ص1     الفهرس   

الكتابة ضد الواقع

قراءة في رواية "أفراح القبة" لنجيب محفوظ

حسن المودن

" أجل أصبح الفن هو الأمل الباقي للرغبة الملتهبة وللحياة الواقعية معا" (أفراح القبة، ص 162)

 

1 - لقد صارت الكتابة في رواية "أفراح القبة" ساحة صراع بين الواقع والحلم، بين الواقع والخيال: يتساءل مؤلف المسرحية (الشخصية الرئيسية في الرواية) عن أيهما الأقوى، ويأتي جوابه انتصارا للطرف الثاني: "هو الحلم بلا شك" (ص 169)، كما ستعلن شخصية أخرى أن "الجديد المتخيل أكثر من الواقع بكثير" (ص 115).

ولا شك أن هذا الانتصار للطرف الثاني (الحلم-الخيال) علامة على التحول المهم الذي عرفته الرواية العربية بعد هزيمة 1967م، بعد أن كانت (أي الرواية العربية) في المراحل السابقة تكاد تكون خاضعة في معظمها لخطابات نقدية وإيديولوجية تنتصر للطرف الأول من هذه الثنائية (أي "الواقع" بالمفهوم الانعكاسي والتبسيطي والأحادي البعد: فهو يكاد يعني العالم الاجتماعي الخارجي..)

لكن وإن كانت هذه الرواية تنحاز للخيال والحلم والإبداع، فإن ذلك لا يعني أنها تسعى إلى كتابة خالصة مثالية، بل إن ذلك لا يعني إلا تمكينها من كل قوتها وتفجير كل طاقاتها لتكون أكثر قدرة على مواجهة الواقع: واقع الانهزام والاستسلام والفساد والشر: يقول المؤلف المسرحي (الشخصية الرئيسية):

"الفشل في الفن موت للحياة نفسها… والفن بالنسبة لي ليس فنا فحسب ولكنه البديل عن العمل الذي يطمح إليه المثالي العاجز. ما ذا فعلت لمقاومة الشر من حولي؟ وما العمل إذا عجزت أيضا عن الجهاد في الميدان الوحيد المتاح وهو المسرح؟" (ص 163).

صحيح أن رواية "أفراح القبة" لم تجعل من الهزيمة موضوعها بطريقة مباشرة، لكنها لا تخفي تركيزها على ما آل إليه وضع الإنسان العربي بعد الهزيمة، فهي في أكثر من موقع تفصل بين ذلك الزمان الماضي (ما قبل الهزيمة) والزمان الحاضر (ما بعد الهزيمة)، كما تركز كل فصولها على شخصيات مهزومة مغلوبة على أمرها، تشكو الحزن والقلق، العجز والاستسلام، اليأس والإحساس بالعار، مؤسسة خطابا استفهاميا اتهاميا: من المسؤول عن هذا الوضع؟ ما الذي حدث؟ ما هذا الغامض الخفي الذي تسلل بيننا؟؟ أين ذلك الإنسان القديم؟

ونعتقد أن دراسة هذه الرواية -والروايات التي ظهرت بعد هزيمة 1967- لن تكون إلا ضرورة في الوقت الراهن لسببين أساسيين يمكن صياغتهما في صيغة استفهامية: أولا، ما هي الإضافات الأدبية الأساسية التي ساهمت بها هذه الرواية -وتلك الروايات- في تطوير الكتابة الروائية العربية؛ كيف عالجت هذه الرواية -الروايات- إشكالية الهزيمة، وإلى أي حد ساهمت في تحرير الإنسان العربي من الاستسلام والإحباط والإحساس بالعار؟

لا يكفي في نظرنا أن نقف عندما تقدمه هذه الرواية -الروايات- من جديد ومن إضافات إبداعية للكتابة الروائية خاصة والأدبية عامة، ذلك عمل ضروري، لكن لا بد من الوقوف أيضا على ما تقدمه للقارئ العربي، للإنسان العربي.

