ص1     الفهرس    31-40

 

حديث المنهج والرؤية في "العقل الأخلاقي العربي"

-1-

محمد عابد الجابري

يمكن القول، انطلاقا من حالة "الوضع الراهن" في مجال دراسة الفكر الأخلاقي في تراثنا العربي الإسلامي -كما رصدناه في "المقدمة"- إن عملنا في هذا الكتاب سيكون أشبه ما يكون بعمل من يقوم بمغامرة في قارة سيكون عليه أن يستكشفها ويصفها، ويدرس أشياءها ليرتبها ويربطها بأصولها وفصولها، قارة جمعت في جوفها وعلى ساحاتها موروثا من القيم والأخلاق ينتمي إلى خمس ثقافات!

وهذه المغامرة سيقوم بها القارئ معنا، وسيتحمل ما سيكون علينا أن نتحمله من مشاق، ويستمتع بما عسى أن يكون في طريقنا من مشاهد ترتاح النفس لها، أو آفاق يلتذ العقل بمضامينها ورحابتها. وإذا كان القارئ قد سبق له أن رافقنا في رحلتنا عبر "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" و"العقل السياسي العربي" –والغالب على الظن أنه فعل ذلك، ربما أكثر من مرة- فلا شك أنه ينتظر منا أن نعرض عليه، قبل الإبحار، "الأجهزة" التي سنستعين بها في عملنا، كما فعلنا في رحلتنا السابقة. وإذا كان قد بادر، عندما سمع بانصرافنا لإنجاز هذا العمل، إلى التفكير معنا في الكيفية التي يمكن أن نواصل بها الرحلة، فلا شك أنه قد طرح مسألة المنهج والرؤية التي تعودنا طرحها: ما هي المنهجية التي سنتبعها؟ وما هو نوع الرؤية التي سنواجه بها هذه القارة الجديدة؟

فمن أجل إشراكه معنا في الجواب عن هذين السؤالين نذكره بما يلي :   

فعلا، سيكون علينا أن نقوم بتصنيفات جديدة ونوظف مفاهيم أخرى غير تلك التي وظفناها في مجال المعرفة. وهكذا فبدلا من النظام المعرفي واللاشعور المعرفي والبيان والبرهان والعرفان وغير ذلك من المفاهيم التي وظفناها في دراسة العقل النظري العربي، سيكون علينا أن نوظف مفاهيم أخرى أكثر ملاءمة مع موضوعنا هنا. إن العقل الأخلاقي يؤسسه ويوجهه نظام القيم وليس النظام المعرفي. هذا شيء، وذاك شيء آخر.

سيكون علينا إذن أن نحدد جهازنا المفاهيمي، وأن نواجه  مسألة "المنهج والرؤية" مرة أخرى من البداية!

لقد حدث أن واجهتنا مثل هذه المهمة عندما انتقلنا من الجزأين الأول والثاني، الذين تناولنا فيهما بالتحليل والنقد "عقل الفكر العربي" –بوصفه أداة لإنتاج المعرفة- إلى الجزء الثالث الذي خصصناه لـ "عقل الواقع العربي"، الذي عنينا به محددات الممارسة السياسية وتجلياتها في الحضارة العربية الإسلامية، فبادرنا حينذاك إلى تسجيل هذا التنبيه في مقدمة الكتاب (الجزء الثالث)  فقلنا: "سيصاب القارئ، إذن، بخيبة كبرى إذا كان ينتظر منا أن نتحدث عن "العقل السياسي العربي" ضمن التصنيف الثلاثي للنظم المعرفية في الثقافة العربية (بيان، عرفان، برهان) الذي بنينا عليه تحليلنا لبنية العقل العربي-المعرفي "الخاص" "المجرد". إننا لو فعلنا ذلك لكنا سنكرر…" الخ.

