ص1       الفهرس    31-40

 

موقف العلماء الرواة من المدونات القديمة

قدور العبدلاوي

إن الحديث عن المدونات العلمية القديمة لدى عرب الجاهلية وصدر الإسلام ليقودنا –وبطريقة آلية- إلى الحديث عن الموضوع الذي كاد (يسأم) التناول، وهو مدى إلمام العرب بالقراءة والكتابة في هذين العصرين؟

وبدءا نريد أن ننبه إلى المفهوم الجغرافي في القديم لبلاد العرب قبل الإسلام، والذي يجب أن يرجع فيه إلى المصنفات التاريخية القديمة والحديثة التي اهتمت بالموضوع، فعندما نقول (جغرافي) نشير إلى تلك المساحة الجغرافية من الأرض التي استعمرها هؤلاء منذ القديم. وكتجمع بشري متدافع مع نفسه ومحيطه إلى أقصى حد، فإنه من البديهي أن تنتج عن ذلك أحداث اجتماعية كبرى أثرت على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والديني والطبيعي عبر المراحل التاريخية التي عاشها هؤلاء العرب فوق هذه الرقعة من كوكبنا الأرضي، فسميت باسمهم الأول، واعترف لهم بحدودها منذ ذلك الزمن إلى أن ظهر التاريخ كعلم حديث يدرس الأحداث الاجتماعية في كل أبعادها، ويحللها كما هي، وكما فرضها وصنعها هذا الكائن الاجتماعي. لذا، يجب أن يدرس التاريخ الميثيولوجي والانتروبولوجي للعرب القدامى، لأن أي دراسة تهمل أي جانب من هذه القضايا لتاريخ شبه جزيرة العرب، تبقى دراسة ناقصة وغير علمية لأن بعض الدارسين من غير ذوي الاختصاص الذين يعوزهم هذا السند العلمي، يعتقدون أن بلاد العرب القدامى هي المنطقة الجغرافية للمملكة العربية السعودية الآن، والتي كانت لا توجد فيها حواضر ذات شأن فاعل باستثناء مكة ومكانتها الدينية في نفوس العرب، ومدينة يثرب وغيرهما من القرى الأخرى لتوقف قوافل التجارة.

وبناء على ذلك، يتبنون كثيرا من النظريات العلمية غير الموثقة في أكثر جوانبها، وخاصة في مجال دراسة الأدب العربي القديم، مثل ما يقال عن ندرة القراءة والكتابة بين سكان هذه المناطق الصحراوية الشاسعة، ويجهلون أو يتجاهلون أن بلاد العرب قديما كانت تمتد من بلاد العراق والشام إلى شبه جزيرة سيناء شمالا إلى اليمن جنوبا، ومن الخليج العربي شرقا إلى البحر الأحمر غربا، هذا إذا استثنينا التأثر المتبادل بين سكان مصر الأقدمين مع هؤلاء العرب، وأن موطنهم الرحب هذا توالت عليه حضارات وحضارات، روحية ومادية، أثرت وتأثرت بالحضارات الإنسانية الأخرى.

وينسون كذلك أن هناك شعراء عربا عراقيين وشاميين ونجديين ويمانيين كغيرهم من شعراء المناطق الأخرى، ودون أن نغفل كذلك التفاعل الاجتماعي والحضاري الذي كان يحدث بين عناصر سكان هذه المناطق الجغرافية الشاسعة المترامية الأطراف، منها التفاعل الطبيعي للرحلات التجارية أو أداء مناسك الحج أو التجمع في المواسم والأسواق السنوية التي كانت تعقد في أماكن متفرقة من بلادهم في أشهر معلومات من كل سنة، أو تلك الهزات العنيفة التي تجبر أي تجمع بشري على الهجرة والرحيل إلى مناطق أخرى كالحروب والأوبئة والقحط، حيث نجد مجتمعات قبلية بأكملها قد هاجرت إلى الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب أو الوسط، محدثة بذلك تمازجا بشريا بين السكان العرب في البوادي والحواضر مما يزيد في الروابط ويوثق وحدة القيم رغم احتفاظ كل تجمع قبلي صغير ببعض سماته المميزة له، وهو أمر طبيعي لدى كل مكونات التجمعات البشرية.

معرفة العرب للكتابة قبل الإسلام:

إن كثيرا من الباحثين المتخصصين قد أجمعوا على أن العرب قبل الإسلام، والذين كانوا يسكنون هذه البلاد بالمفهوم الجغرافي السابق، كانوا يتقنون القراءة والكتابة، يشهد على ذلك تاريخ الحضارات التي توالت وتعاقبت على هذه المناطق، كالكشوفات الآثارية من نقوش وكتابات متنوعة، ويذكر ناصر الدين الأسد أنهم كانوا "يكتبون في جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذي عرفه بعد ذلك المسلمون، وقد أصبحت معرفة الجاهلية بالكتابة معرفة قديمة أمرا يقينيا يقرره البحث العلمي القائم على الدليل المادي المحسوس"[i]. ونشير هنا إلى أن خطوط هذه الكتابات، التي نبتت وعاشت بهذه البلاد، قد تطورت وارتقت وتنوعت من مرحلة إلى أخرى، تبعا لتطور هذا الإنسان وثقافته.

ولا بأس هنا أن نعمل على توثيق هذه المسلمة، والتي يشكك فيها، إذا لم نقل ينفيها بعض الدارسين من مستشرقين وعرب، جاء في كتاب الفهرست أنه "كان في خزانة المامون كتاب بخط عبد المطلب بن هشام من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري، من أهل وزل صنعاء عليه ألف درهم فضة كيلا بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه، شهد الله والملكان"[ii].

ويذكر الطبري (265-310هـ) في تاريخه أن المسلمين لما استقروا بالأنبار وجدوا أهلها يتعلمون القراءة والكتابة، ويقول في مكان آخر: "ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهورا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها"[iii]. ويجب أن نمعن النظر في جملتي (يكتبون العربية ويتعلمونها) والتي توضح أن هناك وضعا تربويا تعليميا ممنهجا، كان قائما، مما يعني كذلك أن هناك مدارس وكتاتيب قائمة ومعلمين وأساتذة متخصصين ومكتبات وأدوات الكتابة والتدوين وكل ما يمت إلى تحصيل العلم بصلة، الأمر الذي يجزم بأن العربية الفصحى كانت تعلم من قبل القوم لتثقيف أبنائهم، وأن هذه الثقافة بالمفهوم الواسع عمودها (الشعر)، ولنشر هذه الثقافة يجب حفظ هذا الشعر وروايته، حتى قيل: (إن الشعر قيل لحفظ العربية)[iv].