2 - سرد القذارة:

سيتساءل كل قارئ لهذه الرواية: لماذا سماها المؤلف "أفراح القبة"؟

نشير أولا إلى أنه اسم لمسميين: فهو عنوان الرواية لكنه أيضا عنوان المسرحية التي هي موضوع الرواية. وقد سأل أحد قراء المسرحية (مدير المسرح) مؤلفها لماذا سماها كذلك، فتلقى منه جوابا سلبيا، لكن رد هذا القارئ قد يكون جوابا كافيا إذ يقول: "… مكر المؤلفين لا يجوز علي، لعلك تشير إلى الأفراح التي تبارك الصراع الأخلاقي رغم انتشار الحشرات، أو لعله من أسماء الأضواء كما نسمي الجارية السوداء صباح أو نورا".

المسألة أننا أمام عنوان فرح لسرد قذر: تفتتح الرواية في فصلها الأول بحديث عن مسرحية جديدة ومثيرة، يفضح فيها مؤلفها عباس كرم يونس حياة عائلته ومحيطه الفاسدين. والمثير أن الشخوص الذين تحكي عنهم منهم أنفسهم سيكون كاتبها (عباس كرم يونس) وممثلها (طارق رمضان…) والمشرف على إخراجها وتقديمها للجمهور (مدير المسرح) وجمهورها (أب عباس وأمه وفرقة المسرح وموظفوه…)

يفضح مؤلف المسرحية جانب العهارة في أمه، وجانب الفساد والقوادة في أبيه، وجانب الاستعباد والاستسلام والانحلال في باقي أفراد الفرقة المسرحية التي ينتمي إليها أبواه، لينتهي في مسرحيته إلى محاكمة أبويه والحكم عليهما بالقتل وعلى الابن -أي المؤلف نفسه- بالانتحار، لكن الرواية لم تحكم على الأبوين بالقتل قدر ما سمحت لكل شخصية بالتعبير عن رأيه وإبداء موقفه (من المسرحية، من وقائعها، من الآخرين..) وتقديم أعذاره وتبريراته، كما أن الابن (بطل الرواية ومؤلف المسرحية) سيتراجع عن الانتحار.

إنها مسرحية-رواية تشخص الواقع القذر وتؤسس، أو على الأصح ترسخ اتجاها سرديا سميناه: سرد القذارة. وهي تسمية استوحيناها من الرواية نفسها: يواجه أحدهم مؤلف المسرحية قائلا: "إن البطل قذر جدا وبغيض جدا ولن يتعاطف الجمهور معه…" (ص 173). وقد كان نجيب محفوظ يركز في أغلب رواياته، بهذا القدر أو ذاك على الجانب القذر في حياة شخوصه (نمثل برائعته "الثلاثية")، إلا أنه في "أفراح القبة" يجعل من حياة القذارة الموضوع المركزي: حياة عائلة تقوم على الاغتصاب والعهارة والخيانة والقوادة والقمار…

صحيح أننا نفهم من الرواية أن العائلة قبل الهزيمة كانت، بالرغم من كل شيء، متماسكة، لكن المسرحية، وبالتالي الرواية، تركز أساسا على ما آل إليه وضع هذه العائلة بعد الهزيمة: بعد أن اكتشف الابن أن أبويه قد حولا البيت العائلي إلى وكر للقمار والفساد -فاتسمت علاقته بأمه بالأسى (ص 132) وتلاشى الأب القديم في عينيه (ص 134)، وتدهور الحال بين الأب والأم (ص 134), وساد الشر والفساد (ص 139)، وصارت كل الشخصيات يأكلها الفراغ والوحدة والحزن والجفاف والإفلاس (ص 175-176)- وصار الموت بطل الحياة (ص 175).

