ص1      الفهرس    المحور 

كيف حصلت "الثورة العلمية" في أوروبا؟

بناصر البعزاتي

أ - حول مفهوم "الثورة العلمية":

ماذا نقصد بمفهوم الثورة العلمية؟ إذ يرد مفهوم "الثورة العلمية" في كثير من التحليلات التي تنصب على تاريخ العلم الحديث. ويختلف مدلول المفهوم من دارس لآخر؛ لكنه اختلاف لا يصل إلى درجة التضاد البين، لأن الاختلاف يرجع إلى التكوين الفكري للدارسين وإلى الثقل الذي يمارسه التخصص على توجهاتهم العامة… فتحليل الدارس السوسيولوجي لابد أن يختلف نوعا ما عن تصور مؤرخ الفن أو مؤرخ العلم، بحكم التخصص الذي يجعل الدارس يبرز عناصر معينة على حساب عناصر أخرى في التفاعل الفكري والاجتماعي؛ لذا تختلف الاستنتاجات والتفسيرات والتقييمات لمظاهر النمو والركود في المعارف. بيد أنه يمكن تكوين نظرة تحاول التركيب بين نتائج التحليلات التي يصل إليها باحثون ينتمون إلى حقول نظرية متغايرة.

فما نقصده بالثورة العلمية هو ذلك التحول الشامل الذي طرأ على كل مرافق الحياة العلمية والاجتماعية والعقدية والمؤسسية، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. إذ لا نقصد به ميلاد الفكر العلمي كما قد يتبادر إلى الذهن، لأن الفكر العلمي قد نشط منذ ثلاثين قرنا تقريبا، ثم تطور ببطء بحكم عوامل من مختلف الأوزان. وشمولية التحول تتضمن مظهرين أساسيين: يتمثل المظهر الأول في تسارع الإنتاج العلمي وإيجاد حلول علمية لأسئلة طالما أزعجت الدارسين حول حركة الأجسام وسر انتظام حركة الأجرام السماوية وطبيعة الضوء والمد والجزر وإعادة سبك المعارف العلمية القائمة التي أنجزها الإغريق والمسلمون خصوصا. ويتمثل المظهر الثاني في انتشار المعرفة العلمية لدى فئات عريضة من المواطنين، خصوصا أولائك الفاعلين في النشاط الاقتصادي والتقني والفني والسياسي، مما جعل القرارات والإنجازات في مجالات مختلفة تتأثر بنتائج العلوم في البصريات والميكانيكا والرياضيات. ثم أصبحت التجارة والصناعة والفنون والطباعة الجديدة أدوات فعالة في نشر المعرفة العلمية وجعلها مثمرة في بناء تصور المشاكل العملية والتقنية على أسس متينة.

لا يجمع الباحثون -من الصعب أن نتصور إجماعا بين كل الباحثين- حول تحديد بداية التحول الشامل الذي نحن بصدده. فكل بناء استدلالي وكل حدث فكري وكل ظاهرة اجتماعية تنخرط تشعباتها في سيرورة ثقافية-تاريخية ممتدة في الزمان والمكان، حيث تسترسل فيما بينها وتتواصل حلقاتها بدون قطيعة صارمة. ولهذا فإن تعيين القرنين السادس عشر والسابع عشر لا يمتلك قوة مطلقة، بل يجب اعتبار ذلك التحديد بقدر معين من المرونة. بيد أنه من الطبيعي أن نشير إلى مميزات إنجازات جيل معين في حقل معين مقارنة مع إنجازات الجيل السابق في نفس الحقل؛ دون أن يعني ذلك إقرارا بخصوصية جديدة كل الجدة، بما أن الجديد يتطور دائما عن بعض عناصر القديم، وينفصل عنها لينتظم في علاقات عضوية مع مكونات التركيب الجديد. وقد كان مفهوم "الثورة" مستعملا بمعنى الدوران للعودة إلى المنطلق (كما في حركة الكواكب) حتى النصف الأول من القرن السابع عشر؛ ثم أصبح يستعمل بمعنى التغير الشمولي أو التبدل الجذري.

فالتغير الذي عاشته أوضاع الشعوب الأوربية منذ القرن الحادي عشر تقريبا اتخذ أشكالا مختلفة وبسرعات مختلفة حسب الفترات التاريخية وحسب المكونات الخاصة لكل مجموعة بشرية. ولهذا نجد مثلا أن ثورات الفلاحين كانت شديدة العنف في بوهيميا في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل الخامس عشر، بينما اتخذ الصراع الاجتماعي شكل جدال فكري حول المعمار والفن والأدب والفلسفة في مدن شمال ووسط إيطاليا. وفي أوائل القرن السادس عشر اتسعت رقعة العنف ذي الأساس الديني في وسط ألمانيا بزعامة مارتن لوثر وتوماس مونتسر وآخرين حيث مات الآلاف من الناس، بينما كان التحول الثقافي والعقدي شبه سلمي لم يعرف إلا القليل من العنف في الأراضي المنخفضة، نظرا لخصوصية النشاطين الاقتصادي والأدبي المتميزين بالوفرة آنذاك.

إن التغير لا يحصل بنفس الحدة في كل المناطق، نظرا للفروق في توفر الخيرات الاقتصادية وأساليب توزيعها ونمو السكان… لكن ذلك لا يدل على استقلال المناطق الجغرافية والأنسجة الثقافية عن بعضها البعض. فالانتشار يطال كل مظاهر النشاط الثقافي والاجتماعي، لكن سرعة الانتشار وكثافته وبالتالي وقعه وحدته تكون بحسب ما تسمح به وسائل السفر والنقل ومستوى العيش لدى السكان. والتلاقح بين الأنسجة الثقافية والنمو الحضاري لا يشكل استثناء،بل هو القاعدة التي تحكم العلاقات بين المجموعات البشرية وتقاليدها الثقافية. إذن فإن العنف الذي مورس في وسط ألمانيا في ظروف اقتصادية واجتماعية وعقدية تتسم بالتأزم والتبعية المستغلة (إزاء الكنيسة المركزية في روما) لا بد أن تصل آثاره إلى الأراضي المنخفضة؛ لكنه يصبح هنا عبرة ومناسبة لإصلاح اجتماعي وعقدي وسياسي يسبق العنف، بل يتجنب درجة التأزم الذي عرفه وسط ألمانيا.

إذن فالتحول المفهومي العلمي الذي حصل في أوروبا خلال القرنين المذكورين لا ينفصل عن الأحداث السياسية والاجتماعية وعن النشاط الفكري عامة. لقد عرفت مجتمعات أخرى غير أوروبية -خصوصا المجتمعات الإغريقية والإسلامية- بعض العلوم، فتطورت عندها الرياضيات وعلوم البصريات والفلك والستاتيكا، لكنها لم تعرف انتشارا على مدى جماهيري واسع، ولم تصبح جزءا أساسيا من الحضارة السائدة في المجتمع، كما عرفته أوروبا خلال "الثورة العلمية"، وما أدت إليه من تجديد في الحياة اليومية للمواطن الأوروبي. ولن نهتم في هذا العرض بتفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية، بل سنركز على جوانب التحول المفهومي العلمي.

ومفهوم "الثورة العلمية" نحت من قبل فلاسفة الأنوار في أواسط القرن الثامن عشر بالمعنى الذي يعبر عن تحول الأفكار الأساسية حول العالم؛ فكان لا بد أن يلتحم المفهوم بمكونات المقام النظري السائد آنذاك، وهو مقام يتميز بالنقد اللاذع للأفكار التي تنتمي إلى الفترة ما قبل القرن السابع عشر. ثم تضاءل تداول هذا المفهوم نسبيا شيئا فشيئا كنتيجة للبحث في نمو الفكر وتطوره قبل ذلك القرن، مما بين أن العصور الوسطى لم تكن عصورا مظلمة تماما كما كان يظن. فكان من نتائج البحث في تطور الأفكار في العصور الوسطى والنهضة أن تضاءلت حدة التوتر والانفصال المسطرين بين ما قبل التحول المفهومي العلمي وما بعده، نسبيا. ثم طفا مفهوم "الثورة العلمية" ثانية على يد مؤرخ العلم ألكسندر كويري في أواخر الثلاثينات من القرن الحالي، والمؤرخ هربرت بترفيلد، فاستعمله كثير من مؤرخي العلم منذ ذلك الطفو. غير أن صعوبة تحديد الفترة الزمنية التي يحيل عليها المفهوم بالضبط، كانت وراء ملاحظات كثيرة حوله. فقد بدأ استعماله عند كويري محيلا على الفترة قبيل وبعيد عام 1600م. عندما توصل كاليلي إلى اكتشافات أساسية في الديناميكا والفلك قدمت أجوبة دقيقة لأسئلة قديمة باتت تشغل الدارسين. لكن كويري نفسه وسع الفترة الزمنية للمجال المفهومي الذي يدخل تحت مفهوم "الثورة العلمية" شيئا فشيئا، فأدخل إنجازات ديكارت الفلسفية الطبيعية في صلب التحول المفهومي العلمي. ولم يجد بدا من توسيع سعة المفهوم، حتى أصبح يشمل زمن كوبرنيك ونيوتن (أي من أوائل القرن السادس عشر إلى أواخر القرن السابع عشر)، لأن أعمال كاليلي وكبلر وديكارت تندرج في الدفاع عن بناء مفهومي قائم (مع بعض التعديلات) هو بناء كوبرنيك الذي وجد تتويجه في إنجازات نيوتن التجريبية والتنسيقية.

واضح إذن أنه لم يتم إجماع بين الدارسين حول المضمون الدلالي لمفهوم "الثورة العلمية". ومن هنا الشكوك التي يعبر عنها بعض الدارسين المتأخرين الذين يرون أن مصير هذا المفهوم سيكون نفس مصير مفهوم "النهضة" الذي نحت لوصف العصور الوسطى بعصور الجهل من أجل فهم خصوصية ما سمي بالنهضة. فمفهوم "النهضة" نحت في العشرينات من القرن السادس عشر تعبيرا عن شعور بالتجديد الذي حققه القرن المنصرم(1). إذ كانت وراء نحت مفهوم "النهضة فكرة كون العصور الوسطى تمثل قرونا من الظلام تتوسط بين العصر الذهبي الإغريقي واستعادة مكوناته خلال القرن الخامس عشر. فإذا بسير الأبحاث التاريخية المعاصرة حول تلك العصور تكشف عن الاتصال المسترسل بين العصر الوسيط الذي كان يوصف بالظلام، والنهضة التي كانت توصف بالإشعاع. كما أن مفهوم "الثورة العلمية" نحت خلال القرن الثامن عشر تعبيرا عن أهمية منجزات العلم في القرن السابق. ويلاحظ فلوريس كوهن أن مفهوم "الثورة العلمية" قد فقد إشعاعه وجاذبيته على ضوء البحث في تاريخ العلم لدى الجيل المتأخر، حيث يقول: "وبعد كل شيء، فليست المفاهيم التاريخية إلا مجرد استعارات يجب على المرء الاحتراز من تشييئها […] وأيضا، فإنني سأناقش مسألة اعتبار مفهوم الثورة العلمية مجرد استعارة. إنه يحيل مباشرة على حدث في الماضي أو حلقة [تاريخية] ذات واقعية لا جدال فيها: وهي بزوغ العلم الحديث"(2). إذ أن مفهومي "النهضة و"الثورة العلمية" يعبران عن لحظتين تاريخيتين محددتين بالتقريب، تجعلان استعمالهما لا يخلو من إجرائية مفيدة من أجل فهم تاريخ الأفكار. ولا يمكن تمديد المجال الدلالي لمفهوم "الثورة العلمية" قبل أو بعد القرنين السادس والسابع عشر، لما سيضيف ذلك من إبهام بدل الإيضاح. وكما كتب رشارد وستفال، ويتفق معه في ذلك ربرت هل وكاتبا مقدمة الكتاب المشترك: "يستند مفهوم "الثورة العلمية" إلى إعادة التنظيم الجذرية لفهم الطبيعة، التي حصلت فعلا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. أنا مقتنع بعدم وجود طريق آخر لفهم تاريخ العلم بدون الاعتراف بهذا الواقع، بحيث أنه إذا وسعنا من مفهوم "الثورة العلمية" ليضم القرن الثالث عشر سنحتاج إلى إبداع حد آخر لغرض التعبير عن التغييرات التي حصلت في القرنين السادس عشر والسابع عشر"(3). لذا، نرى أنه يجب الأخذ بمفهوم "الثورة العلمية"، وبقدر من المرونة، لأنه مفهوم يمكن أن يضيق أو يتسع، دون أن يدعي أحد أنه قد وضع حد للاختلاف حول مدلوله. فنرى أن مفهوم "النهضة" يدل على ذلك الثراء المهم في الآداب والفنون، من الربع الثاني من القرن الرابع عشر إلى الربع الأول من القرن السادس عشر؛ ومفهوم "الثورة العلمية" يدل على التحول المفهومي-الاجتماعي الشامل خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بالتقريب.

