ص1      الفهرس    المحور 

 

ابن رشد: "العصا القاتلة "

والرجل "الذي أفسد جميع الأطباء" في أوربا

 

محمد عابد الجابري

1- كتاب غير مسبوق

الغرض من هذا المدخل هو وضع هذا الكتاب في مكانه من سياق تاريخ الطب العربي، بل التاريخ العام للطب. وهذا أمر ضروري لفهم هذا الكتاب، لا بوصفه كتاب معلومات في الطب، فطب اليوم غير طب الأمس؛ والطب كما أراده ابن رشد "علم"، وتاريخ العلم كما يقول باشلار هو " تاريخ أخطاء العلم". إن أهمية هذا الكتاب، إذن، ليست فيما يقرره من آراء طبية في هذا المرض أو ذاك، أو في هذا المظهر أو ذاك من مظاهر الصحة ووسائل الحفاظ عليها، بل تكمن أهميته –من وجهة نظرنا على الأقل- في كونه يدشن لحظة جديدة في تاريخ التفكير العلمي في الطب في الثقافة العربية، فهو ينتمي إلى مجال الفكر العلمي أكثر من انتمائه إلى الممارسة الطبية، وهذا ما أكد عليه ابن رشد نفسه مرات عديدة في فصول هذا الكتاب.

وهنا لابد من التمييز بوضوح بين التأريخ للعلوم الذي موضوعه تتبع الكشوف العلمية وممارسة هذا العلم أو ذاك عبر التاريخ وفي الحضارات المختلفة، وبين التأريخ لتطور الفكر العلمي، رؤيةً ومفاهيمَ ومناهجَ. الأول هو "تاريخ العلم" وهو السائد عموما، وهو وحده المعروف في ثقافتنا العربية المعاصرة عبر أبحاث المستشرقين الذي كانوا السباقين في هذا المجال إلى الاستفادة من المخطوطات الطبية العربية وكتب "تراجم الأطباء" التي تزخر بها المكتبة العربية القديمة. أما الثاني، وأعني "تطور الفكر العلمي"، فالاهتمام به حديث نسبيا، حتى في الغرب، ولم تنل منه الثقافة العربية بعد حقها كاملا.

(…)

على أنه إذا كان كتاب "الكليات في الطب" فريدا في نوعه بالنسبة لتاريخ الفكر النقدي في الطب العربي فهو بالنسبة لفكر ابن رشد ككل ليس استثناء، بل هو جزء من كل: جزء من عملية "التصحيح" التي قام بها فيلسوفنا في مختلف فروع المعرفة في عصره: في العقيدة وفي الفقه والأصول كما في الفلسفة، إضافة إلى "التصحيح" الذي كان ينوي القيام به في مجال علم الفلك ولم يتسع له وقته().

وما يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو أن ابن رشد لم يفكر في عملية التصحيح داخل أفق "الطب العربي" وحده، بمعنى أن مخاطبه هنا لم يكن لا الرازي ولا ابن سينا ولا غيرهما من الأطباء العرب، كما كان الشأن في الكلام والفلسفة حيث توجه بخطابه النقدي التصحيحي إلى كل من الأشاعرة وابن سينا، بل لقد كان مخاطبه هنا في حقل الطب هو مرجعية التفكير الطبي في العصور القديمة والوسطى وإلى حدود القرن الثامن عشر : أبقراط() وجالينوس (Hippocrate, Galien  )، وهما صاحبا مدرستين في الطب القديم، مختلفتين ومعروفتين باختلافهما إلى درجة صار يضرب به المثل، إذ يقال: "إذا قال أبقراط: نعم، قال جالينوس: لا". وقد انتقلت هاتان المدرستان وامتداداتهما إلى الثقافة العربية، ولكن دون أن يتبلور في الطب العربي اتجاهان يمثلان بوضوح هاتين المدرستين، بل لقد جمع الأطباء العرب جميع المؤلفات الطبية القديمة –تقريبا- فاتخذوا منها مرجعية واحدة، مع الوعي بالاختلاف بين مكوناتها معتبرين هذا الاختلاف أمرا طبيعيا، شأنه شأن الاختلاف المعروف داخل الثقافة العربية بين نحاة الكوفة ونحاة البصرة مثلا أو بين المحدثين والمتكلمين الخ.

يتجلى ذلك واضحا في أول كتاب جامع في الطب ظهر في الثقافة العربية، أعني بذلك كتاب "الحاوي" للرازي الذي سنتحدث عنه بشيء من التفصيل بعد قليل. لقد سلك الرازي في هذا الكتاب مسلك معاصريه في التأليف في "العلوم النقلية"، من النحاة والمحدثين والمؤلفين في "الأخبار" و"الأدب" الخ؛ فهو يورد، مثلهم، جميع ما انتهى إليه من آراء الأطباء في المرض الواحد، من أبقراط إلى أساتذته ومعاصريه، ذاكرا أسماءهم، مشيرا إلى رأيه هو بقوله: "لي". إن طريقة الرازي في التأليف في الطب كانت بنت عصرها: تعتمد "الرواية". وقد قامت على إثرها طريقة أخرى -في التأليف الطبي دائما- تعتمد "الدراية" أعني التنظيم والتصنيف، وستبلغ هذه الطريقة أوجها مع ابن رشد، لتسجل لحظة جديدة في تاريخ التفكير الطبي.

وإذن، فلابد، لفهم تطور التفكير الطبي في الثقافة العربية، وبالتالي تقدير أهمية لحظة ابن رشد، من أن نعرض، بقدر ما يتسع له المجال، لتطور الفكر الطبي منذ قيامه كـ"علم" في الثقافة العربية(…)

(…)

4- لحظة الترجمة: حنين بن اسحق.

لا شك في أن الممارسة "العلمية" للطب، أعني التي تعتمد أو تنتسب نوعا من الانتساب للطب بوصفه واحدا من "علوم الأوائل"، قد بدأت في الدولة العربية الإسلامية مع قيام هذه الدولة. وقد أخذت هذه الممارسة في الازدهار مع الدولة الأموية، حتى إذا جاء عصر الترجمة والتدوين، في العصر العباسي الأول، طفر الطب من وضعية المهنة التي يمارسها أشخاص يمتلكون وحدهم "سر المهنة" إلى علم مشاع، يتعلم في الكتب وبالممارسة كما يتعلم النحو والفقه والمنطق والفلسفة وغير ذلك من العلوم. كانت هذه الطفرة، التي عرفها الطب في الحضارة العربية الإسلامية، جزءا لا يتجزأ من عملية البناء الثقافي العام الذي شهده عصر التدوين. لقد اعتمد هذا البناء على عمليتين متوازيتين ومتكاملتين: التدوين والترجمة. أما التدوين فكان يخص -في الأغلب الأعم- ما عرف بـ"العلوم النقلية"، العربية الإسلامية، التي اعتمد في تأسيسها على "الجمع من أفواه الرجال"، جمع الحديث من رواته وجمع اللغة من الأعراب وجمع الشعر و"الأدب" من حفاظه الخ، أما الترجمة فكانت الطريق إلى " علوم الأوائل" علوم اليونان خاصة.

لقد شارك في ترجمة الموروث العلمي القديم عدد هائل من المترجمين، عمل كثير منهم في البلاط العباسي، وبكيفية خاصة في "بيت الحكمة" التي أسسها المأمون. ويأتي على رأس قائمة التراجمة في هذا العصر -من حيث الأهمية- حنين بن اسحق() المتوفى سنة 260هـ/ 873م، وهو من نصارى الحيرة جنوب العراق. لقد فاق هذا المترجم الفذ، الذي استخدم ابنه اسحق وأفرادا من عائلته وآخرين من تلامذته، جميع التراجمة الآخرين. كان يترجم من اليونانية إلى العربية، أو إلى السريانية ومنهما إلى العربية. وله تدين المكتبة العربية بجل المؤلفات الطبية والفلسفية المنقولة من هاتين اللغتين. فقد ترجم ما يقرب من نصف مؤلفات أرسطو والشروحات التي عملت عليها، وجميع المؤلفات الطبية المعروفة في عصره –تقريبا، منها خمسة وتسعون مؤلفا من مؤلفات جالينوس نقلها إلى السريانية ونقل منها إلى العربية أربعا وثلاثين. يقول عنه القفطي: "كان جليلا في ترجمته، وهو الذي أوضح معاني كتب بقراط وجالينوس ولخصها أحسن تلخيص وكشف ما استغلق منها وله تواليف نافعة بارعة مثقفة, وعمد إلى كتب جالينوس فاحتذى حذو الإسكندريين وصنفها على سبيل المسألة والجواب"().

(…)

مع وفاة حنين بن اسحق كان قد توافر في المكتبة العربية كمٌّ هائل من المؤلفات الطبية. فإضافة إلى أن جميع المؤلفات الطبية المعروفة في العصرين اليوناني والروماني قد تمت ترجمتها كلها –تقريبا- كان التأليف في الطب قد قطع أشواطا واسعة، خصوصا التأليف في موضوعات بعينها كالعين والمعدة والأسنان الخ، وفي الجروح وفي الأدوية والأغذية والكي والجراحة الخ، و في الهواء وتأثير الفصول والمناخ في الصحة الخ. ومع شيوع المؤلفات الطبية تكاثر الأطباء الحقيقيون، وفي نفس الوقت غمرت الساحة بأدعياء الطب ممن جعلوا من الشعوذة وسيلة لإثبات مهارتهم الطبية. وهنا تأتي لحظة الرازي التي ستتميز بفرض النظام على هذه الفوضى.