ويجب أن ننبه إلى الحواضر السياسية التي كانت قائمة ببلاد العرب قبل الإسلام، كإمارتي الحيرة وملوكها المناذرة، وإمارة الغساسنة بالشام، واللتين كانت لهما دواوين لتسيير وضبط سير الحكم، وكانت ملوكهما وأمراؤهما يتنافسون في استضافة كبار شعراء العرب وحكمائها ليخلدوا أمجادهم بما كانوا يدبجون في أمداحهم من غرر القصائد ونفيس القلائد، أترى هل كان هؤلاء الملوك يتركون هذا الشعر مهملا لذاكرة الحفظ والرواة؟ وعلينا أن نعي مفهوم الشعر لدى هؤلاء العرب، ولا سيما الذي يخلد مآثرهم ومناقبهم، ألم تكن لهم دواوين منظمة وكتبة وتراجمة –كما سنرى بعد قليل- فيدونوا هذه الأمداح والمفاخر؟

يروى عن ابن هشام الكلبي "أنه قال: إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة وفيها ملكهم وأمورهم كلها"[v]. ويذكر ابن سلام الجمحي حين تعرض لضياع الشعر العربي القديم على أيدي عوادي الزمن: "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح هو وأهل بيته به، صار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه"[vi].

ويأتي ابن جني بنفس الخبر، لكن مع إفادات أخرى، حين يذكر أن النعمان نسخت له أشعار العرب في الطنوج (الكراريس) ودفنت في أرض قصره، فلما كان عهد الإسلام استخرجت تلك الأشعار "فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"[vii].

والمتصفح لطرق تحمل العلم وروايته عند العلماء العرب، يجد أن التدوين قد صاحب الحفظ حتى أصبحا عنصرين متلازمين في هذا المنهج، وأنه لا يمكن الركون إلى أحدهما دون الآخر، لأن كلا منهما يدعم غيره، كما يقول الدكتور نجيب م. البهبيتي: "إن الشعر الجاهلي كان مكتوبا في الجاهلية، وأنه كان يروى كذلك مشافهة ليقوم الحفظ رقيبا على الكتابة التي قد يشتبه فيها الحرف بالحرف، والكلمة بالكلمة، وحتى تكون الكتابة رقيبا على المحفوظ، فلا يقع الشعر فريسة الوهم والنسيان. وقلت إن التقاليد التي اتبعت في نقل القرآن مكتوبا تحفظه إلى جانب الكتابة صدور الآلاف، ثم الملايين، إنما كان امتدادا للتجربة الجاهلية"[viii].

ولا يسع الدارس للأدب العربي القديم، والذي يتخذ من الشك والتحري حيطة له إلا أن يجزم بأن الشعر الجاهلي دون كثير منه من قبل الشعراء الكتبة أنفسهم أو الممدوحين أو الرواة أو أفراد المجتمع القبلي العربي. ولو كان معتمدا على الرواية الشفهية وحدها لكانت الأقطار العربية في العراق والحجاز والشام ومصر متساوية في ذلك. وإنما غلبت رواية العراق لما توفر لهؤلاء من شعر مكتوب في الجاهلية، لم يتوفر في الأقطار الأخرى. وأن أمية العرب (الأبجدية) التي أطلقت عليهم لا أساس لها من الحقيقة، وأنهم كإخوتهم الساميين قد عرفوا حضارات، والحضارة من أسس قيامها ووجودها وخلودها في التاريخ الكتابة والتدوين[ix].

ونجد ذلك جليا في أشعار الجاهليين، حيث نعتوا الخطوط، وحددوا أنواعها وأشكالها، وعرفوا أدوات الكتابة، مما ينم على أن المعرفة بطرق التدوين كانت متأصلة في المجتمع الحضري العربي، وبدرجة أقل بكثير في المجتمع القبلي البدوي، ونختصر هنا الشواهد الكثيرة التي أوردها الشعراء في شعرهم لتأييد الرأي القائل بذيوع وانتشار القراءة والكتابة عند العرب القدامى. يقول امرؤ القيس (656م).

1 – لمن طلل أبصرته فشجاني     كخط زبور في عسيب يماني

فالشاعر بنى صورة الطلل الدارس بجريد النخل الذي صار لوحا متقادما، وبدت على صفحته كتابة مخطوطة[x]، وقد اشتهر اليمنيون القدامى بالخط على ألواح جريد النخيل.

وهذا الحارث بن حلزة اليشكري (580م) يقول في قصيدة له:

2 – لمن الديار عفون بالحبس    آياتها كمهارق الفرس؟


[11]

قال قيس بن الخطيم (2 ق.هـ):

3 – أتعرف رسما كاطراد المذاهب     لعمرة قفرا غير موقف راكب؟[12]

ولم يكن هؤلاء الشعراء الجاهليون أميين ويعرفون صورة الكتابة وخطوطها بالعادة والتقليد كما يعرفها أي إنسان جاهل. بل من هؤلاء الشعراء من كانوا يتقنون القراءة والخط معا، بل كان منهم الذين يتقنون أكثر من لغة قراءة وكتابة، ويمكن أن نطلق عليهم: الشعراء الكتبة.

الشعراء الكتبة:

ونعرض هنا لجماعة من الشعراء الجاهليين، وبعض المخضرمين حسب تاريخ وفاتهم والذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة، ومنهم من كان مترجما لأكثر من لسان.

1 – لقيط بن يعمر (معمر) الإيادي (380م):

يروي صاحب الأغاني أن الشاعر كتب لقومه قصيدة يحذرهم فيها بطش كسرى "وكانوا لقاحا لا يؤدون خرجا"[13] هذا مطلعها:

4 – يا دار عمرة من محتلها الجرعا      هاجت لي الهم والأحزان والوجعا[14]

إلا أن ابن قتيبة يذكر أن لقيطا كان "متخلفا عنهم (قومه) بالحيرة فكتب إليهم":

5 – سلام في الصحيفة من لقيط      إلى من بالحيرة من إياد

6 – بأن الليث كسرى قد أتاكم     فلا يشغلكم سوق النقـــاد

7 – أتاكم منهم ستون ألفــــــا     يزجون الكتائب كالجــراد

8 – على حنق أتينكم، فهـــذا     أوان هلاككم، كهلاك عاد[15]

2 – المرقش الأكبر (552م):