ب - تصورات للحدث التاريخي:

هناك تصورات متعددة تحاول تفسير ظاهرة التحول المفهومي الشامل الذي عاشته أوروبا، سنذكر أهمها.

من التصورات التي اشتهرت في أوائل هذا القرن ذلك الذي كونه العالم والمؤرخ الفرنسي بيير دوهيم، والذي يعين اللحظة الفاصلة في تطور العلم في وسط القرن الرابع عشر في جامعة باريس على يد علماء مسيحيين أشهرهم جان بوريدان (1295-1358) ونيكول أورزم (1303-1382). ففي نظر دوهيم، هناك اتصال واضح ومسترسل بين فزياء كاليلي وفزياء علماء باريس، حيث انتقلت إليه هذه من خلال تمدرس الذين أخذ عنهم كاليلي في باريس مباشرة أو عن طريق التأثير غير المباشر. ويرى أن الدفعة التأسيسية للعلم الحديث تبلورت كرد فعل نقدي وتفنيدي للعلم الأرسطي والآخذين به في التقليدين الهلنستي والإسلامي. ويوجه نقدا لاذعا لابن رشد والأرسطيين حيث يتهمهم بأنهم جمدوا الفكر بدفاعهم المغفل عن الأسلوب الأرسطي في الفكر الذي ينفر من التناول الرياضي للموضوعات المبحوثة.

فالعلم الحديث في نظره وليد التقليد الباريسي الذي وجد من يتمسك به ويطوره من أساتذة وعلماء. "وكاليلي ومنافسوه كانوا ورثة هذا التقليد الباريسي"(4). وفي صفحات كثيرة من كتاباته يشيد دوهيم أيما إشادة بعلماء باريس المسيحيين الذين وقفوا في وجه الاتباع الأرسطي. لكن التفسير الذي يقدمه دوهيم لبروز هذا المد المناهض لفكر أرسطو لا يبين تطورا مفهوميا مطردا في صورة تجريب واستدلال؛ بل يرجع الفضل في ذلك التحول المفهومي إلى قرار المنع الذي أصدرته سلطة الكنيسة في شخص إتيين تومبيي، بأمر من روما، بخصوص تدريس وتداول دعاوى فلسفية جلها أرسطية ورشدية. وهكذا يكون المنع بردا وسلاما على تقدم الفكر، لأنه فتح آفاقا جديدة خصبة غير أرسطية في تحليل الظواهر. فقد تطورت فكرة القوة الدافعة (الميل، إمبتوس) على يد جان بوريدان ونيكول أورزم، التي كانت الأساس النظري الذي تطور مع تجدد التجارب وأدى إلى فكرة العطالة، ذلك المبدأ المركزي في الفيزياء الحديثة.

لقد كانت فكرة السببية الأرسطية المرتبطة بقدم العالم تحول دون تقدم النظر؛ فأتى قرار منع الدعاوي التي تحد من قدرة الخالق، ليفتح المجال لفكرة تعدد العوالم والدفعة الأولى وقدرة الله اللانهائية. وفي نظر دوهيم فالعلم الحديث تمخض عن هذه الدعاوى الإيمانية اللاأرسطية. إذ كتب: "إذا كان لا بد من تعيين تاريخ لميلاد العلم الحديث، فإننا نختار ولا شك تلك السنة 1277م. التي أعلن فيها أسقف باريس رسميا أنه يمكن أو توجد عوالم كثيرة، وأن مجموع الأفلاك السماوية يمكن أن تسكنها حركة مستقيمة، وذلك بدون وقوع في تناقض"(5). فالعلم الحديث في تصور دوهيم ولد على إثر قرار ديني ضد أفكار أرسطو، ثم تطور باطراد واتصال حتى القرن السابع عشر، بدون إعادة نظر ولا تحول مفهومي يضع المسلمات موضع سؤال وبحث جديدين. بينما يعتبر إنجازات العلماء غير المسيحيين -أي المنتمين إلى الفترتين الهلنستية والإسلامية بالدرجة الأولى- امتدادا اتباعيا لتعاليم أرسطو، أي غير مثمرة علميا.

نعترض على تصور دوهيم من عدة أوجه:

1 - صحيح أن قرار عام 1277 قد ساهم شيئا ما في البحث عن الأفكار غير الأرسطية. وقد صدر ذلك القرار ثلاث سنوات بعد وفاة توماس الأكويني الذي حاول الجمع بين فلسفة أرسطو وتعاليم الدين المسيحي، مع الاتجاه نحو جعل الفلسفة خادمة للدين؛ وكذلك جعلت الرياضيات والمعارف الأخرى في خدمة الدين لدى كثيرين. بينما تشبث فلاسفة آخرون بالتصور الرشدي الذي يجمع بين فلسفة أرسطو والدين مع جعل الفلسفة مستقلة عن الدين ولا تخدمه. وقد عرف التصور الرشدي انتشارا واسعا في أوروبا منذ ترجمة أعماله البطروجي وابن باجة وابن طفيل في أوائل القرن الثالث عشر. إن الفكر غير الأرسطي الذي تطور خلال القرن الرابع عشر لم يقطع مع أرسطو، لأن فلسفة المعلم المشائي ظلت تناقش حتى القرن السادس عشر. ومفهوم القوة الدافعة غير-الأرسطي، كمفهوم مركزي في البناء المفهومي لفزياء القرن الرابع عشرن تطور عند جان فيلوبون (يوحنا أو يحيى النحوي، من القرن السادس الميلادي) وابن سينا وابن باجة منذ قرون عديدة، لا يتناقض مع التصور العام للفلسفة الأرسطية أو تأويل معين لها، كما تداولها الدارسون آنذاك، فلم يبق مجال لفكر أرسطي واحد ومنتهي بعد قرون من التأويلات، بحكم التأليفات المتعددة بين مكونات المذاهب المختلفة.

2 - الفكر التجديدي للقرن الرابع عشر يندرج في دينامية مفهومية وثقافية شاملة لا يعير لها دوهيم أي اهتمام. فالبحث عن الكتب والمخطوطات والترجمة من اللغات اليونانية والعربية والعبرية، وربما الفارسية وغيرها، استمر بدون انقطاع، لكن بوتيرات مختلفة؛ وكلما ترجم عمل مهم جديد كان له وقع على الدارسين ودخل في سياق الجدل الشامل الذي عم الجامعات الأوروبية منذ أواخر القرن الثاني عشر. وليس مرد تطور الفكر العلمي في القرن الرابع عشر إلى منع دعاوي أرسطو وابن رشد بالدرجة الأولى، بل مرده بالأساس إلى الاطلاع الواعي على إنجازات آرخميدس وأقليدس وبطليموس وابن الهيثم وابن سينا والبطروجي وغيرهم في ميدان العلوم الوضعية التي تتبلور على إثر برامج للبحث من أجل إيجاد حلول لمسائل محددة. وقد كانت إنجازات هؤلاء تسير في خطى تقليد البحث العلمي، الذي تعود جذوره إلى التقليد الأودكسي-الأرخميدي، والذي كان يحاور إرث أرسطو وينتقد بعض مظاهره، ولا يعاديه، تماما كما كان يحاور إرث أفلاطون. بل إن البعض (مثل ابن الهيثم وابن سينا) جددوا في جل العلوم العقلية تجديدا مهما بدون الابتعاد عن الإطار الفلسفي الأرسطي إلا بدرجات بسيطة.

3 - الدينامية المفهومية التي عرفتها هذه الفترة تنخرط في تجديد شامل في العلاقات الاجتماعية والحضرية والفنية. فقد عرف أوائل القرن الرابع عشر تطورا في المدن والتجارة وأدوات العمل والأسفار والرحلات كما عرف تجديدا في الآداب والموسيقى والمعمار والفنون التشكيلية. إن الاكتشاف العلمي نشاط مفهومي يمارسه أفراد يتبادلون الأفكار حول مواضيع محددة ويتنافسون كأفراد وكمؤسسات ويخطون برامج للعمل، وهؤلاء يتفاعلون مع محيطهم الاجتماعي والمؤسسي؛ ولا يمكن تصور مجتمع جامد منغلق يجدد في العلم. وعيب تصور دوهيم أنه يتغافل كل هذا الاندماج العضوي بين الممارسات المفهومية ويجعل ميلاد العلم الحديث مرهونا بقرار المنع، وكأن الفكر معزول عن محيطه المهني والاجتماعي والمؤسسي. وبالمقابل يربط ربطا مباشرا ومتعسفا بين فصول القرار التي تتحدث عن القدرة الإلهية والبحث العلمي في ظواهر طبيعية محصورة المجال.

4 - تتحكم في تصور دوهيم لتبلور العلم الحديث خلفية إبستمولوجية تتميز بكونها تعتبر النظرية العلمية مواضعة تتكون من عدد من القضايا تقارب الظواهر التي تتحدث عنها دون أن تتمكن من التعبير عن علاقات حقيقية بين مكونات واقعية للمجال التجريبي. ولهذا نجد دوهيم متشبثا بالمبدأ القديم الذي كان يرى أن وظيفة النظرية الفلكية تنحصر في حسابات استنباطية من أجل إنقاذ المظاهر (الظواهر) ولا ترمي إلى تفسير الظواهر في واقعيتها الأنطلوجية. ويرى أن خصوبة النظرية العلمية تكمن في إبعادها لفكرة القدرة على فهم الواقع؛ ويمجد التقليد الباريسي لأن هذا الأخير أخذ صراحة، في نظره، بمبدأ "إنقاذ المظاهر" في مقابل واقعانية أرسطو الميتافيزيقية(6). ويدعي أن لا نظرية تستطيع بناء جهاز مفهومي يعبر عن العلاقات بين حركة الأجرام السماوية ومواقعها من أجل تفسير الظواهر المرئية للعين المجردة، لأننا لا نستطيع إدراك تلك العلاقات في واقعيتها، بل إن الحديث عن واقعية الظواهر من قبيل الميتافيزقا وليس من العلم، في نظره. ولهذا يعجز تصور دوهيم عن إدراك وظيفة النظرية العلمية الأساسية التي تتمثل في تفسير الظواهر عن طريق الربط بين مكوناتها، ما بدا منها وما خفي. وربما أعذر لأنه عاش في فترة قلق مفهومي في تاريخ العلوم الفيزيائية، وهي فترة انتقالية، من فيزياء أضحت لا تستطيع مماشاة الظواهر المستحدثة مثل المجال الكهرومغناطيسي وأشعة س وحركة الغازات والأجسام السوداء والذرة، نحو فيزياء أوسع.

