الخيال في
الفلسفة العربية الإسلامية
مصطفى كاك
عندما يتفحص الباحث تاريخ الفلسفة الإسلامية
–كما صاغته الكتابات المتداولة- يلاحظ أن ثمة أمرا أساسيا كان محور السؤال
والإجابة، ونقطة الانطلاق والوصول في نفس الوقت، ويتعلق هذا الأمر بالخلاف بين
الوحي الديني والحكمة الفلسفية أو بعبارة أوضح بالاختلاف بين النقل والعقل.
وقد اتخذ تاريخ الفلسفة الإسلامية صورة إجابة عن
هذا الخلاف الأساسي، وهي إجابة تنطوي على المطابقة بين العقل والنقل، وإثبات وحدة
الحقيقة وهوية الفكر. ومعنى ذلك أن تاريخ الفلسفة يظهر كما لو أنه لم يوجد إلا
ليتحقق من خلاله التطابق ويرتفع في الأخير كل اختلاف، بحيث لا مكان للخلاف
والاختلاف في تاريخ الفلسفة.
هذه الصورة التي يعكسها تاريخ الفلسفة
"الرسمي"، ليست هي الصورة النهائية، أو الوحيدة، ذلك أننا نجد وجوها
عديدة للاختلاف حفلت بها كتب الفلاسفة أنفسهم، مثلما نجد إشكالات ضمنية قد حجبتها
إشكالية العقل والنقل. ومن الملاحظ هنا أن أغلب المؤرخين العرب للفلسفة الإسلامية
قد سقطوا في ذات المنطق الذي وجه نظرة المستشرقين إلى الفكر الإسلامي، حيث أن
إشكالية العقل والنقل قد تم دائما تناولها من وجهة نظر النزعة الأوروبية المتمركزة
حول العقل. وكانت نتيجة ذلك، البحث باستمرار في الفلسفة الإسلامية عن العناصر التي
تؤيد تطابق النص الديني مع العقل.. وحتى لو كان هذا النص يستند في أغلب أجزائه على
الإشارة والصورة والرمز أو الحكاية والمثل فينبغي "تأويله" كي ينسجم مع
مقتضيات العقل المركزي. هذه النتيجة ستؤدي إلى اعتبار النقل نقيضا للعقل (وهي فكرة
عمل أغلب المستشرقين على الترويج لها –انطلاقا من نظرة قدحية للخيال ولعناصر
اللامعقول)، ومن ثمة وقعت التضحية بالكثير من عناصر الموروث القديم، وخصوصا
العناصر التي كان لها الشأن الكبير في صيرورة الفكر العربي الإسلامي، وهي تلك التي
يمكن إدراجها ضمن مفهوم الخيال والخيال الرمزي.
وقد لاحظ الأستاذ الجابري أن تاريخ الفلسفة
"الرسمي" غالبا ما أهمل تلك الأمشاج من الآراء الفلسفة والدينية التي
تميز بها الشرق، لأن "تاريخ الفلسفة "الرسمي" المعاصر تحكمه
"المركزية الأوروبية" وبالتالي فهو لا يهتم إلا بالطريق الذي سلكته
الفلسفة في بلاد اليونان موطنها الأصلي إلى روما وأوربا في العصور الوسطى ثم أوربا
الحديثة. أما الطريق الذي سلكته الفلسفة من أثينا إلى الشرق خلال فتوحات الإسكندر
وبعدها إلى أن استقرت في بغداد عاصمة العباسيين فهو لا يهتم بها".
هناك كذلك نوع من التواطؤ بين التاريخ
"الرسمي" للفلسفة القديمة مع ما يطلق عليه الأستاذ الجابري
"التاريخ الركامي، والمقصود به التاريخ المشحون بالآراء المنحولة والمطبوع
بتداخل الأزمنة الثقافية والذي تقدمه كتب "الملل والنحل" العربية
انطلاقا من عصر التدوين".
وقد حاول "العقل العربي" باستمرار
إثبات معقوليته، بنفي اللامعقول (والنقل) انطلاقا من تصور ملتبس وغامض عن عقل
خالص. ومسألة الحوار بين العقل والخيال لا تعدو بعض الحالات الاستثنائية المندرجة
ضمن إطار التصوف أو الحكمة الإلهية، بعبارة كوربان. ولقد أدى نفي الخيال إلى عودة
اللامعقول والمنقول (أو "المكبوت") متظاهرا بكيفيات مختلفة ومتعددة.
وبذلك فمسألة الهوية والاختلاف –كمسألة أساسية في الفكر الفلسفي الإسلامي- يتوقف
تحليلها على المعالجة الفعلية لإشكالية العقل والخيال، انطلاقا من الخيال نفسه
ككيان أنطولوجي له قوته، وبعيدا عن التمركز العقلي.
تثبت الدراسات التي قام بها مرسيا إلياد كيف
أننا "بصدد فهم شيء لم يكن بمقدور القرن التاسع عشر حتى الإحساس به، وهو كون
الرمز والأسطورة والصورة تنتمي إلى جوهر الحياة الروحية. وأنه بالرغم من قدرتنا
على كبتها وإعطابها والحط منها لا نستطيع اجتثاتها بصفة نهائية". إن الأساطير
والرموز –رغم ما تعرضت له من اختزال وقهر- ما تزال تقاوم وتلعب دورا في حياة البشر
من خلال الشعر والأدب.. بل إن الأدب لدليل على استمرار التعبير الأسطوري عن الحياة
الروحية من خلال الأشكال الرمزية.
فمنذ الفترات القديمة والإنسان يبحث عن فجوات
وانزياحات خارج نطاقه التاريخي وخارج الأنماط الفكرية الجاهزة. وهذا لا يعني ضياعه
ككائن بشري، كما لا يعني بأية حال التبدد النهائي لـ"ماهيته" أو
"هويته" –بل إن الخروج عن الشروط التاريخية لا يعني ضرورة التوحش، كما
أعتقد الفكر المتمركز حول العقل أو التاريخ الأوربيين، ذلك أن "من أبرز مظاهر
التمحور على الذات والتركيز عليها، انتقاء التواريخ والأحداث "الهامة"
استنادا إلى مركزية، غالبا ما تكون هي المركزية الأوربية. فقد جرت العادة على تبني
التحقيبات التاريخية الشائعة والقائلة بأن ثمة "عصرا قديما" وآخر
"وسيطا" و"أزمنة" حديثة و"معاصرة". وانطلاقا من ذلك
يتم تحقيب التواريخ الأخرى تحقيبا مطابقا لا يحترم خصوصية هاته الأخيرة وزمانها
الفعلي. وبهاته الكيفية يتم كبت تلك التواريخ الأخرى وتدمج في تاريخ واحد هو
التاريخ كما يراه الغرب".
وقد دفع "التمركز الأوربي"، حول
التاريخ وبالتالي حول العقل بفيلسوف "أسطوري" مثل نيتشه إلى مهاجمة
التاريخ (التقدمي والمتصل) وكذا الحس التاريخي، باعتبارهما كانا دوما مصدر حصار
لقوى الحياة، ذلك "أن الإفراط في التاريخ –كما يقول نيتشه- كان يبدو خلال
جميع الفترات معاديا وخطيرا على الحياة"، مثلما "أن هناك درجة من السهاد
والاجترار والحس التاريخي تضر بالكائن الحي، وتنتهي بالقضاء عليه سواء تعلق الأمر
بإنسان معين أو بأمة أو بحضارة".
من المؤكد أن الإنسان عندما يكسر الزمن يستعيد
بذلك لغة "البداية" و"الأصل" "الأول" وتجربة
"الفردوس المفقود" فالأحلام وأحلام اليقظة ومختلف صور الحنين والرغبات
اللامعقولة، والقوى الغريبة والخارقة التي لا حصر لها، تدفع بالوجود الإنساني،
المقيد بالشروط التاريخية –داخل عالم روحي لا حد لغناه بالقياس إلى العالم المنغلق
في "لحظته التاريخية". فهي تلهمه صورا ورموزا تفوق في قوتها الأنطلوجية
قوة المفهوم أو التصور العقلي.
من هنا فاللاشعور –كما أثبتت ذلك تجارب وخبرات عديدة-
يعتبر أكثر شاعرية، ويمكن القول كذلك إنه أكثر حكمة وفلسفة، وذلك بقدر ما هو
أسطوري. فليس من الضروري دائما معرفة الأساطير لكي نعيش الموضوعات الأسطورية
الكبرى، فاللاشعور ليس مسكونا فقط بالمسوخ، بل إن للآلهة والملائكة والأبطال
والحوريات مكان فسيح فيه، هذا بالإضافة إلى أن مسوخ اللاشعور هي بدورها أسطورية،
إذ تشغل نفس الوظيفة التي كانت تقوم بها داخل الأساطير، وهي مساعدة الإنسان على
الانعتاق بنفسه والسمو نحو الكمال.