5- لحظة التأليف الجامع والتمييز بين العلم والشعوذة: الرازي

جرت عادة المؤلفين في تاريخ العلوم في الثقافة العربية، القدماء منهم والمستشرقين، على الإشادة بأبي بكر محمد بن زكريا الرازي بوصفه أهم وأعظم من أنتجتهم الحضارة العربية من الأطباء، مبرزين ملاحظاته وابتكاراته في ميدان الطب التجريبي، القائم على الممارسة العلمية. لقد وصفه ابن النديم بأنه " أوحد دهره وفريد عصره، قد جمع المعرفة بعلوم القدماء وسيما الطب"، وأكد القفطي هذا المعنى إذ قال عنه إنه: "طبيب المسلمين غير مدافع". وهذا صحيح. غير أننا سنقصر في حق الرازي الطبيب إذا نحن حصرنا أهميته التاريخية في هذا المجال وحده، ولم نبرز دوره في ميدانين أساسيين في تاريخ الطب كعلم، هما: نقد الممارسات الشعوذية اللاعقلانية في الطب من جهة، ومن جهة أخرى جمع شتات الأدبيات الطبية التي ظلت، في الحضارتين اليونانية والرومانية، تفتقر إلى نظرة شمولية تجعل من الطب ككل قطاعا معرفيا واحدا، وبالتالي تفتح المجال أمام تنظيم المعارف الطبية تنظيما منهجيا يجعل منها علما له مناهجه وحدوده وموضوعه ومسائله.

لقد ورثت الثقافة العربية، من العصر الهيلينستي والبزنطي خاصة، كمًّا هائلا من الممارسات اللاعقلانية التي كانت تشكل جزءا من "العلوم السرية" كالسحر والتنجيم والطلسمات والشعوذة باختلاف أنواعها، وازدهرت هذه الممارسات في ميدان الطب خاصة. وقد شن الرازي حملة منهجية على ممارسة الشعوذة في الطب، ففضح أساليب المشعوذين بلغة مبسطة واضحة تعتمد نشر الوقائع، مما لابد أن يكون له دور كبير في توعية الناس ومحاصرة المشعوذين. يقول في كتابه الذي ألفه للأمير الساماني المنصور() وكأنه ينبهه إلى ضرورة محاربة الشعوذة في الطب: "إن مخاريق هؤلاء [ المشعوذين ] كثيرة، يضيق عن ذكرها كتابنا هذا بأسره، وجرأتهم واستحلالهم تعذيب الناس، باطلا، في الغاية التي لا وراءها غاية. فإن منهم من يزعم أنه يبرئ من الصرع بأن يشق وسط الرأس صليبيا ثم يخرج أشياء قد أعدها معه يوهم بخفته وتمويهه أنه أخرجها من ذلك الشق. ومنهم من يوهم أنه يخرج من الأنف سام أبرص فيدخل في أنف المعالج الشقي خلالة أو حديدة ويحكه حتى يدميه، ثم يشيل من هناك أشياء قد أعدها معه على شكل هذه الدابة، متخذة من عروق الكبد. ومنهم من يوهم أنه يرفع البياض من العين رفعا فيدخل في العين حديدة ينكأها ثم يدس فيها غشاء رقيقا ويخرجه من هناك. ومنهم من يوهم أنه يمص الماء من الأذن فيضع عليها أنبوبة ويرسل من فمه شيئا فيها ثم يمصه. ومنهم من يدس الدود المتولد في الجبن في الأذن وفي أصول الأضراس ثم يخرجه من هناك".()

(…)

6- المجوسي ومسألة المنهج في التأليف في الطب

أ- نقد المؤلفات السابقة

عمل علي بن العباس المجوسي طبيبا للأمير البويهي عضد الدولة فنا خسرو وألف لخزانته كاتبا سماه "كامل الصناعة الطبية" - وقد عرف الكتاب بـ"الكتاب الملكي"()- جعله كما يقول "جامعا لكل ما يحتاج إليه المتطببون وغيرهم من حفظ الصحة على الأصحاء وردها على المرضى، إذ كنت لم أجد لأحد من القدماء والمحدثين من الأطباء كتابا كاملا يحوي جميع ما يحتاج إليه من بلوغ غاية هـذه الصناعة وأحكامها"(). ثم ينطلق في إثبات هذه الدعوى فيعرض بالنقد للمؤلفات الطبية المعروفة إلى عصره، ليبين جوانب النقص والتقصير فيها، بادئا بالمرجعيتين الأساسيتين أبقراط وجالينوس، ليعرض بعد ذلك لمن جاء بعد هذا الأخير إلى سلفه المباشر أبي زكريا الرازي، قبل أن يبين منهجه هو.

(…)

ب- مسألة المنهج في التأليف

بعد هذا العرض النقدي للمؤلفات الطبية -الذي أوردناه على طوله لكونه يكمل هذه اللمحة التاريخية- ينتقل المجوسي إلى شرح الطريقة التي ينوي سلوكها في التأليف، فيقول: "وأما أنا فإني أذكر في كتابي هذا جميع ما يحتاج إليه من حفظ الصحة ومداواة الأمراض والعلل وطبائعها وأسبابها والأعراض التابعة لها والعلامات الدالة عليها مما لا يستغني الطبيب الماهر عن معرفته، وأذكر في أمر المداواة والعلاج والتدبير بالأدوية والأغذية ما قد وقعت عليه من التجارب واختاره القدماء مما قد صحت منفعته وامتحانه، واطرحت ما سوى ذلك، واستشهدت في كثير من المواضع بقول أبقراط وجالينوس المقدمين في هذه الصناعة، لا سيما القوانين والدستورات(م) في الأصول التي يستعملها أصحاب القياس(م)، وعليها مبنى الأمر في حفظ الصحة ومداواة الأمراض". ثم يشير إلى أنه سيذكر من الأدوية ما يستعمله أطباء الإقليم الرابع والعراق وفارس و "ما قد صحت تجربتهم له إذ كان كثير من الأدوية التي كان يستعملها القدماء من اليونانيين قد رفضها أهل العراق وفارس"، ويذكر أمثلة يستطرد فيها استطرادا طويلا.

ثم ينتقل بعد ذلك إلى تقديم المخطط الذي سيسير عليه في كتابه، مما يمكن أن يكون بمثابة بنية علم الطب كما يتصوره، وهو ما يهمنا هنا أكثر. يقول: "فأبتدئ أولا فأقدم ذكر العلم بالاستقصات والأمزجة والأخلاط والأعضاء وغير ذلك مما يحتاج إليه مهرة الأطباء في بلوغ النحو الذي ينحو إليه، والغرض الذي يقصده منه وهو حفظ الصحة على الأصحاء وردها على المرضى، ليسهل بذلك عليهم وجود كتاب واحد يحوي جميع ما يحتاج إليه من ذلك، ولا أدع شيئا مما يحتاج إليه المتعلمون والمتكلمون ولا أتخطاه إلى غيره دون أن أشرحه وأبين القول فيه وأسلك في ذلك طريق الاختصار وجودة الشرح والاستقصاء في المعنى الذي أقصد إليه… وأجتنب التطويل الذي يضجر قارئه والإيجاز الذي يغمض كثيرا من معانيه".

أما نحو "النحو التعليمي" -أي المنهج- الذي سيتبعه فيقول عنه: إنه " التعليم الذي يكون بطريق القسمة، وذلك أن أنحاء التعاليم والطرق التي تسلك فيها إليها الكتب خمسة: أحدها التحليل بالعكس، والثاني طريق التركيب، والثالث طريق تحليل الحد، والرابع طريق الرسم، والخامس طريق القسمة". وبعد أن يشرح هذه الطرق يعلن تفضيله لمنهج القسمة هذا فيقول: "ولما كان التعليم الذي يكون بطريق القسمة ينقسم إلى أنحاء شتى على ما ذكرنا كان أوفق فيما قصدناه، إذ كان قد يضطرنا الأمر في موضع دون موضع من كتابنا هذا إلى أن نستعمل أقساما مختلفة، فإنا ربما استعملنا قسمة الأجناس إلى الأنواع (…) وربما استعملنا قسمة النوع إلى الأشخاص (…) وربما استعملنا قسمة الكل إلى الأجزاء (…) وربما استعملنا قسمة الجواهر إلى الأعراض" الخ، "فلذلك ما اخترنا طريق القسمة على سائر طرق التعاليم. والحاجة كانت لقارئ هذا الكتاب إلى وجهة التعليم هو أن يكون للمتعلم طريق قاصد يسلكه في التعليم ليسهل عليه حفظ ما يستعمله، ويخف عليه فهمه واستنباطه، ويؤديه كل فصل منه إلى ما بعد من الفصول وتذكر بعضها ببعض".