5 - موقف دوهيم من ابن رشد لا يخلو من تعسف، وذلك من وجهين: أولا، ليس ابن رشد مؤولا كسولا لأرسطو، كما يدعي دوهيم؛ ففي شروحه ملاحظات وأمثلة توضيحية خصبة لم تكن بدون فائدة. صحيح أنه يمكن توجيه نقد لابن رشد، من زاوية تاريخ العلوم، لأن الحماس لفلسفة المعلم تجاوز الحدود العقلية، لكنه لم يكن متزمتا. ويرى جون مردوك أن الدارس المسيحي السكولائي "كان يجد كل دليل لأرسطو معاد الصياغة ومكرر ومقوي ومدعم بواسطة أمثلة"؛ وأن "ابن رشد كان يغير المعنى الإجمالي للنص الأرسطي الذي يبدأه"؛ وأن "وظيفة المعرفة العربية هذه كانت، كما أظن، أكثر بروزا لمساهماتها في علم الغرب في العصر الوسيط"(7). ثانيا، لم يكن موقف ابن رشد من الفلك البطلمي ليوافق التزام دوهيم بمبدأ "إنقاذ الظواهر"، لأن ابن رشد انتقد هذا المبدأ ودعا إلى تكوين نظرية تعبر عن الواقع الموضوعي للعالم بدل الاكتفاء بالحسابات التي توفر التنبؤ فقط.

6 - إن تصور دوهيم يشتمل على حلقة بنائية مثمرة لأنه كشف عن دور قرار عام 1277 في الدينامية الفكرية المتشعبة والغنية آنذاك. فقد انشغل الفلاسفة إلى حد الهوس بمسألتي المتصل واللانهائي في ارتباط مع القدرة المطلقة لله. لكنه يتضمن ادعاء مبالغا فيه ولا يمكن الدفاع عنه(8). وكما يرى إدوارد كرانت، فإن بعض الفلاسفة، مثل رامون لول، قد دافعوا عن قرار المنع؛ بينما يحتمل أن بوريدان قد عارضه وإن في الخفاء وتبنى بعض الدعاوي الأرسطية(9). وربما لعب توجه دوهيم القومي الديني دورا في مبالغته في اعتبار قرار للمنع صادرا عن مؤسسة للمراقبة بمثابة دفعة إيجابية لتكون العلم الحديث. ولهذا يتهمه بعض الدارسين بالمسيحي الشوفيني والقومي المتطرف(10). فقد حط دوهيم من قدر علماء الفترتين الهلنستية والإسلامية ومن قدر كوليج مرتن التابع لجامعة أكسفورد، ورفع من شأن علماء باريس فوق القدر المعقول. وقد كان كوليج مرتن نشيطا في نفس الفترة التي نشطت فيها جامعة باريس، وفي نفس المسائل المتعلقة بالمتصل واللانهائي وبتفسير حركة الأجسام وسرعتها وعلاقتها بالقوة والمقاومة والزمن، بل لربما تأثر علماء باريس بأمثالهم علماء مرتن الذين عبروا عن تلك المسائل النظرية بالنسبة الحسابية. فقد أساء دوهيم فهم نظرية برادوردين التي تقيم علاقة تناسبية بين قوى المقاومة من جهة وسرعات ناتجة عن أفعال تلك القوى وأنماط المقاومة؛ بينما فهم دوهيم أن السرعة تناسبية مع نسبة القوة على المقاومة، على الطريقة الأرسطية. كأن دوهيم يرى أن علماء أكسفورد ظلوا على المذهب الأرسطي في أمور الفيزياء، وهنا قصور نظرته(11).

هناك تصور يخالف تصور دوهيم في جل مظاهره؛ فهو تصور يرى أن نمو المعارف يتم في شكل بناءات منفصلة لا يستمر اللاحق إنجازات البناء السابق، بل يختلف عنه في كل شيء، لأنه يعيد سبك البناء المفهومي في شموليته. ونجد هذا التصور لدى ألكسندر كويري، مرتبطا بفلسفة عقلانية تدعي أن الثورة العلمية التي دشنها كاليلي وديكارت قامت على مبدأ الصياغة الرياضية للوقائع، بصورة لم يسبق لها مثيل؛ وأن طريقة كاليلي العقلانية الرياضية قطعت مع التناول الكيفي في دراسة الظواهر. فكتب: "الفيزياء الجيدة قامت على أسس قبلية. فالنظرية تسبق الواقعة؛ والتجربة غير مجدية، لأننا نمتلك المعرفة التي نبحث عنها قبل كل تجربة"(12). ويرجع كويري الأصول التكوينية للعلم الجديد القائم على الصياغة الرياضية العقلانية للطبيعة إلى فلسفة أفلاطون، التي تبناها علماء العصر الحديث للوقوف في وجه الفكر الأرسطي: "[بالنسبة لكاليلي ] يشكل العلم الجديد دليلا تجريبيا للأفلاطونية"(13). ويتفق كويري مع دوهيم في كون العلم الحديث نما ضد أرسطو، لكنه يعتبر التجديد قد حصل في القرن السابع عشر، بعد التخلص من كل الإرث القديم.

على أن هناك تأويلا آخر لمكانة كاليلي في الثورة العلمية: فحيث يرى كويري أن كاليلي كان متشبعا بتصور أفلاطوني للمعرفة، يرى دارسون آخرون أن كاليلي قطع مع الإرث المثالي الميتافيزيقي الديني، وانخرط في توجه ذي آفاق مادية أو تجربانية. هؤلاء الدارسون يحاولون تأليف تصور يجمع بين ماركس وباشلار وليفي ستروس؛ ويعتبرون أن الفيزياء الحديثة التي تأسست في القرن السابع عشر منفصلة عن التاريخ السابق، وهي حاصل "قطيعة إبستمولوجية" مع ما يسمونه "ما قبل العلم". والقطيعة الإبستمولوجية لحظة حاسمة يتحرر فيها العلم من ماض ليس إلا مجرد عائق، فهي "نقطة اللاعودة" التي يبتدئ منها هذا العلم، بحيث يصير كل رجوع إلى فكرة سابقة مستحيلا(14). أي أنه لم يكن هناك قبل كاليلي علم حقيقي يستحق هذا الاسم.

1 - من عيوب تصور كويري أنه يركز على سيرورة الصياغة الرياضية للطبيعة التي أكد عليها كاليلي وديكارت، مغفلا التفاعل المثمر الذي تمت فيه هذه السيرورة مع النشاط الفني والتقني والاجتماعي. ولذلك فهو يقلل من شأن النشاط التجريبي في تطور النظرية الفيزيائية لدى كاليلي؛ بحيث يجعل من هذا الأخير أفلاطونيا وعدوا لدودا لأرسطو. لقد كان كويري يناضل ضد التأويل التجرباني والمادي لتكون العلم، فقاده الحماس إلى مواقف متطرفة تعارضها الوقائع التاريخية. إن التناول الرياضي لظواهر الطبيعة حصيلة سيرورة تاريخية طويلة المدى، تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد على الأقل، وتطورت شيئا فشيئا؛ وهي بارزة لدى علماء القرن الرابع عشر وقبلهم… وليس حدثا فجائيا وليد مشروع كاليلي. ثم إن التحول المفهومي لم يكن حدثا عقليا خارج التجديد الذي عاشته كل مرافق الحياة في أوروبا. فكويري يعتبر الفعل العلمي فعلا مثاليا خارج المجتمع، ولذلك يبالغ في تقدير عقلانية كاليلي من أجل تقريبها من عقلانية ديكارت. إن الثورة العلمية متصلة بالنهضة في كل مظاهرها الفنية والمجتمعية، وهو ما يتجنب كويري الحديث عنه. ولم تكن الرياضيات كائنات متعالية عن العالم الوقائعي، بل كانت ذات فعالية في معالجة أمور الاقتصاد وحل تمارين عملية في المعمار والفنون، كما كانت لدى البعض ومن قبل أداة لفهم مسائل ميتافيزيقية وعقدية، حيث دمج بعض المفكرين المعرفة الرياضية في أمور الدين، مثل الدفاع عن لانهائية الله. إن إهمال الاندماج بين مختلف المعارف والممارسات يؤدي إلى خلق ثغرة في تصور تطور العلوم قبل القرن السابع عشر(16). فالتحول الذي حصل في الحياة الفكرية خلال القرنين السادس عشر وقبله وبعده كان شاملا، لكنه تم خلال عمل أجيال متعاقبة، في جو جدلي وحواري بناء، وليس من خلال تأمل أفلاطوني(17).

2 - يقع الفهم المادي لمدرسة ألتوسير في إسقاط مبالغ لانشغالات بقضايا الصراعات الأيديولوجية على المنشأة العلمية. صحيح أنه لا أحد يستطيع ادعاء الحياد التام عما يجري حوله من صراعات اجتماعية، لكن إسقاط شعارات على مجالات لا جدوى من إقحامها فيها يقود إلى تصورات تختزل العلم إلى شعار سياسي. فبدلا من تحليل خصوصية المجالات بناء على الحجة والعمل الدءوب، يقتصر التناول الأيديولوجي المتسرع على إرجاع النشاط المفهومي العلمي إلى مواقع سياسية؛ وبذلك لا ينفلت هذا التسرع من ابتسار واختزال تفقيري. كيف نستطيع تلوين الاختلاف حول فهم تطور العلم بين التصور الاتصالاني والتصور الانفصالاني بألوان سياسية واضحة؟ ففكرتا الاتصال والانفصال مرتبطان بالبحث في تطور العلوم على المدى البعيد، ولا يمكن أن نصف باحثا يتبنى هذه الفكرة أو تلك بالبراجوازي أو البروليتاري.

هناك تصورات أخرى كثيرة تقترب من التصور الأول أو الثاني أو الثالث، لا نرى ضرورة عرضها. فهناك تصور أ.كرمبي الذي يجعل العلم الحديث ناتجا عن بزوغ منهج تجريبي خلال القرن الثالث عشر. وهناك تصور ك.كلاجيط الذي يبرز دور علماء القرن الرابع عشر من غير النفخ في دور قرار المنع الذي أرجع إليه دوهيم الفضل في قيام العلم؛ ويبين الارتباط بين النشاط العلمي في باريس وأكسفورد واتصال ذلك النشاط مع قراءات لكتاب الفيزياء لأرسطو، ومع التقليد الهلنستي(18). وهناك تصور يعتبر أن العلم الحديث لم يكن ليبرز لو لم تتوفر الترسانة القانونية التي فصلت بين التشريع الديني والتشريع المدني خلال أواخر القرن الحادي عشر والنصف الأول من القرن الثاني عشر(19).

ثم إن هناك تصورات ربرت هل وبرنار كوهن ورتشرد وستفال وستلمان دراك ووليام والاس، التي تقر بأصالة إنجازات كاليلي المنهجية بدون حديث عن قطيعة صارمة في تاريخ العلم. ويتفق كل هؤلاء المتخصصين في تاريخ العلم خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر حول كون التجديد المفهومي الذي شهدته كل العلوم خلال الفترة المذكورة لم ينتج عن روح أفلاطونية ولا عن روح أرسطية؛ كما أنه لم يتكون ضد أفلاطون ولا ضد أرسطو، بل كان يستفيد من كل المجاري الفكرية المتفاعلة مع التركيز على الانغراس في تقليد البحث العلمي الموروث عن أودكسوس وأقليدس وأرخميدس. والواضح أن تقدم البحث في تاريخ العلم، منذ ثلاثين أو أربعين سنة، قدم قرائن تاريخية مهمة لإعادة النظر في التصورات السابقة. ويمكن القول إن البحث التاريخي في نمو العلوم قد أصبح في مستوى من الدقة التي تمكن من الوقوف عند جزئيات النشاط المفهومي وبيان مكانتها في سيرورة الأفكار عبر التاريخ. ولذلك يتداول هؤلاء مفهوم "الثورة العلمية" وغيره من المفاهيم بدرجة كبيرة من المرونة والاحتراز حتى يتجنب المتلقي التأويلات المتطرفة، بدءا من اعتبار الفترة الزمنية التي تحدد في القرنين السادس عشر والسابع عشر بالتقريب.

