الرقابة على "السياسي" في
العلوم السياسية
في الجامعات الأمريكية والغربية (*)
عبد السلام المغراوي
في
الوقت الذي تستعد الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية ( A.P.S.A ) للاحتفال بعيدها المئوي في سنة 2003، يبدو أن مادة العلوم
السياسية في هذه البلاد وفي غيرها من بلدان العالم قد أخذت تستنفذ أغراضها. ففي
الاجتماع السنوي الأخير للجمعية، غصت الرفوف، في مجالات البحث السائدة بمناهج
إحصائية وأخرى سيبرتقنولوجية وبأبحاث جديدة مقتبسة من علم الاقتصاد. وهكذا، فبقدر
ما يلجأ علماء السياسة إلى اقتباس نظريات "علمية" ومناهج جديدة من غيرهم
بقدر ما يفتقدون قول شيء له معنى في موضوع السياسة. وبينما يتندر علماء الاقتصاد
من لاواقعية مسلمات نماذجهم، نجد علماء السياسة يتمسكون بفرضيات هؤلاء بكل جدية.
إنه
وقت عصيب هذا الذي نمر به نحن المهتمين بدراسة الأنظمة السياسية في إفريقية
الشمالية والعالم العربي والشرق الأوسط! الحق أننا ندور في حلقة مفرغة: ذلك أن
المتطلبات المهنية -كالبحث عن عمل، والحصول على المنح، ونشر الأبحاث، والقبول في
الجامعات- تجعلنا مضطرين إلى السلوك مسلك زملائنا الذين يهتمون بالسياسة في المجال
الأمريكي والدولي والأوروبي، وبالتالي فالاستجابة للرغبة في الاستقلال والإبداع
سيكون ثمنها ارتكاب مجازفة مهنية خطيرة، تتمثل في وضع مدى موافقة عملنا للمجرى
العام السائد في العلوم السياسية موضع سؤال! وهكذا فمهما فعلنا فنحن في حاجة دوما
إلى كسب رضى أولئك الذين هم أكثر دراية منا بمناهج البحث"العلمي"
وأساليبه، وفي حاجة إلى نيل اعترافهم واحترامهم.
ومع
ذلك فالضغط المهني وحده لا يفسر كل شيء في ظاهرة هذا الانشداد المرضي إلى
"علم" الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية الأمريكية والأوروبية. إنها
ظاهرة أشبه ما تكون برغبة أوديبية في أن يكون كل شيء استجابة "للآخر"
الإيبيستيمولوجي". إنها الرغبة في أن نكون موضوع اعتراف أولي الأمر من
زملائنا الرواد الذين يؤسسون، في ميدان العلوم السياسية، الحوافز المعيارية
ويقومون بالتوجيه الفكري لأعمالنا. وكنتيجة لذلك نفتقد الاستقلال الفكري الذي
يمكننا من التفكير في "السياسي" من مواقع تاريخية وثقافية مختلفة بعيدا
عن الاهتمامات المعيارية والنظرية للعلوم السياسية الأمريكية.
ربما
تكون عقدة هذه الدراما الأوديبية الإيبيستيمولوجية قريبة من الحل في ميدان البحث
السياسي الخاص بالعالم العربي. ذلك أن الباحثين في هذا الميدان يقومون، كل خمس
سنوات تقريبا، بنوع من إعادة النظر في الموضوع ويخرجون بنتائج متماثلة، من قبيل
الشكوى من عدم وجود فرص شغل للطلاب المتخرجين على أيديهم، ومن النقص الذي يعتري
نتائج أعمالهم، ومن عدم المساهمة في إنتاج نظريات في حقل العلوم السياسية، ومن
التهميش والتجاهل الذي يعانون منه من طرف زملائهم في العلوم السياسية... ثم يخففون
مما يعانونه من الإحباط بالتوجه باللوم
إلى سكان المنطقة لاستسلامهم للنزعة التسلطية، والشكوى من أن لا جديد يثير
الاهتمام يجري في الشرق الأوسط.