والمرقش الأصغر هو ابن أخيه، وجاء في الأغاني، أنه كان "للمرقشين جميعا موقع في بكر بن وائل، وحروبها مع تغلب". كما يذكر الأصبهاني أن أباه "دفعه وأخاه حرملة إلى نصارني من أهل الحيرة فعلمهما". وكان لمرقش هوى في نفسه لابنة لعمه. وأثناء غيابه زوجها أبوها من خارج القبيلة، ولما عاد مرقش علم بذلك، بعد أن كانوا كتموا عنه الأمر، وأخبروه بأنها ماتت، فتجهز للبحث عنها، وصحب معه عبدا له مع زوجه، وأصيب في سفره هذا بمرض عضال، وطالت معاناته، وتيقن العبد أنه سوف يقضي، فقرر أن يصحب زوجه ويعود إلى القبيلة، لكن المرقش –رغم وطأة المرض عليه- شعر بخيانته، فتهالك على نفسه، وكتب على لوح مؤخرة الرحل مقطعة من ستة أبيات، يقول في البيت الثالث والخامس منها:

9 – يا راكبا إما عرضت فبلغن      أنس بن سعد إن لقيت وحرملا[16]

****

10 – من مبلغ الأقوام أن مرقشا      أضحى على الأصحاب عبئا مثقلا

يطلب فيها من أخيه حرملة وعشيرته أن يعاقبوا العبد والأمة على تقصيرهما في خدمة سيدهما، وإهماله بالعراء ذي السباع الضارية. ولما عاد العبدان إلى العشيرة أخبراها بموت المرقش في سفره، إلا أن أخاه حرملة ارتاب في الأمر، ثم نظر إلى الرحل فاطلع على الأبيات المكتوبة عليه، فعلم بجلية الأمر، واعترف العبدان بالحقيقة. لكن المرقش المحتضر احتال لإيصال خبره إلى ابنة عمه، لأنه كان قريبا من حي زوجها، فاستغاثت زوجها، وأحضرا المرقش إلى البيت، إلا أنه كان في الرمق الأخير، فأدركه الموت بمنزل زوج حبيبته.

3 – عدي بن زيد (587م):

وقد سكن أهله بالحيرة، واتصل جده الرابع بملوكها، وتولى أبوه زيد بن حماد أمر ملك الحيرة لمدة قصيرة، وطرح ابنه (عدي) في الكتاب، فأتقن اللغة الفارسية، حتى أخذ بإعجاب المرزبان في بلاغته وفصاحته، فأخبر كسرى بذلك "إن عندي غلاما من العرب (...) أفصح الناس، وأكتبهم بالعربية والفارسية "فسرعان ما اندمج عدي في حاشية كسرى "فكان أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، فرغب أهل الحيرة إلى عدي ورهبوه"[17]. كما كان كاتب النعمان الثالث ونديمه.

4 – حاتم الطائي (605م):

هو من الشعراء الجاهليين المتقنين للكتابة، ويذكر ذلك في أول بيت لقصيدة طويلة يفخر فيها بنفسه، ويرد على ناقديه في إسرافه في الكرم، ويعلل فلسفة جوده هذا:

11 – أتعرف أطلالا ونؤيا مهدما       كخطك في رق كتابا منمنما[18]

5 – النابغة الذبياني (604م):

ورفعه نبوغه الشعري إلى مرتبة منادمة ملوك الحيرة وغسان "وكان مع النعمان بن المنذر ومع أبيه وجده، وكانوا له مكرمين"، وتذكر المصادر القديمة –مباشرة أو ضمنا- أن النابغة كان يحسن الكتابة، وأن قصائده الاعتذارية إلى النعمان –بعد الجفاء الذي حدث بينهما- كان يكتبها ويرسلها إلى النعمان، يبرئ فيها نفسه مما نسب إليه من الإساءة إلى شرف الملك، وهي قصائد شعرية رائعة تنبئ عن موقع الصدمة من نفس الشاعر حين علم بما اتهم به على لسان أعدائه، وكيف أعانته قريحته الشعرية على إقناع الملك ببراءته، ونيل عفوه، واسترداد وده[19].

6 – أمية بن أبي الصلت (624م):

عرف أمية بالتأله والحنفية بناء على اطلاعه للكتب السماوية السابقة للقرآن. وحسب بعض الروايات أنه كان نصرانيا مطلعا على الإنجيل، وتذكر كتب تاريخ الأدب أنه "كان قد قرأ كتاب الله عز وجل الأول، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب". وفي رواية أخرى أن أمية "قد نظر في الكتب وقرأها(...) والتمس الدين، وطمع في النبوة، لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب، فكان يرجو أن يكونه"[20].

7 – عبد الله بن رواحة (8هـ):

أحد شعراء الدعوة الإسلامية إلى جانب حسان بن ثابت وكعب بن مالك، ذكر ابن سعد في طبقاته أن عبد الله بن رواحة "كان يكتب في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلة"[21].

8 – لبيد بن ربيعة (توفي في أول خلافة معاوية):

وقصة الشاعر مشهورة، ومدى تغلغل الإيمان في نفسه مع اعتناقه الإسلام، وكيف شغل عن قول الشعر –وهو أحد الشعراء المتعلقين في الجاهلية- بتلاوة القرآن وتدبر آيه، ويروى أن عمر بن الخطاب أرسل إلى عامله المغيرة على الكوفة، يطلب منه أن يوافيه بما جد من شعر في الإسلام، فسأل المغيرة في ذلك لبيدا، "فانطلق إلى بيته، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها فقال: أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر"[22].

9 – الشماخ بن ضرار الذبياني (22هـ):

وهو شاعر مخضرم، رأى خطا فعرف أنه باللغة العبرانية، فعلقت بذهنه صورته، وبقيت تعتمل في لا شعوره إلى أن هاجت نفسه بقوله:

12 – أتعرف رسما دارسا قد تغيرا        بذروة أقوى بعد ليلى وأقفرا

13 – كما خط عبرانية بيمينه          بتيماء حبر ثم عرض أسطرا[23]

وهذا ينبئ على أن الشاعر الجاهلي لم يكن يعرف الخط العربي وحسب، بل كان على اطلاع واسع بأنواع خطوط اللغات الأجنبية الأخرى.