ليس قصدنا أن يشمئز القارئ من هذا الاتجاه السردي، بل هدفنا أن نبين أننا أمام اتجاه لا يذهب إلى الاستكانة والمهادنة والصمت، ذلك لأنه يركب الفضح وتعرية المسكوت عنه والجهر بالحقيقة ولو كانت قذرة مرعبة وهو بهذا يبتكر أساليب جديدة تمكنه من تشخيص هذه الجوانب القذرة المرعبة في الشخصية الإنسانية.

يكون نجيب محفوظ، على الأقل بهذه الرواية، أقرب من الروائي الروسي دوستويفسكي، من حيث التركيز على هذه الجوانب القذرة المرعبة في الشخصية الإنسانية -وإن كانت أقل حدة عند الروائي العربي-، ومن حيث معالجة الشر المتجذر في الإنسان في علاقة بإشكالية الأخلاق.

لكن ما يبدو أساسيا هو أن نجيب محفوظ يقيم، من خلال هذه الرواية، تعارضا بين المسرح (الفن) والواقع: إذا نحا المسرح نحو المأساة (القتل والانتحار)، فإن الواقع لا ينبغي أن ينحو ذلك النحو. وهو بهذا يخلق تعارضا بين الفن المأساوي (المسرح) والفن الواقعي (الرواية): الرواية وإن كانت تركب الشك والسؤال والفضح، فهي تدعو إلى الحلم وإلى تحرر الإنسان وإلى الإيمان بالمستقبل. وتنتهي الرواية، على نقيض من المسرحية، بهذه الجملة: "ذروة النشوة تتألق على جسد عراه الإفلاس والجفاف ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية" (ص 178).

أمن الممكن أن يكون سرد القذارة، بهذا المعنى، هو المؤهل لمواجهة الشر والموت اللذين سادا المجتمع العربي بعد الهزيمة؟ نقرأ في الرواية: "على المؤلف أن يعرف كل شيء، والشر خاصة…" (ص 131).

إن موضوع الرواية الجوهري هو: الإنسان وقد صار ممثلا فاقدا إنسانيته بعد الهزيمة (ص 142)، ومهمة الأدب الروائي هي تشخيص هذا النوع من الإنسان ونقده ودعوته إلى استعادة إنسانيته بتطهيره من الشر والفساد وبترسيخ قيم الخير والروح والحلم. فالفن ينبع من الشر (ص 131) لكنه ضده، وهو يقوم من الإثم لكنه يصمم بقوة على الثورة (ص 170) جاعلا سؤاله الأساسي الإنسان الذي صار مفقودا والفن الذي استحال ضائعا والحرية التي أضحت منعدمة (ص 164).

والفن إذ ينطلق من قذارة الإنسان، فهو يطرح كل الأسئلة الكبرى والآنية: سؤال الحقيقة والحب والحياة والموت والخيانة والعبودية والدين والخطيئة… وكل هذا أساسي، لكني أتساءل: ألم يحن الوقت بعد لأن تقدم لنا الرواية العربية شخصية المستقبل، شخصية الحب والحلم والحياة والتحدي بدلا من هذه الشخصية المهزومة الميتة؟ أساسي أن نتناول الشخصية المهزومة بالدرس والتحليل، لكننا أيضا أحوج ما نكون إلى شخصيات قوية مقبلة على الحياة: أستحضر شخصية "الزين" من رواية "عرس الزين" شخصية الحب والحياة والفرح والضحك المتجذرة في التربة المحلية… أليس ضروريا دراسة كل الروايات المؤسسة للمستقبل والاحتفاء بها؟

3 - السرد العائلي:

تتكون الرواية من أربعة فصول أساسية، كل فصل يحمل اسم فرد من أفراد عائلة كرم يونس، إلا فصلا واحدا نجده يحمل اسم شخصية وإن لم تكن من العائلة، فقد كانت لها علاقة بالكثير من الوقائع في حياة هذه العائلة.

