ص1         السابق

قول في الحديث عموما...

                                                                        محمد عابد الجابري
    عرضنا في المقال السابق لمسألة المرتد التي يدور اليوم حولها نقاش بين المختصين في الأزهر وغيره. وقد اقتصرنا على ما ورد في القرآن لأنه هو الأصل الأول وعليه تعتمد الأصول الأخرى بما ذلك الحديث، لأن حديث النبي عليه السلام إنما وظيفته تبيين ما في القرآن، وليس الإتيان بتشريع جديد أو إضافي؛ وهذا بنص القرآن، يقول تعالى مخاطبا رسوله الكريم: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (النحل 44)، ويقول: "فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ" (الرعد 40)، والآيات في هذا المعنى عديدة، كان كثير من تلامذة المدارس الابتدائية في زماننا يحفظونها عن ظهر قلب، فلم يكونوا أصحاب بديهة فارغة فراغ مسطحي العقول المتطفلين اليوم على المعرفة. كما كان أولئك التلاميذ يعرفون أن الحديث النبوي درجات، وأن فيه الصحيح وفيه الموضوع، وما بينهما كثير. كان أساتذتنا في ذلك الوقت يعلموننا أن البديهة قد تنفع في أشياء ولكنها لا تنفع لا في مجال التفسير ولا في مجال الحديث النبوي، فالحركة فيهما أصعب من "المشي على البيض"، كما يقول المثل "الابتدائي"
    لقد تعلمنا منذ ذلك الوقت أو قريبا منه -والله يشهد- الحديث درجات، وأن "الصحيح" منه ليس صحيحا بمعنى أن لفظه ومعناه مطابقان لما نطق به الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا ما عُد من "المتواتر" وهو قليل ومحصور. وحديث المرتد ليس متواترا، وإنما هو حديث آحاد. أما كون هذا الحديث أو غيره صحيحا حسب اصطلاح علماء الحديث فمعناه أنه يستوفي الشروط التي وضعها جامع الحديث لنفسه، وكلها شروط تخص السند، وليس المضمون. فصحيح البخاري هو صحيح من حيث السند فقط، طبقا للشروط التي وضعها البخاري لنفسه في تلقي الحديث. وقل مثل ذلك في صحيح مسلم.
    هدا من جهة، ومن جهة أخرى معروف أن الحديث كان مجالا للوضع، وللزيادة والنقصان بقصد أو بغير قصد، وأنه لم يشرع في تدوينه إلا بعد ما لا يقل عن قرن من الزمان من وفاة النبي (ص). وهناك روايات تفيد أن النبي عليه السلام كان ينهى عن كتابة الحديث، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون، والسبب في ذلك هو التخوف من أن يختلط ما ينسب للرسول عليه السلام بالقرآن، الذي كان وحده يكتب بصفة رسمية وتحت إشراف النبي عليه السلام. من أجل ذلك بقي الحديث معتمدا على النقل الشفهي، أي الرواية. ومعروف أنه وقع تضخم في الحديث : فبينما كانت الأحاديث المروية عن النبي قليلة العدد زمن النبوة والخلفاء الراشدين إذا بها تتضخم بصورة غير طبيعية، خصوصا في ظروف الفتنة التي حدثت في أواخر عهد عثمان واستفحلت أثناء الصراع بين علي ومعاوية ثم بين الأمويين وخصومهم، والعباسيين وخصومهم، دع عنك الخوارج والشيعة وما تفرع عنهما الخ. وهكذا انتقل حجم الحديث النبوي الذي كان في حدود المئات زمن الخلفاء الراشدين إلى ما يعد بمئات الآلاف زمن الشروع في تدوينه، أي في القرن الثاني للهجرة. لقد وقع استغلال الحديث في الصراعات السياسية والمذهبية استغلالا لا حدود له.
    ولكي يقدر المرء ما أصاب الحديث النبوي من التضخم يكفيه أن يسمع عن ذلك الكم الهائل من الأحاديث التي تنسب إلى عائشة زوج النبي عليه السلام (وقد توفي وعمرها في حدود 18 سنة)، وإلى عبد الله بن عباس (الذي كان عمره 13 سنة فقط عند وفاة النبي). أما أبو هريرة الذي ينسب إليه كم هائل من الأحاديث فهو لم يدخل الإسلام إلا قبل وفاة النبي بنحو أربع سنوات. لقد اشتهر بهذا الاسم حتى لا يكاد يعرف له اسم آخر مع أنه من أكبر رواة الحديث. ومع أن المحدثين من أكثر الناس تدقيقا في الأسماء فإنهم لم يتفقوا على الاسم الحقيقي لأبي هريرة، فقد قيل إن اسمه هو عبد الرحمان بن صخر، وقيل كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، وقيل عبد نهم، وقيل عبد غنم، وكان يكنى بـ "ابن السوداء". وقيل سماه النبي (ص) : عبد الله، وقيل عبد الرحمان، وكناه بأبي هريرة. أما أمه فكانت سوداء وقيل إن اسمها ميمونة، كما ذكر أنها كانت يهودية، وأن أبا ذر خاطبه يوما في حالة غضب بقوله : "يا ابن اليهودية، اسكت"، إلى غير ذلك مما هو مكتوب في كتب التراجم المعتمدة.