واستفادة من البحث التاريخي، سنقدم تصورا يأخذ بعين الاعتبار الطابع الدينامي للتحول الذي نحن بصدده، حيث يبرز التفاعل بين العلوم والفنون والفلسفة والمواقع المجتمعية، دون أن يضحي بالاستقلال النسبي لتلك المجالات. وهذا التصور لا يمكن أن يكون إلا مرنا قابلا للإغناء، لكنه أفضل من التصورات التي رأيناها من قبل، لأنه يستفيد منها ويتجنب إسقاطاتها القبلية. هذا التصور يستفيد من بعض الأبحاث الفاحصة الدقيقة التي أنجزت في الثلاثين سنة الأخيرة.

ج - تعدد أبعاد التحول:

للتحول الذي عرفته أوروبا في عصر النهضة جذور يصعب حصر منطلقها. بيد أنه يمكن اعتبار أواخر القرن الحادي عشر بمثابة لحظة وعى فيها بعض الناس عوامل النهوض من الغفلة الفكرية والحضارية. ويتمثل ذلك الوعي في مظاهر كثيرة. فقد نمت التجارة شيئا فشيئا، داخليا وخارجيا؛ وتطورت المدن، خصوصا على السواحل. ونمت الحركة العمرانية وشيدت الكتدارئيات واتسعت المدن وعبدت الطرق؛ وأخذ بنسق الأرقام المتداولة في الغرب الإسلامي لتسهيل العمليات الحسابية. وحصل الإدراك الواعي لدور الترجمة من اللغة العربية التي كتب بها قبل ذلك الوقت المسلم والمسيحي واليهودي والصابي والوثني. بينما لم يكن يطلع على الفكر المتقدم إلا من خلال ترجمة عدد قليل من الكتابات عن اليونانية. كما تطور الاهتمام بالتشريع على أثر الصراع الدامي بين الكنيسة والسلطات السياسية، حيث أدرك الطرفان دور المفاوضات والمواثيق واحترامها. وفي نفس هذه الفترة انفتح الطرفان على الممارسات العرفية وقانون جستنيان الذي أصبح يدرس في جامعة فلورنسا. ومنذ القرن الثاني عشر سار ذلك التحول على جميع الأصعدة يدا في يد وبدون توقف وإن بوتيرة غير متكافئة في كل المجالات.

1 - نمت مؤسسات خيرية ومهنية وثقافية وسياسية وإدارية، خصوصا مؤسسة الجامعة التي أصبحت تلعب أدوارا إشعاعية في ميادين فكرية متنوعة. وقد عرفت الجامعة صراعات واضطرابات بين أعضائها، وبينهم وبين السلطات الدينية واللائكية، وكانت تخرج منها منتصرة لصالح الفكر والبحث. فتطور الجدال الفلسفي، وتشعبت مواضيعه وعرف نقاشا بين الاتجاهات المختلفة التي تنسب نفسها لأرسطو أو أفلاطون أو غيرهما. بيد أن أهم ما يثير الانتباه بهذا الصدد هو التزايد المطرد لعدد الجامعات والأساتذة والطلبة وتعاظم مكانتها في المجتمع. وقد أصبح مدرسو الجامعة يشكلون بجانب الكتاب والفنانين والمحامين والأطباء فئة متوسطة تنتج قيما جديدة تدعو جيلا بعد جيل إلى الاستقلال النسبي للفاعلية الفكرية والثقافية عامة(20).

2 - تطور أسلوب البناء المعماري، وأدى الإقبال على بناء الكتدرائيات الكبيرة والقبب والاهتمام بشروط الإنارة والهواء إلى التفكير في أساليب جعل النوافذ كبيرة والسطوح عالية، وهو ما يحتاج إلى تقنيات هندسية لتوفير المتانة الضرورية. وأصبح المعمار يأخذ بالأدوات الرياضية لتوفير بنية صلبة وشكل يتمتع بالانسجام وشروط الجمال الأخرى. كما برز التأليف في المعمار؛ ويكفي أن نشير إلى مؤلف آلبرتي في المعمار الذي ألفه ما بين 1450 و 1472. يتطرق المؤلف لمواضيع مختلفة تتوزع بين خصائص الرمال والأحجار والأخشاب، إلى طرق التأليف بينها، إلى الأساس والركائز والنوافذ والأبواب والقبب والتناسب والتماثل والانسجام. وتؤطر هذه الدراسات نظرة عن الجمال مستوحاة من العلاقات الرياضية.

3 - إن أهم عنصر يميز النهضة، خصوصا خلال القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر هو ظاهرة الإبداع الفني، كما وكيفا. فمن الجانب الكمي ازداد عدد الممارسين والناقدين وأصبحوا في إيطاليا وحدها بالمئات، حيث انتشرت الأوراش وازداد الطلب على اللوحات والصور الشخصية والمنحوتات والمنقوشات والتحف والأزياء المزركشة. بيد أن الجانب الكيفي يمثل الحلقة الأقوى في هذا الإبداع؛ فقد تطورت تقنية الإنشاء والإنجاز على إثر اقتباس الأساليب الرياضية وجعلها في خدمة التشكيل. لقد أصبح جل الفنانين يرون في الأدوات الرياضية والعلمية طرقا ناجعة من أجل فعل فني ينشئ نماذج جميلة انطلاقا من ملاحظة الظواهر الطبيعية. وقد أصبحت الفنون تشكل عناصر مستحدثة في مجتمع النهضة، لها وقع على نسج علاقات جديدة بين الحاكمين والمثقفين؛ كما أن لها وقعا على النشاط الاقتصادي، حيث أصبح الثري الجديد يشتري لوحات ويشجع الإبداع. وقد كان الإبداع الفني وراء تغير مكونات الذهنية لدى جل الفئات المجتمعية، خصوصا الفئات المتوسطة الصاعدة من أطباء ومهندسين وأساتذة وأطر في دواليب الاقتصاد الجديد، عن طريق شحذ القدرات الإدراكية بالآداب والموسيقى والفنون التشكيلية المختلفة، بالإضافة إلى نمط التعامل الاقتصادي الجديد والكشوفات الجغرافية والتاريخية. وقد أصبح الحديث عن "الفن الجديد" سائدا لدى كل الفئات.

4 - تطورت بشكل متسارع طرق الإنتاج والتعامل في ميادين التجارة والصناعة والمال في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر. فاتخذت مؤسسات التأمين والأبناك والشركات شكلا إداريا وقانونيا عصريا بعد أن كانت معاملاتها شبه سرية بالنظر إلى موقف رجال الدين المعارض لنمط العلاقات الإنتاجية الجديدة. وقد اتسعت الشبكة الرابطة بين المراكز التجارية وتزايد عدد البواخر وتطورت قدراتها الحمولية والدفاعية وكثرت السلع المتداولة في التحويل والاتجار. وأصبح الاقتصاد الأوروبي منذ حوالي 1500م. قطب الاقتصاد العالمي، حيث خلق في مناطق كثيرة مراكز لاستيراد المواد الأولية ثم لتصدير منتوجاته فيما بعد. إن روح التنافس التي تطبع نمط الإنتاج الرأسمالي الجديد والذهنية التنظيمية الفعالة المرتبطة به قد شجعتا النشاط الفكري والثقافي عامة. بل إن كثيرا من الفاعلين في هذا النشاط مارسوا وانخرطوا في الدواليب الاقتصادية والإدارية المستحدثة، أو أنهم ارتبطوا في علاقات حميمية مع الفاعلين في الاقتصاد الجديد ومع الأمراء المتنورين. وقد كان كثير من الجامعيين مساهمين في الشركات والأبناك، ويحضرون المآدب ويأخذون بنمط الحياة البرجوازية المتفتحة النامية.

5 - على إثر التجديد المهم في أسلوب الطباعة في وسط القرن الخامس عشر أصبح الكتاب ينتج في نسخ كثيرة وبمجهود أقل وفي ظروف مادية أفضل، مما جعل ثمن الكتاب ينخفض وعدد النسخ يتزايد. وقد شكل إنتاج الكتاب وتداوله عنصرا مهما في العلاقات الجديدة من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. فانتشرت المطابع الجديدة بسرعة كبيرة عبر أنحاء أوروبا، وتضاعف عدد المتاجرين في الكتاب. ثم اتجه الكثير من الطابعين إلى طبع أمهات الكتب الإغريقية في الفلسفة والأدب والعلم. واتسع جو الجدل الفكري واغتنى، وانتشرت المجالس الفكرية بعد أن كانت محصورة في عدد قليل من الأديرة. وقد جعلت الحركة الإنسانية وحركات الإصلاح الديني من الطباعة الجديدة أداة ناجعة لنشر مبادئها بين مختلف الأوساط.

6 - كنتيجة للتحول في الآداب والفنون والكتاب تطورت التوجهات التي تدعو إلى تغيير العلاقات بين المؤسسة الدينية والمجتمع والسلطة السياسية. لم يكن لهذه الحركات برنامج موحد، بل كانت تشكل اتجاهات يدعو بعضها إلى إصلاح من داخل الكنيسة لتتفتح على مستجدات نمط الحياة الجديد، ويدعو بعضها إلى تغيير بنيات مؤسسة الكنيسة، ويدعو بعضها إلى إصلاح شامل يغير علاقات الكنيسة والأمراء بالأرض والثروات والفلاحين. بل إن بعض الناس نادوا بحرية الاعتقاد وعدم تعميد الأطفال وكون الإيمان مسألة شخصية لا دخل للمؤسسة الدينية والسياسية فيها. وقد اتخذت الصراعات بين التوجهات المتعارضة منحى دمويا خلال عشرات السنين. ولهذا شكل القرن السادس عشر فترة الاضطرابات الدينية بامتياز، ووجدت الأطراف المتصارعة أن لا مصلحة لأي منها في الاستمرار في ادعاء امتلاك الحقيقة، فغلب اختيار تجب المواجهة الجماهيرية وجعل الأمر مسؤولية فردية.

7 - إذا كان قد غلبت على القرن الثالث عشر ترجمة كثيفة من اللغة العربية، فإن القرن الخامس عشر غلبت عليه الترجمة من اللغة اليونانية. إذ أصبح المثقف الأوروبي يقبل على الكتاب اليوناني، يقرأه في لغته الأصلية أو في ترجمته المباشرة، بعد أن كان يقرأ الكتاب العربي أو الكتاب اليوناني بواسطة الترجمة العربية، ثم اللاتينية. وتولد لديه شعور بالاعتزاز بالإرث الإغريقي الروماني، جعل البعض يطعن في الترجمات غير المباشرة. بيد إن هذا الاهتمام بالفكر الإغريقي والروماني والإسلامي والصيني لم يكن عاملا لينسيهم المكونات الثقافية المحلية. فقد اهتم الناس بالثقافة التي يتداولها المواطن العادي عبر الرواية الشفوية أو المعبر عنها في اللغات المحلية. وهذا المزج بين المحلي والكوني أبرز كتابا مرموقين في كل الأجناس الأدبية والفكرية.

