ص1      الفهرس    المحور 

 

السياسة الإسلامية بين الدين والدولة

- ملاحظات أولية -

عز الدين العلام

تقديم:

شهدت السنوات الأخيرة صدور بعض الكتابات التي تثير، تصريحا أو تلميحا، موضوع العلاقة بين "الدين" و"الدولة" في التجربة التاريخية للمجتمعات العربية-الإسلامية، بدءا من رضوان السيد وعابد الجابري وبرهان غليون إلى هشام جعيط وعزيز العظمة وعبد الله العروي. وهي كتابات قد تتفق في هذه النقطة أو تلك، لكنها تختلف أحيانا إلى حد التعارض الذي لا يحتمل التوفيق في العديد من النقط.

ليس الهدف من هذه المقالة عرض مواقف هؤلاء المفكرين، وبالأحرى تحليلها ومناقشتها، ولكن فقط طرح هذا الموضوع" العام" في إطار "خاص" يتعلق بالعديد من الكتابات السياسية التي شهدتها الحضارة العربية-الإسلامية، مشرقا ومغربا، والتي عادة ما يتم نعتها "بالآداب السلطانية" أو "نصائح الملوك"(1)…الخ.

ما علاقة الأديب (أو الفقيه) السلطاني بالدين الإسلامي؟ وأيضا ما علاقة الدولة السلطانية (الإسلامية) بالإسلام دينا وشرعا؟

إن نعت "السلطاني" الذي ألحقناه بـ"الأديب" و"الدولة" معا يثير لوحده كل الإشكاليات المقبلة. فهو يشكل حقيقة تاريخية واقعية. تارة تواجه بالرفض، بدعوى "إسلامية" الدولة وفقهيتها، فيصبح "السلطان" و"الإسلام" طرفي تناقض لا مجال للتوفيق أو التصالح بينهما. وتارة، يتم القبول بهذه الحقيقة على نحو سلبي، فينظر إلى "التاريخ" على أساس أنه "مفارقة" وزيغ عن حقيقة الإسلام. وفي أحيان أخرى، يتم الإقرار بالتداخل بين حقيقتي "السلطة" و"الإسلام" وينمحي بالتالي كل تناقض بين تاريخية السلطنة ونسبيتها والإسلام دينا وشريعة.

إن الدولة التي نتحدث عنها، والأديب-الفقيه الذي كان يعيش في بلاطها، أو يطمح لذلك، هما الشاهدان على "تاريخية" ما يسمى بـ "الدولة الإسلامية"، وهما المعبران عن المفارقة التاريخية الكبرى المتمثلة في الحضور الفعلي والواقعي للدولة "الإسلامية" من جهة، وغيابها "الأخلاقي" أو استحالة تحقق "مثالها"، شأنها في ذلك، شأن كل الطوباويات التي عرفها التاريخ البشري. لذا حينما نتحدث عن "إسلام" الدولة السلطانية أو "سلاطين" الإسلام، فإن المقصود يكون التجربة الواقعية الفعلية، وليس "إسلاما" كان ينبغي أن يكون.

يبدو أن طرح مفهوم "الإسلام" في علاقته بالمجال السياسي يحتاج إلى تدقيق: متى يكون الإسلام سياسة أو تصبح السياسة إسلاما؟ متى يحصل التطابق بين المفهومين؟ وهل حدث تاريخيا هذا التطابق؟ ما سر هذه السلسلة اللامتناهية من المفارقات بين "الخلافة" و"الملك" والشرع والاصطلاح، والجهاد والحرب، والحاشية والصحابة، والدين والدولة، والقرآن والسلطان…؟؟

تتعدد الأجوبة، وهذا أمر بديهي. لن نؤيد جوابا ولن نعارض ذاك. وبالمقابل فإن ما سنتحدث عنه في هذه المقالة هو بعض مظاهر الفصل، أو التمييز بين الدين والدولة في الإسلام، (خلافا لما يعتقده الكثيرون) وذلك من خلال أربع تساؤلات:

1 - ما هو حظ الشرع بين الدين والدنيا؟

2 - وهل يفصل الفكر السياسي الإسلامي بين الدين والسياسة؟

3 - وهل تؤكد "أقسام السياسة" كما هي مطروحة في هذا الفكر الفصل المذكور؟

4 - وأخيرا هل يمكن استنتاج هذا الفصل بين الدين والسياسة من خلال دراسة جهاز الدولة السياسي والديني؟