ربما
كانت هذه الوضعية تتجه نحو التغير في اتجاه إيجابي، فخلال الدورة التي عقدتها
الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية، هذه السنة، نظمت مجموعة المحاضرين من العالم
العربي سلسلة من المداخلات حول "الدولة، العقد الاجتماعي والهوية
السياسية". كان أصحاب هذه المداخلات مساهمين في ورشة دراسية حول الشرق الأوسط
نظمت تحت عنوان : "نزع الصبغة الأمريكية عن العلوم السياسية". وقد أكدت
المداخلات والمناقشات طوال هذه الورشة الدراسية عدم الرضا التقليدي على الأعمال
التي تنجز من طرف المختصين في العلوم السياسية الخاصة بالشرق. غير أن شيئا آخر حدث
هذه المرة: لقد بدأ ينعقد إجماع على الحاجة إلى "نزع الصبغة الأمريكية"
عن مجال البحث الخاص بالشرق الوسط.
ومع
أن هذا التطور كان مشجعا للغاية فقد أثارت قلقي مشكلتان: فمن جهة، يبدو أننا لا
نعرف بدقة ما الهدف بالضبط من "نزع الصبغة الأمريكية عن العلم السياسي":
هل هو هدف يتعلق بالمعايير والقيم، أم بالعلم، أم بالمهنة، أم أنه يخص كل ذلك؟ ومن
جهة أخرى، ما هو الجهاز المفاهيمي وأدوات التحليل التي ينبغي توظيفها في هذا
المشروع؟ ذلك لأن الانطلاق من المعايير التي سبق ترسيخها في فن من فنون المعرفة هي
عملية إيبستيمولوجية وليست مسألة إعلان شخصي بالنوايا. فمن أجل بلورة تصور مشترك
لهذه القضايا لا بد من الرجوع إلى الأسس والتساؤل من جديد حول ما يحرك عملنا في
العلوم السياسية؟
ولكي
نتجنب أي لبس ينبغي أن نوضح في البداية أهداف أعمالنا. إن دراسة السياسة في العالم
العربي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار عنصرين هامين: الأول معياري ويتعلق بمشكل
الإقصاء السياسي الذي تمارسه مراكز اتخاذ القرار في الشرق الأوسط، وبالتالي
الاستلاب لهذه المراكز. الثاني نظري ويتعلق بغياب ثلاثة موضوعات أساسية من عملنا
الدراسي، غيابا يعبث على الحيرة: : النفوذ السياسي (=وبالمصطلح العربي القديم:
السلطان :pouvoir, power )(*)،
السلطة السياسية، الشرعية السياسية. وما يفرض علينا الأخذ بعين الاعتبار هذين
العنصرين معا هو الرقابة المتواصلة التي يتعرض لها الفكر السياسي استراتيجيا
وإيبيستيمولوجيا: رقابة على المستوى الاستراتيجي وتمارسها الدولة ذات النزعة
التسلطية في العالم العربي، ورقابة إيبيستسمولوجية ويقوم بها الاختصاصيون في شئون
الشرق الأوسط، بوعي أو بدون وعي، من خلال عدم قدرتهم على فرض استقلال فكري داخل
شعبة العلوم السياسية.
والاعتباران
معا يعكس الواحد منهما الآخر.
فمن
جهة أولى، تمارس الدول في الشرق الوسط، وبسبق إصرار، الرقابة على المسائل التي تخص
سلطان الدولة والسلطة والشرعية بذريعة وجود إكراهات اجتماعية واقتصادية متزايدة.
لقد صار شعار "الشعب يريد الخبز والمدارس والمستشفيات وليس مناقشات دستورية
مجردة"، وسيلة لقمع الأسئلة التي تطرح مسألة السلطة والنفوذ في هذه المنطقة.
وهكذا، فبعد الإصلاحات السياسية الليبرالية الشكلية التي أفرزتها الأزمات
الاجتماعية والاقتصادية الحادة التي شهدتها أواخر
الثمانينات وأوائل التسعينات، أغلقت أبواب "الاجتهاد" السياسي
–إذا صح القول-من جديد. ولم يكن هذا الإعراض عن الشأن السياسي شيئا جديدا.
فلقد قامت دول الشرق الأوسط ، مباشرة بعد الاستقلال، بتقزيم "السياسي"
في مشاريعها الوطنية، فجعلت منه مجرد تدبير تقني للجزئيات. إن الدول التسلطية
تحتاج إلى مهندسين وتقنيين تعتمد عليهم، وليس إلى فلاسفة في السياسة مشوشين. وقد
نجحت هذه الدول في إفراغ الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية، التي تلازم الأنظمة السلطوية، من مضمونها
السياسي.