كثيرا ما قيل إن الفلاسفة أكثر الناس أحلاما، أي
أكثرهم صورا ورموزا، من غير أن يؤخذ هذا الكلام على محمل الجد. وبالفعل، فمنذ
أفلاطون إلى اليوم والمدن الفاضلة تشيد ويعاد في كل مرة بناؤها. فالجمهورية
والمدينة الفاضلة وجزيرة حي بن يقظان واليوتوبيا، ليست سوى أحلام غنية بالصور
مكثفة الرموز.
لقد اتخذ عمل الخيال في الفلسفة منحى غير الذي
رسخه تاريخ الفلسفة التقليدي. فالنص الفلسفي يزخر بالاستعارات والمجازات والصور
الرمزية. وليست المفاهيم سوى استعارات مغلفة باستعارات أخرى شدت إليها الانتباه
حتى نسينا أنها استعارات للاستعارة.
ليس العقل إذن هو مركز الفكر كما أوهمت بذلك
الميتافيزيقا الغربية. ودراسة الخيال الرمزي في الفلسفة تساعد على تبديد هذا
الوهم، كما أنها تفتح الأفق لتجاوز التعارض التقليدي بين الخيال والعقل. وقد بين
هايدغر إلى أي حد يصعب المقابلة بين الميثوس واللوغوس. فهما في الأصل لا يتعارضان،
بل إن "الأسطورة تريد أن تقول: قولا مبينا. والبيان بالنسبة للإغريق هو إبراز
وإظهار المظهر وما يدخل في تجليه. إن الأسطورة هي ذاتها من خلال ما تقوله أي ما
يظهر عبر انكشاف مطلبها. ميثوس (Mythos) ولوغوس (Logos)، لا يدخلان بأي حال –كما اعتقد هذا الخليط من تاريخ الفلسفة- في
تعارض سببه الفلسفة ذاتها. وبالضبط فالمفكرون الأوائل من الإغريق (بارمنيدس ش.8)
يستعملون ميثوس ولوغوس بنفس المعنى. إن ميثوس ولوغوس لا يتباعدان الواحد عن الآخر،
إلا عندما يعجز كل منهما عن الاحتفاظ بوجوده الأولي".
إن ما يغيب فعلا في التاريخ "الرسمي"
للفلسفة هو الدور الذي لعبه الخيال في تشكل الآراء الدينية والأفكار الفلسفية.
ويهمنا هنا أن نفحص نزعة التمركز العقلي انطلاقا من الخيال كإشكالية فلسفية طبعت
العصر الوسيط وبالخصوص في الفلسفة الإسلامية.
ـ I ـ
من الممكن أن نتساءل أولا: كيف ولماذا تمت إثارة
الصراع الموجود سابقا لدى اليونان بين اللوغوس والميثوس، بين العقل واللاعقل
بكيفية مجددة ومخالفة نسبيا، داخل الثقافة العربية الإسلامية، من خلال التوتر بين
العقل والنقل؟
لقد كانت مسألة الحقيقة –كقضية ميتافيزيقية
تتعلق بمصادر المعرفة وأسسها- توجب –برأي البعض- "تحديد القيمة المقارنة
للعقل والوحي، باعتبارهما ينبوع المعرفة والضامن لها(…) وبهذا الاعتبار يمكن تحديد
سلم أوضاع على محور مزدوج الاتجاه، شطر موقف نقلي من جهة، وتطلع عقلي من جهة
أخرى".
إلا أن الأمر لم يكن ليقف عند هذا الحد. فموضوع
الإشكال الذي هو النص القرآني كان مصدر خلاف واختلاف، لا بين المتكلمين وخصومهم
فحسب، بل كان الأمر كذلك بالنسبة للفلاسفة والمتصوفة. ذلك أن "كلام كل كتاب
وأخبار كل نبي لا يخلو من احتمال تأويلات مختلفة لأن ذلك موجود في الكلام بنفس
طباعه – ومعلوم أن الكلام كلما كان أفصح وأغرب وأحسن نظما وأبعد مخرجا كان أشد
احتمالا لفنون التأويلات وضروب التفاسير". فالقرآن إذن، وهو "أفصح
الكلام وأوجزه وأكثره رموزا وأجمعه للمعاني الكثيرة"، موضوع خصب لتعدد
التأويلات وبالتالي للاختلاف.
وعلاوة على ذلك، عرف تاريخ الفكر الإسلامي
توترات أساسية على مستوى الصراع الديني والفكري بين الاتجاهات والفرق بحيث اختلفت
المذاهب وتعددت الاجتهادات وكثرت التأويلات. لكن لا ينبغي رد هذه الاختلافات دائما
إلى المستوى المعرفي؛ فالأمر سيتعلق –أحيانا كثيرة- بمستويات مغايرة. فالخلاف
–المرتبط بالتأويل- يتخذ لدى بعض الفلاسفة بعدا أنطولوجيا بالدرجة الأولى. وبذلك
سيكون من باب التعسف الوقوف عند تحليل الإشكال الأساسي على المستوى المعرفي فقط.
ومما يدل على تنوع مستويات الإشكالية هذا
التوالد في معضلات الفكر الإسلامي، حيث يجد الباحث أمامه إشكالية العقل عديمة
القيمة – إذا أخذناها في مظهرها المعرفي ولم نعتبر المعضلات التالية: الظاهر
والباطن، الحقيقة والمجاز، الوحدة والكثرة، الهوية والاختلاف، المعقول والمتخيل.
صحيح أن أغلب هذه القضايا ترتد إلى اصطدام الأثر
الإغريقي بالمعتقد الإسلامي وبالتالي إلى اصطدام العقل البرهاني بالخيال الرمزي.
إلا أن الأمر ليس دائما بهذا الوضوح. فثمة قضايا ولدتها طبيعة الفكر الإسلامي
ذاته.
إذا حصرنا الأمر في الفلاسفة فسنجد أن قضيتهم
كانت تتوقف على تقديم حل يرضي الفلسفة والدين معا. وهذا يعني تقديم تفسير لمسألة
النبوة والوحي والإلهامات. وهي أمور ورد بها السمع ولم يثبتها العقل. هذا بالإضافة
إلى كون النبوة والوحي يحدثان التوتر على المستويين الأنطولوجي والمعرفي.
سنرى أن هذا التوتر قد ارتبط عند الفلاسفة من
جهة بالمفاهيم والنظريات التي صاغها هؤلاء كإجابة على الأسئلة المتعلقة بالوحي
عموما: كيف يمكن تمثل الوحي؟ بأي ملكة يتم ذلك؟ ما الفرق بين المعرفة الحاصلة عن
طريق الوحي والإلهامات والمعرفة الحاصلة عن طريق النظر العقلي والاستدلال؟
ومن جهة ثانية، يرتبط توتر العقل والنقل
بتمييزين أساسيين: الأول يتعلق بالتمييز بين المخيلة والنظر العقلي، أما الثاني
فيتعلق بالتمييز بين النبوة والحكمة، وهما تمييزان على مستوى الأنطولوجيا. إذ ما
هي العلاقة بين القوة المتخيلة والقوة الناطقة أو العقل؟ وما الصلة بين النبوة
والفلسفة؟ هل ثمة اتصال أم انفصال أم تقابل؟
ستتأرجح مواقف الفلاسفة بين هذه التمييزات.
وسيقوم الخلاف أساسا حول الكيفية التي عولجت بها هذه المسائل. ونجد هناك ثلاثة
مواقف: أحدها أنكر كل ما يأتي من جهة الخيال من وحي ونبوة وإلهامات ورؤى، واعتبر
ذلك أمرا معقولا واعتد بالعقل وحده، وقد تزعم هذا الاتجاه الفلاسفة
"الطبيعيون" وعلى رأسهم أبو بكر الرازي الطبيب. والموقف الثاني حاول
الجمع والتوفيق بين المعقول والمنقول، إما بجعل المعقول فوق المنقول وإخضاع كل ما
يأتي من جهة الخيال للعقل. وهذا موقف الفارابي، وإما بجعل المعقول تابعا للمنقول
لكن بالإعلاء من شأن الخيال واعتبار الأمور اللامعقولة هي أساس وجود المعقول ذاته،
وبذلك يكون النقل مجالا لفعل الخيال، وهذا موقف ابن سينا. وأما الموقف الثالث،
فإنه يتميز بالفصل بين العقل والنقل، برفع التعارض بين الدين والفلسفة من خلال وضع
الحدود-بالخصوص الحدود المعرفية- بين العقل والخيال، بين الخطابة والبرهان، وبين
العامة والخاصة ويتمثل هذا الموقف في استبعاد التصديق الجدلي للمتكلمين لكونه يخلط
بين الخيال والعقل، وهذا موقف ابن رشد.