1 - دنيوية "الشرع":

عند الكثيرين، قديما وحديثا، تكون الدولة "إسلامية" أو تصبح كذلك إن كانت "خلافة". ومع صيرورة التاريخ، و اندحار هذه "الطوبى"، تساهل هؤلاء، قديما وحديثا، مكتفين بضرورة احترام الدولة لمبادئ "الشرع" لتكون "دولة إسلامية"(2)

لقد كان مؤلفو الأدبيات السياسية السلطانية، العارفون بالسياسة وأهوالها، والإنسان وطبيعته، والرعية وفسادها، والدين وحدوده، والسلطان وبأسه، والتاريخ وحقيقته… كانوا، وبكل بساطة، وأيضا بكل حس تاريخي، يتغافلون عن موضوع "الخلافة" ويتجاهلونه. يتساءل أحد المحققين كيف أهمل الغزالي، وهو الذي يتفق إلى أبعد الحدود مع الباقلاني والبغدادي والماوردي… موضوع "الخلافة" في كتابه "البتر المسبوك في نصيحة الملوك" واكتفى بذكر واجبات السلطان ووظائفه وصفاته الخلقية… وأكثر من هذا، يصل المحقق نفسه في خلاصته إلى "أن الرئيس في البتر المسبوك مسؤول عن الشؤون الزمنية فقط، وليس هو كالإمام الذي يجمع بين السلطتين الزمنية والدينية"(3).

بإمكاننا أن نضيف عشرات الاستشهادات لعشرات الأدباء (أو الفقهاء) السلطانيين، في المغرب والمشرق، الذين أهملوا، أو مروا مر الكرام على موضوع "الخلافة"(4). نعم، قد يحدث أن يخصص المؤلف السلطاني "فصلا" مستقلا لهذا الموضوع. وعند قراءته يتبين أنه أصبح مسألة تندرج في إطار "تقليد" خال من كل دلالة ومعنى تاريخيين، وأن الخلافة تصبح في هذا السياق مرادفة تماما للسلطة والسلطان، بل وأن غاية "الفصل" كله هو الوصول إلى أن السلطان الحالي (ولي نعمة المؤلف) هو استمرار للتسلسل الخلافي… بهذا المعنى، تكون كل سلطة "إسلامية" "خلافة" بشكل من الأشكال.

لنترك "الخلافة" البعيدة عنا، وعن التاريخ، بعد السماء عن الأرض، ولنتحدث عن "الشرع" الذي طبع "دنيا" المسلم والتصق به في حياته المجتمعية، بل واليومية أيضا.

هل يصح القول بوجود تناقض بين السياستين، الشرعية والسلطانية؟ هل وجود السلطان يعني انتفاء الشرع؟

لكي يتضح الجواب، يجدر بنا أن ننظر في "موضوع" السياستين الذي لا يبدو متطابقا أو متماثلا. فما يشغل بال مؤلفي "السياسات الشرعية" ليس هو ما يشغل بال مؤلفي "السياسات السلطانية". قد نجد تقاطعات بين ما يكتبه هذان النوعان من المؤلفين، ومع ذلك يظل الفرق قائما، فأغلب مواضيع النوع الأول تهم الجانب "المدني" من حياة المسلم من حقوق وحدود(5)… وأغلب مواضيع النوع الثاني تهم الجانب "السياسي" للدولة الإسلامية من "وظائف" و"جيش" و"فئات اجتماعية"… هل هناك انفصام بين "الشرع" و"السياسة؟" ربما! ولكن، ليس هناك على كل حال استبعاد أو تنافر بين المجالين. فتطبيقات "الشرع" لا تستبعد الحياة السياسية السلطانية. كما أن الجهاز السياسي السلطاني لا يحول دون هذه التطبيقات.

