيعه يحدثان في جو مفعم بالصراع بين عوامل متضادة، وقيم غير ثابتة، في نسيج اجتماعي مهتز أشد الاهتزاز [3، 77].

2 ـ تحديات فكرية وثقافية:

إن الاستقلال الثقافي هو أساس كل استقلال، والحفاظ على الهوية الثقافية الذاتية ليس مطلبا قوميا فحسب، بل هو مطلب تنموي يتصل بتوفير الشروط اللازمة للتنمية عموما. ولكن الثقافة الأجنبية تؤثر علينا من كل صوب كما تؤثر علينا سائر أنماط حياة الغرب عامة.

ونعتقد أن الواقع الفكري والثقافي العربي واقع "مأزوم" وتبدو أهم أبعاد هذه الأزمة فيما يلي:

2 ـ 1 ـ أزمة الهوية:

فقد تناولت هذه الأزمة كتابات ومؤتمرات معنية بدراسة الواقع الثقافي العربي ونقده.

ويصف قستنطين زريق "الوضع الثقافي العربي بين الحربين" والذي مازال سائدا حتى الآن بقوله: "إن الأمة العربية مقسمة إلى عناصر متباينة، يفكر بعضها تفكيرا لاتينيا، والبعض الآخر يفكر تفكيرا أنجلو سكسونيا، ويحيا فريق حياة شرقية محافظة، والفريق الآخر حياة غربية متهورة، ويسلك بعض جماعاتنا سلوكا دينيا، والجماعات الأخرى سلوكا علمانيا…"

نحن إذن حيارى بين ثقافتين، ثقافة عربية أصيلة مستمدة من تراثنا وحياة سلفنا، وثقافة معاصرة لا نستطيع أن نسلخ أنفسنا منها أو نقاطعها لأننا نعيش في رحابها في كثير من أوجه الحياة.

ومن أخطر ما تفرزه أزمة الهوية في الفكر العربي المعاصر هو ما يمكـن تسميتـه بأزمـة الوعي"A wareness crisis"  وتبدو خطورة هذه الأزمة في أن الوعي شديد الارتباط بالهوية. والوعي هنا هو الصفة التي يملكها الجميع، ولا يستطيع أن يعبر عنها سوى القلة [9، 69].

ومما لا شك فيه أن هذا "التيه الإيديولوجي" العام، لا بد أن ينعكس على الواقع التربوي العربي، هذا فضلا عن أنه لم تحدث محاولات كثيرة للوعي بواقعنا في فلسفة تربوية عربية، فما هو موجود تعريف بفلسفات الغرب، تختلف في طريقة كتابتها فهي إما تقدم من جهة نظر معينة مثل البرجماتية أو تعرض مجموعة فلسفات يترك للقارئ اختيار ما يريد منها، أو تطوع بعض الفلسفات لتليينها على الواقع.

ومن ثم نرى أزمة الهوية في الواقع الثقافي العربية تاركة ظلالها على هوية التربية العربية ويصبح هناك سؤال يعبر بدقة عن هذه الإشكالية: هل تنتظر التربية حتى تتبلور هوية المجتمع فتكون للتربية هويتها التي تبنى عليها أهدافها ومناهجها واتجاهاتها؟

وللخروج من أزمة التبعية العلمية والتكنولوجية، لا بد من ثورة (فكرية قيمة) تغير نظرة الإنسان العربي إلى نفسه وعلاقته بالمجتمع وبالكون، بحيث يتحرر من كل الأغلال الفكرية والمادية التي قيدت عقله وقدرته الابتكارية منذ العهد العثماني، وتتمثل هذه الثورة الفكرية في جعل الإنسان أثمن وأنبل ما في الوجود، هو "القيمة العليا".