ومع أن النظر في "السياسة والأخلاق" ينتمي إلى ما يسميه الفلاسفة بـ "العقل العملي"، أو "العلم المدني" حسب تعبير القدماء، باعتبارهما (السياسة والأخلاق) حقلا معرفيا واحدا ينتمي إلى مجال الإرادة وليس إلى مجال العقل، مما يجعل موضوعهما من طبيعة واحدة، ويسمح بالتالي باستعمال نفس المنهج وبتوظيف نفس الجهاز المفاهيمي فيهما معا، فإن اختلاف مفهوم "العقل السياسي" عن معنى "السياسة" عندما تقرن بالأخلاق، يجعل توظيف نفس الجهاز المفاهيمي الذي تعاملنا به في الجزء الثالث غير ممكن ولا مجدٍ، فيما نحن بصدده هنا. ذلك أن "العقل السياسي" موضوعه السياسة كما وقعت وتقع بالفعل، ومن هنا انحصر البحث في محدداتها وتجلياتها. أما "السياسة" كجزء من "العلم المدني" (والأخلاق جزؤه الأول عند القدماء)، فالمقصود بها : "السياسة" كما ينبغي أن تكون.

 في "العقل السياسي" كان الموضوع هو السياسة كما مارسها الحاكم فعلا بقطع النظر عن إرادته ونواياه، فكانت الكلمة للحكم الموضوعي. أما هنا فالسياسة فرع من "علم الأخلاق" أو تتويج له، وبالتالي فالموضوع هو: كيف كان العرب (وبالأخص المفكرون) يرون أن تمارس السياسة لتحقق الهدف الأخلاقي الإنساني المطلوب منها، وهو السعادة والخير للجميع؟ الكلمة هنا، إذن، لحكم القيمة.

هذا عن الموضوع، فماذا عن التصنيف والنمذجة؟

 لنبدأ بطرح السؤال التالي: هل من الضروري أن يختلف التصنيف والنمذجة باختلاف الموضوع؟ لا، من الناحية المبدئية على الأقل، إذ كثيرا ما تستعير العلوم التصنيف والنماذج من بعضها بعضا. فالعلوم الإنسانية الحديثة إنما أصبحت علوما مستقلة عن الفلسفة بتبني أو تقليد ما كان معمولا به في "العلوم الحقة" (خصوصا الفيزياء والكيمياء) من تصنيفات ونمذجات. لنقل باختصار : إنه، من الناحية المبدئية، لا شيء يمنعنا، هنا في مجال "العقل الأخلاقي العربي"، من توظيف التصنيف نفسه الذي عملنا به في "العقل السياسي العربي"، فنتحدث مثلا عن "أخلاق القبيلة" و"أخلاق الغنيمة" و"أخلاق العقيدة"، و/أو "أخلاق الخليفة" و"أخلاق الخاصة" و"أخلاق العامة"! ولا شيء يمنع كذلك من اعتماد التصنيف الذي عملنا به في العقل النظري ، فنجعل "الأخلاق" في الحضارة العربية الإسلامية ثلاثة : "أخلاق بيانية" و"أخلاق عرفانية" و"أخلاق برهانية"؟!

ومن الجائز أن يتوقع المرء أن المهمة ستكون سهلة لو أننا اعتمدنا أحد التصنيفين السابقين! غير أننا لو فعلنا ذلك لارتكبنا خطأ مضاعفا : فمن جهة كنا سنكرر بعض ما قلناه بصدد مضامين "القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة"، و"الخليفة" و"الخاصة" و"العامة"، أو "البيان" و"العرفان" و"البرهان"! فهذه مفاهيم اجتماعية إنسانية محملة بأحكام القيمة، بل كثيرا ما تتحول هي نفسها إلى قيم في ذاتها، وقد سبق أن أبرزنا هذا الجانب فيها. ومن جهة أخرى كنا سنفرض على موضوعنا تصنيفا  لا يستوعبه ونمذجة لا تغطي جميع فضاءاته. إن عالم القيم في الثقافة العربية هو في الحقيقة عوالم، وليس عالما واحدا، لأن الثقافة العربية لم تكن في الحقيقة ثقافة بالمفرد، بل كانت ثقافة بـ"الجمع"، فوحدتها لم تكن وحدة "الواحد"، بل وحدة "المتعدد". وهذا ما سيلمسه القارئ مع تقدمه في قراءة الكتاب.