على أي، نحن أمام سرد عائلي. وهذا النوع من السرد يأتي وليد صدمة: لم يلجأ عباس إلى الكتابة إلا عندما وقع في أزمة خطيرة: "إني أرفض أبوي، القواد والذاعرة" (ص 146). لقد كان من قبل يرى في أبويه قوتين لهما قدرة كبيرة على الحب والكمال ويضعهما في دائرة بعيدة عن العالم الإنساني، لكن بعد أن اكتشف أمه عاهرة وأباه قوادا وصارت حقيقة أبويه عارية (ص 145)، صارا بذلك غير معروفين لديه ولم يعد بوسعه أن يتعرف عليهما أنهما أبواه. لقد سقط القناع عنهما وصار بوسعه البحث عن امرأة أخرى ملاك (تزوج تحية وأرادها ملاكا، لكن تاريخها كان فاسدا، وكان لا بد أن تموت-) وعن رجل آخر طاهر (ابنه طاهر من تحية أراده طاهرا، لكنه من تحية ومآله مآلها).

وهذا الابن نفسه، وهو الكاتب والمثقف و "البطل"، وإن كان يسعى إلى أن يكون "بطل" الخير، فهو منقسم بين واقعه وحلمه- قال عنه أبوه: "لم يكن يوافق على حياتنا، كان مثاليا كأنه ابن حرام" (ص 45).

يبدو أن السرد العائلي يقوم، على الأقل في هذه الرواية، على المفارقة. لكن بناءه يأتي فضائحيا اتهاميا: فالابن الكاتب المسرحي يواجه الحقيقة القاسية متهما أبويه: "أبي مجنون مدمن أما أمي فهي المدبرة لما يجري في الكون من الشر" (ص 146)، وتقوم كل شخصية بتسليط الضوء على حياتها وبالأخص على المرحلة التي تناولتها المسرحية، كما تقوم بتبرير سلوكاتها وإبعاد التهمة عن نفسها، فيظل السؤال عالقا: من المسؤول عن الفساد والاستغلال والاستعباد؟ من المسؤول عن الوضع الذي صارت إليه العائلة (العهارة - القوادة - الإدمان)؟ من قتل تحية وطاهر…؟!

يتموضع السرد العائلي بين المفقود (عائلة ما قبل الهزيمة) والموعود (البحث المتواصل عن الملاك والطاهر)؛ كما يتميز بالرغبة في التحرر (لم يؤلف عباس المسرحية إلا ليتحرر من الشعور بالعار الذي لازمه دوما - ص139) وبالرغبة في التغيير: يكون صانع هذا النوع من السرد مولعا بالحرية، مصمما على ألا ينحني أمام الواقع، متمردا على الأوضاع- وهو بهذا يتصف بأنه جدير بتأمين هذا التواصل بين الرغبة والواقع.

وهنا أسمح لنفسي بملاحظة: الرغبة في التغيير والتحرر قائمة هنا، لكنها ليست مجسدة: فصانع الرواية العائلية هنا لم تتضح لديه بعد معالم العائلة التي يحلم بها: لقد حاول ذلك عندما تزوج الابن عباس من تحية ورزق منها بطاهر، لكن تاريخها الفاسد لا يسمح بأن تكون المرأة الملاك التي يحلم بها وابنه منها لن يكون الرجل الطاهر الذي يريده. ومن هنا يظهر أنه عاجز عن بناء مثاله - وأعتقد أننا اليوم في أمس الحاجة إلى بناء مثالاتنا على مستوى الشخصيات وعلى مستوى العائلة، ولدينا نماذج في الرواية العربية تستحق الاحتفاء والدرس من هذه الناحية: تتقدم "لعبة النسيان" رواية عائلية استطاعت بقوة وثراء كبيرين أن تصنع "الأم-الملاك": امرأة الحب والخير والحياة، وأن تصنع الأب المرغوب فيه (سيدي الطيب ليس هو الأب الحقيقي لكنه أخ الأم ويقوم مقام الأب بالصورة التي تريح الابن)…