ولعل أنجح مداخل هذه الثورة الفكرية يتمثل في المدخل التربوي، فمثل هذه الثورة تتطلب إنشاء نظم تربوية تجسد هذه القيمة العليا وتضيف إليها -منذ نعومة الأظافر- روح المبادرة والإبداع، وحب العمل المتقن، والانتظام والمنهجية العلمية والعقلانية وغيرها من القيم التي تصنع الإنسان القادر على التعامل مع متطلبات التنمية الشاملة والتغلب على تحدياتها الهائلة.

وهذا كله من خصائص الإنسان المحدث الذي ننشده وهو ما يعظم دور التربية العربية في هذا الصدد [9، 96].

3 ـ دور التاريخ في الربط بين القديم والحديث:

إن التاريخ يكون مفيدا عندما يفرغ على شكل "قوة دافعة" تحركنا إلى الأمام، غير أنه يصبح مضرا حين يأخذ شكل "قوة  جاذبة" تدعونا إلى العودة إلى الوراء. فلا يجوز لنا أن نعتبر الماضي هدفا نتوجه نحوه، ونسعى للعودة إليه، بل يجب علينا أن نجعل منه نقطة استناد، نستند إليها في اندفاعنا إلى الأمام، ونكون منه قوة فعالة حافزة، تدفعنا نحو المستقبل الجديد، وبعبارة أخرى، ينبغي أن يكون شعارنا "تذكر الماضي، مع التطلع إلى المستقبل على الدوام".

فيحق لنا أن نقول: أن إهمال التاريخ القومي يكون بمثابة  الاستسلام إلى الذهول، وإما نسيان التاريخ المذكور فيكون بمثابة فقدان الشعور.

ومما يجب أن يلفت أنظارنا في هذا المضمار، أن خطة استلهام الماضي والاستفادة من التاريخ تظهران حتى في أعمال الأمم التي تقوم بثورات عنيفة، وتحاول قلب حياتها الاجتماعية رأسا على عقب، بصورة جذرية وفورية. إن تلك الأمم تثور في حقيقة الأمر على الماضي القريب وحده، وتحاول خلال ثورتها هذه أن تستمد قوة من الماضي البعيد. أمعنوا النظر في تاريخ ثورات ووثبات تلك الأمم -مثل ألمانيا واليابان- تجدون فيه أيضا بجانب حركات التجديد الجذرية، اهتماما متزايدا بالأبحاث التاريخية، وتغلغلا مستمرا في استخدام التاريخ لتقوية الروح القومية وإيجاد النزعات التجديدية [7، 99].

4 ـ الأصالة والمعاصرة:

يشكل العصر بالنسبة لأمة من الأمم عددا من التحديات العاصفة التي لا بد من استيعابها فكرا وثقافة وعملا، لتستطيع الأمة الوقوف راسخة على قدميها بين الأمم، لأنه لا يمكن لأمة أن تعيش في عزلة عن العالم، وهذا الاتجاه العالمي نحو التكتل يجب أن يكون أحد مبادئنا الهادفة، كما يكون التعاون والتضامن هو المبدأ المكمل له. فبدون ذلك تصبح الجماعة البشرية كتلا متنافسة يفترس بعضها البعض.

5 ـ العلم سيد هذا العصر:

إن عالم اليوم هو عالم العلم والثقافة، والمنهج العلمي هو المنهج المتفق على فضله وسلطانه، ولهذا كان هذا العالم هو عالم التغير المتسارع، وانعكس ذلك كله  على ثقافات العالم المختلفة، وأعطى بعضها السلطة على البعض. كما تغيرت النظرة جذريا إلى الإنسان الذي اتسعت عوالمه في الزمان والمكان إلى حدود لم يبلغه أي عصر سبق، كما تضخمت التحديات أمامه إلى درجة مرعبة وتضخمت معها الأخطار. وصار استيعاب العصر ضرورة ملحة، لا من أجل فهمه ومسايرته، ولكن من أجل البحث أيضا لإيجاد العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، التي ظهرت من شأنها عدة اتجاهات، بعضها يفضل الأصالة عن المعاصرة، والآخر يفضل المعاصرة عن الأصالة لكون المعاصرة امتداد للأصالة. بينما الاتجاه الثالث هو الاتجاه التكاملي أي الاتجاه الذي لا يفضل أحدهما عن الآخر.