من الغريب أن تفرز الثقافة العربية الإسلامية
اتجاها فلسفيا طبيعيا. وقد حصل هذا خلال القرن الثالث للهجرة مع فيلسوفين على
الحقيقة هما ابن الراوندي والرازي الطبيب. ومن الممكن أن يجد الباحث لدى بعض مفكري
المعتزلة بداية للتطرف العقلاني، والتنكر للنقل بصفة مطلقة. ولا أدل على ذلك من الآراء
التي عبر عنها تلميذ للكندي هو أحمد بن الطيب السرخسي.
يبدو أن السرخسي من أوائل الذين شككوا في قيمة
النقل واعتدوا بالعقل. فهذا المفكر سمح لنفسه في مجتمع إسلامي أن يتطرق في أحاديثه
مع الخليفة إلى مباحث تنطوي على لون من المروق بالنسبة لما جاء به الوحي. وثمة
رواية للبيروني تقول إن السرخسي لم يقتصر في التصريح بشكوكه على أحاديثه الخاصة مع
الخليفة، بل دونها في رسائل عديدة اتهم فيها الأنبياء بالتدجيل.
ومن المؤكد أن ميولات السرخسي نحو الاعتزال تبدو
مماثلة لميول أستاذه الكندي، كما أن الاهتمامات العقلية المنبثقة عن هذه الميول،
مقرونة بخوضه في شؤون الفلسفة، كانت على ما يبدو من العوامل الأساسية في شكوكه
الدينية، وبصورة خاصة في قدحه في النبوة.
أما ابن الراوندي، فقد أنكر مجمل القضايا
الغيبية المتصلة بالوحي والمعجزات. ويمكن تلخيص موقفه في عبارات وردت في مطلع
كتابه الزمردة تقول: "إنه قد ثبت عندنا وعند خصومنا أن العقل أعظم نعم الله
سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يعرف به الرب ونعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي أو
الترغيب والترهيب. فإذا كان الرسول يأتي مؤكدا لما فيه من التحسين والتقبيح
والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته، إذ قد غنينا بما في العقل
عنه، والإرسال (أي بعثة الرسل) على هذا الوجه خطأ. وإن كان (ما يأتي به الرسول)
بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط منا الإقرار
بنبوته".
هذا التعصب للعقل الخالص دون غيره من القوى
وبالضبط الخيال دفع بالرازي إلى إنكار الوحي والمعجزات بل وإلى مهاجمة النبوة. وقد
كان الرازي من أكبر أطباء الإسلام والعصور الوسطى على الإطلاق. إلا أن حرصه
العقلي، مع ذلك، يتجلى في حيازة لقب الفيلسوف، والتسمي باسم "الفيلسوف".
فهو لما أحس أن البعض من معاصريه ينكرون عليه ذلك اللقب سارع بالرد عليهم. وبين في
رسالة خاصة مميزات الفيلسوف العلمية والعملية، ذاكرا – على سبيل إثبات قوة التأليف
في العلم، جملة من الكتب التي ألفها. إلى حد أن يقول: "فإن لم يكن مبلغي من
العلم المبلغ الذي أستحق أن أسمى فيلسوفا فمن هو ليت شعري ذلك في دهرنا كله".
هذا الاعتداد بالعقل الخالص دفع الرازي إلى
اعتبار الفلسفة هي السبيل الوحيد لإصلاح الفرد والمجتمع. وأما الأديان فهي مدعاة
التنافس والتطاحن والحروب. وقد كتب في هذا الصدد كتابين اعتبرهما البيروني بين
الكفريات، وهما: مخاريق الأنبياء أو حيل المتنبئين ونقض الأديان أو في النبؤات.
وفي الفصل الثامن العشر من كتاب الطب الروحاني،
ينكر الرازي كل عمل الخيال من خلال إنكار الرغبة الإنسانية؛ حيث يتحدث عن الرتب
والمنازل "الدنيائية"، مؤكدا أن "أصلح الحالات حالة الكفاف
والتناول لذلك من أسهل ما يمكن من الوجوه وأسلمها عاقبة…"، وهذا غير صحيح إذا
استفتينا أحلامنا ورغباتنا. ولذلك انتقد عليه حميد الدين الكرماني في الأقوال
الذهبية هذا الموقف مبينا أن النفس: "ترى أن الغالب أحسن حالا من المغلوب،
والآمر أعلى درجة من المأمور، والقاهر أعز من المقهور، وعلى ذلك فلا تطلب إلا
الغلبة والقهر والأمر والسلب والتطاول من دون الخضوع، والتذلل والخشوع وطلب
الكفاف".
يشيد الرازي بالعقل إشادة قاطعة. فالعقل عنده هو
المرجع الأول والأخير في كل شيء: أمور الدين والألوهية وأمور الدنيا والحياة. يقول
الرازي في بيان فضل العقل: "إن البارئ (عز اسمه) إنما أعطانا العقل وحبانا به
لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والأجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله وبلوغه..
فبالعقل فضلنا على الحيوان غير الناطق حتى ملكناها وسسناها وذللناها وصرفناها في
الوجوه العائدة منافعها علينا وعليها، وبالعقل أدركنا جميع ما يرفعنا ويحسن به
عيشنا ونصل إلى بغيتنا ومرادنا.. وبالجملة فإنه الشيء الذي لولاه كانت حالتنا حالة
البهائم والأطفال والمجانين".
على هذا الاعتبار فالرازي لا ينتقص من الحيوانات
والأطفال والمجانين لكونهم فاقدي عقل، بل لأنهم أكثر انجذابا للهوى والطباع،
يتبعون اللذات ويشبعون الرغبات الخيالية. ولذلك فسلطة العقل هي السلطة العليا – لا
ينبغي أن يخرج عنها أحد، وبالتالي فلا مكان للدين أو للنبوة.
ـ II ـ
لقد بينت الدراسات المعاصرة في تاريخ الأديان
مدى الروابط التي تشد الإنسان إلى المقدس والغيب واللامعقول. ومعنى ذلك أن هذا
الهوى والنزوع ليس مرحلة عابرة في حياة البشر ووعيهم، بقدر ما أنها تشكل أساسا
للوعي. فلا توجد ثقافة من دون مقدسات ومدنسات – كما لا يوجد وعي بدون أساطير
ورموز. فالعقل يحمل دوما في طيه لا معقوليته. بل إن كل عقل منبن على نقل سابق. وهو
ميل عميق للنفس إزاء الأصل والبدايات الأولى. والإشكالية الأساسية كانت دوما هي:
كيف يمكن للمعقول أن يسير إلى جنب اللامعقول؟ كيف يمكن للعقل أن يتجاور مع الخيال؟
والحكمة مع الدين؟ من غير أن ينفي أحدهما الآخر؟
أدرك فلاسفة الإسلام هذا الإشكال وعملوا على حل
المعضلات المترتبة عنه. وسوف يكون للخيال دور أساسي في هذه الحلول، سواء تعلق
الأمر بالنبوة أو الوحي أو النقل جملة. وعند الفارابي نجد نظرية متكاملة في الخيال
من حيث الموضوع والمفهوم والوظيفة. اعتقد أبو نصر الفارابي أن الغيبيات كلها موضوع
للخيال. وبذلك وجد الطريق لتفسير الوحي والمنامات والإلهامات وكذا النبوة. فميز من
جهة المعرفة –مقتديا بأرسطو- بين معرفة حسية ومعرفة عقلية. ويهمنا هنا ما يقوله عن
"الحس المشترك" باعتباره أول الحواس الباطنة – وهو يدعوه أحيانا الحاس
المشترك، والحاسة المشتركة. وسمي كذلك لكونه يقبل صور المحسوسات المنطبعة في
الحواس الخمس، فهو بذلك قابل مشترك لما انطبع في هذه الحواس.
يقرر الفارابي للحس المشترك ثلاث وظائف، الأولى
هي قبول الصور التي انطبعت في الحواس الخمس، وكأن هذه الحواس، رواضع للحس المشترك،
والثانية الإحساس بهذه الصور – وهذا الإحساس لا يتم في الحس الظاهر، بل في الحس
المشترك، والثالثة هي الجمع بين صور المحسوسات والمقارنة بينها، وتمييز بعضها عن
بعض. فإذا كان النظر يميز لونا من لون والسمع يميز صوتا من صوت، فالحس المشترك
يميز لونا من صوت من طعم.