والغريب
أن الجيل الجديد من علماء السياسة الذين يشتغلون في المنطقة، لم ينتبهوا، أو هم
يتجاهلون، استراتيجية النزعة التسلطية للدولة. وهكذا فبدلا من ربط الفقر الاجتماعي
وسوء التدبير الاقتصادي والفساد الإداري بقضايا النفوذ والسلطة والشرعية، يتم
اللجوء إلى إنشاء خطاطات وتصورات مغرية عن الحراك الاجتماعي، والاستثمار الذي يقوم
به الخواص، وتحسين أداء القطاع العام. وكمثال على ذلك نلاحظ أنه عندما تطرح مسألة
مستقبل الدمقرطة في الشرق الأوسط يقع التركيز على دور المهندسين، وأصحاب الأبناك،
ومدراء مصالح الدولة وهيئات المجتمع المدني الخ، ولكن نادرا ما يلتفت إلى الكيفية
التي يمكن أن تتدخل بها علاقات القوى وطبيعة السلطة السياسية أو دعائم الشرعية، في
هذا البلد أو ذاك، لتحديد مسار العملية السياسية. وبإهمال هذا الجانب نساهم في فرض
الرقابة على "السياسي" ونعمل على إعادة إنتاج نفس التصور الذي تعتمده
الدولة التسلطية.
إن
الرقابة التي تمارسها الدولة التسلطية شيء مفهوم، ولكن ما ليس مفهوما، على الأقل
بنفس الدرجة من السهولة والوضوح، هو هذا "التواطؤ" الذي يقوم به، ولو عن
غير قصد، علماء السياسية. كيف نفسر هذا؟ هناك في نظرنا عاملان يقفان وراء هذا
"التواطؤ" وكلاهما ينبع من الرغبة في أن نحظى باهتمام واحترام من
نشاركهم العمل في هذا المجال البحثي (الدراسات السياسية).
العامل
الأول يتمثل في الخطاب المهيمن في العلوم السياسية والذي يعود أصله ومصدره إلى
الانشغالات المعيارية والمفهومية للدول والمجتمعات الليبرالية. ففي المؤسسات
الأكاديمية الغربية تنتمي الدراسة التي تهتم بالسلطان السياسي وبالسلطة والشرعية،
إلى النظرية السياسية والفلسفة السياسية، وهذان حقلان مهمشان في مادة العلوم
السياسية. أما في مجال علم السياسة المقارن، حيث يبحث الاختصاصيون في الدراسات
الشرق/أوسطية عن عناصر ملهمة فإن التركيز يقع فقط على الأعمال الرسمية والمؤسسات
الحكومية والانتخابات والدولة ورأس المال وعلاقات العمل، وهذه تعمل في الأغلب
الأعم من أجل الضبط الاجتماعي واستيعاب النخب من طرف السلطة. إنها لا تستطيع قط أن
تفسر لوحدها كيف تتم عملية إضفاء الشرعية على السلطان السياسي كي يتحول إلى سلطة
الدولة، بل إنها لا تعمل إلا على صرف النظر عن هذه القضايا.
أما
العامل الثاني الذي يقف وراء إهمالنا لـ"السياسي" فهو صعوبة الصياغة
المفهومية النظرية لكل من السلطان، والسلطة، والشرعية. ذلك لأن هذه القضايا تحد
بنيتها في الثقافة. فليس من السهل دائما التمييز بين الرضوخ للسلطة طوعا وبين
السيطرة، ولا بين النفوذ والسلطة، ولا بين الشرعية الحديثة والشرعية التقليدية.
وهنا أيضا نلاحظ أنه بدلا من مواجهة هذه الصعوبات النظرية فإن السائد، في مجال
البحث الذي نتحرك فيه، هو الميل إلى تجاهلها. ومع ذلك فلابد من الاعتراف
بـ"السياسي"، عاجلا أو آجلا. ولهذا أرى أنه ينبغي أن يتفتح المهتمون بعلم
السياسة المقارن في العالم العربي على النظرية السياسية والفلسفية السياسية كما
على التاريخ والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي. إن الأسئلة في هذه الحقول والفنون
البحثية إنما تغدو مناسبة أكثر لموضوعها بقدر ما نبذل من جهد لإعادة الاعتبار
لـ"السياسي" في تعاملنا مع ملابسات الوضع القائم اليوم في الشرق
الوسط.