الاتجاه الأول:

يعتقد أصحاب هذا الاتجاه بأن الأصالة مفهوم ينطوي على الارتباط بذات حضارية عربية إسلامية ذات موقف حضاري متميز، وعلى التصور بأن كل فكر أو إنتاج مستمد من الحضارات أو الثقافات الأخرى، هو فكر "دخيل" أو مستورد، وهذا ما يجعل الالتزام بالأصالة نوعا من الانحياز والانغلاق ضمن ذات حضارية غير معلومة الحدود، يخلق خصومة ثقافية أو نفسية مع كل الثقافات الأخرى.

الاتجاه الثاني:

يرى أصحاب هذا الاتجاه بأن عنصر الزمن هو الذي يفرض الارتباط بالحاضر مقابل التعلق بالماضي، وعنصر يتعلق بالمضمون يفرض أن تغيرات نوعية ذات حجم هائل تفضل الحاضر عن الماضي، وتفرض أن الحاضر أفضل من الماضي أو أن الارتباط به أكثر مشروعية وأفضل جدوى.

الاتجاه الثالث:

وهذا الاتجاه الأخير يرى أن قضيتي الأصالة والمعاصرة ليستا نقيضين إطلاقا، لأن كلا منهما تنبع من منبع معرفي مختلف. غير أنهما بالرغم من اختلاف  المنبع المعرفي لكل منهما، فهما متكاملتان، كما في مختلف البنى الثقافية العالمية، ولا وجود للثانية بدون الأولى. إن الأصالة ليست التقوقع والتشبث بالماضي، ولكنها إدخال للعصرنة في الذات العربية، وفهم لها من خلالها، والأصالة ليست مقصورة على المسلمين الأولين أو ليست في الانغلاق ضمن العروبة، كما أن المعاصرة  ليست في الاغتراب عن القيم والمبادئ الإسلامية، حيث أن معطيات الأصالة موجودة فينا لم نخترعها، وإنما نحملها معنا، وهي تفرض نفسها بالرغم عنا، عن طريق تكنولوجيا  الاتصال التي جعلت العالم عبارة عن قرية صغيرة [13، 114].

ومما يجب الانتباه إليه في هذا الصدد أن غلبة إحدى هاتين النزعتين على الأخرى، لا تتم في جميع الميادين مرة واحدة وعلى حد سواء، بل كثيرا ما يحدث أن نزعة التجديد تتغلب على روح المحافظة في بعض الميادين، في حين أن روح المحافظة تبقى السائدة في الميادين الأخرى.

مثلا، من المعلوم أن الإنجليز من أشد الأمم محافظة على التقاليد القديمة في الأمور الشكلية، ولكنهم من أكثر الأمم اندفاعا نحو التجديد في الحياة الاقتصادية. في حين أن أكثر الأمم الشرقية تسترسل في تقليد مظاهر الحياة الغربية، ولكنها تبقى بعيدة عن مسايرة روح العصر في طرائز التفكير والعمل، وفي سائر نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

والآن قد وصل العالم المتمدن إلى دور أصبحت فيه نزعة التجديد مسيطرة على جميع مظاهر الحياة. وصارت كل الأمور تتطور بصورة مستمرة وبسرعة هائلة، لم يسجل التاريخ لها مثيلا في حياة أي أمة من الأمم، وفي أي دور من أدوار الماضي القريب والبعيد. أصبح كل شيء يتجدد ويتطور بسرعة هائلة، تجعل هذه الأطوار شبيهة بالانقلابات الثورية التي تجرف كل شيء فلا تترك شيئا على حالته القديمة [1، 459].