تطرح هذه الرواية مسألة أساسية: المذنب والأخلاقي عند نجيب محفوظ. ويمكن التساؤل في إطار هذه المسألة إلى أي حد استطاع هذا الروائي أن يكون مربيا ومحررا لشخوصه وبالتالي لقرائه، خصوصا وأن عباس المثقف والبطل لم يتمكن من بناء نماذجه المثالية التي يحتاج إليها القارئ إلى مواجهة واقعه، في قذراته وابتذاله، وإلى الرفض والتمرد والتحدي، إلا أنه لا يقدم البدائل المستقبلية التي يحتاجها القارئ. ولهذا يمكن السؤال: ماذا يقدم نجيب محفوظ لمستقبل الإنسان العربي، على الأقل من الناحية الأخلاقية والثقافية؟

لا نبتغي تنقيصا من قيمة هذا العمل، فالرواية العائلية تؤسس هنا أدب النقد والنقد الذاتي، أدب الشك والرفض والسؤال. ومن جهة أخرى، نرى ضروريا ومفيدا دراسة الرواية العائلية في كل أعمال نجيب محفوظ، فحضورها فيها قوي بشكل ملفت للنظر…

4 - السرد المذوت:

التذويت شكل تحييلي فرض نفسه في الحقل السردي العربي منذ نهاية الستينات على الخصوص، مع نصوص استطاعت أن تؤسس وضعا اعتباريا جديدا للشخصية الروائية التي صارت مذوتة تنزاح عن نسقها الاجتماعي وتؤسس لنفسها تذويتا ورؤية وممارسة. والتذويت ليس مجرد نسبة خطاب إلى ذات متلفظة بل هو تخصيص يطال جميع المستويات الخطابية والنفسية والاجتماعية. فهو خطاب من خلاله تقول الذات كلامها واستيهاماتها وشكوكها وأحلامها وتمزقاتها…

وإن كان نجيب محفوظ قد شرع في تأسيس هذا الشكل التخييلي منذ أوائل العقد السادس (في "اللص والكلاب"، وفي "ثرثرة فوق النيل")، إلا أنني أعتقد أن هذا الشكل قد أصبح ناضجا وخصبا في أعماله التي أنتجها بعد ذلك العقد، ومنها رواية "أفراح القبة". تتكون هذه الرواية من أربعة فصول، يتعلق كل فصل بإحدى الشخصيات الأربع المحورية، ويعرض فيه السرد بواسطة ضمير المتكلم عن طريق سرد جواني/داخلي، تأتي معه الشخصية مركز التبئير، وهو تبئير داخلي حتما.

وتمكنت هذه الرواية لارتكازها على مبدإ التذويت من الخروج من مأزق الاحتوائية الذي تمثل في الرواية التقليدية التي كان نجيب محفوظ من مؤسسيها. ففي "أفراح القبة" يتم الاستغناء عن السارد (بضمير الغائب)، من جهة لأن محكيات الرواية مسرودة بضمير المتكلم (أوتوبيوغرافيات متخيلة)، ومن جهة ثانية لأن المونولوج الداخلي يهيمن على هذه المحكيات التي وإن كانت أوتوبيوغرافية، إلا أنها ليست مرتبة ومصوغة من خلال البنى المألوفة في الأتوبيوغرافيات التقليدية. وذلك للاعتماد على طرائق وصيغ السرد النفسي، بحيث تقدم لنا الشخصية حياتها من خلال نفسيتها، الأمر الذي يجعل هذا التقديم مكسوا بحمولات وآثار نفسية لها أثر كبير على إيقاع السرد وأسلوبه.