كيف يحدث لفقيه متشبع بمبادئ الشرع، أن يدون في الصباح ما أمرت به الشريعة ليتحول في المساء إلى أديب يسامر السلطان محدثا أياه عن مقتضيات السياسة السلطانية؟ كيف نفسر أن جل من كتبوا حول "السلطان" هم فقهاء؟ هل كانوا يعيشون "انفصاما" في شخصيتهم أم كانوا يهضمون هذه "الازدواجية" بشكل لا يحسون به أبدا بأي تناقض؟ ألا نقوم، نحن المعاصرين، وفي هذه النقطة بالضبط، بعملية إسقاط على فقهائنا الذين لم يكونوا مرضى بهذه "السكيزوفرينيا" التي نريد فرضها عليهم.

أيضا، وكما قد يجمع نفس الكاتب بين التصورين الشرعي والسلطاني، كانت الدولة تجمع بين الحكم السلطاني والأمر الشرعي. فلا أحد يمكنه الادعاء بانمحاء الشرع في مختلف التواريخ الإسلامية. السلطان والشرع يتكاملان، وكل واحد يجد في الآخر ضالته. فكما أن إقامة الشرع تتطلب وجود " السلطان"، فإن وجود هذا الأخير واستمراره يستلزم حضور "الشرع" الذي أصبح مجرد "قانون" تنتظم به أمور الرعية… "إن السلطان يخدم الشريعة ظاهرا لأنها تخدمه باطنا"(6).

لقد أصبح جلباب الشرع واسعا جدا، ولكل سلطان مقاسه. أكثر من هذا، لم يفقد الشرع بعده "الديني" ليشتد بعده "الدنيوي" ويصبح مجرد آلة ينتظم بها سير المجتمع، بل غدا "مرادفا" للسياسة حين يؤكد الفقيه السلطاني أن كل ما هو صالح سياسيا ونافع دنيويا يكون "شرعيا"…. هكذا يصبح لكل سلوك سياسي سند شرعي… وإن تعذر هذا السند فيجب خلقه وهذه مهمة الفقهاء.

2 - التمييز بين "الدين" و"السياسة"

في كتابه "أدب الدنيا والدين"، يميز الماوردي بين "أدب الشريعة" و"أدب السياسة". يعني بالأول كل "ما أدى إلى قضاء الفرض"، ويعني بالثاني كل ما أدى إلى "عمارة الأرض"(7).

وفي مقدمته لكتاب "سراج الملوك"، وبعد تأمله فيما تم وضعه من "سياسات في تدبير الدول" وما التزم به "من القوانين في حفظ النحل"، يميز الفقيه أبو بكر الطرطوشي بين "الأحكام" و"السياسات". ويعني بـ"الأحكام" كل ما تعلق بـ"الحلال والحرام والبيوع والأنكحة والطلاق والإجارات ونحوها والرسوم الموضوعة لها والحدود القائمة على من خالف شيئا منها"، ويقصد بالسياسات كل ما تعلق بـ"التزام تلك الأحكام (…) و تدبير الحروب وأمن السبل، وحفظ الأموال وصون الأعراض والحرم"(8).

وفي مقدمته لكتاب "الجوهر النفيس في سياسة الرئيس" يقرر ابن الحداد أن "السياسة" نوعان: "سياسة دين" و"سياسة دنيا". تتعلق الأولى بـ "الفرائض" الدينية، وتختص الثانية بكل الأعمال البشرية التي تؤدي إلى "عمارة الأرض"(9).

عند الماوردي، أدب "الشريعة" شيء، وأدب "السياسة" شيء آخر. وعند الطرطوشي "الأحكام" شيء، و"السياسات" شيء آخر، كما أن سياسة "الدين" هي غير سياسة "الدنيا" عند ابن الحداد…

لا يتعلق الأمر هنا بنصوص واضحة وصريحة تميز بين الشريعة و"السياسة"، بل، وهذا هو المهم، نجد نوعا من "الأولوية" يقضي بها هؤلاء المؤلفون "الفقهاء" لصالح المجال السياسي على أساس أنه يتعلق بالشأن العام أو بـ"المصلحة العامة" كما نقول اليوم. فمن خرج عن قواعد "أدب الشريعة" إنما يلوم نفسه، ولا يتعدى الضرر الحاصل عن هذا الخروج صاحب الفعل نفسه كترك الصلاة مثلا، في حين أن خرق قواعد "أدب السياسة" يؤدي إلى تخريب عمارة الأرض والإضرار بحياة الناس وحصول الضرر العام(10)، وهذا ما لا يجوز القبول به عند قاضي القضاة الماوردي.