8 - ترجمة الإنجازات العلمية لابن الهيثم وابن سينا وابن رشد وغيرهم في فجر القرن الثالث عشر دفعت النشاط العلمي في أوروبا نحو التقدم. لقد كانت إنجازات هؤلاء العلماء استمرارا لإنجازات أقليدس وأرخميدس واراطوستينيس وجالينوس وبطليموس وغيرهم، لإغناء المعارف العلمية في شتى الميادين. وعرفت هذه الإنجازات إقبالا خاصا من طرف بعض المهتمين، مما دفعهم إلى اتباع مناهجها في ممارسة البحث التجريبي والبناء الاستدلالي والصياغة الرياضية للمجالات المدروسة. وهكذا تعرف علماء أوروبا على تقليد البحث العلمي الذي تعود جذوره إلى التقليد الأودكسي-الأرخميدي الذي أثمر معارف علمية منذ القرن الرابع قبل الميلاد واستمر ببطء يحفز قلة من الباحثين على البحث الدقيق. وقد ازداد الاهتمام بهذا التقليد للبحث في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، ويتمثل ذلك في المناقشات حول المنهج والتجريب والمنطق النظري والمنطق العملي من أجل تحليل الأفكار الموروثة وبناء معارف متطورة لفهم العالم. غير أن هذه المظاهر التجديدية قد فرضت نفسها بعد صراعات اجتماعية سادها العنف المادي والرمزي خلال أجيال عديدة، بالإضافة إلى الأوبئة والحروب والكوارث؛ فكان الثمن غاليا جدا.

د - تفاعل الأصعدة:

بناء على الملاحظات السابقة يمكن الإقرار بأن تحولا مهما قد حصل في أوروبا خلال النهضة والفترة التي نقول إنها عرفت ثورة علمية. بيد أنه واضح أنه لا يمكن الحسم في مسألة بداية ذلك التحول وانتهائه. لهذا يتردد الدارسون المتأخرون في تعيين تاريخ بالضبط لبداية الحقب التاريخية ونهايتها.

فيمكن أن نعتبر أن التحول المفهومي في العلم حصل ما بين سنة 1609، وهي سنة الكشوفات الجديدة حول سقوط الأجسام على يد كاليلي وحركة المريخ على يد كبلر، وسنة 1638، حيث اكتملت أعمالهما ونشرت بالإضافة إلى كشوفات هارفي البيولوجية وديكارت الجبرية. ويمكن اعتبار أن التحول المفهومي الجريء قد حصل ما بين سنة 1597 وسنة 1650 بالنظر إلى أن الإنجازات المشار إليها تمت بعد تهييء وعمل منهجيين في إطار برامج علمية واضحة المعالم. ويمكن القول إن التحول حصل ما بين سنة 1543، وهو تاريخ صدور مؤلف كوبرنيك المجدد وسنة 1687، وهو تاريخ صدور مؤلف نيوتن الذي يتوج إنجازات السابقين وينشئ بناء متكاملا، وينظمها في نسق منسجم واحد.

ويمكن تعيين فترة تقريبية لذلك التحول بالقول إنه حصل خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولا يجب أن نغفل أن كل وجهات النظر الممكنة السابقة تقدم تبريرات لتصورها لا تنقصها الحجج القوية المقتبسة من سيرورة تطور المعارف العلمية. فكتب الن دبس بهذا الصدد، في بداية كتابه: "لم تدرس حقبة بتفصيل أكبر مما درست به [ فترة] الثورة العلمية، لكن حدودها الكرونولوجية لا تزال لغزا". ثم كتب في خاتمة الكتاب: "كانت هناك بالتأكيد ثورة علمية. لكنها، كثورة، كانت عملا طويل المدى. فالتغييرات الهيكلية التي أرخنا لها حصلت على مدى قرون بدل عشرات السنين"(21). فتلاقح المفاهيم وخصوبتها دينامية مسترسلة تحتاج زمنا.

الإقرار بأن التحول المفهومي العلمي حصل ما بين سنتي 1609 و 1638 يركز على التغير في النواة الصلبة للعلم، ويعزلها نوعا ما عن الدينامية المفهومية التي تطورت من عصر كوبرنيك إلى عصر نيوتن. وتتمثل هذه النواة بالأساس في الصياغة الرياضية المناسبة لنتائج التجريب الدقيقة والوصول إلى قوانين مضبوطة في علمي الديناميكا السماوية والديناميكا الفيزيائية. فقد صاغ كبلر قوانين ثلاثة تقدم تفسيرات لدوران بعض الكواكب ومسافتها عن الشمس وعلاقة هذه المسافة بسرعتها؛ كما صاغ كاليلي قانونه في سقوط الأجسام الذي توج جدالا دام أزيد من عشرين قرنا. والقوانين كلها تدعم البناء الفلكي-الكسمولوجي الذي شيده كوبرنيك، مع بعض التعديلات. وكانت عناوين الكتابات معبرة، إذ تعبر عن روح جديدة في التناول: كبلر عنون كتابا له علم الفلك الجديد، وكاليلي عنون كتابا له علمان جديدان، وباكون كتب أطلنتيد الجديدة ثم أركانون الجديد. فليس هذا التصور خاطئا ولا ناقصا إذا كان الغرض هو قياس جدة البناء العلمي الذي يتضمنه كتابا كاليلي وكبلر، بدون الالتفات إلى الجذور التاريخية التي جعلت التجديد ممكنا. غير أن وصف المعارف بوصف الجدة ليس مقصورا على هذه الفترة: فقد عنون تارتاليا كتابا له العلم الجديد سنة 1537،وفيه يتطرق لشكل حركة المدافع حسب طريقة أرخميدس؛ كما عنون ف. باتريزي كتابا له فلسفة جديدة للكون سنة 1591.

والقول إن التحول كان مفهوميا واجتماعيا شاملا ويمتد عبر أجيال كثيرة يأخذ بعين الاعتبار استرسال الجدل والتفاعل بين المجالات الفنية والفلسفية والاجتماعية والعقدية والعلمية؛ فالفعل الفني أو الجدل الفلسفي لا ينفصلان عن المقام الثقافي، ويتفاعلان مع كل مكوناته. وإذا أخذنا الأبعاد المتنوعة لشخصية الفنان الموسوعي آلبرتي مثلا، يمكن إدراك تفاعل الأصعدة المختلفة من النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني والعلمي. ينتمي ليون بتستا آلبرتي إلى عائلة نشيطة في الميدان الفكري والمعاملات البنكية والمالية والتجارية، وقريبة من العائلات الفاعلة في القرار السياسي في فلورنسا، وقبل أن تبرز شخصيته الفنية كان له تكوين متقدم في الآداب والدبلوماسية، على إثر دراسته في جامعتي بولونيا وبادوا. ولا شك أنه أدرك ملابسات روح التنافس والمغامرة والتجديد التي تسود في عالم الأعمال. وعاشر آلبرتي جل فناني عصره من الجيل السابق ومن جيله هو؛ وجادلهم واستفاد منهم وأفادهم؛ ويمكن اعتبار مؤلفه في فن الرسم ثمرة هذا الجدل. واهتم بعلوم الرياضيات والفلك وقام بملاحظات وصلت إلى علماء الفلك مباشرة أو عن طريق الإخبار غير المباشر. ونجد في هذا المؤلف الصغير منهجا لاستخدام الرياضيات في فن الرسم، كما نجد في مؤلفه في المعمار تحليلات لأدوات البناء وطرق التأليف فيما بينها طبق قواعد هندسية من أجل إنجاز بنية هندسية-معمارية متينة؛ تؤطر كل هذه العمليات نظرة فلسفية جمالية ذات أصول فيثاغورية متطورة نشيطة. لقد جعل آلبرتي من الفلسفة الفيثاغورية الأفلاطونية التي تبناها فلسفة نشيطة تفعل في الواقع الطبيعي، تضفي عليه النماذج العقلية المشيدة بواسطة الأدوات الرياضية، بدل تأمل نماذج مفارقة للعالم الطبيعي. وتمثل شخصية صديقه الفنان توسكانلي شبكة ممثالة من العلاقات المثمرة. وإذا بحثنا في علاقات ليونردو دافنشي وجدنا عالما من التفاعلات بين فن الرسم والأدب والرياضيات والتقنية والنشاط السياسي… لم يكن آلبرتي وليونردو وأولائك الذين عاصروهما علماء يعملون في إطار برامج للبحث العلمي محددة المعالم لفهم وتفسير ظواهر تنتمي إلى مجال تجريبي محصور، مثلما أصبح عليه الأمر مع بينيدتي وستيفن وكبلر وكاليلي. لكنهم قدموا خدمات للفكر العلمي في كل الجوانب؛ لقد كانوا موسوعيين واعين بأسباب العلم ودوره في التقدم، وانشغلوا بما ساد آنذاك من جدل وحوار؛ بالإضافة إلى أن تقليد البحث العلمي كان آنذاك لا يزال يستعيد مكانته المفقودة. إن الانشغال بالواقعية والدعوة إلى التركيز على جزئيات الطبيعة وتناولها بالأدوات الرياضية في الفن يندرج في هذا التهييء المباشر للتحول المهم في المعارف العلمية. غير أن التغير الاجتماعي لم يفتح المجال لتطور العلوم فحسب، بل فتح المجال كذلك لممارسة السحر والشعوذة والمهن المشبوهة، أي لتلك الممارسات التي كانت تحاربها السلطة الدينية الرسمية.

وإذن فإن تطور الأنشطة في الميادين المتنوعة بلور أنوية (جمع نواة) متعددة: نواة صناعية لها منطقها ونظام العلاقات التي تحكمها؛ نواة الجامعات التي تغتني باستمرار عبر الجدل والمقررات المتجددة؛ نواة الأوراش الفنية التي تكون المتعلمين والمبدعين، ومجالس الحركات الأدبية الإنسانية. وتتمتع هذه الأنوية بتنظيم نسقي ذاتي، وفي نفس الوقت يتفاعل مع الأنوية الأخرى ويتبادل معها النفع والفائدة. إنها دينامية المجتمع الذي يفرز مؤسسات واعية بأدوارها لخدمة مصالح من تثملهم. وقد استفاد المهتمون بالعلوم من هذه الدينامية الجديدة، بل ساهموا في نضجها، فوجد الفعل العلمي الجو الذي يحتاجه، أي جو التعدد الفكري والحوار والتنافس. وفي هذا الجو المليء بالمستجدات التي تنتج عن الفاعلية الفنية والتقنية، كان آلبرتي يقول: "يستطيع الناس أن يفعلوا كل شيء إن هم أرادوا". ومثل هذا القول يعبر عن إدراك المفكر الأوروبي آنذاك لدور الفاعلية الفكرية في تحويل المجال الطبيعي وتغيير أحوال المجتمع من أجل نمط للعيش أفضل.

في الربع الثالث من القرن الخامس عشر عزم بورباخ ورجيومنتانوس(22) على تجديد النظرية الفلكية، بعدما تبين لهما أن النظرية البطلمية لا تعبر عن حقيقة أوضاع الأجرام السماوية وحركاتها. وقد استمر الثاني بعد موت الأول، في إنجاز ذلك البرنامج الطموح. اطلع رجيومنتانوس على إغناءات البتاني والفرغاني وجابر بن أفلح لفلك بطليموس؛ وربما اطلع على تعديلات مؤيد الدين العرضي ونصير الدين الطوسي ومدرستهما في علم الفلك القائم، وقد كانت متقدمة جدا مقارنة مع فلك القرن الخامس عشر الأوروبي. وكان متضلعا في اللغة اليونانية وصديقا للكردينال بيساريون، واحدا من أبرز منظري التنمية الفكرية النهضوية. وقد قال رجيومنتانوس إنه سيصلح أحوال السماء بينما يتكفل بيساريون بإصلاح أحوال الأرض (بمحاربة الأتراك). لكن الكردينال بيساريون لم ينظم غزو الأتراك العثمانيين؛ ورجيومنتانوس لم يصلح النظرية الفلكية، إذ فاجأه الموت وهو في بداية عمله(23).