ينمحي السارد بأقصى درجة تاركا المكان لوعي شخصيته المكشوف، وبذلك أضحت مكانتها قوية، فهي لم تعد تؤدي فقط وظيفة "الفعل" بل أضحت تأخذ مبادرة الكلام مبرزة موقفها وشكوكها واستفهاماتها…

سنحاول الآن أن نبين بعض المستويات التي يشملها التذويت. نجد أولا أن الذات أضحت شكلا-وسيلة لتذويت المادة الروائية، بحيث صارت لها القدرة على امتلاك الواقع والنظر إليه من منظورها الذاتي. فلم نعد أمام ذلك السارد المهيمن العالم بكل شيء والمالك وحده لكل الواقع ولكل الحقيقة، بل أصبح كل كائن تخييلي يملك حقيقته ومنظوره الخاص. وهكذا لم يعد الخطاب الروائي، بفضل التذويت، يعتقد بالحقيقة الواحدة الكاملة والمطلقة قدر ما يعمل على تنسيب الحقيقة والنظر إليها في تعددها. ونقدم هنا مثالا على ذلك موقف الأب وموقف الأم من المسرحية ومن الواقع الذي تقدمه والذي هو واقعهما:

يقول الأب وهو يستعد لمشاهدة المسرحية (واقعه وواقع عائلته من منظور ابنه الكاتب المسرحي) صحبة زوجته.

"رغم استهتاري توترت أعصابي. فيم تهمني مسرحية وأنا لا تهمني الحياة! آه هاهو الستار يرفع عن بيتنا. بيتنا دون غيره. هل أراده العجر وردي كذلك أو أنه عباس؟! الأب والأم والابن. إنه ببساطة ماخور ونادي قمار. يوجد أكثر من الجريمة والخيانة. الأم تبدو عاهرة بلا ضابط. علاقتها تتتابع مع المدير والمخرج والناقد وطارق رمضان! ذهلت. أنفاسها تتردد في ثقل وخشونة. إنه الجحيم. استمتعي برأي ابنك فيك. رؤيته تتجلى بوحشية عن أبيه وأمه. من يتصور أن رأسه المتزمت يحوي هذه الخرائب كلها؟ إني سعيد برأيه في أمه. سعيد بإطلاعها على رأيه فيها. المسرحية تنكل بي وتنتقم لي… ثم إنه لم يفهمني. إنه يقدمني كرجل منحل. كرجل واجه تحديات الواقع بالانحراف. لست كذلك يا غبي. لم أستو مركبا لكي أنحل. نشأت بسيطا بدائيا حرا. نشأت شاهدا ومدينا للنفاق. ذاك ما لا يمكن أن تفهمه…" (ص 74-75).

وتقول الأم:

"سرعان ما رأيت البيت القديم ترفع عنه الستار. تتابعت الأحداث. تجسدت أمام عيني عذابات حياتي… وجدتني مرة أخرى في الجحيم. وأدنت نفسي كما لم أدنها من قبل. قلت هنا كان علي أن أهجره. هنا كان علي أن أرفض. لم أعد كما كنت في ظني الضحية. ولكن ما هذا الطوفان من الجرائم التي لم يدر بها أحد؟ وما هذه الصورة الغريبة التي يصورني فيها؟ أهذا حقا هو رأيه في؟ ما هذا يا بني؟ إنك تجهل أمك أكثر مما يجهلها أبوك وتظلمها أكثر منه… لا… لا… إنه الجحيم نفسه… تراني عاهرة محترفة وقوادة؟…أهو الخيال أم هو الجحيم؟ إنك تقتلني يا عباس. لقد جعلت مني شيطان مسرحيتك…" (ص 113-114).

يظهر الاهتمام كبيرا في هذه الرواية بسيكولوجية الشخصيات، وهو كبير بالمقارنة مع الروايات التي ألفها نجيب محفوظ وخاصة قبل "اللص والكلاب". فالملاحظ أن ظهور المسرحية لعب دورا كبيرا في حدوث أزمة فرضت استحضار الماضي ومناقشة ما حدث وإعادة النظر في الأشخاص والآراء والقناعات… ويحدث هذا النقاش جهرا في المسرح وفي البيت،لكنه في جزء كبير يحدث سرا في الداخل كما في النموذجين أعلاه. وهذا ما يفسر هيمنة طرائق ومناهج سردية مذوتة تندرج ضمن ما نسميه بـ" السرد النفسي": لم نعد أمام طرائق سردية تتقصد نسخ الواقع الخارجي وتجسيد الحضور، بل نحن أمام مناهج سردية تنحو إلى المرجعية الذاتية وتشخص الغياب والحياة الداخلية.