وأما القوة المتخيلة، وهي التي تلي الحس
المشترك، فيحدد الفارابي منزلتها قياسا إلى قوتين، واحدة تحت والأخرى فوق، وهما
الحاسة والناطقة: "والقوة المتخيلة متوسطة بين الحاسة والناطقة، وعندما تكون
رواضع الحاسة كلها تحس بالفعل وتفعل أفعالها، تكون القوة المتخيلة منفعلة عنها،
مشغولة بما تورده الحواس عليها من المحسوسات وترسمه فيها. وتكون هي أيضا مشغولة
بخدمة القوة الناطقة، وبإرفاد القوة النزوعية".
من المعلوم أن الإنسان يحس بالقوة الحاسة ما هو
ملموس، مثل الحرارة والبرودة والطعوم والروائح والأصوات والألوان وجميع المبصرات.
فيحدث من ذلك نزوع إلى ما يحسه، فيشتاقه أو يكرهه. ثم يحدث فيه بعد ذلك قوة أخرى،
يحفظ بها ما ارتسم في نفسه من المحسوسات بعد غيبتها عن مشاهدة الحواس لها، وهذه
القوة هي المتخيلة. ووظيفة هذه القوة أن تركب وتفصل، فهي من جهة تركب المحسوسات
بعضها إلى بعض، ومن جهة ثانية تفصل بعضها عن بعض. وهذه التركيبات والتفصيلات
مختلفة، بعضها كاذبة وبعضها صادقة. ثم يحدث من بعد ذلك فيه القوة الناطقة التي بها
يمكن أن يعقل المعقولات ويميز بين الجميل والقبيح، وبها يحوز الصناعات والعلوم.
ومن المؤكد لدى الفارابي أنه يقترن بكل قوة نزوع، إما إلى ما تحسه أو ما تتخيله أو
ما تعقله.
ومن ثمة يكون العلم والإرادة على ثلاث مدرجات.
فالإرادة تكون بالنزوع إما إلى الحس وإما إلى التخيل وإما إلى التعقل: "فإذا
كان النزوع إلى علم شيء شأنه أن يدرك بالقوة الناطقة، فإن الفعل الذي ينال به ما
تشوق من ذلك يكون بقوة ما أخرى في الناطقة وهي القوة الفكرية(…) وإذا كان النزوع
إلى علم شيء ما يدرك بإحساس كان الذي ينال به فعلا مركبا من فعل نفساني(…) وإذا
تشوق تخيل الشيء الذي يرجى ويتوقع، أو تخيل شيء مضى، أو تمني شيء ما تركبه القوة
المتخيلة، والثاني ما يرد على القوة المتخيلة من إحساس بشيء ما، فتخيل إليه من ذلك
أمر ما أنه مخوف أو مأمول".
يثبت الفارابي للقوة الفكرية –وهي قوة النطق-
أربعة مستويات تجريدية هي: الفكرة والرؤية والتأمل والاستنباط. في حين يرد الإدراك
الحسي إلى عملية تركيب بين الفعل البدني والفعل النفساني. أما التخيل، فواضح أنه
يكون بالوصل والفصل اللذان يتمان عن طريق الشوق الذي هو فعل نفساني. ويضفي
الفارابي على التخيل أبعادا زمانية، فهو إما متعلق بالحاضر مثل "تخيل الشيء
الذي يرجى ويتوقع"، أو متعلق بالماضي مثل "تخيل شيء مضى"، أو متعلق
بالمستقبل "تمني شيء ما تركبه القوة المتخيلة". كما أن التخيل قد يتصل
بالإحساس المباشر، كأن يرد على المتخيلة إحساس من شيء ما فيتخيل المرء من ذلك
الشيء أمرا مخوفا أو مأمولا.
وللقوة المتخيلة بدورها ثلاث وظائف. أولها قبول
الصور وحفظها، حيث أن الحس المشترك يقبل صور المحسوسات ولكنه لا يحفظها. فالمتخيلة
هي التي تحفظ هذه الصور بعد غيبتها عن الحواس. وثاني هذه الوظائف، فصل الصور
وتركيبها – فالمخيلة لا تكتفي بمجرد حفظ الصور، فهي إذا ما خلت إلى ذاتها، حين لا
تقدم لها الحواس صورا جديدة، ولا هي تقدم صورا للعقل، عادت إلى الصور المحفوظة
لديها تتصرف فيها وتركب منها، أو من أجزائها، تركيبات مختلفة، موافقة للمحسوس أو
مخالفة. وهذا العمل الخلاق تقوم به المتخيلة في اليقظة أو في المنام. أما الوظيفة
الثالثة، فهي المحاكاة، حيث أن المتخيلة تستعمل الصور المحفوظة لديها في عمل آخر،
هو التشبيه، فتحاكي ما يعرض لها من أشياء بهذه الصورة.
وقد نسب الفارابي للمتخيلة ما ذكره لها أرسطو من
وظائف، وزاد أشياء لم ترد عند أرسطو. ففصل في المحاكاة، واعتبر أن من خصائص
المتخيلة الإطلالة على عالم الغيب، في الكهانة والنبوة والأحلام الصادقة. ويهمنا
هنا رأيه في النبوة ودور الخيال في حصولها.
يرى الفارابي أن الاتصال بالعقل الفعال أو
"الفيض الإلهي" يكون عن طريقين: طريق العقل وطريق المخيلة، أو طريق
النظر وطريق الإلهام. فعن طريق النظر يتمكن الإنسان أن يصعد إلى منزلة العقول
العشرة كما ترقى نفسه إلى مستوى العقل المستفاد حيث تتقبل الفيض الإلهي. والفيلسوف
هو الذي يستطيع الاتصال بالعقل الفعال بفضل البحث والدراسة النظرية. إلا أن لهذا
الاتصال طريقا آخر غير العقل، فهو ممكن عن طريق المتخيلة، وتلك حالة الأنبياء، فكل
إلهاماتهم وما يتلقون من وحي أثر من أثار المخيلة. وعلى ذلك فالنبوة ليست أمرا
خارقا للعادة بل هي ظاهرة طبيعية، والنبي إنما هو إنسان بلغت قوته المتخيلة غاية
الكمال.
وهذه القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما
"قوية كاملة"، وكانت المحسوسات الواردة عليها من الخارج لا تستولي عليها
استيلاء يستغرقها بأسرها، ولم تكن خادمة للقوة الناطقة بل كان فيها مع اشتغالها
بهذين –أي المحسوسات الواردة من خارج والقوة الناطقة- فضل كثير تفعل به أيضا
أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند
تحللها منهما وقت النوم… إذا كان الأمر كذلك اتصلت المتخيلة بالعقل الفعال وانعكست
عليها الصور. فتأخذ هذه الصور وتتخيلها بما يحاكيها من المحسوسات المرئية التي
تحتفظ بها، فإذا حصلت رسومها في هذه الحاسة انفعلت القوة الباصرة عن تلك الرسوم،
فارتسمت فيها تلك الصور وحصل عما في القوة الباصرة منها رسوم في الهواء المضيء
الواصل للبصر. "فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد ما في الهواء، فيرتسم من
رأس في القوة الباصرة التي في العين، وينعكس ذلك إلى الحاس المشترك وإلى القوة
المتخيلة". وما دامت هذه القوى كلها متصلة بعضها ببعض، فإن ما أعطاه العقل
الفعال يصير مرئيا للإنسان.
وقدرة المتخيلة لا تقف عند هذا الحد، بل
بمقدورها إذا ما بلغت الكمال، أن تجعل صاحبها يتلقى في يقظته من العقل الفعال
"ولا يمتنع أن يكون الإنسان، إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال، فيقبل في
يقظته، عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات،
ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها. فيكون له بما
قبله من المعقولات، نبوة بالأشياء الإلهية. فهذا أكمل المراتب التي تنتهي إليها
القوة المتخيلة، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة".
ويضيف الفارابي، أنه يوجد دون ذلك، من يرى بعض
تلك الموجودات في يقظته وبعضها الآخر في نومه. وهناك من يتخيل في نفسه هذه الأشياء
كلها ولا يراها ببصره. ودونه من يرى جميع هذه الأمور في نومه فقط. وهؤلاء تكون
أقاويلهم التي يعبرون بها أقاويل محاكية ورموزا وألغازا وإبدالات وتشبيهات. وهم
يختلفون أيضا في أن بعضهم "يقبل الجزئيات ويراها في اليقظة فقط، ولا يقبل
المعقولات، ومنهم من يقبل المعقولات ويراها في اليقظة، ولا يقبل الجزئيات، ومنهم
من يقبل بعضها ويراها بدون بعض، ومنهم من يرى شيئا في يقظته ولا يقبل بعض هذه في
نومه، ومنهم من لا يقبل شيئا في يقظته، بل إنما يقبل في نومه فقط، فيقبل في نومه
الجزئيات ولا يقبل المعقولات، ومنهم من يقبل شيئا من هذه، ومنهم من يقبل شيئا من
الجزئيات فقط وعلى هذا يوجد الأكثر".