وإذا كانت "الأحكام" التي اتبعتها الأمم السابقة "أمرا اصطلحوا عليه بعقولهم ليس على شيء منه برهان ولا أنزل الله به من سلطان" فإن ما اتبعوه من سياسات "لا ينافي العقول شيء منه" ولا شيء يمنع الأمة الإسلامية، حسب الطرطوشي، من الاقتداء بهذه "السياسات" والاستفادة من تراث هذه الأمم "الجاهلية" في أحكامها!(11).

إن مسألة التمييز بين "الدين" و"السياسة" لا تقتصر على هؤلاء المفكرين المسلمين الذين ذكرناهم، بل هي حاضرة لدى جل الأدباء والفقهاء السلطانيين، وإن كانت أحيانا تتخذ لباسا آخر أو يتم الحديث عنها تلميحا كما هو الشأن في حديث الأدب السلطاني عن "أقسام السياسة".

3 - أقسام السياسة.

في حديث المؤلفين السلطانيين عن "أنواع السياسات" أو أقسامها، نلاحظ تواتر نفس المعيار الذي تنبني عليه تقسيماتهم. قد تختلف العبارات في "لفظها" لكنها تتوحد في "معناها"، وبالأساس في مدلولها الفاصل بين ما هو "ديني" وما هو "سياسي".

يميز فقيه "المرابطين" بين "سلطان عدل وأمانة" و"سلطان جور وسياسة"(12)، وقبله ميز ابن المقفع بين "ملك دين" و"ملك حزم"(13). كما يميز الفقيه الطرطوشي بين "العدل النبوي" و"العدل الاصطلاحي"(14) ويطرح ملك تلمسان أو حمو الزياني تمييزا بين "الملك العادل، في كل شيء و"الملك الجاري على العوائد المألوفة والأحوال المعروفة من غير خرق عادة ولا إحداث زيادة"(15) وفي حديثه عن "رعاية السياسة" يرى ابن الأزرق أن النظر فيها يقتضي منهجين: "أحدهما بحسب المعتمد منها عقلا والآخر من جهة المعتبر منها شرعا"(16)…الخ

إن أساس التمييز هنا واضح. فالأقسام الأولى تجمع بين "الدين" و"الدنيا". ذلك أن "سلطان العدل والأمانة" يضمن "الأجر والبقاء" كما أن "العدل النبوي" يقوم على تحقيق "الشرع" و"مشورة" العلماء، ويكون حكم "الملك العادل" حسب أبي حمو الزياني "موافقا للأحكام الشرعية"….الخ وليس صدفة أن يرى كل هؤلاء المؤلفين في سيرة "العمرين"، ابن الخطاب وابن عبد العزيز، نموذجا لهذا الحكم الديني-الدنيوي…

في نفس السياق، يمكن أن نطابق بين باقي الأقسام على أساس توجهها الدنيوي أو الاصطلاحي. فالسلطان يقوم ويستقر بـ"الحزم" كما يرى المرادي(17) وقبله ابن المقفع(18)، كما أن السياسة "الاصطلاحية"وإن كان أصلها على"الجور"(19) (يستعمل الطرطوشي هنا الجور في معنى متاقاة الشرع) وكانت تقوم على "قوانين مألوفة" كما يقول المرادي، و"العوائد المألوفة والأحوال المعروفة"(20) كما يقول أبو حمو .. فإنها تستطيع أن تضبط "أمور الدنيا" و"قيام السلطة"… أما النموذج الأساسي الذي كان يستحضره هؤلاء المؤلفون، فلم يكن شيئا آخر غير السياسة الفارسية-الساسانية التي انهدت تحت ضربات المحاربين المسلمين.

إذا كان هذا التمييز واضحا، فإن طرح العلاقة بين طرفي هذا التقسيم من جهة، وموقف الأديب السلطاني، الذي غالبا ما يحدث أن يعطي أحكام قيمة بل و "تفاضلات" بصدد هذا التقسيم من جهة أخرى، يستحق إبداء بعض الملاحظات التي توضح بعض الخيوط المتقاطعة بين "مثال" يستعصي تطبيقه و"واقع" يفرض نفسه.