إن ما أدركه رجيومنتانوس من عيوب التصور البطلمي، على إثر اطلاعه على تراكم الانتقادات لذلك التصور منذ قرون، يعبر عن وعي بمهمة البحث عن طريق الملاحظة والفحص المفهومي والمنهجي الرياضي للبناء الكسمولوجي القائم. لكنه إدراك لم يكن إلا في بداياته الجنينية. وقد واضب برنار فالتر خلال سنوات طويلة على إجراء ملاحظات فلكية دقيقة، وكان على علم ببرنامج رجيومنتانوس، لكنه لم يكن يهتم كثيرا بملابسات النشاط النظري(24). فأصبح الطريق معبدا لمراجعة ذلك البناء في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن اللاحق. إن جل المهتمين بعلم الفلك حوالي سنة 1500م. اصبحوا واعين بضرورة إعادة النظر في أسس النظرية الفلكية القائمة بكيفية جذرية. وكما كتبت ماري بواس: "لفلكيي القرن الخامس عشر الفضل في إدراك أن علم الفلك كان مقبلا على التغيير، رغم أنهم لم يستطيعوا أن يدركوا الاتجاه الذي يسير فيه التغيير"(25). بل إن الفضل يعود إلى مجهودات أجيال من الفاحصين، ولم يصبح ذلك الإدراك ناضجا حتى السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر. وكوبرنيك هو الذي قدم المراجعة التي مست البناء الكسمولوجي-الفلكي في الصميم، حيث وضع الأصبع على عيوبه، منذ العقد الثاني من القرن اللاحق، وصب ذلك في مؤلفه المشهور الذي صدر سنة 1543.

من الصعب إصدار تقييم دقيق لمكانة كوبرنيك في تاريخ النظرية الفلكية. بيد أن أغلب الدارسين يعتبرون أن التطور اللاحق الذي كان لكتابه المشهور كان أهم من مضمون الكتاب ذاته؛ لأن "النسق الكوبرنيكي يشكل تغييرا للنظرية التقليدية [نظرية بطليموس ] بدلا من أن يكون انفصالا ثوريا على الأفكار الفلكية السابقة"(26). ففي هذا التقدير لم يأت كوبرنيك بمعارف جديدة حول العالم، ما دام نسقه يؤول النظرية السابقة، غوص تأسيس نسقه على أدلة جديدة… (ولن نعلق هنا على هذا التقييم رغم مبالغته البينة، وسنتطرق له في دراسة نقدية خاصة).

في الوقت الذي كان كوبرنيك يراجع البناء الفلكي، كان آخرون يراجعون مبادئ العلوم الأخرى. فهذا أندرياس فيساليوس يراجع علم التشريح(27)؛ وهذا ن.ترتاليا يجتهد في بعض قضايا الميكانيكا(28)… لا تهمنا، في هذا العرض، التفاصيل المتعلقة بدرجة الجدة والتجديد في هذه الكتابات؛ لأن ذلك يحتاج إلى تحليل لسنا بصدده الآن. لكنه واضح أن وقعها لدى المعاصرين كان مهما لما أثارته من إقبال على البحث الدقيق ونقاش حول السبل المنهجية الموصلة إلى المعرفة العلمية. بل إن هذه الكتابات المجددة قد تمت في سياق مناقشات حول مكانة أعمال أرسطرخس وبطليموس والبطروجي والبتاني وغيرهم في الفلك، ومكانة أعمال أبوقراط وجالينوس وابن سينا والرازي وغيرهم في التشريح، ومكانة أعمال آرسطو وآرخميدس والخازني ومؤلف "مسائل الميكانيكا" (الذي كان ينسب لأرسطو آنذاك) في الفيزياء، ومكانة أعمال أقليدس وبطليموس وابن الهيثم والفارسي وغيرهم في علم البصريات…

ففي أواسط القرن السادس عشر استوعب الدارسون علوم الفلك والبصريات والستاتيكا والتشريح، التي ورثوها عن الأولين، ولم يتجاوزوها كثيرا. بيد أن ذلك الاستيعاب قد تم في شروط اجتماعية واقتصادية وفلسفية وسياسية جديدة. لقد أصبحت كروية الأرض حقيقة معاشة في الحياة اليومية، ولم تبق نظرية مجردة في عقول قلة من المفكرين. ووضع الخرائط وظروف الإبحار تغيرت بصورة جدية؛ وأدوات القياس والبوصلة والإسطرلاب والعجلة ثم التلسكوب والميكروسكوب أصبحت تلعب دورا متزايدا في ضبط المعارف ومراجعتها وتقنينها. وتطور الفنون والتقنيات قدم للفهمنة العلمية أساليب بناء المكان الهندسي الأقليدي الذي تتوقف عليه بلورة الظواهر وتناولها رياضيا. وقد كتب جان فرنل سنة 1545: "لقد أبحر حول العالم، واكتشفت أوسع القارات، واخترعت البوصلة؛ وفنون الطباعة زرعت المعرفة؛ وغير البارود فنون الحرب جذريا، وأنقذت المخطوطات القديمة وأصلح التعليم؛ كل شيء يشهد على انتصار عصرنا الجديد"(29). على أن التحول المفهومي العلمي لم يكن حصيلة هذه العوامل المذكورة هنا فقط، بل ساهم في ذلك كذلك الجدل الفلسفي والثورة الفنية والقيم الجديدة التي تلازمت مع تغير نمط النشاط الاقتصادي وتغير نسيج القيم الاجتماعية. ثم إن جل تلك العوامل المذكورة قد عرفت من قبل لدى مجموعات ثقافية أخرى؛ فتطورت ببطء إلى أن وجدت هذه البيئة الجديدة. فبخصوص الفن كتب وايتمن: "إذ كان الآن مقبولا القول بأن دفعة قوية وجديدة نحو الفكر العلمي الحديث قد تطورت في أحضان حلقة الفنانين في فلورنسا قبل أن يعبر عنها آلبرتي، فإن المسألة تكمن في ما إذا كانت تلك الدفعة هي العنصر الوحيد"(30). وكذلك كتب جيورجيو دي سنتيانا في نفس الموضوع: "[…] وضع فن الرسم في القرن الخامس عشر الإنسان داخل العالم، أي العالم الواقعي كما تشخصه القوانين الفيزيائية بالضبط، وأقر هذا الفن النظرة الطبيعية ضد الرمزية الوسيطية، وبذلك خلق المسلمات الطبيعية للعلم"(31). لقد شكلت الفنون حافزا أساسيا، بجانب حوافز أخرى، على اتساع الأفق لدى الإنسان الأوربي؛ وتطورت عنده القدرات الإدراكية، وتخلصت العقول نسبيا من سلطة المعارف الساذجة والأحكام الجاهزة، وصارت تطمح إلى الابتكار والاكتشاف. لذا تبلور اهتمام بالجدل بكونه منطقا إجرائيا، عوض الاكتفاء بأشكال القياس الصوري. كما اهتم المفكرون بخصوبة الخطابة من الزاوية المعرفية. ليس هذا الاهتمام النقدي جديدا، لكن تفاعله مع التجديد في الميادين المختلفة كان مثمرا بشكل بارز. كما كتب شيفولتي: "المسائل العلمية ميدان ممتاز للتطبيق بالنسبة لفن الخطابة، الذي يقيم القوانين التي يجب، إذن، أن تخضع لها"(32) فقد تطور الجدال بين التوجه الإسماني والتوجه الأفلاطوني في موضوع المفاهيم الكلية واكتساب المعرفة؛ وتركز الاهتمام على كتابات كيكرون وكونتليان بجانب أرسطو وأفلاطون، من أجل التمكن من آليات الاستدلال والبناء والحوار والإقناع.

هـ - تقليد البحث العلمي:

تفاعلت عناصر الدينامية الفكرية النهضوية وعناصر السيرورة الاجتماعية البرجوازية وشكلت التحول الشامل الذي نحن بصدده، وأثمرت ما يسمى "الثورة العلمية". فقد استوعب علماء القرن السادس عشر تلك النواة العلمية الصلبة التي تطورت ببطء وعلى مدى قرون كثيرة في مختلف العلوم.

إذ تجمعت إنجازات قرون كثيرة في لحظة تاريخية محددة، وأصبح عدد الباحثين أكبر من مجموع عدد علماء الماضي. وتكثف التواصل والجدل والتنافس بين الدارسين، كما اقتنعوا بالفائدة العملية للعلم. وهكذا انبعث تقليد البحث العلمي شيئا فشيئا في المراكز الحضرية الأوروبية؛ ذلك التقليد الذي تعود جذوره إلى التقليد الأودكسي-الأرخميدي في البحث التجريبي والصياغة الرياضية. ولم يكن ذلك التقليد مذهبا كاملا من القواعد والتعليمات لممارسة البحث، بل كان مجموعة من الخطوات والإجراءات العملية تستضيء بالدقة الرياضية وتبلور مجالاتها عن طريق الفحص التجريبي الواعي، في إطار برنامج محدد لفهم ظواهر معينة بدل الغوص في التخمينات الميتافيزيقية البعيدة. فكان لا بد أن يتطور تقليد البحث العلمي ذلك على ضوء المستجدات التي يكشف عنها التنقيب، ويشحذ أدواته ويدقق آلياته. وفعلا فقد تطور لدى ابن الهيثم والبيروني والطوسي وغيرهم، نظريا وعمليا، قبل أن يكتشفه مفكرو النهضة الأوروبية خلال القرن الثالث عشر. غير أن الظروف الجديدة -تمفصل العلوم مع الجدل الفلسفي والفنون والتقنيات ونمط الإنتاج الجديد- قد أعطت لذلك التقليد وزنا مهما لم يجده في مجتمع أولائك السابقين.

لقد اغتنى النشاط التجريبي في القرن السادس عشر، وأصبح يتبنى طريقة التعبير التكميمي عن نتائج التجارب التي تجرى مجهزة بآلات مستحدثة. فالعاملون في إطار برامج لفهم وتفسير ظواهر محددة أدركوا أن لا فائدة للتحجر في نسق أفلاطون ولا نسق أرسطو، وأن التناول العلمي يقتضي مواصلة تتبع الملاحظة لتدقيق الأحوال المختلفة للوقائع المدروسة. لقد أصبحت سلطة التجريب أهم من سلطة المعلمين السابقين. ونجد تعبيرا عن هذه الفكرة لدى بعضهم كما نجد ممارسة لذلك. فقد كتب فنسنزو كاليلي (أب كاليلي الفيزيائي): "أتمنى أن أشير إلى رأيين خاطئين اقتنع بهما الناس عن طريق كتابات مختلفة، وأخذت بهما أنا كذلك، إلى أن تيقنت من الحقيقة بواسطة التجريب، التجريب معلم كل شيء"(33) وقبله ألح ليونردو دافنشي على الاستناد إلى التجربة "المعلمة الحقيقية"، وأن "الحكمة بنت التجربة"؛ كما ألح على أن لا علم بدون رياضيات؛ إذ "الميكانيكا جنة علم الرياضيات، لأنه بواسطتها يجني المرء ثمار الرياضيات"(34). بل إن كل الدارسين تقريبا فكروا بتلك الطريقة آنذاك.