إذن باستثناء النبوة، التي هي أخذ بالمحاكات عن
العقل الفعال، يعتبر الفارابي أشكال الخيال الأخرى في درجة دنيا، بل إنه يرسم
تراتبا في الخيال قياسا إلى العقل. هذا إلى أن الناس يتفاضلون: فقد تعرض عوارض
يتغير بها مزاج الإنسان وقد يفسد وتفسد تخاييله، فيرى أشياء مما تركبه القوة
المتخيلة على تلك الوجوه مما ليس لها وجود ولا هي محاكاة لموجود. هؤلاء هم
الممرورون والمجانين وأشباههم.
يؤكد الفارابي على وحدة الحقيقة، إلا أن الطرق
الموصلة إليها –فيما يبدو- ليست واحدة- فهناك طريقان: طريق العقل والبرهان وتسير
عليه الفلسفة، وطريق الخيال والرموز وهو طريق الدين وهو مقصور على الأنبياء.. إلا
أنه لا ينبغي أن نفهم من ذلك تعددا فعليا في طرق الحقيقة، وإقرارا بالاختلاف أو
اعترافا بالقوة المتخيلة كقوة مستقلة بذاتها. فالفارابي هنا إنما يلجأ إلى الخيال
لإعطاء تفسير معقول للنبوة. لأنه إذا كان الجميع يستطيع، إذا تمكن من استعمال
العقل –حسب الصناعة- إدراك الحقيقة، فإنه بالمقابل لا أحد يستطيع إدراكها بخياله،
باستثناء النبي. وهذا يعني ضمنيا أن الخيال متهافت دائما إلا في حالة واحدة هي
النبوة. وحتى النبوة فهي في نظر الفارابي لا تعبر عن الحق بذاته بل بمثاله.
هذا الموقف السلبي من الخيال دفع بالفارابي إلى
جعل الحقيقة الدينية تابعة للحقيقة الفلسفية. بل أكثر من ذلك، لم يكن جمعه بين
رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو سوى محاولة أخيرة لتخليص الفلسفة من رواسب الخيال
التي ظلت عالقة بفلسفة أفلاطون. لكن هل تمكن الفارابي فعلا من القضاء على الخيال
بفضل استراتيجية التوفيق بين الدين والفلسفة أو الجمع بين آراء الفلاسفة؟ أما هذا
فأمر آخر؛ ليس جوابه هنا.
ـ III ـ
وأما ابن سينا فإنه، على عكس الفارابي، يذهب
بعيدا في تغليب الخيال. ويتضح ذلك من خلال نظريته في النبوة والإلهامات. فإذا كان
الفارابي قد التزم الطريق العقلي بحيث جعل قمة الإنسانية تتمثل في العقل المستفاد،
فإن ابن سينا قد سن طريقا مخالفا لكل التراث الأرسطي، وهو طريق الحدس والإلهام
الذي خص به الأنبياء والعارفين و"الفلاسفة الحقيقيين" أو المشرقيين.
ومن الملاحظ هنا أن نظرية النبوة عند ابن سينا
مرتبطة بنظريته في النفس، فهو يذكر في رسالة في إثبات النبوات أن "الحيوان
إما ناطق أو غير ناطق والأول أفضل؛ والناطق إما بملكة أو إما بغير ملكة والأول
أفضل، وذو الملكة إما خارج إلى العقل التام أو غير خارج والأول أفضل، والخارج إما
بغير واسطة أو بواسطة والأول أفضل وهو المسمى النبي". وهذا يعني أن الوحي
والإلهامات إنما تحصل بالحدس مباشرة للنبي وللعارف وللفيلسوف.
والنبوة بهذا المعنى ليست أمرا طبيعيا كما اعتقد
الفارابي، بل هي، على العكس من ذلك، متوقفة على شروط جسدية ونفسية نادرة. ولا تتوفر
إلا في قلة من الأشخاص، إنها بعبارة أخرى مسألة أنطولوجية بالدرجة الأولى.
للوصول إلى الحقائق، يقرر ابن سينا وجود طريقين:
طريق مباشر وهو طريق الحركة والخيال وطريق يتوسط المقدمات المنطقية. وإذا كان
الطريق الثاني يسلك سبيل الاستدلالات والبراهين العقلية، فإن الطريق الأول يتجه
رأسا إلى المطلوب من غير استعانة بالمقدمات المنطقية، وذلك بالاتصال مباشرة بالفيض
الإلهي حيث تصبح الغيبيات مشاهدة في صورة ورموز لصاحب الحدس.
ويعتبر الحدس عند ابن سينا استعدادا للاتصال
بالعقل الفعال. وكلما اشتدت درجته في بعض الناس استغنوا عن كل تخريج أو تعليم، بل
تصبح العلوم كأنها حاضرة في أذهانهم، وهذا هو عين الخيال الذي به تتم الإلهامات
للأولياء والمتصوفة والوحي للأنبياء. وقد يسميه ابن سينا أحيانا قوة قدسية.
فبالخيال يشارك الإنسان العقول المفارقة بحيث تخرج معارفه عن حدود التقليد،
ويتجاوز بكثير ما نصل إليه بطريق الاستنتاجات العقلية العادية، وتكون له إحاطة
بالحاضر والماضي والمستقبل.
وأما بخصوص كيفية تلقي النبي للوحي، فإن ابن
سينا يشير إلى أن قوة التخيل تتلقى ذلك الفيض الإلهي وتتصوره بصورة الحروف
والأشكال المختلفة وتجد لوح النفس فارغا فتنتقش تلك العبارات والصور فيه. فيسمع
كلاما منظوما ويرى شخصا بشريا، ولكن لا بالعبارات الصريحة أو بأحاديث النفس، وإنما
بالتخيل فذلك هو الوحي. لأن الوحي هو إلقاء الشيء إلى النبي بلا زمان، فيتصور في
نفسه الصافية صورة الملقى كما تتصور في المرآة المصقولة صورة المقابل.
ويقول ابن سينا في الإشارات أن "التجربة
والقياس متطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلا في حال المنام،
فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة إلا ما كان إلى زواله سبيل
ولارتفاعه إمكان. أما التجربة فالتسامع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا
وقد جرب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج
نائم قوى التخيل والتذكر".
وينبه قائلا: "قد علمت فيما سلف أن
الجزئيات منقوشة في العالم نقشا على وجه كلي، ثم نبهت لأن الأجرام السماوية لها
نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأي جزئي. ولا مانع لها عن تصور
اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري".
كما يقول في إشارة أخرى: "ولنفسك أن تنتقش
بنقش ذلك العالم بحسب الاستعداد وزوال الحائل وقد علمت ذلك فلا تستنكر أن يكون بعض
الغيب ينتقش فيها من عالمه".
تستطيع النفس إذن الاطلاع على الغيب أثناء النوم
كما في حال اليقظة. ومصدر ذلك أن قوى النفس المختلفة وعلى رأسها المخيلة تخلق صورا
متعددة. إلا أن النفس قد يحول دون عملها شواغل حسية وأخرى باطنية. فإذا انقطعت هذه
الشواغل أو قلت أثناء النوم "لم يبعد أن تكون للنفس فلتات تخلص عن شغل التخيل
إلى جانب القدس. فانتقش فيها نقش من الغيب". وإذا كانت النفس قوية الجوهر
تستطيع الاستيلاء على الشواغل المختلفة، و"تسع الجوانب المتجاذبة، لم يبعد أن
يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة. فربما نزل الأثر إلى الذكر فوقف هناك،
وربما استولى الأثر فأشرق في الخيال إشراقا واضحا واغتصب الخيال لوح الحس المشترك
إلى جهته فرسم ما انتقش فيه".
للنفس إذن فلتات أثناء النوم تخلص بها إلى جانب
القدس فينتقش فيها نقش الغيب، كما لا يبعد أن يقع لها ذلك أثناء اليقظة إن هي
تجردت من المادة وشواغلها. فترى بعين الخيال صورا من الغيب، وتكون بذلك للنفس أمور
خارقة للعادة كالمعجزات والكرامات. وهذه الأمور وإن غاب عن الناس سرها فيمكن
تفسيرها عن هذا الطريق النفسي الذي هو الخيال.
وينبغي هنا أن نميز عند ابن سينا نوعين من
الخيال: الأول خيال طبيعي، يرتبط بالجزء الطبيعي من النفس، والثاني خيال
ميتافيزيقي وهو الذي يرتبط بالجزء الإلهي من النفس. وقد درس ابن سينا النوع الأول
في مبحث الطبيعيات، سواء في النجاة أو الشفاء أو الرسائل، في حين درس النوع الثاني
ضمن الإلهيات وخصوصا في الإشارات والتنبيهات.