لا جدال في أهمية التقسيم والتصنيف في البحث العلمي. ولكنه وحده لا يشكل منهجا. فالمناهج كلها تستعمل القسمة والتصنيف. ومع ذلك فإن لجوء المجوسي إلى التقسيم والتصنيف كان خطوة على درجة كبيرة من الأهمية بالنظر إلى ما كان يسود الـتأليف في الطب من التجميع بدون ترتيب ولا نظام، والانتقال من مسألة إلى أخرى ثم الرجوع إليها بعد ذلك مرات. والسؤال الأساسي هنا هو: ماذا سيكون موضوعا للتقسيم وكيف؟

(…)

ج- أقسام الطب والعلوم المساعدة

يشرح المجوسي قسمته الطب فيقول: "الطب ينقسم قسمين : أحدهما العلم والثاني العمل. والعلم هو معرفة حقيقة الغرض المقصود إليه. موضوعه في الفكر الذي به يكون التمييز والتدبير لما يراد فعله. والعمل هو خروج ذلك الشيء الموضوع في الفكر إلى المباشر بالحس والعمل باليد على حسب ما اتفق عليه التمييز". والعلم (=الطب النظري) ينقسم إلى ثلاثة أقسام : أحدها العلم بالأمور الطبيعية، وهي: الاستقصات، المزاج، الأخلاط، الأعضاء الحادثة عن الأخلاط، القوى التي بها تفعل الأعضاء أفعالها الحادثة على المجرى الطبيعي، الأرواح التي بها يكون تمام مدة الحيوان وقوامه وتدبيره. والثاني العلم بالأمور التي ليست بطبيعية، والثالث العلم بالأمور الخارجة عن الأمر الطبيعي". والقسم الثاني هو "الأمور التي ليست بطبيعية (لا تدخل في تركيب البدن)، وهي الهواء المحيط بأبدان الناس والحركة والسكون والأطعمة والأشربة والنوم واليقظة والاستفراغ والاحتباس الخ. والقسم الثالث: "الأمور الخارجة عن الأمر الطبيعي" وهي: الأمراض وأسبابها والأعراض التابعة لها وهي الدلائل أو العلامات.

أما العمل (القسم العملي): فقسمان: حفظ صحة الأصحاء، ومداواة المرض وتكون بالتدبير بالأغذية والأدوية والعمل باليد.

د- العلاقة بين العلم والنظرية العلمية

وما يهمنا هنا هو تصور المؤلف لأقسام "علم الطب". وهو تصور يستنسخ بصورة مباشرة النظرية الطبية السائدة منذ أبقراط، وقد شرحناها قبل: الطب يعالج بدن الإنسان وهو جسم. والجسم يتألف من الأسطقسات الأربعة (التراب والماء والهواء والنار) التي منها تكون الأخلاط الأربعة، والأعضاء، والأمزجة الخ. وكما هو واضح فهذه النظرية تضم "العلم الطبيعي" الخاص بها بل هي في ذاتها "علم طبيعي" يتألف من ثلاثة أقسام: الأمور تدخل في تركيب البدن، التي منها يتألف (الأسطقسات، الأخلاط، الأعضاء، المزاج…). والأمور التي لا تدخل في تركيب البدن ولكنها تؤثر فيه وهي ضرورية له أو مكملة أو للزينة كالهواء والطعام والشراب والحركة والسكون الخ. والأمور "الخارجة عن الأمر الطبيعي" وهي الأمراض وأعراضها وأسبابها الخ.

من هنا نفهم سبب غياب "العلم الطبيعي" من قائمة العلوم التي ذكرها المجوسي كعلوم مساعدة. ذلك لأن النظرية الطبية التي بها يتحدد تصوره للطب كعلم يندمج فيها كما قلنا "العلم الطبيعي" الخاص بها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا على الصعيد الإيبستيمولوجي هو التالي: ما هي العلاقة بين علم ما والنظرية العلمية التي تسود هذا العلم؟ وبعبارة أخرى هل العلم، أي علم، مستقل عن النظرية أو النظريات العلمية التي تسود فيه، أم أنهما شيء واحد؟ إن ما لم يدركه المجوسي هو أن "العلم" شيء، والنظرية العلمية شيء آخر. النظرية العلمية هي بطبيعتها متغيرة متطورة تختلف في مرحلة ما من تطور العلم عنها في المراحل الأخرى. أما "العلم" فيتحدد أولا وقبل كل شيء بموضوعه والغاية منه والوسيلة التي بها تتحقق تلك الغاية. أما النظرية العلمية فهي التصور الذي يبنيه العالِم عن هذه الأمور الثلاثة وبكيفية أخص الطريقة التي بها تحقق الغاية في علم ما وفي زمن ما.

قد تبدو هذه الملاحظات بعيدة عن أفق تفكير علماء القرون الوسطى، لكونها لم يَغْدُ طرحُها ممكنا إلا مع قيام العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر! هذا صحيح. غير أن ما نريد أن نبينه في هذا المدخل هو أن فيلسوف قرطبة قد مس مسا مباشرا هذه المسألة، وأن مشروعه، والغرض من تأليف "الكليات"، هو الانتقال بالطب كعلم من تصور مسجون في النظرية الطبية السائدة، كما رأينا عند المجوسي، إلى تصور يفصل بين العلم كموضوع وغاية ووسائل لتحقيق تلك الغاية، وبين النظرية الطبية السائدة. و قبل أن ننتقل إلى بيان هذا الجانب في "كليات" ابن رشد لنعرج على "قانون" ابن سينا لنسائله عما عسى أن يكون فيه من جديد.

7- القانون لابن سينا

أ- قانون ابن سينا في ميزان النقاد القدماء

جرت العادة على اعتبار كتاب "القانون في الطب" لابن سينا()، المتوفى سنة 428هـ، أهم كتاب في الطب العربي، إذ جمع فيه الشيخ الرئيس بين الطابع الموسوعي الذي ميز كتاب الحاوي للرازي وبين العرض المنظم الذي ميز كتاب المجوسي، إضافة إلى اجتهاداته الخاصة سواء منها التي استفادها من ممارسته للطب أو التي ترجع إلى اشتغاله بالفلسفة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يتميز به أسلوب ابن سينا من وضوح وحسن سبك وقدرته على الإمساك بتلابيب الموضوع، أدركنا السبب الذي جعل كتابه "القانون" يصبح بالفعل "قانونا" فرض نفسه على المشتغلين بالطب، فغطى على كتاب الرازي وكتاب المجوسي، وصار هذا "القانون" يغني عن غيره من كتب المتقدمين، فاحتل في المشرق منزلة المرجع "الوحيد" الكافي. ومن ثمة صار التأليف في الطب يقتصر، أو يكاد، على التعامل مع هذا "القانون" نوعا من التعامل : تلخيصه أو شرحه() ، فوقف التأليف الطبي عنده، وتحول بذلك إلى "عائق" معرفي لم يتم اختراقه في المشرق، إلا بعد قرنين، كما سنرى بعد.

أما في المغرب والأندلس فلم يكن "قانون" ابن سينا يحظى بهذا النوع من الإجماع. فابن زهر، أبو العلاء ابن عبد الملك بن محمد المتوفى سنة 525هـ (والد الطبيب المشهور، وصديق ابن رشد، أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء المتوفى سنة 557هـ)، كتب مقالة ينتقد فيها "قانون" ابن سينا. ويقال إنه ذم الكتاب واطرحه عندما وصلته نسخة منه، بعد أن كانت شهرته قد وصلت الأندلس وذاع صيته فيها. وذُكر أنه قال عنه: "إنه لا يصلح للمبتدئ في تعليم الطب لما تضمنه من الألفاظ الحوشية والمعاني الفلسفية". ومع أن هذا الحكم قد وجد من يرده من أطباء المشرق فإن هذا الرد نفسه لم يخل من الاعتراف بالثغرات التي في هذا "القانون". من ذلك ما كتبه هبة الله بن جُمَيْع الإسرائيلي، طبيب صلاح الدين الأيوبي، وقد جاء فيه: "أما ما اعتمده ابن زهر من اطراح كتاب الرئيس وتهجينه فهو تحيز غير مستقيم. إن هذا الكتاب، وإن كان مصنفه قد اعتمد فيه من الكلام المتكلف والأشياء البعيدة ما لا يليق بالعلوم، وكان فيه ما ذكرناه من الإبهام والنقص والتصحيف والاختلاف والتشويش والتحريف، وبالجملة مواضع كثيرة، فإنه كتاب قد اشتمل من أصول الطب وقوانينه على ما لم يشتمل عليه غيره من الكنانيش الكبار. ثم فيه من الإيجاز والاختصار وحسن التأليف والترتيب وسهولة الكشف لما يراد كشفه منه ما ليس في غيره منها، بل ما يغتفر له منه عظيم الزلل ويسمح به احتمال الخطأ والخلل. وبالجملة فليس في جميع ما لدينا من الكنانيش الكبار ما يقوم مقامه ولا يسد مسده"().

واضح أننا هنا أمام حكم يريد أن يكون موضوعيا، إذ يبرز السلبيات والإيجابيات معا. وإذا كان هذا الحكم ينتهي بترجيح كفة الإيجابيات بدعوى أنه "ليس في جميع ما لدينا من الكنانيش الكبار ما يقوم مقامه ولا يسد مسده"، فإن هذا الترجيح يفقد مبرره إزاء كتاب المجوسي الذي استنسخ ابن سينا طريقته في "الإيجاز والاختصار وحسن التأليف والترتيب وسهولة الكشف لما يراد منه"، وتلك هي الإيجابيات التي سجلها هذا الناقد لصالح قانون ابن سينا. فإذا سحبناها منه، لكونها ليست له، ستبقى السلبيات المذكورة وحدها في الميزان مما سيرجح حكم أبي العـلاء ابن زهر.