10 – كعب بن مالك الأنصاري (50هـ):

أحد المنافحين عن الدعوة الإسلامية بشعره وسيفه، والذي كان يرد ويناقض شعراء المشركين، ومن الشعراء الذين كانوا يجيدون الكتابة، ويدونون شعرهم. يروي ابن حبيب بن أمية (245هـ) "…أن الرسول (ص) لما قدم المدينة كتب أبو سفيان بن حرب وأبي بن خلف الجمحي إلى الأنصار: أما بعد، فإنه لم يكن حي من أحياء العرب أبغض إلينا، أن يكون بيننا وبينهم نائرة منكم، وإنكم عمدتم إلى رجل منا، أشرفنا في الموضع، وأعرقنا في قومنا منصبا، فآويتموه ومنعتموه. إن هذا عليكم عار ومنقصة، فخلوا بيننا وبينه، فإن يك خيرا فنحن أسعد به، وإن يكن سوى ذلك، فنحن أحق من ولي ذلك منه، فكتب إليهما كعب بن مالك بهذا الشعر في يوم أحد وذكر أسماء النقباء "الاثني عشر الذين عينهم الرسول(ص)، وهي قصيدة من أربعة عشر بيتا:

14 – أبلغ أبيا أنه فال رأيه    وحان غداة الشعب والحين واقع[24]

ولنقتصر على هذه الجماعة من الشعراء الذين يمثل أكثرهم العصر الجاهلي الذي كانت فيه الكتابة والقراءة منتشرة، وذات مراكز للتعليم، تشهد بها كتب التاريخ والأدب. أما في بداية الإسلام فهذا لا يحتاج إلى ملاحاة في شأن ازدهار التعليم والتربية لدى العرب المسلمين، ولا سيما وهم يعيشون هزة عنيفة في الفكر والروح سادت شبه جزيرتهم أولا، قبل أن تتعداها إلى الجوار. وذلك بانبعاث الدعوة الإسلامية بينهم، ونزول الآيات القرآنية منجمة تقرع ببيانها عقولهم، وتدعو إلى القراءة بمفهومها العلمي الواسع التي تساعد على التدبر والتعرف والهداية، وهذا لا يكون إلا بالعقل العلمي القارئ والكاتب والمتقد.

البحور الشعرية والكتابة:

من خلال تصفح الباحث لعلم العروض الخليلي، والإمعان في موسيقى بحوره، يتجلى أن الأذن الموسيقية المرهفة، لا تستطيع وحدها ضبط حركات وإيقاعات تفعيلات البيت الشعري، التي وضعت على أساس شفهية معرفة العربي القديم، بل لا بد من آلة أخرى مسعفة على ذلك في بعض الأحيان، وهي الكتابة، لأن نوع القوافي وحروف الروي للشعر القديم تؤيد ذلك، ويمكننا هنا أن نستأنس بقول أحد المستشرقين الذي يقول: "وفي وسعي أن أمضي إلى أبعد من هذا، فأقترح أن نظم القصائد وفن الكتابة قد ارتبطا بوضوح، ومن المحتمل أن الشاعر كان هو أيضا الشخص الذي مارس فن الكتابة السحري، وبالإضافة إلى ذلك، فإن قوافي معظم القصائد العربية أوضح للعين منها للإذن، وقد تباهى بعض الشعراء بنظم القصائد التي قوافيها على حروف (ط، ص، ز)"، إلى أن يقول: "ويلوح لي أن هذا يدل أيضا على أن الحروف لا الأصوات لعبت دورا كبيرا في فن الشعر"[25].

ومن هؤلاء الشعراء الذين عمدوا إلى نظم قصائدهم على قواف التزموا فيها حروفا متعددة وذات الإيقاع الواحد، وكذا الروي النادر، أبو العلاء المعري كما هو معروف عنه، وقبله أبو الأسود الدؤلي (69هـ)، فقد كان يتهادى قرض الشعر مع صديقه أبي الجارود الشاعر، ولما تولى هذا الأخير وظيفة نسي صديقه أبا الأسود، الذي كتب إليه يعاتبه على هذا الإهمال:

15 – أبلغ أبا الجارود عني رسالة      أفي كل قول قلته أنت آخذ

وهي قصيدة من عشرة أبيات رويها حرف (الذال) المعجمة، ويروي محقق الديوان أن أبا الجارود "أجبل عن جوابه وصعب عليه الروي، فأجابه عطية بن سمرة بن وهب الليثي عن أبي الجارود، فقال:

16 – لقد قلت لي قولا وإني لقائل     جواب الذي قلت أم أنت عائذ؟

وهي مقطعة من ستة أبيات. كما قال أبو الأسود مقطعة شعرية أخرى على حرف الضاد:

17 – من مبلغ عني خليلي مالكا      رسولا إليه كان من الأرض[26]

وهذا يبين أن هذا العرف وغيره في قرض الشعر ونظمه كان سائدا من قبل، وأن الكتابة –إلى جانب الرواية- لعبت دورا بارزا في ذلك.

لكن رغم هذا الانتشار المتوارث للكتابة في العصرين الجاهلي والإسلامي وأثره في اللغة والشعر، نجد جل الدارسين القدماء يهملون هذه المصدر، ولا سيما الطبقات الثلاث من علماء اللغة والأدب وغيرهم من العلماء الآخرين، الذين قامت على أيديهم جميعا الانطلاقة الأولى لبناء صرح الثقافة العربية الإسلامية على أسس فلسفية كونية جديدة، وحتى إذا ما اضطروا للتعرض لها أوجزوا واختصروا، وركزوا على شفهية الشعر القديم وأمية الشاعر الجاهلي والإسلامي، أي شعراء عصر الاحتجاج! وعل الطبيعة الإنشادية لهذا الشعر أعانتهؤلاء العلماء على تطبيع هذا الإلغاء لكل مكتوب قديم، كما خدعت كثيرا من الدارسين إلى عصرنا هذا، للاقتناع بأمية الثقافة العربية الأولى في هذين العصرين.

الأعراف الرواة:

بداية من بزوغ القرن الثاني الهجري ظهرت على الساحة أول جماعة من رواة اللغة والشعر والأخبار، أطلق عليها مصطلح (طبقة)، وتتميز بكون أفرادها اختصوا في قراءة الشعر واللغة، واعتنوا بجمعهما وتوثيقهما، واعتمد هؤلاء العلماء –في عملهم هذا- على مصدرين أساسيين، الأول: الأعراب سكان الصحاري والقفار، والمنقطعين على تأثيرات المجتمع الحضري أو القروي حسب تعبيرهم القديم[27]. والثاني، المدونات القديمة التي ترجع إلى العصر الجاهلي وصدر الإسلام والتي وجدوها بين أيديهم، وكان منهج تلقي العلم لدى هذه الطبقة أو من سيأتي فيما بعد من تلامذتهم الذين سيكونون الطبقات الموالية[28]، أن لا يأخذوا عن القرويين الذين عاشوا في الحاضرة أو كثر ترددهم عليها، أو سكنوا الأطراف أو جاوروا بلاد العجم لأن كل ذلك يفسد اللسان، ويدخل في اللغة من الكلام ما ليس بعربي فصيح[29].