ونستطيع أن نقول: أن القديم هو الذي يفسح المجال لقيام الحديث، والمكتسبات الماضية هي التي تمكن الذهن والخيال من الإبداع والاختراع. كما أن التجديد هو الذي يبعث الحياة في القديم ويورثه القوة والفاعلية، وروح التجديد هي التي تبني من "الأشياء القديمة" المباني الجديدة، وتكسب تلك الأشياء الفائدة  والقيمة.

القديم وحده جمود وموت، والحديث وحده عجز وحرمان، وأما الحياة النفسية الواعية، فما هي إلا نتيجة التمازج والتفاعل بين القديم والجديد.

6 ـ الطريق إلى تحقيق التكامل بين الأصالة والمعاصرة:

إن التراث الثقافي شيء ثمين، قيمته في أن نحدده ونملأه بالديناميكية والحركة وفي أن نجعل منه حافزا على بناء حاضر جديد. والماضي في مفهومه السليم ليس كيانا من الحقائق  الساكنة العاطلة، بل هو أولا وقبل كل شيء جملة من الرموز والقيم المحركة. وهذا الماضي يظل مغنيا طالما حافظ على هذه الرموز المحركة، ولا يغدو تخلفا وجمودا إلا حين تفقد هذه الرموز معناها. والثورة الثقافية الحقة لا تعني هدم الماضي وتقويضه، وإنما تعني أن نجعل هذا الماضي حيا من جديد عن طريق دمجه بالممارسة الاجتماعية والحضارة الفعلية. ومعنى هذا كله أن من الواجب توليد ثقافة جديدة "ثقافة أخرى" تستطيع أن تستوعب العلم والتكنولوجيا. وقد يكون من باب وضع الأمور في نصابها الصحيح أن نقول أن دمج العلم والتكنولوجيا بالثقافة، يعني أن نطور الثقافة ونكيفها وفق متطلبات العلم والتكنولوجيا، وأن نعتبر العلم والتكنولوجيا من العناصر المحركة المثرية للثقافة. ذلك أن العمل والتكنولوجيا لا يحملان معنى هداما للثقافة إلا إذا فرضا على المجتمع دون دراية بهما. أما إذا ارتبطا بالمجتمع وأصبحا جزءا منه، مما يبدع وينتج. فهما عنصران مرافقان محرضان لهذا الإبداع الذاتي، ويؤديان بالضرورة إلى تجديد الثقافة وتغييرها، دون القضاء عليها [15، 62].

7 ـ هل العزلة ممكنة؟

ثمة مسلمة أولية لا مجال للجدل فيها، هي أن العزلة اليوم بين الحضارات والثقافات تتناقص  بسرعة نتيجة التقدم الهائل  في وسائل الاتصال. والثقافة العربية لم تكن ثقافة خالصة نقية في يوم من الأيام، شأنها في ذلك شأن كل ثقافات العالم الأخرى. فالتمازج الثقافي الحضاري هو سمة العصر وقانونه. على أن الأثر الأقوى يشتد من جانب الثقافات المتقدمة. وإن كان البعض يرون أن العالم سائر إلى تكوين ثقافة واحدة مسيطرة والتي هي ثقافة العصر الأولى، فإن اتجاها آخر ليس بالهين يؤمن بتعدد الثقافات العالمية، وإن أخذ بعضها عن بعض، ولهذا يشتد هذا الاتجاه في بحث الهوية الثقافية وفي تنميتها، والحجة في ذلك ضرورة التعددية في ثقافة العالم، وضرورة  تلونها وغنائها بالتباين لمصلحة الإنسانية. فطريق الحضارة الغربية المتقدمة ليس بالطريق الوحيد ولا الطريق الأفضل، وهذا الاتجاه أكده المؤتمر العالمي لليونسكو  الذي انعقد في المكسيك سنة 1962، والذي اعتبر الهوية الثقافية لكل أمة أساسا من أسس الحضارة المعاصرة حيث دعا إلى اعتمادها وإلى تقويتها الدائمة.