بعد الإشارة إلى هذه الشكوك التي قوبل بها قانون ابن سينا في الأندلس، والتي غطت عليها شهرة الشيخ الرئيس، نعود إلى كتابه لنرى ما له وما عليه من زاويـة ما يخص موضوعنا : تطور التفكير العلمي في الطب العربي من خلال تطور التأليف فيه.

(…)

ج- بنية الكتاب: مبادئ العلم ، الأسباب الأربعة.

يقدم لنا الشيخ الرئيس بنية كتابه كما يلي: قال: "وأما الآن فإني أجمع هذا الكتاب وأقسمه إلى كتب خمسة على هذا المثال. الكتاب الأول في الأمور الكلية في علم الطب. الكتاب الثاني في الأدوية المفردة. الكتاب الثالث في الأمراض الجزئية الواقعة بأعضاء الإنسان عضو عضو من القرن (القرن=الرأس) إلى القدم، ظاهرها وباطنها. الكتاب الرابع في الأمراض الجزئية التي إذا وقعت لم تختص بعضو، وفي الزينة. الكتاب الخامس في تركيب الأدوية وهو الأقراباذين".

قد يبدو هذا التخطيط واضحا ومعقولا، ولكن قليلا من التأمل يكشف عن جوانب التعقيد فيه. ذلك أنه يجمع بين "الأمور الكلية" في كل من القسم النظري والقسم العملي، مع أنهما قسمان متميزان منفصلان حسب تصنيفه وتصنيف المجوسي. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يعرض للأدوية المفردة قبل التعرض للأمراض، (لأنه تعرض للأمراض العامة في القسم الكلي) ثم يعود لتركيب الأدوية. والمنطق السليم والبسيط كان يقتضي تقديم الأمراض على الأدوية جملة. أضف إلى ذلك أنه جزأ الكلام على التشريح فتكلم عنه في "القسم الكلي" ثم عاد إليه عند الحديث عن كل عضو على حدة.

وإذا نحن بحثنا في أسباب هذا التعقيد والاضطراب وجدناه راجعا إلى تصور ابن سينا لبنية الطب جملة. لقد تصورها كجملة معارف تشكل بناء معماريا مؤلفا من أجزاء ومستويات يؤسس الأول منها الذي يليه، وهذا يؤسس الذي يليه الخ. نستطيع أن نلمس ذلك بوضوح من هذا التحديد الذي يقدمه الشيخ الرئيس لـ"علم الطب" ولبيان الأسباب والمبادئ التي يقوم عليها هذا العلم. يقول: "إن الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن الصحة، ليحفظ الصحة حاصلة ويستردها زائلة". هذا تعريف مقبول وقد كان شائعا، وقد رأيناه عند المجوسي. وبعد أن يوضح ابن سينا أن المقصود بالقسم العملي في الطب، الذي يوضع في مقابل القسم النظري، ليس هو "المباشرة للعمل"، أي الممارسة العملية للطب، بل المقصود "أنه ليس واحد من قسمي الطب إلا علما، لكن أحدهما علم أصول الطب، والآخر علم كيفية مباشرته، ثم يخص الأول منهما باسم العلم أو باسم النظر، ويخص الآخر باسم العمل".

(…)

د- المجوسي وابن سينا: مقارنة.

وبعد، فما الجديد الذي يقدمه ابن سينا على مستوى الترتيب والنظام في التأليف ثم على مستوى التصور لبنية علم الطب؟

يستطيع القارئ أن يجيب عن هذا السؤال، إذا هو رجع إلى العرض الذي قدمناه أعلاه عن كتاب "كامل الصناعة الطبية" لعلي بن العباس المجوسي، الذي يفصله عن ابن سينا نحو ثلاثة أرباع القرن()؛ إنه سيجد أن الشيخ الرئيس لم يفعل أكثر من استنساخ ما فعله المجوسي، الذي يجب اعتباره بحق رائد التأليف المنظم في الطب العربي ومؤسس التصور الذي ظل سائدا عن بنيته كعلم إلى ابن رشد. ولكي يتبين هذا بوضوح ندرج فيما يلي جدولا نقارن فيه بين بنية كتاب ابن سينا وبنية كتاب المجوسي.

قانون ابن سينا (فهرس الكتاب)

الكتاب الأول في الأمور الكلية العامة

1- المقدمة في حد الطب وبيان موضوعاته…….

2- الأركان، الأمزجة، الأخلاط………

3- العضو وأقسامه: تشريح العظام.العضل وأقسامه، تشريح العضل. العصب وأنواعه، تشريح العصب

4- القوى وأنواعها ثم الأفعال…………….

الأمراض والأسباب والأعراض الكلية

5- الأسباب العامة كالهواء والفصول والمساكن والحركة والسكون والاستحمام والدلك الخ ……..

 

6- أسباب العوارض البدنية: المسخنات والمبردات والمرطبات والمجففات ومفسدات الشكل وضيق المجاري وزيادة العظم والغدد والقرحة والورم والوجع واللذة الخ

7- الأعراض والدلائل والعلامات،النبض وأنواعه، البول والبراز وأنواعهما………….

8- تدبير المولود والأطفال، تدبير البالغين،تدبير المشايخ

تدبير المسافرين: (حفظ الصحة لدى كل صنف )

وجوه المعالجات بحسب الأمراض الكلية: سوء المزاج الإسهال الحجامة الأورام الخ………………

الكتاب الثاني في الأدوية المفردة

9- الأدوية المفردة مرتبة على حساب الجمل

الكتاب الثالث في الأمراض الجزئية لعضو عضو

10- أمراض الرأس والدماغ، أمراض العصب،تشريح العين وأحوالها وأمراضها،أحوال الأذن،أحوال الأنف

أحوال الفم، أحوال الأسنان، أحوال اللثة والشفتين، أحوال الحلق،أحوال الرئة والصدر،أحوال القلب، المريء والمعدة،الكبد وأحوالها، المرارة والطحال، الأمعاء والمقعدة،علل المقعدة، في أحوال الكليتين، أحوال المثانة والبول. أحوال أعضاء التناسل عند الذكر ، أحوال أعضاء التناسل عند المرأة.في أمراض ظاهرة وطرقية الأعضاء، الثرب والفتق الخ

الكتاب الرابع الأمراض الجزئية غير مخنصة بعضو والزينة

كلام كلي في الحميات،في البحران وأحكامه، في الأورام والبثور، في تفرق الاتصال ماعدا الكسر والجبر، كلام مجمل في السموم، في الزينة ……..

الكتاب الخامس

11- في الأدوية المركبة:. الجملة الأولى في المركبات الراتبة في القراباذينات. الجملة الثانية في الأقراباذين الأدوية المجربة في مرض مرض. الأوزان والمكاييل من كناش يوحنى بن سرافيون.

 

 

كامل المجوسي (فهرس الكتاب)

الجزء الأول وهو النظري

1- مقدمات الطب، موضوعه قسمته

2- الاستقصات والأمزجة والأخلاط.

3- تشريح الأعضاء المتشابهة الأجزاء. تشريح الأعضاء المركبة ومنافعها.

4- القوى والأرواح والأفعال.

5- الأمور التي ليست بطبيعية وهي الهواء المحيط بأبدان الإنسان والرياضة والأطعمة والأشربة والنوم واليقظة والجماع والاستحمام والأمراض النفسانية.

6 الأمور الخارجة عن الأمور الطبيعية وهي الأعراض والأسباب الفاعلة لها والأعراض التابعة لها.

7- الدلائل والعلامات الدالة على العلل والأمراض. النبض والبول الخ.

الجزء الثاني وهو العملي:

8- حفظ الصحة على الأصحاء. الرياضة، الاستحمام، الأغذية، الشراب، النوم، الجماع، تنقية الأبدان، العادات. وتدبير الأطفال والمشايخ والناقهين من المرض,

9- الأدوية المفردة وامتحاناتها ومنافعها.

10- مداواة الحميات والأورام وعلاجها,. مداواة العلل العارضة في سطح البدن. مداواة علل الأعضاء الباطنة . مداواة علل الأعضاء النفسانية التي هي الدماغ والنخاع والأعصاب والحواس. مداواة العلل العامة لأعضاء التنفس التي هي الحنجرة وقصبة الرئة والرئة والقلب والحجاب والأغشية والصدر. مداواة العلل العارضة في أعضاء الغذاء التي هي المريء والمعدة والكبد والطحال والمرارة و الأمعاء والكلى والمثانة. مداواة العلل العارضة في أعضاء التناسل التي هي الأنثيان والقضيب والرحم والثديان. مداوة العلل التي تكون بعلاج اليد.

11- الأدوية المركبة والمعجونات وغير ذلك.

واضح من هذا الجدول أن الشيخ الرئيس قد استنسخ في عرضه لموضوعات الطب نفس الترتيب الذي ابتكره المجوسي، وبالتالي فهو يدين له بتصوره للطب كعلم. صحيح أن كتاب ابن سينا أكبر حجما وأغزر مادة (يزيد على كتاب المجوسي بنحو عشرين في المائة)، ولكن ذلك ليس ذا أهمية في الموضوع الذي يهمنا هنا، موضوع التأليف في الطب وبالتالي تطور الفكر العلمي في هذا القطاع المعرفي. وصحيح كذلك أن ابن سينا قد جعل "العلم الطبيعي" على رأس العلوم المساعدة للطب، وهو ما أغفله المجوسي كما أشرنا إلى ذلك، ولكن الشيخ الرئيس سار على نفس الدرب الذي خطه المجوسي، فجعل النظرية الطبية السائدة تضم "العلم الطبيعي" الخاص بها بوصفها هي في ذاتها "علما طبيعيا" يتألف من ثلاثة أقسام: الأسطقسات والأخلاط و الأعضاء الأمزجة، الهواء والطعام والشراب والحركة والسكون الأمراض وأعراضها الخ.