مبدءان أصبحا يترددان على جل الألسنة: التعلم من التجريب بدل الكتب، واعتماد سبل الصياغة الرياضية للوقائع. ولهذا نجد علماء هذه الفترة يرددون عبارات من قبيل "الرياضيات المطبقة" و"الميكانيكا الرياضية" و"العلوم المختلطة" (أي التي تمزج بين الرياضيات والتجريب العملي)… ولهذا نجد الأفلاطوني يهتم بالتجريب، ونجد الأرسطي يهتم بالتناول الرياضي. فلم يكن ممكنا أن يظل الدارس النهضوي منغلقا في أحكام غير منتجة؛ لذلك ساد النقاش والتنافس بين الدارسين، بدل الاتباع والتقليد. وكما أن البحث الفلكي سار في خط واضح من رجيومنتانوس -فالتر إلى كبلر عبر كوبرنيك وريتيكوس ومستلان وآخرين، فإن البحث في الميكانيكا سار في خط واضح من ترتاليا إلى كاليلي عبر بينيدتي وكيدوبالدو وآخرين؛ وكذلك سار البحث في التشريح في خط واضح من فيساليوس إلى هارفي عبر آخرين…

كان هناك شبه إجماع بأن العلم لن يتقدم إلا عن طريق المزاوجة بين التجريب وبين الصياغة الرياضية. لكن المسألة الجوهرية تكمن في كيفية التعبير عن ظواهر العالم العيانية بواسطة المعادلات الرياضية. فالوقائع العيانية نطلع عليها بالإدراك،بينما الاستدلال الرياضي إنشاء عقلي؛ وإيجاد الصيغ المناسبة للتأليف بين القطبين يحتاج إلى محاولات وتعديلات وإعادات سبك متلاحقة. ولهذا نشط التفكير الإبستملوجي والمنطقي حول أسباب بناء المعرفة. اتخذ هذا التفكير وجهين، الأول حول المنهج، والثاني حول المضمون المعرفي.

1 - شكلت مسألة المنهج موضوعا مركزيا في المناقشات خلال القرن السادس عشر. فتطورت أفكار حول قواعد المنطق ومدى فعاليتها في إنتاج المعرفة العلمية؛ وكثرت الآراء في ذلك. فانتقد البعض المنطق الأرسطي ورفضه (مثل بتروس راموس)، ودعا آخرون إلى الجمع بين الاستنباط والاستقراء (مثل زابارلا)(35). وقد كان كتاب التحليلات الثانية لأرسطو في مركز المناقشات. تبين للكثير أن قواعد المنطق الصوري ليست بالضرورة مجدية في الممارسة الفعلية للعلم التجريبي. لهذا تطور رأي يدعو إلى التمييز بين "المنطق كما يعلم" و"المنطق كما يمارس"…(36).

2 - انصب الاهتمام حول مسألة حركة الأجسام؛ فدرست في علاقاتها بالكثافة ومقاومة الوسط والمسافة والزمن. كثير من العلماء انكبوا على دراسة سقوط الأجسام، ومن أبرز الذين هيأوا الطريق لكاليلي دومنكو دي سوتو الذي وجد أن تسارع الجسم متناسب مع الزمن المستغرق. فصنف الحركة إلى منتظمة ومتغيرة ومنتظمة التغير، تغيرا متزايدا وتغيرا متناقضا… غير أن هذا لم يكن يملك كفاءة كاليلي التجريبية ولا توظيفه للترسانة الرياضية في ذلك. وقد تكون كاليليو كاليلي في هذا الجو الغني بالأفكار والبرامج؛ فلا نجد حرجا من القول إن عمله تتويج لمجهود أجيال من العلماء؛ دون أن ينقص ذلك شيئا من كونه مؤسس علم الديناميكا الحديث الذي بقي ينتظر الإجراءات المنهجية المناسبة منذ زمن أرسطو.

لعل إنجاز كاليلي في أوائل القرن السابع عشر في الديناميكا استرعى أكبر قدر من الاهتمام. إن كاليلي مؤسسة علمية كان يلتقي عندها كثير من الباحثين؛ وتجديده أمر لا يمكن إنكاره. بيد أنه لا يمكن اجتثاثه من تقليد البحث العلمي الذي ذكرناه. ولا نجد أي حرج في نسبته إلى التقليد الأودكسي-الأرخميدي. فهذا التقليد لا يشكل مذهبا منغلقا؛ والذين نشطوا تحت مظلته انفتحوا على المذاهب الفلسفية المختلفة وناقشوا تعاليمها بمرونة البحث الواعي ببرامجه المعرفية المحددة. لقد كان كاليلي متفتحا على فلسفتي أفلاطون وأرسطو وغيرهما، لكنه ظل مستضيئا بالمنهج الأرخميدي الذي اغتنى من خبرة علماء كثيرين. كتب روز ودراك: "العنصر الأرسطي في ميكانيكا كاليلي الناضجة أهم مما يعترف به عادة"(37). يجب في نظرنا فهم هذا الإقرار كرد على الذين جعلوا كاليلي أفلاطونيا معاديا لأرسطو. ثم إن أرسطوgp ألح الحاضر لدى كاليلي أكثر هو الكتاب مسائل ميكانيكية الذي كان ينسب إليه آنذاك، والذي ينسب حاليا لسطراطون لامبساك. وقد عرف كيف ينشئ تأليفا بين التوجهات المختلفة وأن يوجهها لخدمة برنامجه في الفيزياء والفلك. أما السمة الغالبة على توجه النشاط المفهومي لدى كاليلي هو أخذه بسبل تقليد البحث العلمي ذي الأصل الأودكسي-الأرخميدي.

اكتسبت المؤلفات التي تنتمي إلى تقليد البحث ذي الأصل الأودكسي-الأرخميدي أهمية أكبر من المؤلفات الأخرى لدى دارسي القرن السادس عشر. فقد نشر ترتاليا مؤلفات أرخميدس وأقليدس سنة 1543، وهي السنة التي ظهر فيها كتابا كوبرنيك وفيساليوس، كما نشرت مؤلفات هيرون وبابوس قبيل وبعيد هذا التاريخ. لقد كانت في إيطاليا مثلا مجموعات من الباحثين، يمكن تصنيفها في توجهين: توجه من كانوا في الشمال، ترتاليا وكردانو وبينيدتي(38)، وكانوا يهتمون بالجوانب التطبيقية للميكانيكا؛ وتوجه من كانوا في الوسط، كماندينو وكيدو أو بالدو وبالدي(39)، وكانوا يهتمون بالتطبيق الصارم للرياضيات في الميكانيكا. وكلا التوجهين يركزان على بعث تقليد أرخميدس المثمر دائما في الميكانيكا التطبيقية والرياضيات الخالصة؛ وقد التقى التوجهان في فكر كاليلي(40). كتب س.دراك: "لقد كان التقليد الأرخميدي بالتأكيد أساسيا بالنسبة لميكانيكا كاليلي، لكن التقليد الأرسطي كان كذلك أساسيا له"؛ "يبدو أن التركيب الأخير كان ينتظر شخصا من الجامعة، عارفا بالتقليدين الأرخميدي والأرسطي ومعتبرا إياهما مهمين، ويمتلك معرفة بالتقاليد الفلسفية والتكنولوجية للميكانيكا. وكان كاليلي ذلك الشخص، إذ نبهه أساتذته ورؤساؤه من جوانب مختلفة إلى مصادر متنوعة لعلم جديد"(41).. وكتب و.والاس، مؤكدا على تأثر كاليلي بمنهجية البحث لدى آرخميدس منذ كتاباته الأولى: "كل هذه ترينا اهتماما واضحا من قبل كاليلي بالمبادئ والمناهج المستخدمة في العلم الأرخميدي"(42). بل إن كاليلي في بداية نشاطه العلمي اهتم بنفس المسائل التي اهتم بها أرخميدس، واقتنع بأن منهج العمل المثمر هو الذي يسير في خطى الاستدلال الأرخميدي. وسرعان ما أوجد حلولا لنفس تلك المسائل تبرز فيها شخصية كاليلي شيئا فشيئا؛ إلى أن أوجد حلولا غير موجودة في كتابات أرخميدس (مثل حل مسألة سقوط الأجسام وكشفه عن وجه القمر وأقمار المشتري). وفي نفس الاتجاه كتب ر.وستفال: "كتاب في الحركة [من المؤلفات المبكرة لكاليلي ] يكشف عن كون كاليلي قد ابتدأ طريقه كمنخرط في مدرسة القوة الدافعة في المياكينكا […] ثم أضاف إلى مفهوم القوة الدافعة تأثير أرخميدس، حيث وجد طريقا لتأويل القوة الدافعة في لغة ستاتيكا السوائل، وحاول بواسطة ذلك بناء ديناميكا كمية مضبوطة لإكمال ستاتيكا ارخميدس"(43). فإذن يحق اعتبار برنامج كاليلي أو برامجه التي غيرت علم الديناميكا جذريا، حصيلة تطور تقليد البحث العلمي المذكور في علوم الفيزياء. وعلماء القرن الرابع عشر لم يبتعدوا عن التقليد الأودكسي-الأرخميدي؛ بالإضافة إلى أن هذا التقليد والتقليد الأرسطي وإنجازات القرن الرابع عشر قد تطورت خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر في جامعات أوروبية كثيرة قبل أن يستفيد منها كاليلي. كما أن برنامج كبلر الذي أرسى البناء الفلكي-الكسمولوجي على الملاحظة الدقيقة (التي ورثها عن تيكو براهي) والصياغة الرياضية المناسبة حصيلة تطور نفس تقليد البحث. بيد أن برنامج كبلر يختلف عن برنامج كاليلي نظرا لاختلاف الميادين واختلاف الإرث الثقافي لدى العالمين. ولا يخفى أنه متى تغير علم من العلوم استفادت العلوم الأخرى عاجلا أو آجلا؛ بيد أنها لا تتطور بنفس الوتيرة نظرا لاختلاف المجالات التجريبية والأدوات التقنية وكذلك اختلاف الحساسيات الثقافية والعقدية التي تصطدم بها.

مسألة اختلاف وتيرة التطور فيما بين العلوم أقل حدة من الاختلاف بين الفنون والفلسفة والعلوم. فإذا كان التحول المهم في الفنون التشكيلية قد حصل خلال القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، فإن التحول في الموسيقى حصل في أواخر القرن السادس عشر والسابع عشر. ولا يتناقض هذا الإقرار مع القول بأن التحول الذي حصل في أوروبا كان شاملا، أي أنه مس جميع مرافق الحياة. فوزن المشاكل التي يعمل الباحث أو الفنان أو الفيلسوف على حلها لا تكون من نفس الطينة هنا وهناك. إذ يعتبر إنجاز كاليلي حدثا بارزا في تاريخ الفيزياء لأنه أوجد قانونا علميا لمسألة أزعجت العقول طوال عشرين قرنا. وكان القانون حلقة في شبكة من العلاقات المفاهيمية شكلت فيما بعد نسقا متكاملا. ولهذا نفهم الفارق بين تطور علمي الديناميكا والستاتيكا؛ فالأول لم يعرف تطورا يذكر منذ أرسطو؛ بل لا تعتبر أفكار أرسطو منطلقا لإنجاز كاليلي؛ ولم يتطرق أرخميدس لمسائل ديناميكية. بينما لم يعرف علم الستاتيكا هزة مماثلة للهزة التي أحدثها كاليلي منذ أرخميدس، رغم أن الستاتيكا عرف تطورا لا يستهان به، لكن هذا التطور كان بمثابة إضافات إلى البناء القائم منذ أرخميدس. فوصل الستاتيكا درجة ممتازة من الدقة على يد معاصر كاليلي وكبلر، سيمون ستيفن(44). ولم يعرف علم البصريات المقاومة (من قبل المعتقد الديني وبادئ الرأي والملاحظة العفوية) التي عرفها علم الفلك… ولهذا لا تتطور كل العلوم بنفس السرعة، ولا يكون لها نفس الإيقاع على الأذهان. أما الصدى الذي تركه كاليلي في التاريخ فإنه يرجع بالأساس إلى عمله في علم الفلك الذي قدم فيه وقائع وأدلة تدعم التصور الكوبرنيكي الذي يعارض التصورات الدينية والآراء العامة التي رسخها تراكم الملاحظات الساذجة. لهذا يعرف كاليلي لدى العموم كعالم أدت به أفكاره الفلكية إلى المحكمة أكثر من كاليلي الفيزيائي. وإذن فللعلوم خصوصيات مفهومية من حيث ارتباطاتها بالمقام ودرجة توقفها على التجهيزات.

