ص1      الفهرس    المحور 

 

نساء على أجنحة الحلم(*)

مقاطع من سيرة ذاتية

كمال عبد اللطيف

عرفت الأستاذة فاطمة المرنيسي كأستاذة لعلم الاجتماع بقسم الفلسفة بكلية الآداب التابعة لجامعة محمد الخامس منذ ما يقرب من ربع قرن، فقد التحقت بالكلية في بداية السبعينات وأطرت الطلبة كما أشرفت على مجموعة من الأبحاث في مجال سوسيولوجيا العائلة وسوسيولوجيا المرأة والتحول الاجتماعي في المغرب المعاصر.

وقد بلورت أثناء مسارها الجامعي العلمي مجموعة من الاجتهادات في باب مقاربة إشكالية التحرر النسائي في علاقته بتوابث ومتغيرات الصراع المجتمعي في المغرب وفي العالم العربي، في مستوياته القانونية والسياسية والاجتماعية. وفي سياق هذه الاهتمامات اتجهت صوب المجال التراثي بهدف تفكيك بعض البنيات الثقافية التراثية التي اعتبرت أن هناك وشائج من القربى بينها وبين البنيات المجتمعية الراهنة.

تميزت مختلف أعمال المرنيسي في مجال البحث الاجتماعي بالجرأة كما تميزت بغائية محددة تمثلت في بحثها المتواصل عن كيفيات تجاوز القيود المجتمعية والذهنية الموروثة من أجل عقل أكثر تفتحا ومجتمع أكثر تحررا وعدالة.

صحيح أن أعمالها تمركزت أساسا حول التفكير في كيفيات إنجاز مشروع في التحرر النسائي يحرر المجتمع من النظر بعيون دونية إلى نصف المجتمع، إلا أن الوسائل والوسائط التي تناولت من خلالها هذا الموضوع جمعت بين توظيف المعطيات الإحصائية والاستجواب والبحث الميداني، إضافة إلى تأطيرها لمجموعات بحثية متعددة، وقد أثمرت جهودها في النهاية مجموعة من الأبحاث التي لا يمكن فهم ولا مقاربة إشكالية وضعية المرأة المغربية في العقود الثلاثة الأخيرة دون العودة إليها والاستعانة بها في فهم هذه الوضعية.

وخارج هذه الكتابة البحثية لا نجد للمرنيسي نصوصا أخرى باستثناء الرسالة التي كتبت بمناسبة حرب الخليج الثانية والكتاب الذي أصدرت منذ سنوات على لسان عينات من النساء اللواتي يتحدثن عن مصائرهن. وقد سردت في الرسالة وقائع تتعلق برفضها المساهمة في بحث تشرف عليه مؤسسة بحثية غربية معلنة أن رفضها يعد بمثابة رسالة توجهها كعربية للغرب، وذلك تعبيرا منها عن رفضها لمختلف أشكال العنف التي تعرض لها العراق بعد غزوه للكويت، ففي هذه الرسالة إضافة إلى الموقف المبدئي الذي تضمنته نعثر على طريقة في الكتابة غير معهودة في مباحثها المعروفة، طريقة تؤشر على إمكانيات في النظر وإمكانيات في التعامل مع اللغة تدل على كثير من الشفافية، وتعبر عن وجه آخر من أوجه الباحثة، وهو الوجه الذي كان يتوارى تحت ضغط آليات الكتابة العلمية بأساليبها المعهودة، لكنه وجه يظل قائما يتحين الفرص وربما يقوم بالبحث عنها ليجد الفجوة المناسبة للتعبير عن مكوناته وذكرياته وهواجسه، حيث تسمح آليات الكتابة المبدعة بتفجير بعض الطاقات التخييلية الجموحة التي تعترضها في العادة موانع النمطية الكتابية البحثية.

ما عينت الرسالة المذكورة جزءا من ملامحه العامة تمكن القراء من التعرف على كثير من علاماته عندما أصدرت الباحثة مجموعة من المقاطع من عمل أشبه ما يكون بالسيرة الذاتية بعنوان نساء على أجنحة الحلم وقد صدر بالإنجليزية سنة 94 ثم بالفرنسية 96 ثم صدر مترجما إلى اللغة العربية من طرف فاطمة الزهراء ازرويل سنة 1998.