وطبقا لهذا المنهج في تلقي اللغة وشعرها كان علماء المدرستين العتيدتين في حياة الثقافة العربية –البصرة والكوفة- كثيرا ما يطعنون في رواية بعضهم ومصادر تلقيهم، وعندما تشتد بينهم الملاحاة وتضطرم الخصومة، نجدهم يتباهون بمصادر علمهم هذه. يروى عن الرياشي (257هـ) وهو من نحاة البصرة، أنه قال: "إنما أخذنا اللغة عن حرشة الضباب، وأكلة اليرابيع، وهؤلاء (علماء مدينة الكوفة)، أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب الكواميخ، وأكلة الشواريز، أو كلام يشبه هذا"، أو قال: "نحن إلى حذفة الأرانب وحرشة الضباب، لسنا إلى أكلة الشواريز والكواميخ"[30].

وأثار كتاب أبي عبيدة (209هـ). مجاز القرآن لدى العلماء جدلا محتدما وأنكروا عليه كثيرا مما جاء فيه، يروي أبو عمر الجرمي، أنه سأله: "عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة؟ فإن هذا خلاف تفسير الفقهاء، فقال لي: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم"[31].

يستنتج من هذا مدى صرامة منهج علماء المدرستين في تعاملهم مع مصادر تلقي اللغة والشعر أو غيرهما، ومدى الانضباط الفكري، والتحري المبالغ فيه أحيانا، الذي أخذوا به أنفسهم في عملهم هذا، وأنهم كانوا يتهمون كل من أخذ عمن جاور الحضر أو أسرف في التردد أو الاختلاط بأهله من الأعراب، ومن أصناف الأطعمة المذكورة في النصين السابقين، وكذا طبيعة حياة الناس الاجتماعية، أهم حضر أم بدو ؟يتبين عمن يجب أن تؤخذ اللغة ويوثق في كلامهم، ومن يجب ألا يؤخذ عنهم والاحتراز من روايتهم، وهكذا نجد الأعراب المتوحشين (حسب النص) أو البدائيين الذين لم يعرفوا نعيم العيش، ولا رغد الحاضرة، ولا عرفوا أهلها أو اختلطوا بهم، هم المصدر الموثق الذي يجب أن يعتمد في جمع اللغة واستنباط علومها.

هذا هو المصدر الأول والأساس الذي اعتمدته جماعات العلماء الرواة، لكن أين إشاراتهم إلى المصدر الثاني الذي اعتمدوه بدوره في مسيرتهم العلمية هذه؟ والذي يتجلى في المدونات العلمية القديمة التي وجدوها بين أيديهم، والتي قلنا إنها ترجع إلى العصور الجاهلية، والحقبة الأولى من ظهور الإسلام، بل إننا إذا ما تأملنا طرق تحمل العلم عند علماء هذه الطبقات، نجد العنصر المهيمن على مصادر علمهم هو التلقي الشفوي أو الرواية الشفهية، ونادرا ما نجدهم ينصون على المصدر المكتوب أو المدون، وكأنهم لم يجدوا شيئا من ذلك لديهم، أو كأن الثقافة العربية في عصرهم هذا أخذت تبني نفسها من الصفر!!! أو أن هؤلاء العرب لم يكن لهم وجود في قديم الزمن، أو لم يكن لهم هذا الانتشار على هذا المحيط من الأرض الشاسعة، المتباعدة الأطراف؟! ولم يشيدوا عليها حضارات، أو أثروا أو تأثروا بمحيطهم أو بما جاورهم من الأمم والأجناس الأخرى!؟

أسباب كراهتهم الأخذ عن المدونات القديمة:

إن هذا التغاضي من قبل هؤلاء العلماء عن ذكر المدونات الأولى التي وجدوها لديهم كمصدر للعلم، والتي ترجع إلى العصريين الجاهلي والإسلامي الأول، ولم يعد هناك شك في وجودها المادي كما ذكرنا آنفا، بناء على ما أكدته الدراسات العلمية المتحرية، له علل ومبررات أساسية، وعلى المرء أن يعمل مخيلته، ويشحذ ذهنه، ليتقرب من حقيقة شكل الكتابة العربية القديمة وخطوطها وصورها وأدواتها في ذلك العصر، بناء على ما نقلته لنا من وصف ودراسات كتب الآداب والتاريخ، والحضارة الإسلامية، وكذا آثارها الباقية، ولوحاتها المكتشفة في عصرنا الحديث، الأمر الذي يجعلنا نعيش ونلمس حقيقة الإشكال الذي كانت تطرحه هذه الكتابة! حين نشاهد رسوم هذه الخطوط، وصعوبة كتابتها أو قراءتها في آن معا[32]. لذا، ارتاب هؤلاء العلماء في كل من يروي عن هذه المخطوطات، وشكوا في صحة علمه ومعارفه، أو لنقل إنهم منعوها عن كل من لا اختصاص له، وغير مؤهل علميا لقراءتها قراءة سليمة خالصة من الأخطاء أو التحريفات، لأن كثيرا ممن تلقوا بعض علمهم عن هذه المدونات مباشرة، وقعوا في تصحيفات شنيعة، وزلات علمية خطيرة، هددت الأمة العربية والإسلامية في بنائها الروحي والحضاري جميعا، ولا سيما ما لحق اللغة من أخطاء نتيجة الكتابة أو القراءة بهذا الخط الذي كان يدون به في ذلك الإبان، وتجلت خطورة الأمر فيما لحق قراءة القرآن في المصاحف ومدونات الأحاديث النبوية وغيرهما من تصحيفات حرفت دلالات النصوص الحقيقية إلى ما لا يخطر على بال.

روى الكوفيون أن حمادا الراوية "كان قد حفظ القرآن من المصحف، فكان يصحف نيفا وثلاثين حرفا"[33]. هذا حماد الراوية عميد الطبقة الأولى للعلماء الرواة، ورأس شيوخ المدرسة الكوفية يقع في هذا التصحيف الشنيع، ويقوده حظه التعس إلى أن يكون ذلك في كتاب الله، فيعظم الجرم، وتكبر السقطة.