من الملاحظ أن السرد والحوار يهيمنان على هذه الرواية كما هو الأمر في أغلب روايات نجيب محفوظ، إلا أنهما في هذه الرواية غالبا ما يقدمان ويسترجعان من خلال داخلية الشخصية. وبمعنى آخر، يكاد يقل السرد الوقائعي الذي يتتبع الشخصية وهي "تفعل وتتحرك" في العالم الخارجي، ليتم التركيز على ما "ينفعل" في داخلية الشخصية عند حوارها لذاتها، لتاريخها، للآخرين…

يستثمر السرد النفسي في هذه الرواية أهم طرائق تشخيص الحياة الداخلية كما حددتها وصنفتها د.كوهن (1978) (المحكي النفسي، المونولوج الداخلي بكل أشكاله -). إلا أن الأهم هو هيمنة المونولوج التذكري، وهو أمر يفسره أن المسرحية فرضت على الشخوص المحورية استعادة تجربتها ومناقشتها داخليا. وقد منح هذا المونولوج للمحكي إيقاعا حادا ومسلكا ذا فعالية درامية كبيرة في إبراز التشكك والحيرة والتردد والاضطراب، بشكل يبدو معه المحكي كأنه ينحكي وحده. كما نجح هذا  المونولوج في تكسير الحدود الفاصلة بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، بحيث يتردد الوعي بين الداخل والخارج، ماحيا الخط الفاصل بين المونولوج والسياق السردي، وفاسحا المجال للانفعالات والاستفهامات والتعجبات.. كما أن هذا المونولوج التذكري أكسب الرواية خاصية بنيوية أساسية تتجلى في الوظيفة المتميزة الممنوحة داخل خطاب التذكر لتلك الحلقة من الماضي العائدة إلى الذاكرة. فهذه الحلقة تلعب دور نوع من المفجر الذي يسمح بسيل من الذكريات لماض بعيد بالبروز في الذهن، مقدما إياه من خلال شخصية مطبوعة جوهريا بكل ثقل ماضيها.

إن الشخصية في "أفراح القبة" شخصية مأزومة ومتوترة، وبذلك يصبح المحكي فيها نوعا من الانخراط ضمن متاهات الزمان (الماضي --< الحاضر --< المستقبل): فيتقدم الفعل الماضي كأنه حاضر خفي، ويتقدم الماضي موحيا بالحضور، أما الحاضر فيكون حاضرا في علاقته بالماضي، لكن إذا اتخذ الماضي صفة الحضور فهو يتصف بصفة المستقبل، وكل هذا يكسب الرواية فورة دراماتيكية مفتقدة في الغالب في الرواية التقليدية.

وتجدر الإشارة إلى أن التذويت إذا كان يتمثل في تحول وجهة النظر من السارد إلى الشخصية، فإن ذلك لا يعني أن الذات هي الشخصية بوعيها الشخصي فحسب، بل ثمة ذات أو ذوات أخرى وراء الذات الظاهرة. وبهذا لا يمكن فصل التذويت عن الحوارية، فمحكي كل شخصية هو حوار مع المسرحية، مع مواقف كاتبها، هو حوار بين الشخصية ونفسها وبينها وبين الآخرين…

تتميز رواية "أفراح القبة" بالتدعيم الجمالي للمبدإ الحواري، وهي بهذا رواية بوليفونية، بحيث تتقابل وتتعارض الملفوظات، ويترجم كلام الشخصية العلاقات المتوترة والنزاعات القائمة بين هذه الشخصية والشخصيات الأخرى وبينها وبين نفسها… وهناك تقابل الأصوات وتداخلها وتعارضها (الصوت الداخلي/الصوت الفني/ الصوت الاجتماعي/الصوت الفردي/الصوت السيكولوجي/ الصوت المتزن/ الصوت المضطرب…). فصوت الشخصية يتقدم ردا على صوت آخر (كما في النموذجين أعلاه) بهذا القدر أو ذاك من التكرار الجزئي والتصحيح والاستفهام والتعجب؛ وغالبا ما يكون الصوت إعادة إنتاج تنحو نحو التباعد والتنازع والتعارض (بالسخرية، والسجال، والإهانة، والاستفهام والتعجب…)