لابد إذن من تصنيف آخر  ونمذجة أخرى يستجيبان لطبيعة الموضوع، ويستوعبان مفاصله وتفاصيله. إن موضوعنا ليس مقصورا على "الأخلاق الفلسفية" –أو النظرية- في الحضارة العربية الإسلامية، ولا على "الأخلاق الدينية" –أو العملية- في الإسلام، بل موضوعنا هو: "نُـظُم القيم في الثقافة العربية الإسلامية"، وهو ما نعنيه بـ"العقل الأخلاقي العربي"، تماما مثلما كان موضوعنا في الجزأين الأول والثاني هو "نُـظُم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية".

 ونحن نستعمل هنا كلمة "نُـظُـم" (جمع: نظام) بدل كلمة "منظومات" (جمع: منظومة)، لأننا نريد أن نعطي للأولى معنى أعم من الذي نعطيه للثانية. فالمنظومة، ونترجم بها هنا اللفظ الأجنبي système   system,، تعني مجموعة من العناصر تقوم بينها علاقات معينة يستمد منها كل عنصر هويته ووظيفته (كالمنظومة الشمسية مثلا). أما "النظام" فنترجم بها كلمة ordre, order وهي تعني الشيء نفسه تقريبا ولكن مع وضوح فكرة الترتيب والتتابع فيها أكثر… والقيم في كل ثقافة تشكل ليس فقط  منظومة أو منظومات، بل هي أيضا "نظام" بمعنى "ترتيب" أو سلم.

ذلك أن القيم، في كل ثقافة، ليست كلها في مستوى واحد، بل هناك قيم أساسية أو رئيسة تتفرع عنها قيم أخرى أدنى منها مرتبة. وأكثر من ذلك يمكن التمييز في كل ثقافة بين ما ندعوه هنا بـ"القيمة المركزية" التي تنتظم حولها جميع القيم، في عصر من العصور، وبين القيم الأخرى المندرجة تحتها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من التنبيه إلى أننا  قصدنا استعمال عبارة "نُظُم" (بالجمع) قصدا. فالثقافة العربية قد عرفت عدة نظم من القيم وليس نظاما واحدا. وإذا نحن تحدثنا عن هذه النظم بـ بالمفرد (=نظام) فالمقصود هو محصلة تلك النظم، تماما مثلما أن عبارة "نظام المعرفة في الثقافة العربية" تحيل إلى مجموعة نظم متداخلة كما شرحنا ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وهذه المحصلة، التي تكون على هذه الدرجة أو تلك من التلاحم والاندماج، هي التي تسمح باستعمال لفظ "عقل" بالمفرد (العقل العربي) في ثقافة تقوم أصلا على تعدد النظم المعرفية والنظم الأخلاقية فضلا عن التعدد السياسي، سواء على مستوى المحددات أو مستوى التجليات. وإذن فـ"العقل الأخلاقي العربي" هو "عقل" متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته. هو متعدد في تكوينه لأن الثقافة العربية الإسلامية كانت ولا تزال مسرحا تلتقي فيه عدة موروثات ثقافية: فمنذ عصر التدوين، الذي تلا عصر "الفتوحات" مباشرة، برز الموروث الفارسي، والموروث اليوناني، والموروث الصوفي، علاوة على الموروث العربي "الخالص" والموروث الإسلامي "الخالص"، كمكونات رئيسية وأساسية في الثقافة العربية. وبما أن كل واحد من هذه الموروثات الخمس كان امتدادا لثقافات مكتملة وراسخة، فقد كان لا بد أن يحمل معه، بصورة أو بأخرى، نظام القيم الخاص بالثقافة التي يمثلها. ومن هنا يمكن التمييز –مبدئيا على الأقل- بين خمس نظم للقيم، في الثقافة العربية الإسلامية، سنعرض لها بعد قليل.

وبطبيعة الحال كان لابد لهذه النظم –وهي تتزاحم على مسرح الثقافة العربية- من أن يحصل بينها احتكاك وتداخل وتلاقح ومنافسة وصراع الخ، وبالتالي كان لابد من بروز هيمنة  هذا النظام من القيم، الخاص بهذا الموروث أو ذلك، في هذا العصر أو ذلك، فينتج عن ذلك ما نسميه هنا بـ"المحصلة" التي تبرز كممثل للثقافة العربية "الواحدة" وبالتالي كـ"عقل أخلاقي عربي". والحق أن الأمر يتعلق هنا بـ"محصلة" اعتبارية فقط  virtual!    أما في الواقع المعيش فالتنافس والصراع بين نظم القيم لا يكاد يهدأ حتى يستيقظ، في جميع المجتمعات، خاصة منها تلك التي شيدت لنفسها إمبراطوريات؛ ومن هنا القلق شبه الدائم الذي تعاني منه هذه المجتمعات. والمجتمع العربي كان طوال تاريخه المديد –وما زال إلى اليوم- مجتمعا قلقا، على مستوى القيم على الأقل.