في هذا النص الذي يحكي طفولة جيل فاطمة والسنين الأولى من مراهقتها ندخل عالما جميلا من الصور والهواجس والوقائع، وهو عالم يتجه لبناء معطيات تاريخية اجتماعية وسياسية تخص الجيل الذي عاصر فترة مخاض الحركة الوطنية المغربية وميلاد الاستقلال، وكذا السنوات الأولى التي توالت بعده وإلى حدود مطلع الستينات.

ينفتح النص على عالمين: عالم التقليد وهو عالم المعطى الاجتماعي التاريخي الموروث والمتوارث، المجتمع المغربي الفاسي في الخمسينات وعالم البحث عن سبل تجاوز التقليد وهو أشبه ما يكون بالنوافذ الصغيرة التي تجعل العالم الأول قابلا لتجاوز وتخطي عوائق وموانع العالم الأول، وداخل العالمين تتصارع اللغات والوقائع والأحداث بصورة رمزية، وهو ما يكشف كفاءة الكاتبة في بناء نظام في السرد يقارب الإشكالات بلغة المخيلة ووقائع الزمن الذي انقرض والزمن الذي يقاوم والزمن القادم بكل مفاجآته…

بني النص السردي في إطار ما يمكن أن نطلق عليه هندسة المقاطع المعنونة، وتكشف هذه الهندسة عن جهد في التركيب الروائي سمح للكتابة باستدراج وقائع وأحداث معينة، لونتها بالعبارات والصور الجميلة لتقدم من خلالها أمارات دالة على أحداث أساسية في واقع المرأة المغربية.

وهكذا نستطيع اعتبار أن المقاطع المعنونة: حدود الحريم، شهرزاد الخليفة والكلمات، شامة والخليفة، الحريم اللامرئي، مصير الأمير بدور، تتجه لاستحضار المرجعية التراثية ليس فقط في صيغة العنوان بل في المحتوى الوقائع الذي يتجه العنوان للإحاطة بدلالته. كما أن عناوين المقاطع الأخرى من قبيل السطح الممنوع، المرأة الفاتنة، الأجنحة الخفية، البشرة الناعمة، الحريم يذهب إلى السينما، رائدات الحركة النسائية العربية يزرن السطح، تشير إلى معطيات أخرى مخالفة لروح الأولى، وهو الأمر الذي يخلف داخل النص الواحد جدليات من التوتر قريبة من جدلية الصراع الذي كانت تدور رحاه داخل تلافيف المجتمع.

إن هذا النظام في التقطيع المعتمد تسميات بعينها ووقائع خاصة يبرز البعد الاجتماعي في تكوين الباحثة، ويحول عملها الفني بدوره إلى وسيلة إضافية للتعرف على فضاءات مجالها البحثي، فهي تعود إلى ذاتها بوعيها العام وبأسئلتها الأساسية وهو أمر معقول ومشروع يمكن الكاتبة في النهاية من إنتاج نص في التخييل السردي مليء بالحكايات والمفاجآت الجميلة وقريب جدا من دائرة الوقائع والأحداث كما عاشها جيل من النساء في المغرب.

وقد جاءت ترجمة العنوان العربية أكثر إيحاء من العنوان الأصلي للنص والعنوان الفرنسي فالحلم المجنح هو الحلم الطائر، حلم يجعل المرأة في مكانة بين السماء والأرض، وهذه الصورة تسمح بتصور جمالية الطيران، كما توحي بالانتقال والمكانة البينية (بين بين) وفي كل هذه الصور تحضر المرأة طائرة ومجنحة بالريش الناعم.

نحن إذن أمام نص يستحق أن يقرأ ويستحق أن ننوه فيه أيضا بعبارة المترجمة، فقد جاء عملها في عبارة رشيقة متماسكة، كما لا نريد أن تفوتنا هنا مناسبة التنويه أيضا بصورة الغلاف والطباعة الأنيقة وكذا الصور المرفقة وقد حملت دلالات تتمم ما ورد في النصوص بطريقتها الخاصةn