إذن لا جديد عند الشيخ الرئيس على مستوي بناء علم الطب. فلننقل الآن إلى صاحب "الكليات في الطب" لنرى ما عنده من جديد.

8- ابن رشد: وضع الطب كـ "علم"

أ- صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة

يستهل ابن رشد كتابه بمقدمة يقدم فيها مشروعه بهذه العبارات:" فإن الغرض في هذا القول أن نثبت هاهنا من صناعة الطب جملة كافية -على جهة الإيجاز والاختصار- تتضمن أصول الصناعة، وتكون كالمدخل لمن أحب أن يتقصى أجزاء الصناعة، وكالتذكرة أيضا لمن نظر في الصناعة؛ ونتحرى في ذلك الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة (= صناعة الطب)، فنقول "(فـ: 1)(*). يتعلق الأمر إذن بمشروع محدد وهادف: الموضوع هو "أصول" صناعة الطب، أي الطب كعلم، والهدف هو "تحري الأقاويل المطابقة للحق وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة".

والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه علينا هنا هو التالي: فيم يخالف ابن رشد آراء أهل الصناعة؟ هل في تصور الطب كعلم أم في التطبيقات الطبية؟

الواقع أن عمل ابن رشد هنا يدخل في إطار مشروعه العام التي يتوخى الاجتهاد و"التصحيح"، كما شرحنا ذلك في مكان آخر()، ولذلك فهو يضم الجانبين معا:

- الاجتهاد في بعض المسائل التطبيقية والإدلاء بآراء مخالفة لما كان سائدا، وهذا جانب سنترك الحديث عنه إلى المقدمة التحليلية التي تلي هذا المدخل.

- وتصور الطب كعلم وهذا ما سنركز اهتمامنا هنا عليه، وهو يتعلق بـ "التصحيح"، أي بإعادة بناء المعارف الطبية بالصورة التي تجعل منها علما.

كيف؟

يعرف ابن رشد الطب تعريفا لم نعثر له على مثيل أو أصل عند من سبقه ممن كتبوا في الطب. يقول: "إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة، يُلتمس بها حفظ صحة بدن الإنسان وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد واحد من الأبدان…" (فـ:2).

"صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة"، وبلغة عصرنا: علم تطبيقي يرمي إلى تغيير حال بحال. وهذا العلم يقوم على مبادئ صحيحة، بمعنى أن التغيير الذي يحدثه هو نتيجة تدبير علمي يعتمد معطيات التجربة والاستدلال العقلي ولا مجال فيه لذلك "التغيير" الذي يعتقد حصوله بمبادئ غير صادقة كالسحر والتنجيم الخ. ويعبر ابن رشد عن ذلك في مكان آخر بقوله: "الطب هو صناعة فعلُها، عن العلم والتجربة، حفظ الصحة وإبراء المرض" ثم يضيف: "وإنما قلنا في الحد عن العلم والتجربة لأنه ليس يكتفي في هذه الصناعة بالعلم دون التجربة ولا بالتجربة دون العلم بل بهما معا"().

ويشرح ابن رشد مكونات "الصناعة الفاعلة"، أو العلم التطبيقي، فيقول: "ولما كانت الصنائع الفاعلة، بما هي صنائع فاعلة، تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها معرفة موضوعاتها، والثاني معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات، والثالث معرفة الآلات التي بها تحصل تلك الغايات في تلك الموضوعات، انقسمت باضطرار صناعة الطب أولا إلى هذه الأقسام الثلاثة".(فـ:3). ولا شك أن القارئ يلاحظ معنا أننا هنا إزاء نظرة جديدة للطب وإزاء تقسيم جديد، ينقلاننا إلى أفق جديد يختلف تماما عن الأفق الذي تعرفنا عليه من خلال المجوسي وابن سينا: الطب علم تطبيقي، والعلم التطبيقي لابد له من موضوع يعرفه معرفة علمية ليمارس فيه "التطبيق"، ولابد له من غاية يراد تحصيلها في الموضوع، ولابد له كذلك من وسائل تتم بها عملية التحصيل هذه. وقسمة الطب لا بد أن تنبني على هذه المكونات حتى تكون قسمة ذاتية تعبر عن جوهر المقسوم وليس عن أعراضه فقط.

ب - أقسام الطب بحسب: الموضوع ، الغاية، والوسائل

وبناء عليه انقسم الطب أولا إلى هذه الأقسام الثلاثة: الموضوع وهو بدن الإنسان، الغاية وهي حفظ الصحة وإزالة المرض، والوسائل وهي التي تُحفظ بها الصحة ويزال المرض. وبما أن حفظ الصحة يتطلب أولا معرفة حال الصحة وعلاماتها، وإزالة المرض تتطلب أولا معرفة حال المرض وعلاماته، كان لابد من قسمة فرعية: الصحة، المرض، العلامات الصحية والمرضية. ولما كان حفظ الصحة يتم بوسائل هي الغذاء أساسا وإزالة المرض تكون كذلك بوسائل هي الدواء أساسا، كان لابد من التعرف على الأغذية والأدوية. وهكذا ينقسم البحث في الطب أقساما سبعة: التعرف على بدن الإنسان (التشريح)، التعرف على حال الصحة (وظائف الأعضاء)، التعرف على حال المرض (الباتولوجيا)، التعرف على العلامات (السيميولوجيا)، التعرف على الأغذية والأدوية (علم التغذية والصيدلة)، وطرق حفظ الصحة (الوقاية)، وطرق إزالة المرض (العلاج) (فـ: 4-8). ومن هنا قسم ابن رشد كتابه إلى سبعة كتب أو أقسام –بعد المقدمة- هي: 1) كتاب تشريح الأعضاء. 2) كتاب الصحة. 3) كتاب المرض. 4)كتاب العلامات. 5) كتاب الأدوية والأغذية. 6) كتاب حفظ الصحة. 7) كتاب شفاء الأمراض.

ويناقش ابن رشد قسمة الطب إلى قسم علمي (نظري) وقسم عملي، وهي القسمة التي اعتمدها المجوسي وابن سينا فيقول: "وهذه القسمة ليست بقسمة حقيقة لصناعة الطب، لأن جالينوس قد قال في حده: إنه معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما والى الحالة التي ليست بصحة ولا مرض. وإذا كان ذلك كذلك (أي لما كان الطب معرفة…) فأقسامه إنما هي علوم، لا علوم وعمل. وذلك أن الصنائع التي يقال فيها إنها عملية منها ما يقال فيها ذلك لأنها تتعلم بالعمل مثل صناعة النجارة والخياطة، ومنها ما يقال لها علمية وهي أنها تتعلم بالعلم، أعني بالبراهين والحدود لكن غاية العلم فيها إنما هو العمل، وهذه حال صناعة الطب. وليس يبعد أن يكون من الصنائع ما يتعلم بالوجهين جميعا بالعلم والعمل إن سلمنا أنها صناعة واحدة! وقد يظن بصناعة الطب أنها بهذه الصفة: وذلك أن الجزء الذي يعمل باليدين إنما يتعلم بالعمل والمحاذاة أكثر ذلك. فوجه العذر عن هذه القسمة (=ما قد يبرر قسم الطب إلى علم وعمل) أنه لما كان العلم ينقسم في صناعة الطب إلى علمين، علم يشاركه فيه صاحب العلم الطبيعي أعني أنه ينظر فيه العلمان جميعا، وهو العلم الذي ينظر في الصحة وأسبابها وعلاماتها وفي المرض وأسبابه وعلاماته، والعلم الثاني تختص به صناعة الطب، وهو النظر كيف تحفظ الصحة وبأي شرط تحفظ وكيف يزال المرض وبأي شيء يزال، سمي الجزء من العلم الذي يشارك الطب فيه العلم الطبيعي علميا، وأعني بالعلمي ما الغاية المقصودة منه العلم فقط لا العمل، وسمي الجزء الآخر، الذي ينفرد بالنظر فيه صناعة الطب عمليا، إذ كان قريبا من العمل وخاصا به وكثيرا ما يوجد فعله بالاحتذاء، أعني بالعمل. ولذلك كان من شرط الطبيب أن يكون مع قيامه على علم الطب مزاولا لأعماله. وأما العمل باليد فهو كما قلنا عملي محض، وليس يتعلم بالقول (بالاستدلال) منه إلا جزء يسير (=إذ هو ممارسة وخبرة). وكذلك يشبه أن يكون التشريح: أعني أنه لا يتصور منه بالقول إلا يسير (=إذ يعرف بالحس). وأول من قسم العلم الطبيعي بهذه القسمة حنين المتطبب، وقد رد عليه ابن رضوان ذلك وزعم أن أصول جالينوس تقتضي أن هذه القسمة باطل، وانتصر له أبو العلاء، وزعم أنه تلفى هذه القسمة في بعض الكتب المنسوبة لجالينوس. والحق في ذلك ما قلناه"، (أي أن الطب صناعة علمية أي علم تطبيقي، وأن قسمته إلى علمي وعملي قسمة باطلة). ويضيف: "وأفضل من هذه القسمة أن تقول الطب ينقسم إلى خمسة أقسام: إلى معرفة طبيعة الصحة، وإلى معرفة طبيعة الأمراض، وإلى معرفة علامات الأمراض، وإلى معرفة إزالة الأمراض، وإلى معرفة حفظ الصحة".()

ج - مصادر المعرفة الطبية العلمية ودرجتها من اليقين

بعد ذلك ينتقل ابن رشد إلى المبادئ والأصول التي يقوم عليها الطب كعلم فيلاحظ أن "الصنائع الفكرية"، أي التي تعتمد التفكير والروية في المعطيات الحسية والتجريبية (وهي غير الصنائع النظرية التي تنظر في المجردات كالفلسفة والرياضيات الخ)، تعتمد كجميع الصناعات على مبادئ وأصول عامة، تتسلمها: إما من بديهة العقل مثل مبدأ السببية ومبدأ الهوية وعدم التناقض وهي مبادئ بينة بنفسها، وإما من علم آخر سابق تبينت فيه بالبرهان أو بالتجربة أو بهما معا. والمصادر الرئيسة التي تتسلم منها صناعة الطب مبادئها –زيادة على مبادئ العقل- ثلاثة: العلم الطبيعي، والممارسة الطبية، والتشريح.