8 ـ الحوار مع الثقافات الأخرى والتعاون معها:

لقد كانت الثقافة العربية، في تاريخنا الطويل، ثقافة حوار وتعاون، وكانت بحكم الموقع الجغرافي للبلاد العربية منطقة لقاء الثقافات وامتزاجها، وقد تجلى ذلك ليس في الدين الإسلامي الذي أنزل للبشرية جمعاء فحسب، ولكن تجلى أيضا في اللغة العربية، وأنواع الفنون والعمارة، والآداب والعلوم، والنظم الاجتماعية التي مازالت جزءا من التكوين الثقافي لأزيد من مليار مسلم من شعوب الأرض في جميع أنحاء العالم [3، 114].

8-1-حوار الند للند:

إن هذا الحوار والتعاون في أفقهما الثقافي السامي لا يكونان مفيدين ناجحين إذا لم يقوما على أساس التساوي. إن انزلاق أي منهما إلى استغلال العلاقة الثقافية لغرض التبعية، أو الغزو أو الاستلاب هو إيذاء لعلاقات التسامح والاحترام والتواصل التي لا يقوم التبادل الثقافي الحي الناجح إلا عليها. ولما كانت الثقافة العالمية المسيطرة هي ثقافة الغرب، وكانت تسلطية نتيجة شعورها بالقوة ونتيجة استغلالها السياسي، وتوافر وسائل الهيمنة عليها. يجب على الدول النامية الاعتماد على الذات، وتشجيع التعاون الأفقي بين شعوبها، ووضع سياسات وطنية للاتصال للخروج من التبعية الثقافية والإعلامية.

8-2-الاستيراد الآلي لأنماط الثقافة وآثارها في تشويه الهوية:

يمثل التلقي العشوائي والاستيراد الآلي في مجال الثقافة تحفظا واعتراضا  يثيرهما الكتاب الفرنسيون بالنسبة للتعامل الثقافي الأوروبي مع الولايات المتحدة. فهينري جوريان Henri Jorion، مؤلف "الحرب الثقافية la guerre culturelle" و"جاك تيبو Jack Tipo" مؤلف "فرنسا المستعمرة La France colonisée"، يستخدم تعبير المطرقة الثقافية الأمريكية التي ما فتئت تضرب وتدق منذ 1945 حتى تحقق ما يراه استسلاما فرنسيا وأوروبيا ثقافيا يتجلى في كل ميدان، وباسم "الجديد" الجديد دائما حتى استيراد آخر التقليعات الثقافية الأمريكية في هذيان موسيقي صاخبة برامج تلفزيونية مصنعة تصنيعا لإدخالها في أي برنامج تلفزيوني في أي بلد من بلدان العالم وفي كل يوم يرمي القديم في المزبلة ليحل محلة "الجديد" المربح تجاريا للأمريكان والمفسد للذوق والشعور [11، 122]، والدليل على هذا ذلك النداء الذي أطلقه وزير الثقافة الفرنسي في المؤتمر العالمي لليونسكو الذي انعقد في المكسيك (26/07/82 إلى 06/08/82) حيث نادى بحرب مقدسة ضد  هذه الإمبريالية المالية الفكرية التي تغزو العقول وتمتلك أنماط التفكير وأساليب الحياة.

وتتميز ثقافة المجتمع الأمريكي بتفوقها الظاهر في مجالين أساسيين هما: النسق التربوي، وأجهزة الثقافة والإعلام التي تجهد في صهر العناصر البشرية المتباينة الأصول والثقافة مثل السكسون والزنوج والآسيويون والعرب واليهود… الخ، في بوتقة واحدة، ما يعرف بأسلوب الحياة الأمريكي (American Way Of Life).

وسوف نستقي نموذج الشخصية الأمريكية وعلاقته بالإطار الثقافي والأسلوب التربوي من الدراسة التي قام بها العالم "غاورر Garer" وقضى في جمعها أكثر من سبع سنوات يتقصى ويلاحظ ويستفتي في مختلف الطبقات الاجتماعية والقطاعات المهنية.