روي عن عمران بن حصين (52هـ) بإسناده، "سمعت رسول الله (ص) يقول: الحياء لا يأتي إلا بخير، فقال له بشير بن كعب، وكان معروفا بقراءته للكتب: إن في الحكمة أن منه ضعفا، فغضب عمران بن حصين، وقال: أحدثك بما سمعت من النبي (ص) وتحدثني عن صحفك هذه الخبيثة"[34]. ونظرا لهذا الخطر الذي يأتي من المصادر المدونة القديمة أو الحديثة في أوائل الإسلام، كان المتلقي الثبت لا يثق فيما أخذه منها إلا بعد عرضه على الشيوخ المؤهلين لتوثيقه.

يذكر أبو أحمد العسكري (382هـ) حين تعرض لبيت شعري صحف فيه أبو عمرو بن العلاء، فنص على أنه استقى روايته من (كتاب)، لذلك فهو غير مطمئن لما أخذه منه، ويشك فيه. "وما كتبته من كتاب لبعض العلماء ولا أضمن عهدته. لأني لا أعتد إلا بما أخذته رواية من أفواه الرجال، أو قرأته عليهم"[35].

شعرية البداهة أفضل لدى العلماء الرواة:

هذا بالنسبة للرواة العلماء المتخصصين أو غيرهم من شداة العلم، من الطلبة وعامة القراء، أما بالنسبة للشاعر سواء جاهليا كان أو إسلاميا، فالموقف يختلف، لأن هذا الشاعر هو نفسه مصدر اللغة، ودوره أخطر وأعظم من دور غيره من هؤلاء العلماء، فهو المادة الخام النادرة وهم المنقبون الباحثون عنها، أو هو الأستاذ وهم المريدون، فإذا كانت المرتبة العلمية العالية لهؤلاء شرطا ضروريا، فإن هذا الشاعر اشترط فيه غير ذلك، وهو (الأمية الأبجدية) مع وجود القريحة الشعرية بالطبع.

وإذا كان الشعر الجاهلي بالأساس، والشعر الإسلامي إلى نهاية عصر الأمويين الديوان الشعري لعصر الاستشهاد اللغوي، فإن كثيرا من شعراء هذه العصور التاريخية قد استثنوا من ذلك، لانتفاء شروط الاستشهاد بلغتهم الشعرية، إما لمعرفتهم القراءة والكتابة، أو ركونهم إلى الحواضر وقيامهم بها، وبذلك ينظر إليهم علماء اللغة على أنهم ليسوا شعراء بديهة وارتجال وطبع، وأن القول الشعري لا ينثال عليهم انثيالا كما هو الأمر بالنسبة للسليقة البدوية العفوية التي نشأت في بيئة الأعراب البداة الذين عصمت لغتهم من أي تأثير أعجمي. أو أن الشاعر يقرأ ويكتب، وبالتالي فإن معجمه الشعري هو لغة مكتسبة ومصنوعة، ولا تكون حجة يستشهد بها.

وتجلى هذا الموقف لدى هؤلاء العلماء الرواة في مواقف كثيرة حيال هؤلاء الشعراء، منهم عدي بن زيد لأنه نشأ في الحاضرة وكان شاعرا مثقفا يجيد القراءة والكتابة ويترجم لأكثر من لغة كما رأينا سابقا. يقول ابن قتيبة "كان يسكن الحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه (...) وعلماؤنا لا يرون شعره حجة". وروي عن أبي عمرو "أن العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانيا من عباد الحيرة قد قرأ الكتب"[36]. ومثله في ذلك مثل أبي داود الأيادي، قال الأصمعي: "عدي بن زيد وأبو داود الإيادي لا تروى أشعارهما لأن ألفاظهما ليست بنجدية"[37].

ومن الإسلاميين ابن قيس الرقيات (85هـ)، قال عنه الأصمعي: "ليس بحجة، لأن الحضرية أفسدت عليه لغته"[38]. والطرماح بن حكيم (125هـ)، لأنه نشأ بالسواد، ورآه أبو عمرو بن العلاء "يكتب ألفاظ النبيط ليدخلها في شعره". وكذا صديقه الكميت بن زيد الأسدي (126هـ)، قال عنه الأصمعي:… "الكميت تعلم النحو وليس بحجة، لأنه مولد، وكذلك الطرماح"[39]، وكان الكميت معلما للصبيان. 

هكذا كانت تغربل لغة الشعراء لدى هؤلاء العلماء، فالشاعر الذي يحتج بلغته، يجب أن يكون أميا جاهلا بالقراءة والكتابة، ثم بدويا أعرابيا، وقصة الشاعر البدوي ذي الرمة شهيرة مع هؤلاء العلماء، فهو شاعر الصحراء ووحوشها وهوامها، وشعره مصدر للغة العربية الفصيحة لدى العلماء، يستشهد بلغته، ويقاس على ألفاظه، إلا أنهم قد اتهموه بأنه يلم بالقراءة والكتابة، لا لسبب إلا أنهم رأوه يتردد على دكاكين البصرة وحوانيتها، كما أنه ورد في شعره وصف لرسم حرف (الميم):

18 – كأنما عينها منها وقد ضمرت  واحتثها السير في بعض الأضا-ميم[40]

فعابوا عليه أنه يعرف القراءة والكتابة، وإلا كيف عرف صورة حرف (الميم) الخطية حتى استعارها لتشبيه عيني ناقته التي أضناها السير. وقد روى عنه ذلك أكثر من راو، مثل حماد الراوية الذي كان يقرأ شعره عليه حتى يصححه بنفسه، وقد كان اندهاشه شديدا حينما وجد ذا الرمة يصلح ويصحح كثيرا من الحروف الهجائية في شعره. ونجتزئ هنا من هذه الروايات، رواية عيسى بن عمر: "قال لي ذو الرمة: أنت والله أعجب إلي من هؤلاء الأعراب. أنت تكتبوتؤدي ما تسمع. وهؤلاء يهون علي أحدهم –وقد نحته من جبل- أن يجيء به على غير وجهه. قال: قلت: إني لم أحل منك بشيء، قال: كنت مشغولا، عد إلي، فعدت إليه، فتعاييت في شيء، فتهجاه لي، فقلت: أراك تكتب يا أبا الحارث! قال: إياك أن يعلم هذا أحد. تعلمت الخط من رجل كان عندنا، أتانا بالحفر، فكان يجلس إلي من العتمة إلى أن ينكفت السامر، يخط لي في تراب البطحاء". وفي رواية أخرى "اكتب شعري، فالكتاب أعجب إلي من الحفظ، لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد تعبت في طلبها ليلة فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشده الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاما بكلام". بل سئموا منه تردده على البصرة، حتى أن الأصمعي قال: "ذو الرمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين"[41]. بل نجد المستشرق (كرنكوف) يقول بأن "أقدم مخطوط لديوانه كتبه الشاعر بنفسه"[42].