والعلاقة بين هذه المصادر وبين علم الطب علاقة واضحة. فالعلم الطبيعي يبحث في الأجسام وموضوع علم الطب جسم الإنسان، وإذن فكل ما يخص هذا الجسم من ناحية تركيبه الطبيعي يتسلمه علم الطب من العلم الطبيعي، مثل ما يتعلق بالأسطقسات والأسباب الأربعة، المادة والصورة والفاعل والغاية، وغير ذلك مما ينتمي إلى الجهاز المفاهيمي الذي يستعمل في البحث في الأجسام الطبيعية. أما الممارسة الطبية أو صناعة الطب التجريبية فيتسلم منها علم الطب ما يخص قوى الأدوية، ذلك لأن مفعول الأدوية إنما يعرف بالتجربة أساسا، وما يعرف منها بالاستنباط لا يكون إلا انطلاقا مما عرف بالتجربة وهو نزر يسير. وأما صناعة التشريح، تشريح الأعضاء، فإن صناعة الطب "تتسلم منها كثيرا منأجزاء موضوعاته" (ف:9) وهذا واضح، لأن حفظ الصحة وإزالة المرض، الذي هو غاية الطب، ينصرف إلى أعضاء البدن واحدا واحدا وإلى البدن ككل.

تلك هي المصادر التي يتسلم منها علم الطب مبادئه وأصوله. والسؤال الآن هو: ما درجة هذه المصادر من المصداقية العلمية، وبعبارة أخرى ما هي درجة ما تعطيه هذه المصادر على سلم الصدق واليقين؟

سؤال ضروري لأن الأمر يتعلق ببناء علم، هو علم الطب. ويجيب ابن رشد:

- أما فيما يخص العلم الطبيعي فيجب الانتباه أولا إلى ما يجمع بينه وبين علم الطب وإلى ما يفترقان فيه. علم الطب يشارك العلم الطبيعي في بدن الإنسان، في صحته ومرضه، بوصفه جسما، وبالتالي موضوعا لدراسة كل منهما، ولكن يفترقان من حيث أن صاحب العلم الطبيعي "ينظر في الصحة والمرض من حيث هما أحد الموجودات الطبيعية، وينظر الطبيب فيهما من حيث يروم حفظ هذه وإزالة هذا". من أجل ذلك كان على الطبيب أن لا يكتفي بمعرفة ما يمده به العلم الطبيعي من "كليات"، أي من خصائص عامة عن الأجسام، بل لا بد له من ممارسة طويلة يتمكن بها من معرفة الكيفيات التي تتجلى عليها هذه الخصائص الطبيعية في بدن الإنسان. وبعبارة أخرى إنه بالممارسة الطبية وحدها يتعرف الطبيب على خصائص بدن الإنسان التي تخصه لذاته بوصفه جسما من الأجسام، أي بوصفه أحد أفراد جنس الأجسام. ومن خلال التعرف على هذه الخصائص "تحصل له مقدمات تجريبية" يقدر بها أن يكتشف في بدن الإنسان تلك الخصائص العامة التي يدرسها العلم الطبيعي. وبعبارة أخرى: هناك ما هو عام وهو المبادئ التي يعطيها العلم الطبيعي، وهناك ما هو خاص وهو ما تعطيه مزاولة الطب. والارتفاع بهذه المزاولة إلى مستوى العلم يكون بربط الخاص بالعام، وبالتالي اكتشاف العام في الخاص (فـ:11). وإذن فالمصداقية العليمة لما يأخذه علم الطب عن العلم الطبيعي تتوقف على مدى الممارسة العلمية التي يقوم بها الطبيب والتي تمكنه من اكتشاف "العام" الذي يعطيه العلم الطبيعي في "الخاص" الذي يتعامل الطب معه وهو بدن الإنسان.

- أما عن المصداقية العلمية لما يتسلمه علم الطب من الممارسة الطبية التجريبية فينبه ابن رشد إلى صعوبة الحصول على اليقين في كل موضوع من موضوعاتها، كما هو الحال في الأدوية، وهي أهم ما يتسلمه منها. ذلك لأن اليقين في هذا المجال يحتاج إلى طول تجربة وإلى ملاحظة مفعول الدواء في كل شخص. أضف إلى ذلك تدخل عوامل أخرى مختلفة. والنتيجة أن ما يأخذه علم الطب من الممارسة الطبية يجب أن يعتبر في درجة "المشهورات" وليس في درجة "اليقينيات".

- أما صناعة التشريح فالمصداقية العلمية فيها أساسها الحس والمشاهد والفحص. ولكن بما أنها لم تعد زاهرة –في أيام ابن رشد- "إذ قد دثرت" كما يقول، فإن علم الطب مضطر إلى أن يتسلم منها ما هو في حاجة إليه حسب المشهور، مثل ما هو الحال في الأدوية التي مصدر المعرفة بها التجربة (فـ:10).

والخلاصة أن "صناعة الطب" هي "صناعة فاعلة" أي علم تطبيقي تعتمد في فاعليتها وتطبيقها على "مبادئ صادقة": صدق بعضها في مرتبة المقدمات اليقينية، وهي ما تتسلمه من العلم الطبيعي إذا زكي بالتجربة التي تمكن من تطبيق القوانين الكلية على الأشياء الجزئية، بينما صدق بعضها الآخر هو في مرتبة المقدمات المشهورة، ويتعلق الأمر بما تعطيه الممارسة الطويلة سواء على مستوى المعالجة والأدوية أو على مستوى التعرف على تركيب الأعضاء وخصائصها بواسطة صناعة التشريح التي "دثرت" ولم تعد تقدم جديدا (زمن ابن رشد).

وينهي ابن رشد هذه المقدمة المركزة الغنية -مقدمة كتاب الكليات- بملاحظتين سريعتين: الأولى يبين فيها خطأ الاقتصار في حد علم الطب على كونه: "معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما"، موضحا أن هذا الحد يصدق على العلم الطبيعي أيضا، وبالتالي لا بد، لجعله ينصرف إلى الطب وحده، من إضافة العبارة التالية: "ليحفظ الصحة حاصلةً ويستردها زائلةً"، إذ كان هذا الجانب التطبيقي هو المقصود من الطب وبها ينفصل عن العلم الطبيعي الذي هدفه المعرفة فقط. أما الملاحظة الثانية فينبه فيها إلى الخطأ الكامن وراء إضافة "الحال التي ليست بصحة ولا مرض" إلى حد الطب. وهذا الخطأ ناجم –يقول ابن رشد- من عدم فهم صحيح لمعنى الوسط. فليس هناك وسط بين الصحة والمرض كما نقول في وسط العصا مثلا، بل الصحة والمرض يختلفان بالأقل والأكثر، مثلهما في ذلك مثل ما بين اللون الأبيض والأسود من درجات، وهي الألوان المؤلفة منهما مثل الرمادي المفتوح والرمادي القاتم والبني الخ. يقول ابن رشد: "فإنه ليس بين ضرر الفعل المحسوس ولا-ضرره وسط، وإنما يختلف بالأقل والأكثر. وليس المتوسط بين الضدين أن يكون كل واحد منهما في جزء غير الجزء الذي فيه الآخر، ولا في زمن غير الزمن الذي فيه الآخر. وهذا بين مما قيل في العلم النظري" ( فـ:12).

د- الطب علم تطبيقي، منه نظريات ومنه تطبيقات

هناك مسألة أخيرة لابد من إثارتها هنا، وتتعلق برفض ابن رشد لقسمة الطب إلى علمي وعملي وإلحاحه على كونه علما بجميع أقسامه. وفي مقابل ذلك يميز بين "الكليات" أو "الأقاويل الكلية" وبين "الأقاويل الجزئية" في الطب . يقول في آخر فقرة في الكتاب: "فهذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجز ما أمكننا وأبينه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء مرض مرض من الأمراض الداخلة على عضو عضو من الأعضاء (…) نرجئ هذا إلى وقت نكون فيه أشد فراغا"، ثم ينصح قارئه، الذي يرغب في الاطلاع على معالجة كل عضو على حدة، بالنظر في كتاب "التيسير" الذي ألفه صديقه أبو مروان ابن زهر.