وإذا كان من الممكن إرجاع هذا القلق لعدة عوامل، فإن "صراع القيم"، الراجع إلى تعدد الموروثات الثقافية على الساحة العربية قديما وحديثا، كان له دوره الذي لا يجوز إغفاله ولا التقليل من أهميته. إن كثيرا من الصراعات التي عاشها –ويعيشها- المجتمع العربي كانت في جملتها عبارة عن "أزمات في القيم"، إذا هدأت في ناحية من نواحي الوطن العربي أو في حقبة من تاريخه فهي تبقى مستعرة في نواحي أخرى أو تنبعث في الحقبة الموالية. إن "أزمة القيم" كانت –وما تزال- من الأزمات التي تبقى كامنة لمدة من الزمن في نسيج الحياة الاجتماعية المتموجة، لتنفجر بعد حين إما في شكل "خروج" عن النظام القائم، المادي أو الروحي أو هما معا، وإما في شكل أزمة "نفسية" تضرب الكيان الفكري والروحي للشخص الواحد. وقد تكفي الإشارة هنا إلى الأزمات الروحية والفكرية التي عانت منها شخصيات فكرية ذات وزن في تراثنا، أمثال المحاسبي وابن الهيثم وأبي الحسن الأشعري والغزالي. وهؤلاء نعرفهم بأسمائهم لأنهم كتبوا عن أزماتهم، دع عنك من لم يكتبوا وهم بدون شك أكثر عددا. وكما سنرى فقد جسّمت أزمات هؤلاء (الذين كتبوا) "أزمة القيم" في المجتمع العربي في عصورهم.

 

-2-

وبعد، فلم يكن قصدنا هاهنا استباق خطواتنا. لقد أردنا من هذا الاستهلال جعل القارئ يلمس معنا اختلاف طبيعة موضوعنا هنا عن الموضوع الذي عالجناه في كل من "العقل النظري العربي" و"العقل السياسي". وإذن فالأمر يتطلب منا تصنيفا ونمذجة خاصين، وبالتالي خطابا في المنهج والرؤية من جديد.

أما عن المنهج فيمكن القول باختصار : إنه، في الأساس، نفس المنهج الذي اتبعناه في الأجزاء السابقة، وكنا قد حددنا خطواته الثلاث في كتابنا "نحن والتراث": التحليل التاريخي، المعالجة البنيوية، الطرح الإيديولوجي. والتعديل الذي سنقوم به هنا لا يخص هذه الخطوات نفسها بل فقط طريقة ممارستها. ذلك أننا سنمارس هذه الخطوات بصورة تركيبية. ومعنى هذا أننا لن نفصل "التكوين" عن "البنية"، كما فعلنا في "العقل النظري"، ولا "المحددات" عن "التجليات"، كما فعلنا في "العقل السياسي"، بل سنسلك مسلكا أقرب إلى مسلكنا في "تكوين العقل العربي". ولاشك أن القارئ يذكر أننا جعلناه قسمين : الأول بعنوان: "العقل العربي: بأي معنى؟ مقاربات أولية". والثاني: "تكوين العقل العربي: المعرفي والإيديولوجي في الثقافة العربي". وعلى غرار هذا النموذج جعلنا هذا الجزء قسمين كذلك : الأول "المسألة الأخلاقية في التراث العربي "، والثاني:"نظم القيم في الثقافة العربية: أصولها وفصولها".