    ونحن عندما نعرض لهذا الموضوع لا نقلل، ولا ينبغي أن نقلل من دور هؤلاء المراجع الكبار في التفسير والحديث. ما نريد أن نلفت الانتباه إليه هو أنه ليس جميع ما ينسب إلى هؤلاء وأمثالهم من الصحابة قد قالوه حقيقة، بل إن كثيرا مما نسب إليهم قكان من عمل الوضَّاعين. والوضع في الحديث مسألة معروفة، وقد بين القاضي عياض أصناف الوضاعين للحديث فقال: إن منهم "من يضع على الرسول (ص) ما لم يقله أصلا، إما نكاية واستخفافا كالزناقدة وأشباههم ممن لم يَرْجُ للدين وقارا، وإما حِسبة بزعمهم وتدينا كجَهلة المتعبِّدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب (أحاديث الترغيب والترهيب)، وإما إغرابا وسمعة كفَسَقة المحدثين، وإما تعصبا واحتجاجا كدعاة المبتدعة ومتعصبي المذاهب، وإما اتباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه وطلب العذر لهم فيما أتوه. وقد تَعَيَّنَ (عرفت بأسمائهم) كل جماعة من هذه الطبقات عند العلماء وأهل الصفة".
نعم، تجند جامعوا الحديث لوضع مقاييس ومناهج لنقد الرواة والتمييز فيهم بين من ليس فيه مطعن ومن يشك في مصداقيته، فكان منهج التعديل والتجريح، وعلى أساس هذا المنهج صنفوا الحديث حسب مصداقية رواته وسلامة سلاسلهم. ومع ذلك بقي ما بقي وهو كثير، لأن الوضع قديم... والجدير بالذكر هنا أن أبا بكر الصديق نهى الصحابة عن الاحتجاج بالحديث، والحديث يومئذ أقل من القليل مقارنة بما سيحدث بعد. فقد ذكروا أنه –أعني الخليفة أبا بكر- "جمع الناس وقال لهم إنكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا. فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا. فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه". كما يروى أن الخليفة عمر بن الخطاب "سير جماعة إلى العراق وأوصاهم بقوله لهم: إنكم إنما تأتون أهل قرية لهم دوي القرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم. جردوا القرآن (أي لا تخلطوا معه ما ليس فيه) وأقِلُّوا الحديث عن رسول الله". كما يروى أن عمر بن الخطاب "حبس ثلاثة هم : ابن مسعود وأبو الدرداء، وأبو مسعود الأنصاري وقال لهم : لقد أكثرتم الحديث عن رسول الله (ص) وقد نهيتكم عن ذلك فلم تنتهوا وهذا جزاؤكم". لقد وعى معظم العلماء في وقت مبكر هذا الأمر فكانوا لا يقبلون من الحديث إلا ما لم تظهر فيه شبهة، وفي هذا الصدد حكي أن أبا حنيفة لم يقبل من الأحاديث سوى أقل من عشرين حديثا!
    بعد التذكير بهده المعطيات التي أصبحت معروفة على نطاق واسع منذ عصر التدوين نقول: إنه من الواجب على كل من يستشهد بالحديث أن يأخذ من الاحتياطات ما هو ضروري حتى لا يسقط في الترويج في الدين وباسمه لأحكام لم يتأكد من صحتها. وبالنسبة لي شخصيا وضعت لنفسي منذ ما يقرب من عهد "الشهادة الابتدائية"، مبدأ أسير عليه في تعاملي مع الحديث، وهذا المبدأ يتألف من ركنين اثنين:
    - الأول: لا يمكن في التشريع الإسلامي الاستغناء بالمرة عن الحديث، فهو من حيث المبدأ الأصل الثاني، وضرورة اعتماده تفرض نفسها في العبادات خصوصا، وعلى مستوى التطبيق بصورة أخص.
    - الثاني: أما خارج مجال العبادات، وهو الميدان الذي استشرى فيه الوضع والبتر والزيادة والنقصان، فكل حديث لا يشهد له القرآن بالصحة أضعه بين قوسين، لا أثبته ولا أنفيه إلا بعد التأكد منه، فإذا لم أتأكد منه أتركه بين القوسين. وإذا تبين لي أن فيه شبهة سياسية فإني أتوقف، فلا أعتمده إلا إذا ظهر لي ما يزيل تلك الشبهة.
    وتطبيق هذا المبدأ على حديث المرتد في المقال القادم.