خاتمة:

إذن، بماذا يمكن أن نخرج من تناول هذا الموضوع (موقف العلماء الرواة من المدونات القديمة)؟ أو بعبارة أخرى، كيف كانت قراءة هؤلاء العلماء لهذه النصوص بطريقة كتابتها تلك؟ والتي كانت لغزا أبجديا، لا يجيد فكه إلا من أوتي علما وحكمة، أو على الأقل أن يخرج بأقل ضرر من قراءته لها، حيث تندر تحريفاته وتصحيفاته، لأنه يستحيل على أي كان من هؤلاء العلماء أن يخرج سليما من قراءتها، وحل رموز طلاسمها دون أن يقع في هفوة، أو يرتكب خطأ، لأن المصادر القديمة، التي درست الموضوع، تحدثنا على أن جلة علماء هذه الطبقات، لم ينج أحد منهم من الوقوع في هذه الأخطاء، لذا كان ذاك موقفهم منها، لأن قراءتها –على ذلك الشكل القديم من الكتابة- هو من اختصاص هؤلاء العلماء وحدهم، على أن يعرضوه على بعضهم، ويتدارسوه فيما بينهم، حتى يوثقوه ويصححوه من هذه الآفات اللغوية التي يمكن أن يرتكبها بعضهم، أو بصفة عامة، أنه يجب على كل من رام الأخذ من هذه المصادر المدونة في تلك العهود أن يرجع في ذلك إلى هؤلاء العلماء ويعرضه عليهم.

وبناء عليه، فهم لم يهملوها، أو هجروها، بل اعتمدوها في روايتهم، ومحصول علمهم، واستقوا منها كثيرا مما لم تستطع الرواية الشفوية الحفاظ عليه، وبما أنهم كانوا يعرضون ما نالوا منها على العلماء، فهم كانوا يضعون ذلك بمثابة الرواية الشفهية، فلا يحيلون عليها، حتى يجنبوا عامة الناس خطر الأخذ عنها مباشرة دون عرض أو تمحيض[43]، كما أن هذا الشكل من الكتابة دفع العلماء والحكام على السواء إلى العمل على تطوير الكتابة العربية، وإصلاح رسم خطتها، وحركات أصواتها، وهو الأمر الذي شرع فيه على يد أبي الأسود الدؤلي، لينتهي على يد الخليل بن أحمد الفراهيديg



[i] - مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية، ص33، الطبعة الخامسة، دار المعارف.

[ii] - ابن النديم، الفهرست، ص8، تحقيق رضا – تجدد.

[iii] - تاريخ الأمم والملوك، 4/20 ط. الأولى، المطبعة الحسنية المصرية.

[iv] - المدخل إلى دراسة الأدب والتاريخ العربيين، ص619، نجيب م. البهبيتي، دار الثقافة، الدار البيضاء.

[v] - تاريخ الأمم والملوك، 2/37.

[vi] - طبقات فحول الشعراء، 1/25، قرأه وشرحه محمود م. شاكر، مط. المدني، القاهرة.

[vii] - الخصائص، 1/387. تأليف أبي الفتح عثمان بن جني، حققه م.علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت-لبنان. المكونات الأولى للثقافة العربية، ص53، د.عز الدين إسماعيل، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الإعلام، بغداد-العراق.

[viii] - المدخل لدراسة الأدب والتاريخ العربيين، ص474.

[ix] - التصحيف والتراث الشعري القديم، أسبابه وظواهره وجهود العلماء للحد منه، مرقون بكلية الآداب بالرباط. تاريخ الشعر العربي في القرن الثالث الهجري، ص192، دار الفكر، مكتبة الخانجي.

[x] - زبر الكتاب يزبره زبرا، كتبه، والزبر: الكتاب. ج. زبور. اللسان (زبر)، شرح القصائد السبع الجاهليات، ص526. لأبي بكر م. بن القاسم الأنباري تح.وتعليق ع.السلام م. هارون، الط: الخامسة، دار المعارف.

[11] - الحبس: موضع. والمعارق ج.مهرق: الصحيفة البيضاء يكتب فيها. المفضليات، ص132 تح. وشرح: أحمد محمد شاكر وع. السلام م. هارون. الط: السادسة. بيروت – لبنان. شعراء النصرانية، 3/419، الأب شيخو، مكتبة الآداب، القاهرة. اللسان: (هرق).

[12] - المذاهب: جلود كانت تذهب، وأحدها مذهب، تجعل فيه خطوط مذهبة، فيرى بعضها في أثر بعض. اللسان: (ذهب). طبقات فحول الشعراء، 1/228. جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، ص507، تأليف أبي زيد. م. بن الخطاب القرشي، حققه وضبطه وزاد في شرحه علي م.البجاوي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة-القاهرة.

[13] - لقاح: بفتح اللام، يقال: (قوم لقاح، وحي لقاح) لم يدينوا للملوك، ولم يملكوا ولم يصبهم في الجاهلية سباء.

[14] - الأغاني 22/360 لأبي الفرج الأصبهاني، شرحه وكتب هوامشه ذ.سمير جابر، دار الفكر.

[15] - وهي غير الرسالة الشعرية التي أتينا بمطلعها، كما ذكر الأصبهاني في أغانيه، وهي قصيدة يذكر ابن قتيبة أن الشاعر قالها بعد اللقاء الأول بين إياد وجيش كسرى، يستعديهم ويحثهم على الاستعداد للحرب، والنقاد (بكسر النون): جنس من الغنم. الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/199، تح. وشرح أحمد م.شاكر، دار المعارف.

[16] - أنس بن سعد وحرملة هما أخوا المرقش، وانظر المفضليات ص221 والأغاني 6/130، الأصبهاني الناشر، دار الثقافة بيروت، حيث القصة كاملة ومفصلة.

[17] - وانظر تاريخ حياته في كتاب الأغاني 2/84، دار الثقافة، بيروت. وشعراء النصرانية 4/439.