هذه
الدعوة إلى رد الاعتبار "للسياسي" يمكن أن تفسر على أنها مشروع رجعي،
إنها يمكن أن تؤول عن خطأ على أنها دعوة إلى تقوية سلطان الدولة وسلطتها. أبدا،
ليس الأمر كذلك! فالدولة في الشرق الأوسط، تتعرض -كما هو معروف جيدا- لهجوم
الحركات الاجتماعية والدينية والثقافية المستقلة. وهناك من يرى أن هذه الحركات
مفعمة بالحداثة السياسية، فلماذا إذن رد الاعتبار للدولة التي لم تنجح في تأسيس
هذه الحداثة ؟ هذا جدل معقول الدولة شيء
و"السياسي" شيء آخر! الدولة هي الجهاز الرسمي للحكم، أما
"السياسي" فهو عملية متسلسلة من التفاوض تمكن مجتمعا ما من الفصل في شأن
الدولة، أعني في الفصل فيما إذا كانت الدولة ضرورية أو غير ضرورية. في الشرق
الأوسط. وإذا كانت ضرورية فما هي حدود سلطتها على الفرد والعائلة والقبيلة
والمدينة والمجتمع؟ ولأسباب لم يكشف عنها بعد ومنها الإرث المؤسساتي الاستعماري-
تم غرس الجهاز الحديث للدولة، ولكن دون أن يكون ذلك نتيجة مفاوضة حول تحويل
السلطان السياسي الحديث الذي تمارسه الدولة إلى سلطة شرعية. من أجل هذه الأسباب،
فإن الاهتمامات المعيارية والنظرية للذين يعملون منا في حقل "العلم
السياسي" الخاص بالشرق الأوسط محكوم
عليها منذ البداية أن تكون مختلفة عن تلك التي انبثقت في العلوم السياسية الغربية.
في
الديموقراطيات الغربية المتقدمة، يجعل المحافظون على رأس أولوياتهم الإبقاء على
النظام السياسي كما هو، أما الليبراليون فيسعون إلى تحسينه بجعله أوسع وأشمل. أما
دعاة ما بعد-الحداثة فهدفهم هو تجاوز النظام السياسي القائم بالبحث في هوامشه عن إمكانيات للتحرر. أما نحن
فما يهمنا هو تأسيس هذا النظام السياسي الحديث أولا، وذلك قبل التفكير في
استراتيجيات للحفاظ عليه أو تحسينه ومن ثم تجاوزه. وإذن فمن المشروع تماما
الاعتراض على مصداقية الانطلاق من الاهتمامات النظرية والمعيارية الخاصة بالفكر
السياسي الغربي في عملية وضع "السياسي" في الشرق الأوسط موضع السؤال،
سواء كانت تلك الاهتمامات محافظة، أو ليبرالية، أو راديكالية.
أنا
لا أتحدث هنا عن خصوصية ثقافية استثنائية في المنطقة بل كل ما أريد الإشارة إليه
هو أنه في الشرق الأوسط -ولأسباب لم يمط
اللثام عنها بعد- ما زال اكتشاف المؤسسات السياسية الحديثة في مرحلة البداية،
وبالتالي فإن المسارات والمؤسسات السياسية التي تقوم هناك والتي يبدو أنها تماثل
أو تقلد مثيلاتها في الغرب، يجب أن لا نحملها نفس المضامين التي تحملها في أوربا
وأمريكا، بل يجب النظر فيها عبر إطار نظري ومنهجي يكشف عن مضمونها الخاص. g
(* )- نقترح ترجمة
pouvoir,
powerفي
الاصطلاح السياسي بـ "السلطان" وهو لفظ يفيد القوة، وقد ورد في القرآن
بهذا المعنى في أماكن كثيرة: ("لا تنفذون إلا بسلطان"-الرحمان 33(، كما يفيد التسلط والولاية: في القرآن أيضا
"إنما سلطانه على الذين يتولونه- النحل 100". وبهذا نترك كلمة سلطة لترجمة autorité ; authority. م.ع.ج