على منوال ابن سينا حاول الغزالي أن يفسر مسألة
النبوة والإلهامات. وهو وإن أنكر قوة الخيال، إلا أنه يعود إليه مرارا لتفسير
علاقة العقل بالنقل. فقد ناقش الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة نظرية النبوة
الفارابية ملاحظا أن النبي يستطيع الاتصال بالله مباشرة أو بواسطة ملك من الملائكة
دون حاجة إلى العقل الفعال أو قوة متخيلة. إلا أنه في كتاب المنقذ من الضلال، يعود
فيقرر أن النبوة أمر مسلم به نقلا مقبول عقلا، لأن "بعض العقلاء أبوا مدركات
النبوة واستعبدوها". ومن ثمة يقرن حالة النبوة بحالة النوم. فالنائم يدرك ما
سيكون من الغيب إما صريحا وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير. لذلك فإنه إذا كان
"العقل طورا من أطوار الآدمي، يحصل فيه عين يبصر بها أنواعا من المعقولات
والحواس معزولة عنها، فإن النبوة أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في
نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل".
ويؤكد الغزال أن دليل النبوة لا ينال بالعقل
وإنما يدرك بالإلهام، كما أن سلوك طريق التصوف يكون بالذوق. وهذه كلها من خواص
الخيال الذي يعبر عنه الغزالي بأنموذج النوم: "أما ما عدا هذا من خواص
النبوة، فإنما يدرك بالذوق، من سلوك طريق التصوف، لأن هذا إنما فهمته بأنموذج
رزقته وهو النوم،ولولاه لما صدقت به. فإن كان للنبي، خاصة ليس لك منها أنموذج، ولا
تفهمها أصلا، فكيف تصدق بها؟ وإنما التصديق بعد الفهم: وذلك الأنموذج يحصل في
أوائل طريق التصوف. فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم
يحصل بالقياس".
وفي كتاب آخر هو إحياء علوم الدين، يميز الغزالي
بين نوعين من العلم: الإلهام الذي يلقى في القلب والاستبصار الحاصل بالاكتساب
وحيلة الدليل. ثم هو يفضل الإلهام على الاستبصار.. هذا الإلهام الذي يفترض سلوك
الطريقة والتمرس بالذكر ويشرق نورا في القلب ولوامع الحق. ويقارن الغزالي بين الإلهام
والاستبصار، فيشبه العلم الحاصل عن طريق الحواس والعقل بجداول ماء تملأ الحوض،
والعلم الحاصل عن الإلهام بماء يتفجر بالحفر من أعماق الحوض. ويرى أن الماء
المتفجر أصفى وأدوم وقد يكون أغزر؛ ويشبه أيضا العالم عن طريق الإلهام بمن يرى
الشمس، والعالم عن طريق الدليل بمن يرى صورة الشمس في الماء.
لكن كيف يتفجر العلم من القلب؟ يجيب الغزالي:
"إن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقربين.
فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض، ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك
النسخة، فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح
المحفوظ، ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة.. فكان للعالم أربع درجات في
الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده
الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي، أعني وجود صورته في القلب".
واضح إذن أن الغزالي يعتبر الوجود الخيالي أسبق
من الوجود العقلي، وهو في هذا لا يبتعد عن ابن سينا في فلسفته المشرقية. وفي هذا
الصدد يمكن أن نلاحظ أن المتصوفة كذلك لا يقرون بالوجود العقلي – لا يثبتون إدراك
الموجودات من خلال التصورات أو المفاهيم أو المقولات. فالمقولة تسلب من الموجود
مقوماته الأساسية، وتقضي على أخص ما يميزه، أي فرادته. في حين أن الإشراق العرفاني
–حيث المعرفة حدس وكشف ذوقي ومشاهدة، فأساس المعرفة هناك هو "الرؤيا".
والرؤيا تخيل، أو هي خيال خلاق كما يقول كوربان. وهذه الرؤيا أو الخيال هي ما يميز
الشعر والإلهامات والنبوءة.
وفي التصوف يرتفع التعارض بين العقل والنقل، بين
الاستدلال والخيال حيث تتوحد الذات والموضوع، المتخيل والمتصور، الجزئي والكلي،
كما يتوحد الخالق والمخلوق والحقيقة والشريعة. وفي هذا المستوى يصبح الخيال أساسا
لا للمعرفة فحسب، بل، وبالدرجة الأولى، أساسا للوجود. وهذا هو الخيال الميتافيزيقي
الذي نجده عند ابن عربي.
فالخيال عند المتصوف يرتكز على ثلاثة مبادئ:
مبدأ الوساطة، ومبدأ التغير ومبدأ الجمع. فالخيال هو برزخ أي "وسيط".
والمقصود بذلك أن الخيال كيان متوسط بين الوجود والعدم، أي أن محتواه ليس موجودا
ولا معدوما. أو هو بتعبير ابن عربي "حس باطن بين المعقول والمحسوس".
والخيال ثانيا حقيقته التغير والتحول وهذا مبدأ محوري في التصوف. ذلك أن النفس
تسعى دوما إلى التبدل لكونها تسير دوما صوب الحق. ولما كان أبرز سمات الخيال
التغير فإن نتائجه شديدة التنوع والتباين – أو هكذا ينبغي أن تكون ما دام الخيال
حيا. وثالثا، الخيال "حضرة جامعة" و"مرتبة شاملة" فهو أوسع
الكائنات وأكمل الموجودات. وحسب هذا المبدأ الثالث يصبح الخيال مرادفا للاتناهي.
فالخيال ليس له قيد، بل هو مجال الحرية والإمكانات اللامتناهية، وهو بذلك يهيمن
على "وحدة الوجود".
الجمع بين المتعارضات هو من عمل الخيال، من حيث
إنه لا يتصف بوجود أو عدم وبالتالي لا يصح عليه النفي والإثبات، فهو "لا
موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا منفي ولا مثبت". فالخيال إذن يفصل
ويصل، يفرق ويوحد، وبذلك يكون دائما بين وجهين: المنقول والمعقول، الوجود
والموجود. وبهذا المعنى يقول ابن عربي إن الخيال برزخ، وعنده أن "حقيقة
البرزخ أن لا يكون فيه برزخ. وهو الذي يلتقي ما بينهما بذاته، فإن التقى الواحد
منهما بوجه غير الوجه الذي يلقى به الآخر، فلا بد أن يكون بين الوجهين في نفسه برزخ
يفرق بين الوجهين حتى لا يلتقيان، فإذا ليس ببرزخ. فإذا كان عين الوجه الذي يلتقي
به أحد الأمرين الذي هو بينهما عين وجه الذي يلتقي به الآخر، فذلك هو البرزخ
الحقيقي. فيكون بذاته عين كل ما يلتقي به، فيظهر الفصل بين الأشياء والفاصل واحد
العين". وعلى ذلك "فإن قلت وما عالم البرزخ قلنا عالم الخيال".
ـ IV ـ
وأما موقف ابن رشد من العقل والنقل فيرتد بدوره
إلى إشكال الخيال والعقل. ورغم كونه لم يهتم كثيرا بفكرة الاتصال التي قال بها
أغلب فلاسفة الشرق، فإنه عمل على حل الإشكال من جهة الصلة بين الحكمة والشريعة.
ذلك أن الخلط بين الدين والفلسفة الذي نجم عن عملية التوفيق قد أسقط الناس في
الاختلاف. "فقال قوم "أول الواجبات النظر" وقال قوم
"الإيمان". أعني من قبل أنهم لم يعرفوا أي الطرق هي الطرق المشتركة
للجميع التي دعا الشرع من أبوابها جميع الناس، وظنوا أن ذلك طريق واحد. فأخطؤوا مقصد
الشارع وضلوا وأضلوا".
وفي نظر ابن رشد ليس هناك طريق واحد إلى
الحقيقة، بل يوجد طريقان. طريق يتبعه الجمهور وطريق الخاصة أي الفلاسفة. لذلك فهو
يميز بين التصور النطقي والتصور الخيالي، الأول مدرك عقلي والثاني مدرك خيالي.
فالمتخيلات "إنما نتصورها من حيث هي شخصية وهيولانية، ولذلك لا يمكن أن نتخيل
ألوانا إلا مع عظم، وإن كان سيظهر من أمرها أنها أرفع مراتب المعاني الشخصية. أما
التصورالعقلي فهو تجريد المعنى الكلي من الهيولى".