وقد قام الأستاذ "إزيك Eysenk" بعرض نتائج هذا البحث عرضا نقديا في كتابه مشكلات علم النفس أو استخدام علم النفس وسوء استخدامه. وينطلق "غاورر" في دراسته لنمط الشخصية الأمريكية من فرضية أساسية استمدها من الأسلوب التربوي والعلاقات السائدة بين أفراد الأسرة، فقد قام "غاورر" بتحليل العلاقات الأسرية واستخلص منها فكرته عن الأب المنبوذ، فيما أن أكثر الأمريكيين من أبناء المهاجرين الذين يصلون إلى الولايات المتحدة الأمريكية ويستقرون فيها فإن هؤلاء الأبناء يتجهون إلى احتقار آبائهم بسبب عدم تخلصهم من أساليب الحياة الأجنبية التي يحملونها معهم، فالأطفال الذين يعيشون في غمرة الثقافة الأمريكية ويتعلمون في مدارسها يجدون من آبائهم كل تشجيع على التشبع بأسلوب الحياة والعادات الجديدة كي يحققوا النجاح في المستقبل ولكن كلما وفق الأب في (أمركة) أبنائه كلما أصبح هو نفسه مصدر خجل بالنسبة لهم [4، 153]، وهذه الظاهرة موجودة عند بعض أبناء الجالية المغاربية، خاصة أبناء الجيل الثاني الذين ولدوا في المهجر وترعرعوا في مدارس وأندية الدول المستقبلة حيث كلما وفق الأب في (فرنسة) أو (بلجكة)… أبنائه كلما أصبح هو مصدر خجل بالنسبة لهم، لسبب تمسكه بهويته. ومثل هذا التحول طبعا يعتبر تشويها للهوية وليس بناء لها(5).

8-3-أمثلة للقيم الثقافية الغربية التي غزت الثقافة العربية:

إن ما تولده المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية ليس فقط المدارس والاتجاهات والتيارات والنتاجات الثقافية الفكرية السلبية (التي تصلح لمجتمعاتنا نحن) بل تنتج أيضا ميولا وعادات وعقليات مريضة وفتاكة كاللامبالاة تجاه الإنسان والجفاف في العلاقات الإنسانية تفسخ الروابط العائلية والعنف الإجرامي، وحالات الضياع واليأس والانحلال.

ومن القيم الثقافية التي غزتنا أيضا الاعتقاد بهامشية شأن الدين في توجيه الحياة وحصره في نطاق الرسوم والأشكال دون النظر إلى حقيقته وجوهره الذي هو قيادة للحياة بأقوم سبيل.

ومن هذه القيم الغربية التي احتلت مركزا كبيرا في عقولنا وقلوبنا تمجيد التراث وتقديس الأرض في الوقت الذي نهمل فيه القيم الخلقية والتربية الصالحة للمواطن والإصلاح الاجتماعي السوي [6، 111].

الخاتمة:

إن سير الحضارة العالمية لم يعد سيرا عاديا، بل أصبح سيرا سريعا جدا لا يختلف عن الهرولة كثيرا.

وإذا كانت الأمم التي تتقدم القافلة  أخذت تسير بهذه الصورة بسرعة هائلة، أفلا يترتب على الأمم التي تأخرت عنها في هذا المضمار أن تسير بسرعة أعظم من ذلك أيضا ليستطيع اللحاق بالقافلة التي كانت قد سبقتها كثيرا؟

هذا ويجب علينا أن نعرف حق المعرفة أننا نعيش الآن في عصر أصبح فيه "التوقف" لا يؤدي إلى "التأخر" فحسب، بل يعرض الواقفين إلى "الاضمحلال" أيضا. لأن الحضارة العصرية أخذت تطغى وتستولي على جميع أنحاء العالم، وتسعى وراء استغلال جميع موارد الأرض، فصارت  مطامح الدول القومية تشمل جميع أنحاء العالم، مع ما فوقها من الأجواء العالية وكل ما تحتها من الطبقات العميقة، أخذت تدخل في نطاق نشاط تلك الدول بصور شتى.