ومن حق القارئ أن يتساءل: هل يعني هذا أن هذا الكتاب سيكون بمنزلة "التكوين" للعقل الأخلاقي العربي؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين "البنية"؟

 الواقع أن التحليل "التكويني" والتحليل البنيوي ستتم ممارستهما هنا في آن واحد. ذلك لأننا سنتناول كل نظام من خلال ما ندعوه هنا بـ "القيمة المركزية". والنظر إلى نظام ما من خلال ما يشكل فيه "القيمة المركزية" يعني التعامل مع هذه النظام كبنية. وإذن فالمنظور الذي ننطلق منه سيكون بنيويا. أما جانب "التكوين" فستتم معالجته من خلال النظر في "أصول وفصول" هذا النظام أو ذلك، ثم في علاقة التأثير والتداخل بين النظم نفسها.

 

-3-

هذا الاختيار المنهجي أملته علينا الرؤية التي كوّناها لأنفسنا عن الموضوع من خلال التعامل معه، وهي تقوم على مبدأين اثنين:

 المبدأ الأول: النظر إلى ما ندعوه هنا بـ "العقل الأخلاقي العربي"  لا كـ"عقل" فردي، عقل هذا الفرد أو ذاك، بل كـ "عقل" جماعي، كـ "نظام للقيم"، يوجه سلوك الجماعة، سلوكها الفكري الروحي، وسلوكها العملي. وهذا لا يعني إهمال الفرد، كلا؛ بل يؤخذ الفرد هنا كعضو في جماعة، في الأمة. ومن هنا العنوان الفرعي للكتاب، وهو يعبر عن موضوعه بدقة أكثر: "دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية". فما هو "في الثقافة العربية" –سواء تعلق الأمر بالقيم أو بغيرها- لا يخص فردا بعينه بل يعم جميع الذين ينتمون إلى هذه الثقافة. وكما أن نظام القيم لا يصنعه فرد واحد فكذلك مفعول هذا النظام نفسه.

أما المبدأ الثاني، وهو نتيجة للأول، فهو التعامل مع كل واحد من نظم القيم تلك، بوصفه موجها لسلوك الجماعة بالدرجة الأولى، أي بوصفه عبارة عن قيم أخلاقية من أجل "السياسية"، السياسة بمعنى تدبير الجماعة، سواء كانت هذه الجماعة دولة، أو كانت حركة معارضة للدولة، أو كانت جماعة دينية أو صوفية، أو نخبة من نخب المجتمع ككتاب السلاطين وغيرهم. وبما أن الدولة والمجتمع لم يكونا في العصور القديمة والوسطى متلاحمين متداخلين ممتزجين كما هو الشأن اليوم، بل كان المجتمع نفسه عدة "دول" إن صح التعبير، فلقد كان لمعظم للجماعات المكونة له قيمٌ خاصة، تشكل بصورة أو بأخرى نظاما للقيم خاصا، تدبر بواسطته ومن خلال الارتباط به كل جماعة شؤونها الخاصة.

لقد عرف المجتمع العربي الإسلامي طوال تاريخه المديد ما لا يحصى من الجماعات، المنظمة وغير المنظمة، كانت تشكل "جماعات أخلاقية"، إن صح التعبير، كالطوائف الدينية والجماعات الصوفية وجمعيات أو جماعات الفتوة والشطار والجماعات المهنية الخ. وقد كان لكل صنف منها أخلاق وأعراف خاصة يرقى بعضها إلى مستوى "نظام للقيم". ومع أن البحث في هذا الميدان سيكون طريفا ويستحق أن يبذل فيه المجهود، فإنه يقع خارج موضوعنا. ذلك أن موضوعنا يتحدد كما قلنا بحدود الثقافة العالمة، وبالتالي فمصادرنا ليست "الأخلاق المطبقة"، بل الكلام المنظم المكتوب الداعي إلى تطبيق نوع معين من الأخلاق. وبعبارة أخرى موضوعنا هو "الفكر الأخلاقي" في الثقافة العربية. وهذا وحده ينتمي إلى موضوعنا : "نقد العقل العربي". أما دراسة "الأخلاق المطبقة"، أو "العادات الأخلاقية"، فهي من اختصاص علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا. ومن دون شك فإن محاولتنا هذه ستكون أكثر شمولية وعمقا لو توافرت لدينا دراسات من هذا النوع.