والفرق بين الإدراك العقلي والإدراك الخيالي هو
الفرق بين الكلي والشخصي وهما متباينان، وعلة ذلك: "إن الكلي هو إدراك المعنى
العام مجردا من الهيولى. وإدراك المعنى في الهيولى. وإذا كان كذلك، فالقوة التي
تدرك هذين المعنيين هي ضرورة متباينة. وقد تبين فيما تقدم أن الحس والتخيل إنما
يدركان المعاني في الهيولى وإن لم يقبلاها قبولا هيولانيا على ما تقدم. ولذلك لسنا
نقدر أن نتخيل اللون مجردا عن العظم والشكل فضلا عن أن نحسه. وبالجملة لسنا نقدر
أن نتخيل المحسوسات مجردة من الهيولى، وإنما ندركها في الهيولى، وهي الجهة التي
بها تشخصت. وإدراك المعنى الكلي والماهية بخلاف ذلك، فإنا نجرده بالهيولى تجريدا.
وأكثر ما تبين ذلك في الأمور البعيدة من الهيولى كالخط والنقطة، فهذه القوة إذن
التي من شأنها أن تدرك المعنى مجردا عن الهيولى هي ضرورة قوة أخرى غير القوى التي
تقدمت".
هذا الفرق الذي يضعه ابن رشد بين العقل والخيال
لا يدرك إلا على ضوء التقسيمات التي وضعها بصدد مراتب الناس واختلاف طرق التعليم.
وهي تقسيمات راعى فيها وضع الحدود الفاصلة بين الدين والفلسفة من جهة وبين العقل
والخيال من جهة ثانية.
ينبغي أن نشير هنا إلى أن موقف ابن رشد هذا
يختلف اختلافا جذريا عن موقف الفارابي الذي حاول من جهته عقلنة الدين ودمج اللامعقول
في إطار المعقول. فلدواع توفيقية اعتبر الفارابي الدين تخيلات وصورا أو مثالات.
أما الفلسفة فهي تصورات وبراهين لما احتوته الشريعة من مثالات. أما ابن رشد فيقرر
أن الشريعة بما هي نص، يمكن أن تؤخذ بكيفيتين مختلفتين لهما معا ما يكفي من
المصداقية في حالة ما إذا لم يقع الخلط بينهما. الكيفية الأولى هي التمثل الخيالي
أو الشعري-الخطابي. وأصحاب هذا الطريق هم الجمهور. وأما الكيفية الثانية فهي
التأويل اليقيني أو البرهان العقلي. وأصحاب هذا الطريق هم العلماء والفلاسفة. أما
الطريق التي ينعته بالتأويل الجدلي فهو يخلط الخيال بالعقل –وهذا ما فعله علماء
الكلام- وابن رشد لا يعترف بهذا المنهج.
ويوافق تقسيم البشر تقسيم طرق التعليم التي هي
التصديقات والتصورات. فالتصديقات تكون إما بالبرهان أو الخطابة، والبرهان يوافق
صناعة الحكمة في حين أن الخطابة توافق خيال الجمهور. أما الجدل فوضعه تابع لوضعية
المتكلمين. أما التصورات فيذكر ابن رشد نمطين لا غير: "طرق التصديق اثنين:
إما الشيء نفسه وإما مثاله". فأما إدراك الشيء نفسه فيكون بالبرهان العقلي،
في حين إن إدراك مثال الشيء يكون بالقوة المتخيلة.
يتميز موقف ابن رشد بالحرص على فصل الخيال عن
البرهان، لكون الخيال يؤدي إلى تفاضل المقدمات اليقينية مع أنها في مرتبة واحدة
وهو بذلك يشوش على قضايا البرهان: "والمقدمات اليقينية تتفاضل على ما تبين في
كتاب البرهان والسبب في ذلك أن المقدمات اليقينية إذا ساعدها الخيال، قوى التصديق
فيها. وإذا لم يساعدها الخيال ضعف. والخيال غير معتبر إلا عند الجمهور. ولذلك من
ارتاض بالمعقولات واطرح التخيلات، فالمقدمتان في المرتبة واحدة عنده من
التصديق".
الكلام عن ابن رشد وتجاوز ابن باجة وابن طفيل
–ضمن هذا السياق- لا يعني عدم أهميتهما في توضيح الإشكال. بل سبب ذلك منهجي –
ويعود إلى كون موقف ابن رشد يتسم بالوضوح والتميز وهو ما لا نصادفه لد سلفيه ابن
باجة وابن طفيل، كما أنه يستحسن النظر إلى هذين الأخيرين قياسا إلى ابن رشد، نظرا
لاشتراكهما في البنية الفكرية.
ويلاحظ هنا أنه إذا كان ابن سينا في المشرق
–ومعه في ذلك الغزالي- قد أثبت للخيال قيمة أنطولوجية ومعرفية استنادا على نظريته
في النفس، فإن ابن رشد قد مثل في المغرب اتجاها مضادا – حيث خصص كتاب التهافت على
ما يبدو لا للرد على الغزالي فقط بل وعلى ابن سينا كذلك. وموقف ابن رشد من المسألة
واضح، وهو الفصل بين العقل والخيال بوضع حدود صارمة بين البرهان والشعر أو
الخطابة، حتى لا تختلط المقدمات وتتفاضل. ونجد عند ابن باجة وابن طفيل نفس الهاجس
البرهاني الذي بلوره ابن رشد في ما بعد بوضوح تام. وكلاهما كان محاورا لفلاسفة
المشرق خصوصا الفارابي وابن سينا. فبقدر ما نلمس لدى ابن باجة حوارا مع الفارابي
يقدم لنا ابن طفيل قراءة لفلسفة ابن سينا المشرقية، علاوة على ملاحظاته العامة حول
الفلاسفة السابقين عليه بمن فيهم ابن باجة.
هناك بعض الغموض في موقف ابن باجة من مسألة
الخيال والعقل. وربما كان هذا يعود إلى مراحل تطوره الفكري، كما قد يعود إلى مدى
صحة النصوص المنسوبة إليه. فقد اهتم ابن باجة بمسألة "الاتصال" كما
يخبرنا بذلك ابن طفيل. إلا أن هذا الاهتمام لم يكن بأية حال على طريقة المتقدمين
عليه في هذا الجانب. فابن باجة عالج مسألة الاتصال عن طريق العلم النظري والبحث
الفكري. أي على طريقة أهل النظر وهم الفلاسفة –وليس على طريقة أهل الولاية- التي
عابها أبو بكر وذكر أنها للقوة الخيالية.
والمعرفة عند ابن باجة تحصل بالحواس وبالقياس.
والمعقولات لا يمكن أن توجد في الذهن إذا لم تمر بالحس. فهي تتألف من صور قد مرت
عبر الحس. إلا أن ابن باجة لا يثق في الحواس فهي تخدع كما أن العقل بدوره يمكن أن
يخطئ. لذلك سنجد أن البحث في المعرفة العقلية يقود إلى النظر في طبيعة الصورة
الروحانية التي هي موضوع الإدراك العقلي.
ويدعو ابن باجة المعقولات بصفة عامة "الصور
الروحانية". ويبدو أن هذه التسمية مستمدة من كتاب الحاس والمحسوس لأرسطو في
ترجمته العربية. فابن رشد –في تلخيصه لهذا الكتاب- يقول أن المحسوسات "ليست
تحل فيها (أي في النفس) حلولا جسمانيا بل حلولا روحانيا". ولذلك يقال:
"لمن أنكر أن يكون إدراك المحسوس بمتوسط: إن المعاني التي تدركها النفس
إدراكا روحانيا منها جزئي وهي المحسوسات ومنها كلي وهي المعقولات".
ويقسم ابن باجة الصور الروحانية إلى أربعة
أقسام: أولا – صور الأجسام المستديرة وهي الأجرام السماوية التي تتحرك حركة دورية
دائمة. ثانيا – العقل الفعال، وهو جوهر أو صورة عقلية مفارقة للمادة تحرك عالم ما
تحت القمر والعقل المستفاد وهو المرتبة القصوى من الإدراك التي يبلغها الإنسان إذا
تم له الاتصال بالعقل الفعال. ثالثا – الصور الهيولانية التي تنتزع من الموجودات
الجزئية. رابعا – المعاني الموجودة في قوة النفس الحسية الثلاث، وهي الحس المشترك
والتخيل والذكر.
يهمنا القسم الرابع من هذه الصور، حيث يظهر أن
أحط درجات الروحانية إنما تتمثل في وجود الصور في الحس المشترك ثم وجودها في
المتخيلة ثم وجودها في الذاكرة. وهذا الموقف فيما يبدو يؤكد ما قاله ابن طفيل من
أن ابن باجة قد سلك طريق أهل النظر.