كيف نفهم هذا التمييز ؟

الواقع أن ابن رشد قد تصور "صناعة الطب" خارج التقسيم التقليدي الذي يقسم الفلسفة إلى قسمين : نظري وعملي، والذي عممه الفارابي وابن سينا والغزالي حتى على العلوم الإسلامية إذ جعل هذا الأخير "علم الكلام" بمثابة "العلم النظري" والفقه بمثابة "العلم العملي". لقد اعترض ابن رشد على هذا التعميم رافضا اعتبار "علم الكلام" علما بالكليات وعلم الفقه علما بالجزئيات، كما اعترض عليه هنا. إن الطب، في نظر ابن رشد "صناعة فاعلة"، أي علم تطبيقي، وأن أقرب الصناعات إليها : "صناعة الملاحة" و"صناعة قود الجيوش"() (فـ: 2، 11). وهذا العلم التطبيقي قوامه "أقاويل كلية" هي "أصول الصناعة"، و"أقاويل جزئية" تخص علاج مرض مرض في عضو عضو. ومن هنا قد لا نخطئ إذا قلنا بعبارة عصرنا: صناعة الطب ( أو فن الطب) قسمان: قسم هو علم يدرس، كما هو الشأن الدروس العامة التي يتلقاها الطالب في كلية الطب. وقسم هو تطبيق لتلك الدروس أثناء فترة التدريب في المستشفيات والملاحظات السريرية.

هـ – التصور الرشدي للطب كعلم أقرب إلى التصور الحديث

وواضح أن تقسيم ابن رشد لموضوعات الطب إلى الأقسام السبعة (أو الخمسة) المذكورة آنفا، وإلحاحه على الطابع العلمي للأقاويل الكلية والجزئية التي تلتئم منها هذه الأقسام، وعلى أهمية دور التجربة فيه (كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وسنرى هذا بتفصيل في المقدمة التحليلية)، كل ذلك يضعنا أمام تصور جديد لعلم الطب يختلف تماما عن التصور الذي قدمه لنا كل من المجوسي وابن سينا. وهذا التصور الرشدي للطب قريب جدا، إن لم يكن مطابقا تماما، للتصور الحديث والمعاصر، سواء في تحديد موضوع الطب وأقسامه أو في تحديد درجته من اليقين العلمي. وقد يكفي أن نشير هنا إلى ما كتبه كلود برنار في كتابه " المدخل إلى دراسة الطب التجريبي" الذي يعتبر دستور الطب الحديث والصادر سنة 1920. يقول في مقدمة كتابه:" حفظ الصحة وشفاء المرض، تلك هي المشكلة التي طرحها الطب منذ قيامه، وهي نفسها المشكلة التي ما زال يواصل العمل لحلها حلا علميا. والوضع الحالي للممارسة الطبية يسمح بالقول بأن هذا الحل سيبقى لمدة طويلة موضوعا للبحث". وبعد أن يبرز التقدم الذي حصل في الطب من خلال ما أنجز في العلوم الفيزيائية الكيميائية وفي ظواهر الحياة، السليم منها والمرضي، يقول: " ولكي يتمكن الطبيب من الإحاطة بالمشكلة برمتها يجب أن يشتمل الطب التجريبي على ثلاثة أقسام أساسية: علم وظائف الأعضاء (La physiologie)، وعلم الأمراض La pathologie ) )، وعلم الشفاء" (La thérapeutque). ويضيف كلود برنار قائلا: "غير أن الطب العلمي لا يمكن أن يتأسس، مثله مثل العلوم الأخرى، إلا عن طريق التجربة، أي بالتطبيق الآني والصارم للاستدلال المنطقي (raisonnement) على المعطيات التي تمدنا بها الملاحظة والتجربة. إن المنهاج التجريبي منظورا إليه في ذاته ليس شيئا آخر غير الاستدلال الذي به نخضع أفكارنا، وبصفة منهجية، لتجربة الظواهر".()

لاشك أن القارئ يلاحظ أن ابن رشد رتب كتابه على نفس المنوال الذي يلح عليه هنا كلود برنار: فبعد "صناعة التشريح" التي تتسلم منها صناعة الطب " كثيرا من أجزاء موضوعاتها"، يأتي كتاب الصحة الذي موضوعـه منافع الأعضاء أو وظـائفها (La physiologie)، ثم كتاب الأمراض وكتاب العلامات التي تدل على الأمراض (La pathologie ) ، ثم كتاب الأدوية والأغذية وكتاب حفظ الصحة وكتاب شفاء الأمراض (La therapeutique). هذا إضافة إلى تأكيده القوي على "أنه ليس يكتفي في هذه الصناعة بالعلم دون التجربة ولا بالتجربة دون العلم بل بهما معا"().

وغني عن البيان القول إننا لا نهدف من هذه المقارنة إلى إثبات "سبق" ما لابن رشد. فالمسافة طويلة بين القرن الثاني عشر الميلادي والقرن العشرين عشر في جميع الميادين، وفي الميدان العلمي بكيفية خاصة. ولكن هناك أمر واحد يفرض نفسه علينا، وهو أن التصور الذي شيده ابن رشد عن علم الطب هو أقرب ما يكون من التصور الحديث. ومع ذلك كله لا بد من التأكيد هنا أن هذه الروح العلمية التي تعامل بها ابن رشد مع موضوعه كانت مكبلة بالجهاز المفاهيمي الذي كان سائدا في عصره كجهاز لإنتاج المعرفة العلمية، كما أن النظرية الطبية السائدة في زمانه، تلك التي شيدها جالينوس كانت هي المادة العلمية التي تعامل معها ابن رشد وفكر في إطارها حتى في انتقاداته الكثيرة لها كما سنرى.

بعبارة قصيرة، يمكن القول إن ما أنجزه ابن رشد من تجديد في ميدان التفكير العلمي في الطب شبيه بما قام به على صعيد الفلسفة وشرح أرسطو. صحيح أن ابن رشد لم ينتقد أرسطو كما انتقد جالينوس -وإن كان قد اعتمد على هذا في الطب كما اعتمد على ذاك في "الطبيعة" و"ما وراء الطبيعة"- ولكن ابن رشد قد حاول حل المشاكل التي تركها أرسطو معلقة وسد الثغرات في منظومته بناء على "ما يقتضيه مذهبه"، مذهب أرسطو الذي هو في الحقيقة مذهب ابن رشد نفسه، وذلك بتطويع الجهاز المفاهيمي الأرسطي إلى درجة تقترب من تفجير المنظومة الأرسطية بالمرة(). والشيء نفسه فعله فيلسوف قرطبة مع طب جلينوس، كما سنرى في المقدمة التحليلية. والسؤال الآن سؤال مضاعف:

ترى ماذا كان دور ابن رشد الطبيب في أوروبا؟ هل كان بمثل دوره في الفلسفة، وهو الدور الذي تمثل في قيام "الرشدية الللاتينية" التي كانت وراء النهضة الأوروبية؟ وهل كان له دور ما في الفكر الطبي العربي بعده؟

9- "العصا القاتلة"… الذي "أفسد جميع الأطباء"

يجب التأكيد ابتداء أننا ما زلنا عالة على المستشرقين في موضوع "دور العلم العربي في النهضة الأوروبية"، وأن ما أنجزه هؤلاء في هذا المجال مازال، رغم أهميته، دون ما يجب أن يكون. إن دور العلم العربي والفلسفة العربية في النهضة الأوروبية لا يمكن جلاءه إلا على أيد باحثين عارفين للغتين اللاتينية والعبرية ومتخصصين في ثقافة القرون الوسطى وعلى إلمام كاف بالتراث العربي في العلم والفلسفة. وهذا ما نتمنى أن يتوافر للثقافة العربية على أيدي الأجيال الصاعدة من الباحثين الجامعيين. نحن مضطرون إذن، في الوقت الحاضر، إلى النقل من المستشرقين والمستعربين الجدد والمهتمين بهذا الموضوع من الباحثين والأكاديميين الأوروبيين. ولعل أهم بحث أنجز أخيرا في الموضوع -حسب علمنا- هو ذلك الذي كتبته دانيال جاكار (مديرة أبحاث في المعهد التطبيقي للدراسات العليا بباريس)، بعنوان "تأثير الطب العربي في الغرب خلال القرون الوسطى"()، وسيكون هذا المقال مرجعنا الرئيسي في الموضوع.

تبرز الباحثة حضور كل من كتاب علي بن العباس المجوسي "كامل الصنعة الطبية" وكتاب "القانون" لابن سينا وكتاب "المنصوري" ثم "الحاوي" للرازي وكتاب "الكليات" لابن رشد الذي عرف باسم Colliget وقد ترجمت كلها إلى اللاتينية(). وكما هو الشأن في الفلسفة فقد كان هناك في الأوساط الطبية الأوروبية تياران متنازعان، أحدهما مع ابن سينا والآخر مع ابن رشد. ويهمنا هنا الدور الذي قام به ابن رشد من خلال كتابه "الكليات".