أ - لم يكن بإمكان الأديب السلطاني، ولا أي مفكر مسلم، التصريح بتفضيل "الاصطلاح" على "الشرع" ولا أولوية "الدنيا" على "الدين"، هذا أمر غير وارد لأنه يكسر من الأساس القاعدة الثقافية التي انبنت عليها الحضارة والدولة العربيتان الإسلاميتان.

ب - إن أفضلية الحكم المبني على الشرع والدين بالنسبة للحكم الدنيوي الاصطلاحي، هي عند الأديب السلطاني، كما عند "الفقهاء" وغيرهم، أفضلية "أخلاقية" و"قيمية" وإن أصبحت "سياسية" فبالتبعية لا غير.

ج - يعترف الفكر الواقعي السلطاني بمثالية الحكم الديني وبـ "طوبى" الخلافة، بل وحتى الشرع، ويتشبت بالواقع السياسي السلطاني الذي ينبني على القوة، والشوكة، والعصبية.

د - أكثر من هذا، قد يصل الأديب السلطاني في عقده لمفارقات بين الحكمين، الديني والدنيوي، إلى حد التفضيل الصريح للحكم الدنيوي المحافظ على الصالح العام والمراعي لقواعد السياسة على الحكم الديني المضيع للصالح العام والمهمل لقواعد السياسة. هكذا يتفق الطرطوشي وابن رضوان وابن الأزرق، والغزالي…الخ، على أن "السلطان الكافر الحافظ لشروط السياسة الاصطلاحية أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه… المضيع للسياسة الشرعية"(21)، كما يتفقون مرة أخرى على أن الملك يدوم ويستمر حتى ولو كان قائما على "الكفر"(22)، كما أنه ينهار ويسقط إن قام على "الظلم"، وفي نفس السياق يدرج السلطان أبو حمو في تقسيماته مثالا لأحد الملوك الذي ضاعت الرعية لعبادته وتضرر كل من دخل تحت إيالته نتيجة تشاغله بالعبادة، ويقابله بنوع من الملوك الذين رغم تفريطهم في الأمور الشرعية، و إقبالهم على الدنيا، استقام ملكهم ودام لأنهم كانوا "عادلين"(23).

إن ما سبق يوضح أن الإشكالية هنا، ذات طبيعة سياسية وليست دينية، وأن الهدف هو الحفاظ على السلطة وتقويتها…

4 - وظائف الدولة.

في حديثه عن جهاز الدولة يميز الفكر السياسي الإسلامي بين الوظائف أو الخطط السلطانية "الدنيوية" والوظائف أو الخطط "الدينية"، سواء تعلق الأمر بالوظائف المركزية كتمييزه بين الوزارة والكتابة و خطتي القضاء أو الفتيا، أو تعلق الأمر بالوظائف المحلية كتمييزه بين العامل وصاحب الشرطة ووظيفتي الحسبة وإمام المسجد ومؤذنه على سبيل المثال.

هل نقول، كما هو شائع، إن الدولة في الإسلام، كانت على الدوام تخلط بين الدنيا والدين؟ أم يحق لنا أن نرى عكس ذلك تماما تمييزا بين الدين والدنيا في الإسلام؟ هل كانت الدولة تطمح إلى إضفاء طابع ديني عن وظائفها الدنيوية أم أنها على النقيض من ذلك كانت تعمل على "دنيوية" الوظائف الدينية؟ وأخيرا هل كان لكل من هذين النوعية من الوظائف، الدينية والدنيوية، مجاله "Territoire" السلطوي الخاص، أم كانا يمارسان سلطتهما على نفس المجال بشكل قد يقع معه "تنازع في الاختصاص"، وفي حالة وقوعه، من يهيمن على من؟ السياسي أو الديني؟

جوابا على هذه التساؤلات نورد الملاحظات الآتية:

1 - بشكل عام يمكن أن نؤكد أن السياسات السلطانية وإن تحدثت عن "الديني" و"الدنيوي" في وظائف الدولة، فإنها قلما كانت تعير كثير اهتمام بالجانب الديني لهذه الوظائف. فإما أنها تهملها كلية، وإما إنها توجز في الحديث عنها. وحتى "ابن الأزرق" الذي خص موضوع "تولية الخطط الدينية" بصفحات لا بأس بها، كان يستدرك من حين لآخر مشيرا لمن يريد أن يتعمق في الموضوع أن يعود لما هو "مقرر في الفقهيات"(24). ذلك أن ما كان يهم السياسة السلطانية هي "الوظائف" التي لها مساس مباشر بقوة الدولة واستمرارها، من وزارة تضبط أمور الرعية، و"كتابة" تضبط جبايات الدولة، و"شرطة" تسهر على أمن المدينة و"بريد" يخبر السلطان بما جد على الساحة، و"جند" يجده السلطان عند الحاجة، و"عمال" لتوفير المال…الخ.