وعلى خلاف ذلك نجد لابن باجة رسالة خاصة فيما
بين "العقل والقوة المتخيلة" يقرر فيها أن العقل يأخذ من القوة المتخيلة
معلومات هي المعقولات. وأنه كذلك يقدم للقوة المتخيلة معلومات يبسطها فيها. وتلك
المعلومات إما استنبطها العقل وإما من الحوادث التي جرت في العالم – يوجدها العقل
في المتخيلة قبل حدوثها. وتلك المعلومات "لم تحصل في القوة المتخيلة عن حاسة،
بل عن العقل الذي يخدمها".
إن كون العقل خادما للمتخيلة يبدو غريبا على ابن
باجة بالقياس إلى الموقف السابق ذكره. إلا أن هذا الأخير يذكر مع ذلك من أشكال
الخيال الرؤيا الصادقة والوحي والكهانة. ويقرر أن حصول ذلك يكون عن طريق الفيض
"وهذا ظاهر في الأكثر، في الصالحين من عباده الذين هداهم الله وأخلصوا به
وبملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه، فإنه يفيض عليهم بتوسط ملائكته في
الرؤيا وغير ذلك عجائب من الحوادث في العالم".
إن ما يلاحظ على هذه الرسالة استخدامها لمصطلحات
الأفلاطونية المحدثة وابتعادها عن المفاهيم المألوفة عن المشائين. وعلى الرغم من
أن ابن باجة يذكر القوة المتخيلة ويفصل في أمرها، فإن ذلك لا يخرج عن نطاق المعرفة
الحسية وتفسير عمل العقل في الصور قبل أن يتعقلها. وعنده أن "القوة المتخيلة
الموجودة في الإنسان بالفعل، هي القوة التي يجدها الإنسان في نفسه، يرسم فيها رسوم
المحسوسات، ويتصور بها ويحضر الإنسان فيها رسوما من وصفة داره ودابته وغير ذلك من
المحسوسات المشار إليها. ويكون هذا الفعل من القوة المتخيلة في اليقظة
والنوم".
ويذكر ابن باجة أن للعقل فعل ما في المتخيلات.
ذلك أنه "بعد حصول المتخيلات في القوة المتخيلة على (هذا) النحو تكون القوة
الناطقة تنظر ببصيرتها فترى المعاني الكلية التي تحمل على ما في القوة المتخيلة،
وبها تخيل وتميز ما هي كل واحد منها".
يبقى موقف ابن باجة من الخيال سلبيا على الطريقة
المشائية التي رأيناها عند الفارابي. وهو وإن كان في غير حاجة إلى عملية التوفيق
بين العقل والنقل فيما يبدو – إلا أنه قد حاول تفسير عملية الاتصال بالعقل الفعال،
الأمر الذي قاده إلى مفاهيم الأفلاطونية المحدثة وإلى الكلام أحيانا بلغة
المتصوفة.
وهذا الموقف المتناقض من الخيال ليس غريبا على
الفلاسفة المسلمين. فموقف ابن طفيل بدوره يتميز بالكثير من اللبس والغموض بصدد
الخيال. ذلك أنه في الوقت الذي يعيب على الفارابي ربط النبوة بالمتخيلة لا يفصح عن
موقفه الشخصي، بل يقدم نفسه كشارح للفلسفة المشرقية كما وضعها ابن سينا. وبالفعل
فابن طفيل كلما تحدث عن رتبة الاتصال والمشاهدة -حيث يلجأ مباشرة إلى التمثل
بالخيال ويستعمل ألفاظا تحيل إلى المتخيلة- نسب الكلام أو الرأي إلى ابن سينا. فهو
يذكر أن هذه الرتبة "لا نجد في الألفاظ الجمهورية ولا في الاصطلاحات الخاصة،
أسماء تدل على الشيء الذي يشاهد به ذلك النوع من المشاهدة". ومعنى ذلك أن المشاهدة
لا توصف إلا رمزا أي بالخيال. وكلام ابن طفيل واضح في نسبة القول بهذه المرتبة إلى
ابن سينا: "وهذه الحال التي ذكرناها وحركنا سؤالك إلى ذوق منها، هي من جملة
الأحوال التي نبه عليها الشيخ أبو علي".
إلا أنه يبقى السؤال حول علاقة السارد، في قصة
حي بن يقظان بشخصياته مبهما. إذ ما هي درجة الحياد في مستوى السرد؟ هناك صعوبتان:
فابن طفيل عندما يتحدث عن الفلسفة المشرقية –القائمة على الخيال- ينتقد فلاسفة من
المشرق والمغرب، وهو غالبا ما يندد بهم من حيث نسبتهم إلى الخيال. فالفارابي أخطأ
لأنه نسب النبوة إلى "القوة الخيالية خاصة" وابن باجة أخطأ بدوره لأنه
وقف عند حدود النظر واعتبر مرتبة الكشف والالتذاذ الذوقي للقوة الخيالية.
وفي مقابل كل ذلك لا نجد تعبيرا واضحا يبرز موقف
ابن طفيل من ابن سينا نفسه، اللهم إلا بعض العبارات الإيجابية والتي تحتمل تأويلات
متعددة. وعلى الرغم من التقارب الذي يمكن إقامته بين ابن باجة وابن طفيل وابن رشد
فيما يخص إشكال الخيال، فيبقى موقف ابن رشد أكثر دقة ووضوحا. فهو يعلن في أغلب
مؤلفاته ضرورة الفصل والتمييز بين الخيال والعقل، وذلك بعبارات صريحة بعيدة عن
الألغاز والرموز.
استخلاص:
من التحليلات السابقة، يتضح أن الفلسفة
الإسلامية قد تراوحت بين العقل والخيال في أغلب المواقف. فأحيانا يتم تغليب العقل
وأحيانا يتم تغليب الخيال دون التخلي النهائي عن الطرفين معا. فإذا كان الفارابي
قد أثبت أساسا أنطولوجيا للعقل، فإنه مع ذلك حاول أن يدخل الخيال في صلب هذا
الأساس. وهذا ما كان يهدف إليه من وراء عملية التوفيق التي أنجزها بين أرسطو
وأفلاطون، وبين الفلسفة والدين. وعلى العكس من ذلك قام ابن سينا بعملية قلب لكل ما
سبقه حيث أقام أساسا جديدا للفلسفة غير العقل. فالفلسفة المشرقية لابن سينا في
أغلبها –إن لم تكن كلها- فلسفة خيالية أو حدسية أساسها الأنطولوجي هو النفس. ولعل
الغزالي تبع ابن سينا في هذا الموقف ولذلك أقر ضرورة الخيال والحدس. في حين يبقى
موقف ابن رشد الموقف الذي يثبت الانفصال بين العقل والخيال – مثلما أثبت ضرورة
الفصل بين اليقين والظن، وبين الحكمة والشريعة. ومما لا شك فيه أن ابن باجة وابن
طفيل يستبعدان الخيال من دائرة الفلسفة، في الوقت الذي يتم وضعه في تقابل مع
العقل.
هناك ثلاث خلاصات ينبغي التوقف عندها هنا:
أولا – إن إشكالية الخيال ترتبط بالصيرورة التي
عرفها مفهوم العقل و"مفهوم" الخيال معا، داخل تاريخ الفلسفة.
ثانيا – تتحدد إشكالية الخيال انطلاقا من
العلاقات التي نشأت بين أربعة أنماط فكرية هي: الفلسفة والأسطورة والدين والأدب.
ثالثا – هناك موقف متناقض داخل الفلسفة بصدد
الخيال. ذلك أنه بالرغم من تبخيس الخيال والحط منه أنطولوجيا يتم اللجوء إليه كحل
لبعض القضايا المعقدة أو التي يصعب التعبير عنها –لسبب من الأسباب- كما هو الأمر
مع ابن سينا وابن طفيل. وهذا اللجوء إلى الخيال غالبا ما يتم بكيفية ملتوية عبر
الأساليب والفنون الأدبية المشهورة كالحكاية والقصة والشعر.
ويتضح مما سبق أن تاريخ الفلسفة
"الرسمي" قد جعل من مفهوم الخيال قيمة سلبية، فهو مصدر الشر لكونه يرتبط
بالرغبة والنزوع. كما أنه على مستوى المعرفة لا يعدو الظن وفي أغلب الأحوال الظن
الكاذب. وبذلك اعتبر الخيال دوما مصدرا للأخطاء. وأما أنطولوجيا فلا يعتد بالخيال
لكونه لا يسمو إلى درجة الوجود، فمجاله الظاهر فقط.
وفي المقابل اعتبر العقل هو الموضوع الأثير
للفلسفة لكونه يمتلك أساسا أنطولوجيا ثابتا ودقة يقينية، وبذلك لا يمكن أن يصدر
عنه الشر. وقد تبع رجال الدين الفلاسفة في هذا الاعتبار، فقالوا أن العقل صادر عن
الله أو هو فيض من الله أو مبدأ إلهي ينظم الوجود n