يجرنا الحديث عن هذا الاختلاف بين الميادين المختلفة إلى اختلاف التطور لدى الحضارات المتغايرة. وأول ملاحظة في هذا الشأن أنه لم يحصل مثيل للتحول المفهومي الذي نحن بصدده في أية حضارة أخرى. وإذن فإن ما اصطلح على تسميته بالثورة العلمية يتمثل في التحول المفهومي الذي حصل خلال قرنين في أوروبا. فكان أن العالم الذي عرفه الإنسان في أواخر القرن السابع عشر يختلف كثيرا عن العالم الذي عاش فيه أجداده في أوائل القرن السادس عشر. والكائنات التي تعرف عليها بالبحث، وعلاقاتها وأبعادها وأحجامها غير التي تعود عليها أجداده. إذ تبلورت عناصر العالم الجديد على إثر انتقاد مكونات العالم القديم؛ غير أن عناصر العالم الجديد قد تبلورت تدريجيا على مدى قرون طويلة ساهمت فيها حضارات متعددة. ولهذا تبدو المقارنة بين سير الحضارات المختلفة مقبولة جدا من أجل فهم الشروط التي تحكمت في نمو الأفكار وفهم عناصر الدفع إلى التجديد والابتكار.

فما نسميه "ثورة علمية" يعبر عن سيرورة شاملة تندمج فيها تحولات اقتصادية متمثلة في بزوغ نمط اقتصادي جديد، تفعل فيه فئات مجتمعيةمتوسطة صاعدة تحمل طموحات مستقبلية بدل النظر إلى الماضي كمثال لتقعيد الممارسات. هذا التحول الاقتصادي-المجتمعي يتصل بتحول في سبل التواصل وإنتاج المعارف ويتمثل في تقنيات إنتاج وتوزيع الكتاب والتعبير بالخريطة والرسم والجدول؛ كما يتصل بتحول الإدراك الذي نتج عن ممارسة الفنون التشكيلية والموسيقى والتقنية والرحلات؛ مما نقل ذهنية الفاعلين فيها من التقديرات التقريبية التلقائية إلى ذهنية تنضبط للقياس واستعمال أدوات توخيا للدقة. وإذا كان بعض الدارسين قد طرح السؤال: لماذا لم تحصل الثورة العلمية في الصين؟(45) فإنه يمكن طرح السؤال: لماذا لم تحصل الثورة العلمية-أو التحول المفهومي الذي يعبر عنه المفهوم - في العالم الإسلامي؟

الهوامش:

1 - Rinascita, renaissance, Wiedererwachsung.

وتعني هذه الحدود إعادة الميلاد أو البعث أو الاستيقاض الجديد Wiedergeburt، ويقصد بها إحياء التراث ما قبل المسيحي بالأساس.

Erwin Panofsky, Renaissance and Renascence in Westerne Art (1960), Harper & Row, Publishers, pp.8, 17, 30, 38.

2 - H. Floris Cohen, The Scientific Revolution, A Historiographical Inquiry, Chicago & London: the University of Chicago Press, 1994, p. 500: “After all, historical concepts are nothing but metaphors, which one should beware to reify (…). (…) Also, I would dispute that the concept of the Scientific Revolution is nothing but a metaphor. It refers directly to a past event, or episode, of indisputable reality: the emergence of early modern science".

3 - R.S.Westfall, “Science and technology during the Scientific Revolution: an empirical approach”, in J.V. Field & F.A.J.L. James (eds), Renaissance and Revolution.

Humanists, scholars, craftsmen and…, Cambridge U.P., 1993, pp. 63-72, p.72 & A.R. Hall, p. 246, introduction, p.14.

4 - Pierre Duhem, Etudes sur Leonard de Vinci. Vol.III: Les Précurseurs Parisiens de Galilée (1913), Editions des Archives Contemporaines, Gordon and Breach Science Publishers S.A., 1984, p. vi; “c’est de cette tradition parisienne que Galilée et ses émules furent les héritiers. Lorsque nous voyons la science d'un Galilée triompher du Péripatétisme buté d'un Cremonini (…) En vérité, nous contemplons le triomphe, longuement préparé, de la science qui est née à Paris au XIV° siècle sur les doctrines d'Aristote et d'Averroès, remises en honneur par la Renaissance italienne".

5 - Duhem, P., Etudes sur Leonardo, Vol. II, p. 412: “S’il nous fallait assigner une date à la naissance de la Science moderne, nous choisirions sans doute cette année 1277 où l'Evêque de Paris proclama solennellement qu’il pouvait exister plusieurs Mondes, et que l'ensemble des sphères célestes pouvait, sans contradiction, être animé d'un mouvement rectiligne". In H.Floris Cohen, op.cit. p. 536.

6 - P.Duhem,"En particulier, la Scolastique parisienne a proclamé et pratiqué un principe puissant et fécond; elle a reconnu que la Physique du monde sublunaire n'était pas hétérogène à la physique céleste; qu'elles procédaient toutes deux selon la même méthode; que les hypothèses de l'une, comme les hypothèses de l'autre, avaient pour seul objet de sauver les phénomènes". Essai sur la Notion de théorie Physique de Platon à Galilée (1908), Paris:Vrin, 1982, p. 71.

7 - John Murdoch, "Transmission and Figuration: An Aspect of the Islamic Contribution to Mathermatics, Science and Natural Philosophy in the Latin West”, Proceedings of the First International Symposium for the History of Arabic Science, pp. 108-122, University of Aleppo, Syria 1976, pp. 114, 120, 122.

8 - Edward Grant, “The condemnation of 1277, God’s absolute power, and physical thought in the late middle ages”, VIATOR, 10 (1979), (pp. 211-244), p. 217.

9 - E.Grant, op.cit. pp. 213, 234 & s.

10 - H.Floris Cohen, op.cit. p. 52.

11 - John E.Murdoch, & E.D.Sylla, “Anneliese Maier and the history of medieval science”, in Studi sul XIV Seculo in Memoria di Anneliese Maier, pp. 7-13, roma, 1981, p.9: “Although he noticed that Bradwardine elsewhere rejected corollaries of Aristotle’s view (…) Duhem accused Bradwardine of logical inconsistency rather than attempting to understand how his view might differ from Aristotle’s. Not properly understood, Bradwardine was thus considered by Duhem to have little importance in the history of dynamics”.

12 - A.Koyré, “Galilée et la révolution scientifique” (1943, 1955), in Etudes d’Histoire de la Pensée , Gallimard, 1973, p. 211.

13 - A.Koyré, “Galilée et Platon” (1943), in Etudes d’Histoire de la pensée Sc., p. 195.

14 - M.Fichant & M.Pêcheux, sur l’Histoire des Sciences, Paris: F. Maspero, 1971, pp. 8-9.

15 - Anne A. Davenport, “The Catholics, the Cathars, and the Concept of Infinity in the Thirteenth Century”, (pp.263-295), ISIS, 88, 1997, pp. 264 & s.

16 - G.Cifoletti, “La question de l’Algèbre. Mathématiques et Rhétorique…”, Annales Histoire Sciences Sociales, n°6, 1995, pp. 1385-86.

17 - Amos Funkenstein, “The Dialectical Preparation for Scientific Revolutions…”, in R. S. Westman (ed.), The Copernican Achievement (pp. 165-203), p. 202.

18 - Marshall Clagett, “Some novel trends in the science of the Fourteenth Century”, in C.S. Singleton (ed.), Art, Science and History in the Renaissance, Baltimore: The Johns Hopkins Press, 1967, pp. 275-303.

19 - H.J. Berman, Law and Revolution, Harvard U.P., 1983, pp. 103-151, 155, 587.

20 - J. Le Goff, les intellectuels du Moyen Age (1957), Seuil, Paris, 1985, pp. 142-8.

21 - Allen G. Debus, Man and Nature in the Renaissance, Cambridge University Pr., 1978, p. ix: “No period in scientific history has been studied in greater detail than the Scientific Revolution and yet it remains an enigma even as to its chronological limits”. & p. 140. “There surely was a Scientific Revolution. But as a revolution it was a long-term affair. The monumental changes we have chronicled took place over a period of centuries rather than decades”.

22 - Georg Peurbach (1423-61) & Johannes Müller (Regiomontanus (1436-76) ).

23 - Noel M. Swerdlow, "Regiomontanus on the critical problems of Astronomy", in T. H. Levere & W. R. Shea (eds.), Nature, Experiment, and the Sciences, pp. 165-195, Kluwer A.P., 1990, pp. 174, 188, 190.

24 - D. de B. PEAVER, "Bernard Walther: Innovator in Astronomical Observation", Journal of the History of Astronomy, 1, 1970, pp. 39-43.

25 - Marie Boas, The Scientific Renaissance 1450-1630, New York: Harper & Row, 1962, p. 49: “Fifteenth-century astronomers to their credit saw that astronomy would change, though they could not see in what direction".

26 - P.M. Harman, The Scientific Revolution, London & New York: Methuen, 1983, p. 14.

27 - Andreas Vesalius (1514-64): De Humani Corporis Fabrica (1543).

28 - Niccolo Tartaglia (1500-57): Nova Scientia (1537), Questi et inventioni diverse (1546).

29 - Jean Fernal, in Marie Boas, The Scientific Renaissance 1450-1630, p. 17.

30 - W.P.D. Wightman, Science in a Renaissance Society, London: Hutchinson U.L., 1972, p.21: “If it now be granted that a new and powerful impetus toward modern scientific thought had developed within the circle of artists in florence even before Alberti gave expression to it the question remains as to whether it was unique".

31 - Giorgio de Santillana, "The Role of Art in the Scientific Renaissance", in M. Clagett (ed.), Critical Problems in the History of Science, Madison: University of Wisconsin Press, 1959, pp. 33-65, p. 38. “It has been said, authoritatively, that quattrocento painting places man inside a world, the real world, exactly protrayed according to physical laws, that it asserts naturalism against medieval symbolism, and thus creates the natural presupposition for science".

32 - G. Cifoletti, op.cit., p. 1408.

33 - Vincenzo Galilei, in W.P.D. Wightman, Science in a Renaissance Society, p. 165: “I wish to point out two false opinions of which men have been persuaded by various writings and which I myself shared until I ascertained the truth by means of experiment, the teacher of all things".

34 - Leonardo da Vinci, The Notebooks of Leonardo D. V., Oxford & New York: Oxford University Press, 1991, pp. 1, 6, 9.

35 - Petrus Ramus (1515-72); Jacopo Zabarella (1533-1589).

36 - Logica Docens vs Logica Utens.

37 - Paul Lawrence Rose & Stillman Drake, “The Pseudo-Aristotelian Questions of Mechanics in Renaissance Culture", Studies in the Renaissance, (pp. 65-104), XVIII, 1971, pp. 95-96.

38 - N. Tartaglia (1500-57); Girolamo Cardano (1501-76); Gianbattista Benedetti (1530-90).

39 - Federico Commandino ( 1509-75); Guido Ubaldo (1545-1607); B. Baldi (1553-1617).

40 - Stillman Drake, Introduction to S. Drake & I. E. Drabkin, Mechanics in Sixteenth-Century Italy, The University of Wisconsin Press, 1969, pp. 12-13.

41 - S.Drake, op.cit., Introduction, p. 55-56.

42 - W.A. Wallace, Galileo’s Logic of Discovery and Proof, Kluwer A.P., 1992, p. 239 & Prelude to Galileo, Reidel, 1981, pp. 47, 129, 142, 146-151,…