2 - إذا اعتبرنا الوظائف "السياسية" عماد الدولة، وسايرنا المفكر السياسي السلطاني في تفضيله للوزير على "المفتي" وللعامل على "إمام المسجد"، فكيف نفسر أن نفس المفكر، وحينما يتحدث عن "وظيفة دينية" ما يطرح شروطا للتعيين وأسبابا للإقالة وطرقا للمراقبة ووسائل لتسديد أرزاق من يتقلدها؟ وبماذا نبرر اعتبار "إمامة الصلاة" أرفع الخطط مع ضرورة "اختيار" من يصلح لها؟ وكيف تكون "الفتيا" مرتبة شريفة تجعل من السلطان "طالبا" ومن المفتي "مطلوبا"؟ ولماذا يجب على السلطان "مراقبة المدرسين" الذين يحظون بـ"شرف العلم"، ولماذا عليه "أن يتفقد حال قضاته فيعزل من في بقائه مفسدة…"…الخ.

3 - هذه الأهمية التي يوليها المفكر السياسي السلطاني للخطط الدينية يضفي عليها طابعا "وظيفيا" "Fonctionarisation"، ويتصورها "دنيويا" "Sécularisation " كما تحكمها غايات "نفعية" "Pragmatique"… وهي من هذا الباب، لا تختلف في شيء عن "الخطط السياسية"، إذ كلاهما يساهم في تنظيم وتوجيه عمل الدولة والمجتمع: فإذا كانت الخطط السياسية تعمل لقوة الدولة، ولا ترى في المجتمع (أي الرعية) سوى موضوع لها، فإن الخطط الدينية تعمل بالأساس على تنظيم أمور الرعية "المدنية" ولا ترى في الدولة سوى شرطي يضمن السير العادي لهذه الأمور دون فتن ولا اضطرابات. هناك حاجة متبادلة "interdépendance" بين الدين ولدولة في الإسلام(25): يحتاج السلطان للدين لأنه يعفيه من شر التنظيم الاجتماعي، ويحتاج الدين إلى السلطان لأنه يحقق له حدا أدنى من "الأمن والسلامة" لتقام شعائره(26).

خاتمة:

يصعب وضع نقطة نهاية لموضوع "شائك ووهمي" في نفس الوقت، كتب فيه الكثير ولا يزال…

هو موضوع "شائك" نتيجة ذهنية تاريخية، مجتمعية وفردية، وتراكم ثقافي تاريخي غذى القول بأن الإسلام "دين ودولة" على خلاف كل الديانات! وهو موضوع "وهمي"، كما هي وهمية عبارة "الدولة الدينية": إن الدولة، كما يبرزها المسار التاريخي للحضارة العربية-الإسلامية وغيرها من الحضارات البشرية، هي نصاب وقوة وشوكة و عصبية، وهي خلاصة "سياسية" لوضع "مجتمعي"… نعم، قد تستعمل الدولة الدين لتخلق تماسكا حولها، كما قد تستعمل غير الدين من قيم أخلاقية أو أفكار وطنية أو أساطير اجتماعية…الخ ولكن، أن ننتقل من استعمال الدولة للدين كأداة أو وسيلة إلى اعتباره "هوية" أو طبيعة للدولة وأساسها، فهذا "وهم" أو خيال يحول دون معرفة حقيقية للدولة كما هي ·

 

الهوامش:

1 - تعد هذه الكتابات بالعشرات، سواء في المشرق بدءا من ابن المقفع إلى الفقيه الشوكاني،أو في المغرب بدءا من المرادي إلى أبي القاسم الزياني… وكل هذه الكتابات تتمحور حول إسداء نصائح أخلاقية-سياسية وقاعدة سلوكية موجهة للأمير أو السلطان بهدف حسن سير آلة الحكم. والتعامل مع هذه الكتابات في هذا المقال على أساس أنها ذات تصور موحد لا مجال فيه لأي اختلاف جوهري، يستدعي أكثر من سؤال… ولمزيد من التدقيق في هذا الموضوع أحيل إلى مساهميتن في ندوة "الفكر السياسي المغربي: مفاهيم ومناهج" التي نظمتها كلية الحقوق بالرباط بتاريخ 24 يونيو 1994 والمعنونة بـ "الأدب السلطاني بين المؤلف والنوع"، وأيضا إلى مساهمتين في ندوة "التعليم والبحث في العلوم السياسية" التي نظمتها كلية الحقوق بالدار البيضاء بتاريخ 12 يناير 1996 والمعنوية بـ "مقترحات منهجية لدراسة الأدب السياسي السلطاني".

2 - انظر تحليلا مدققا للموضوع عند: عبد الله العروي: مفهوم الدولة. الفصل الرابع ص 87/125. البيضاء 1981.

3 - الغزالي "البتر المسبوك في نصيحة الملوك" ص 32 تحقيق محمد أحمد دمج، بيروت 1987.

4 - يكفي تصفح فهارس جل هذه الأدبيات للتأكد من إهمال موضوع الخلافة. والأمر لا يتعلق فقط بالأدبيات المغربية التي قد نجد مبررا لإهمالها الموضوع في رغبتها عدم "إخراج" أو مزاحمة المشرق في موضوع يعود إليه… بل يعم أيضا جل الأدبيات المشرقية. إذا كان الفكر السياسي يهتم مبدئيا بموضوع الدولة وتوابعها، فإن "السياسة الشرعية" تهتم بالأساس بموضوع الحدود والحقوق المفروضة على المسلم من بيوعات وإجارات وأنكحة وطلاق وعقوبات السارق والزاني وشارب الخمر….الخ وقد يحتج البعض بكون الأدبيات الشرعية تخصص فصولا، بل وأنها غالبا ما تبدأ بموضوع "الولايات" وهو موضوع "سياسي"! لنأخذ كتاب "ابن تيمية" في السياسة الشرعية، وهو الأكثر تداولا، ولنقارن بين اللغة العامة والأخلاقية التي تطبع حديثه الموجز عن "الولايات" واللغة المدققة والمفصلة التي تطبع باقي الفصول لنتأكد مما يشغل فعلا بال مؤلفي السياسات الشرعية.

6 - عبد الله العروي.م-س ، ص107

7 - الماوردي: أدب الدنيا والدين، ص 114، بيروت 1979.

8 - الطرطوشي: سراج الملوك، ص 50/51. رياض الرايس 1990.

9 - ابن الحداد: الجوهر النفيس في سياسة الرئيس. ص61/62. تحقيق رضوان السيد. بيروت 1983.

10 - الماوردي.م-س /ابن الحداد م-س، ص62

11 - الطروطوشي، م-س.

12 - المرادي: الإشارة في تدبير الإمارة، ص 107 ، تحقيق سامي النشار 1981.

13 - ابن المقفع. المجموعة الكاملة، ص 111

14 - الطرطوشي: سراج الملوك، الباب 11.

15 - أبو حمو الزياني: واسطة السلوك في سياسة الملوك، ص110 مخطوط بالخزانة العامة الرباط، رقم 1298.

16 - ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك، الجزء الأول، ص 46 وما يليها.

تحقيق : سامي النشار، بغداد 1977.

17 - المرادي، م - س، ص 108

18 - ابن المقفع، م-س، ص111

19 - الطرطوشي، م-س

20 - أبو حمو الزياني، م-س

21 - انظر: سراج الملوك، ص91/ بدائع السلك ، ص 292، ج1/ تسهيل النظر، ص 183/184. واسطة السلوك ورقة 111…الخ.

22 - الماوردي م-س، ص 120

23 - أبو حمو الزياني، م-س. ورقة 1114.

24 - ابن الأزرق، م-س، ص 228.

25 - بالمعنى التي يستعمل بها N. ELIAS كلمة interdépendance في كتابه: la société de cour, Paris 1985.

26 - ألا تردد كل هذه الأدبيات بيت عبد الله بن المعتز الذي يقول:

الملك بالديـن يبقـــــى >< والدين بالملك يقــــــوى