[18] - الرق: الصحيفة البيضاء، وهو ما يكتب فيه من جلد رقيق، اللسان (رق). نمنمت الريح التراب: خطته، وتركت عليه أثرا شبه الكتابة، وكتاب منمنم: منقش. اللسان (نمنم). ديوان حاتم الطائي، ص80، شرحه إبراهيم الجزيني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، شعراء النصرانية 1/118.

[19] - الشعر والشعراء 1/164، تاريخ التراث العربي، المجلد الثاني، الجزء 2، ص8. فؤاد سزكين، نقله إلى العربية. د.محمود فهمي حجازي: راجع الترجمة، د.عرفة مصطفى، د.سعيد ع.الرحيم، 1403هـ/1983م، مصادر الشعر الجاهلي، ص115، 128-160.

[20] - الأغاني 4/129، المعارف، ص28، لابن قتيبة الدينوري، إعداد إسماعيل، ع.الله الصاوي، المط:الإسلامية. مصر، الأزهر.

[21] - الطبقات الكبرى، 3/526 لابن سعد، دار صادر، بيروت.

[22] - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، 2/248. تأليف ع.القادر بن عمر البغدادي، تح: ع.السلام، م.هارون.

[23] - و(التعريض): ضرب من الخطوط يكتبه المتعجل الذي لا وقت لديه، ولا آلة كتابية حقيقية تساعده على تجويده، لذا جاء قولهم: (عرض ولم يصرح)، أما الخط الذي تتوفر لصاحبه كل الأسباب فهو (الترقيش والنمنمة والتنميق)، ديوان الشماخ بن ضرار الذبياني، ص129. حققه وشرحه صلاح الدين الهادي، دار المعارف.

[24] - فال: خسر. المحبر لابن حبيب، ص272. صححته الدكتورة إيلزة ليختن شتيتر، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت. سيرة النبي (ص) لابن هشام، 2/53، حققه المرحوم الشيخ م, محيي الدين ع.الحميد، دار الكتب، 1401هـ/1981م.

[25] - دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ص303، ترجمة الدكتور، ع.الرحمان بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، الط: الثانية، 1986م.

[26] - ديوان أبي الأسود الدؤلي، ص40 و114، تح: الشيخ، م.حسن آل ياسين، منشورات مكتبة النهضة، بغداد 1384هـ/1964م، الط:الثانية.

[27] - الخصائص، 2/5.

[28] - طبقات اللغويين والنحويين، تح: م.أبو الفضل إبراهيم؛ ذخائر العرب، دار المعارف؛ الأعراب الرواة، ص72، د.ع الحميد الشلقاني، دار المعارف؛ مصادر الشعر الجاهلي، ص252.

 

[29] - المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1/210، 211، 212، ع.الرحمان جلال الدين السيوطي، تح: م.أحمد جاد الله، وعلي م.البجاري وم.أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

[30] - حرشة الضباب: صيادوها، واليربوع: دويبة فوق الجرذ، الذكر والأنثى فيه سواء. السواد: جماعة النخل والشجر لخضرته واسوداده، والسواد ما حوالي الكوفة من القرى. والرساتيق (السواد) وسواد البصرة والكوفة وقراهما. أكمخ بأنفه: شمخ به، والكامخ – نوع من الأدم، (معرب)، شواريز وشراريز: م.شيراز، اللبن الرائب المستخرج ماؤه. حذف، يحذف، حذفا: ضربه عن جانب، أو رماه عنه، وحذفه بالعصا وبالسيف: ضربه أو رماه بها اللسان. (حرش)، (ربع)، (سود)، (كمخ)، (حذف). شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، ص41، 42. تأليف أبي أحمد العسكري، حققه د. السيد محمد يوسف، راجعه أحمد راتب النفاخ، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق.

[31] - طبقات النحويين واللغويين، ص176.

[32] - نحيل القارئ هنا على أحد المصادر في الموضوع التي نقلت أشكال هذه الخطوط، وعملت على فك رموزها وقراءتها: تاريخ اللغات السامية. إ.ولفنسون، دار القلم، بيروت، لبنان.

[33] - شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، ص12.

[34] - شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، ص10، صحيح مسلم، 1/64، تهذيب التهذيب، 1/471.

[35] - شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، ص96.

[36] - الشعر والشعراء، 1/225.

[37] - الموشح: مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر، ص93 للمرزباني، تح: علي م.البجاوي، دار الفكر العربي، القاهرة.

[38] - ما يجوز للشاعر في الضرورة، ص85. لأبي ع.الله م.بن جعفر القزاز القيرواني، تح. وتقديم المنجي الكعبي، الدار التونسية للنشر، 1971م.

[39] - المولد: يقصد به الشخص الذي ليس عربي النسب صراحة. والمولد من الكلام ما كان مستحدثا ليس من أصل اللغة وأبو عمرو بن العلاء لا يعتبر من الشعر إلا الجاهلي، وما جاء بعده فهو مولد، أي العصر الإسلامي والأموي، فلا يحتج به، "غير أن المشهور بين الناس والعلماء الذين تأخر بهم الزمن عن أبي عمرو أن المولدين تبدأ قوافلهم مع بداية الدولة العباسية، بطبقة ابن هرمة وبشار بن برد ومروان بن أبي حفصة". كما يسمى هؤلاء محدثين فلا يحتج بلغتهم. ويحتج بلغة سابقيهم. الرواية والاستشهاد باللغة، ص155. دراسة لقضايا اللغة والاستشهاد في ضوء علم اللغة الحديث، د.م. عيد الناشر، عالم الفكر، 1972، القاهرة. الموشح، ص267-268. الشعر والشعراء، ص2/581/585.

[40] - الأضاه: الغدير، والجمع أضاء. الديوان، ص58، جمعه ووقف على طبعه بشير بن يموت، المكتبة الأهلية، بيروت 1934م. أدب الكتاب، ص62، عني بتصحيحه م. بهجة الأثري، ونظر فيه السيد محمود شكري الألوسي. الخصائص، 3/296. المزهر، 2/349.

[41] - وجاءت الرواية بصيغ مختلفة في المظان القديمة. وانظر: الموشح ص233. العمدة في محاسن الشعر وآدابه 2/990 تأليف الإمام أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني، تح: م.قرقزان، دار المعرفة: بيروت-لبنان،الط: الأولى، 1408هـ/1988م. الشعر والشعراء، 1/525، الخصائص، 3/195.

[42] - دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ص300.

[43] - حيث سيوضع فيما بعد منهج (لتحمل العلم وروايته)، ومن عناصره الأساسية كيفية الاستفادة من النص المدون والإحالة عليه.