تقول الباحثة المذكورة: عن كتاب "الكليات" : " لقد أثار هذا الكتاب العديد من المجادلات التي سمحت للأطباء الغربيين بتجديد مذهبهم". "وبصفته داعما للأفكار الأرسطية فقد ساهم كتاب Colliget في وضع مسائل أساسية بشكل جديد. وهكذا ابتداء من السنوات الأخيرة في القرن الثالث عشر وصولا إلى القرن السابع عشر، توزعت التحديدات المختلفة للحمى حول الموقفين المتباعدين لابن سينا وابن رشد". وبعد أن تشير الباحثة إلى أن الحل الذي قدمه ابن رشد قد أخذ به بدون صعوبة لكون أقرب إلى رأي جالينوس، تضيف قائلة: "لقد لعب كتاب Colliget أيضا دورا محرضا بإعطائه من جديد حيوية لتعريف الطب كصنعة. إن الأوضاع الخاصة بالنظرية والتطبيق (= القسم النظري والقسم العملي في الطب) كما ظهرت في كتابي Panttegni ( المجوسي: كامل الصناعة الطبية) و Canon (القانون لابن سينا)، قد طرحت مجددا للنقاش (…) إن النقاش حول تحديد الطب الذي ورد في كتاب الكليات Colliget لقي كثيرا من الصدى، الأمر الذي أدى في النصف الثاني من القرن الثالث عشر إلى بروز اهتمام جديد بالطريقة التي تسمح بتحليل الحالات الخاصة (particularia)، أي الظروف التي لا تحصى والتي تحصل في الحياة اليومية". وقد بلغ تأثير ابن رشد في زعزعة التصورات الطبية التي كانت سائدة أن خص شارح كتاب القانون لابن سينا جاك ديبار Jacues despars المتوفي سنة 1458م ابن رشد بوصف خاص غني بالدلالة. وهكذا فبينما قال عن الرازي إنه "المختبر الأرفع" و"الطبيب الأكبر والأكثر خبرة بعد ابقراط وجالينوس"، وقال عن ابن ماسويه إنه "خبيرنا" ومبشرنا"، "الأعلم من الجميع في وصف الأدوية"، وصف ابن رشد الطبيب بـ "العصا القاتلة"، و" الرجل الذي "أفسد جميع الأطباء"!

أما أن يكون كتاب "الكليات" لابن رشد "قد أثار العديد من المجادلات التي سمحت للأطباء الغربيين بتجديد مذهبهم"، وبالخصوص من خلال التصور الجديد الذي قدمه عن الطب وأقسامه ومرتبته من اليقين، فهذا مفهوم؛ وقد سبق أن أبرزنا هذا الجانب في الفقرات السابقة. وأما وصفه بـ "العصا القاتلة" وبـ "الرجل الذي أفسد جميع الأطباء"، فالسؤال: كيف، ولماذا؟ يطرح نفسه بإلحاح.

إن الباحثة صاحبة المقالة التي ندين لها بهذه المعلومات القيمة لا تطرح هذا السؤال، وبالتالي فهي لم تنشغل بالإجابة عنه بل انتقلت إلى موضوع آخر. ومع ذلك فإن سياق عرضها التاريخي لحضور الطب العربي بمختلف منازعه في الفكر الأوروبي، وردود الأفعال التي قامت هناك إزاء هذه المرجعية العربية أو تلك، تسمح لنا باستخلاص الجواب عن سؤالنا: لماذا وصف ابن رشد الطبيب هناك بـ "العصا القاتلة" ولماذا قيل فيه : "إنه أفسد جميع الأطباء"!

نقرأ في المقالة نفسها أن الطبيب الكتالاني أرنو دو فيل نوف (Arnaud de Ville Neuve) "أحد الوجوه البارزة الفكرية البارزة في القرون الوسطى"، كان "مجددا في إطار تقليد استوحى أعمال جالينوس، وكان أيضا ناقدا لاذعا لابن سينا على الرغم من أنه استوحى مؤلفاته وأنه ترجم له مقالة في أحكام الأدوية القلبية التي ظهرت بعنوان De viribus cordis . وفي سياق مرجح من الجدال داخل الوسط الطبي انتقد بعنف، ومرة بعد أخرى، أولئك الذين يتبعون كتاب Canon (القانون) لابن سينا بشكل أعمى". لقد أعلن في كتبه أن "الحقيقة المتينة التي وصل إليها جالينوس لم يفهمها ابن سينا الذي، من خلال غزارة مجلده الضخم في الطب، جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى" ، "يثرثرون تحت نفوذه من دون أن يتذكروا البرهان. ويبدو انهم يعتبرون أنفسهم مغتبطين إذا استطاعوا رؤية أو قراءة أو إظهار عبء المجلد (=قانون ابن سيناء؟) على منابرهم الكبيرة". وتضيف صاحبة المقالة: "إن فهم أعمال ابن سينا بالنسبة إلى دوفيل نوف يعني تمريرها من خلال مصفاة الجالينوسية".()

واضح مما تقدم أن "قانون" ابن سينا كان له نوع من الهيمنة على الأوساط الطبية في أوربا خلال القرن الثالث عشر، وأن ردود أفعال مناوئة له بدأت تظهر عندما أخذ الدارسون يكتشفون نصوص جالينوس مما أتاح لهم "مقابلة الأعمال العربية بالمصادر الجالينوسية". وفي هذا الإطار يدخل هذا الرد العنيف الذي تعرفنا عليه أعلاه ضد ابن سينا. لقد كان دعوة إلى الرجوع إلى المرجعية الطبية الأساسية: جالينوس الذي وصل إلى " الحقيقة المتينة" التي "لم يفهمها ابن سينا الذي… جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى".

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي: إذا كان ابن سينا قد "جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى"، وأن البديل الصحيح هو الرجوع إلى جالينوس، فما هو "ذنب" ابن رشد في هذا السياق حتى يوصف بـ "العصا القاتلة" ويتهم بأنه "أفسد جميع الأطباء"؟

ز- هل كان ابن رشد وراء اكتشاف الدورة الدموية ؟

الجواب يقدمه لنا كتاب "الكليات" الذي بين أيدينا. ذلك أن ابن رشد قد أعلن في مقدمة هذا الكتاب أنه سيتحرى فيه "الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة" (= صناعة الطب). وأهل الصناعة الذي يخالفهم في هذا الكتاب ليس ابن سينا، فهو يتجاوزه و لا يذكره إلا نادرا وفي أمور جانبية. إن الذي سيخالفه ابن رشد ويدخل معه في نقاش من أول الكتاب إلى آخره هو جالينوس بالذات! لقد اعتبر ابن رشد جالينوس الشخص الوحيد الجدير بأن يعتمد وأن يناقش في آن واحد. وواضح أن مناقشة فيلسوف قرطبة لجالينوس ومخالفته له في مسائل أساسية من مذهب الطبي معناه "خلخلة" وزعزعة البديل الذي لجأ إليه معارضو ابن سينا في أوروبا والعمل على تجاوزه. لقد كان ابن رشد من هذه الناحية فعلا "عصا قاتلة" للتقليد، سواء تقليد ابن سينا أو تقليد جالينوس. ومن هنا كان لابد أن ينظر إليه على أنه "أفسد جميع الأطباء"، الشيء الذي يعني أنه زعزع الفكر الطبي الأوروبي في القرون الوسطى ودفعه في اتجاه الثورة على التقليد، اتجاه فتح "باب الاجتهاد فيه"، وذلك إلى درجة جعلت البعض يربط بين ابن شد واكتشاف هارفي للدورة الدموية. الكبرى! أما الصغرى فشرف اكتشافها يعود لابن النفيس كما سنرى.

وإذا كان هذا هو تأثير كتاب "الكليات" في الفكر الطبي الأوربي، فماذا كان يا تُرى، حظ الفكر الطبي العربي منه؟

لقد اعتاد الناس على القول إن فكر ابن رشد لم يكن له ما بعده في الثقافة العربية، وهذا إن كان صحيحا على مستوى ما كان يمكن أن يحدثه من ثورة فكرية في الحضارة العربية التي كانت قد دخلت آنذاك في مرحلة الأفول، فليس صحيحا على مستوى ما حصل من تطور وتجديد في قطاعات معرفية معينة. لقد سبق أن أبرزنا في أعمالنا الأخرى امتدادات المشروع التجديدي الرشدي لدى كل من البطروجي في علم الفلك والشاطبي في أصول الفقه وابن خلدون في "علم العمران" وابن تيمية في العلاقة بين المعقول والمنقول(). ونضيف الآن فنتساءل: ألم يكن ابن رشد وراء أعظم اكتشاف في تاريخ الطب العربي بل ربما في تاريخ كله، نعني بذلك اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى؟

سؤال سنترك الخوض فيه إلى المقدمة التحليلية التي تلي هذا المدخل. فالخوض في الجواب عن هذا السؤال يتطلب أولا الاستماع إلى مناقشة ابن رشد لجالينوس في المسائل المتصلة بالموضوع: العلاقة بين الكبد والقلب والرئة والشرايين والأوردة الخ.

سيكون علينا، إذن، أن نخصص المقدمة التحليلية التي تلي هذا المدخل والتي نقدم فيها عادة عرضا تحليليا لمضمون الكتاب، -أن نخصصها لإبراز عملية "الخلخة" التي قام بها ابن رشد في "الكليات"، سواء من خلال مناقشته للمرجعية الطبية الأولى في زمامه وإلى ما بعد زمانه بمالايقل عن خمسة قرون: جالينوس، أو من خلال موضوعات أخرى مثل إلحاحه على دور التجربة وخوضه في قضايا معينة كان للنقاش الذي أثاره حولها أهمية تاريخية