وقد يكفي أن نقف عند جانب المعجم، فنكتشف أن استعمال المعجم يظهر أصواتا مختلفة ومتعارضة: إذا أخذنا عبارة "المسرحية"، فسنلاحظ أنها تستعمل في سياقات مختلفة ومن منظورات متعددة، فهي تظهر في صوت طارق بتشككات أخلاقية، وفي صوت مدير المسرح بتأبيدات جمالية، كما تظهر بمظاهر مختلفة في الأصوات الأخرى، وهذه الترسيمة تبرز ذلك:

 

طارق رمضان :  "ما هي بمسرحية، إنها اعتراف..(ص8)… إنه مجرم لا مؤلف(ص9)

  مدير المسرح : "المسرحية خيال (ص48)، المسرحية مسرحية لا أكثر من ذلك(ص49)

المخرج      :  "المسرحية مرعبة" (ص6)

 الأب  :  "المسرحية تنكل بي وتنتقم لي" (ص 75)

الأم :   "لقد جعلت مني شيطان مسرحيتك" (ص 113)

الابن المؤلف :  "إنها مسرحية ولا يجوز إلقاء نظرة خارج نطاقها" (ص171)

 

لكن وإن اعتبرنا هذه الرواية بوليفونية، متعددة الأصوات، يتراجع فيها السارد التقليدي وتتقدم فيها الشخصية كاسحة على ما يبدو ميدانه، فإن هذا لايعني أن هذا السارد قد اختفى تماما. فبالرغم من أننا لا نسمع له صوتا في هذه الرواية، إلا أن هذا لا يمنع أن هناك يدا خفية تقف وراء السرد وتنظم الفصول وتمنح الكلمة للشخصيات وتختار الخيار الحاسم أن تقدم أصواتا متعددة مختلفة ووجهات نظر متماثلة أو متعارضة… فهل من حقنا القول إن البوليفونية، على الأقل هنا، ليست إلا متغيرا -وإن كان الأخصب- من متغيرات السرد التقليدي عند نجيب محفوظ، حيث يوجد دوما سارد إله منظم، قوة عليا تسير وتنظم وتختار…

ومع كل ذلك يبقى أن الكتابة الروائية لما بعد الهزيمة صارت مذوتة بوليفونية مكنت الذات من استعادة صوتها الذي كان مغيبا وراء الخطابات القاهرة الآمرة وصار بإمكانها الشك والسؤال والنقد والسخرية، بل وتفعيل كل إنسانيتها. ونعتقد هذا الأمر من الإنجازات الكبيرة التي ينبغي استثمارها في حاضرنا ومستقبلنا، ذلك لأن الإنسان في مجتمعنا لا يقول إلا ما قاله عباس في هذه الرواية: "أشعر بحنين جارف إلى الحرية… إلى الإنسانية المفقودة…" (ص 164). إن تحرير أصواتنا من الخطابات القاهرة الآمرة شرط أساسي لتجاوز إشكالية الهزيمة ولبناء المستقبل - تتساءل الرواية في استنكار: "وحتى الهزيمة لم تزعزع أركاننا، ومادامت الأناشيد لم تتغير ولا تغير الزعيم، فماذا تعني الهزيمة؟" (ص 129).

وبهذا يمكن أن نستمد الحياة من هذا النوع من الأدب، بما أنه الخطاب الذي يقول ما لا تقول الخطابات الأخرى ويواجه الشر والموت والاستعباد والإكراه… على النقيض تماما من الخطابات المستكينة والمهادنة والمتحايلة.