فأصبح من المستحيل على أية ناحية من نواحي الكرة الأرضية  أن تبقى زمنا طويلا على حالتها القديمة. وغدا من المستحيل على أية أمة من أمم العالم أن تحافظ على كيانها، دون أن تتسلح بأسلحة الحياة العصرية.

هذه الحقيقة يجب علينا أن ندركها تمام الإدراك، ونؤمن  بها أصدق  الإيمان، وأن نضعها نصب أعيننا على الدوام لنعمل على هديها بدون تأخر، وبحزم وإتقان.

يجب علينا أن نسلك بدون تأخر وبحزم واندفاع مسالك التجديد في كل جانب من جوانب الحياة المادية والمعنوية والتربوية والاجتماعية.

يجب أن يكون التجديد في كل مكان: في البيت والمدرسة، في القرية والمدينة، في الشارع والحديقة، في كل زمان وفي كل شيء، يجب أن يكون شعارنا العام هو المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة حتى نجعل التحول بناء للهوية وليس تشويها لها n

 

 

 

 

المراجـــع

المراجع العربية:

1 ـ أبو خلدون ساطع الحصري، آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، 1985.

2 ـ أحمد طالب الإبراهيمي، من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية (62-72)، ترجمة حنفي بن عيسى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1972.

3 ـ حسن الساعاتي، التضليل الاجتماعي للشخصية، المجلة الجنائية القومية (عدد 1)، مارس 1958.

4 ـ محمد العربي ولد خليفة، المهام الحضارية للمدرسة والجامعة الجزائرية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1989.

5 ـ محمد أرزقي بركان، الواقع الثقافي والاجتماعي والبيداغوجي للطفل المغاربي في المهجر، الملتقى الدولي الثالث حول حركات الهجرة المغاربية، وجدة 20-21-22 أفريل 1964.

6 ـ محمود محمود النجيري، الأمن الثقافي العربي، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1991.

7 ـ ساطح الحصري، أبحاث مختارة في القومية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985.

8 ـ سامي حسن الساعاتي، الثقافة والشخصية، دار النهضة العربية، بيروت لبنان، 1983.

9 ـ السيد سلامة الخميسي، التربية وتحديات الإنسان العربي، عالم الكتب، القاهرة 1988.

10 ـ عبد السلام المسدي، الخطة الشاملة للثقافة العربية، المجلة العربية للثقافة (العدد 29)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1995.

11 ـ صالح البكاري، كيف نواجه تحديات المستقبل، المجلة العربية للثقافة (عدد 30)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1996.

12 ـ عواطف عبد الرحمن، قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1984.

13 ـ الخطة الشاملة للثقافة العربية (مجلد 1)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الكويت 1986.

14 ـ الخطة الشاملة للثقافة العربية (مجلد 3)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الكويت 1986.

المراجع الأجنبية:

1 - Albert Bastenier:"La situation des jeunes d'origine étrangères e Belgique", in B.Lorreyt., pp. 367-371.

2 - H.Malewska - Peyre et les autres: "Crise d'identité et deviance chez les jeunes immigrés", imprimerie administrative de Melun, 1982.

3 - Ursula Mehrlander: "Les jeunes d'origine immigrée en Républiqu Fédérale d'Allemagne”, in B.Lorreyt, op.cit., pp. 382-388.

4 - Philip Muns: "Les jeunes d'origine immigrée aux Pays-Bas”, in B.Lorreyte, op.cit., pp. 389-398.

5 - Robert-Jean Leclercq: "Nature des revendications et enjeux culturels portés par les minorités actives de l'immigrations Maghrébine en France pour la période 1978-1987”, in Blorreyte, op.cit., p.286.

 

 



(*)  الرقم الأول يشير إلى رقم المرجع في القائمة.

(**)  الرقم الثاني يشير إلى رقم الصفحة في المرجع.