ومع ذلك فنحن نعتقد أن دراستنا هذه ستفتح المجال بدورها للدراسات الأنثروبولوجية الخاصة بـ "العادات الأخلاقية" في الحضارة العربية –عندما تقوم- لأن تكون أكثر شمولية وعمقا؛ وذلك ليس فقط لأن مبدأ تكامل العلوم يهيمن –ويجب أن يهيمن أكثر- في هذا الميدان، ميدان البحث في الشأن الإنساني، بل أيضا لأن المنهج والرؤية اللذين اعتمدناهما في دراستنا هذه يساعدان على ذلك. إن تعاملنا مع "نظام القيم" في الثقافة العربية بوصفه محصلة اعتبارية لنظم القيم الخاصة بالموروثات الثقافية التي انتقلت إلى الحضارة العربية الإسلامية يقوم في الحقيقة على تصنيف ينطوي في جوفه على نوع من التوزيع المجموعاتي (نسبة إلى مجموعات). ذلك لأنه كان هناك في البداية على الأقل، أعني زمن عصر التدوين، مجموعات بشرية منظمة أو غير منظمة تنتمي إلى هذا الموروث الثقافي أو ذلك وتدافع عنه وتعمل على نشره والترويج لقيمه الخ. وإذن فنظم القيم التي انتقلت إلى الثقافة العربية لم تكن لموروثات ثقافية لا حامل لها، لم تكن مجرد كلام مكتوب في كتب، بل كان لكل موروث أهله المتمسكون به المدافعون عنه الساعون إلى نشره، المنافسون به غيره من الموروثات. كان هناك ما يعرف بـ "الشعوبية" ويقصد بها في الغالب الحركة المنافسة للموروث الثقافي العربي الإسلامي وقيمه، هذا معروف. وكان هناك احتكاك وصدام بين المتصوفة والفقهاء، وهذا معروف كذلك. وسنعرف من خلال هذا البحث أن "الحرب" بين الروم والفرس لم تنته بانتصار الإسلام عليهما، بل انتقلت إلى ساحة الثقافية العربية لتمارس على مستوى "الأدب والأخلاق"، على مستوى القيم.

وإذن فاختيارنا لمقولة "الموروث الثقافي" كأساس للتصنيف لم يكن اعتباطيا، بل لقد أملته علينا طبيعة الموضوع الذي نشتغل فيه. أما طريقة تعاملنا مع المورثات الثقافية التي يتشكل منها موضوع بحثنا فستكون كما يلي:   

فمن جهة سننظر إلى كل واحد من هذه الموروثات كجدول واحد: ينبع من "أصل" ما، ويشق مساره في الثقافة العربية ابتداء من مرحلة ما، سنحددها، ليواصل سيره متأثرا بمكونات هذه الثقافة ومؤثرا فيها، إلى أن يندمج أو يتلاشى في نقطة ما من "نهر" الثقافة العربية الحاوي لمختلف الجداول. وهذا هو الجانب التاريخي التكويني في منهجنا.

ومن جهة أخرى سننظر إلى كل موروث من خلال "القيمة المركزية" التي تنتظم مختلف القيم فيه وبالتالي سنتعامل معه كبنية وليس كتاريخ. وينطبق هذا على قيم الموروث الفارسي والموروث اليوناني والموروث الصوفي، وهي التي انتقلت إلى الثقافة العربية الإسلامية كاملة مُبنْيَنة. أما نظام القيم الخاص بالموروث العربي "الخالص" وكذلك الخاص بالموروث الإسلامي "الخالص" فقد تكونا وتبَنْينا داخل الثقافة العربية نفسها وفي علاقة مع الموروثات الأخرى وبالتالي سنتناولهما بمظهريهما التكويني والبنيوي في الآن نفسه.

 

-4-

هذا التعدد الذي يطبع موضوعنا، والذي لا بد أن ينعكس على طريقة تناولنا له، يطرح مشكلة البداية والنهاية. أين ومتى يجب أن يبدأ -وينتهي- تناولنا لكل موروث من المورثات الخمس؟

أما "النهاية" فيمكن القول مبدئيا إن المجتمع العربي ما زال يعيش مرحلة الانتقال من الموروث "القديم" بكل أجزائه ومكوناته إلى ما سيغدو تراثا للمستقبل، وبالتالي يجوز القول - وهذا هو الحاصل فعلا- إن نظم القيم التي عرفتها الثقافة العربية قديما ما زالت حاضرة، بهذه الدرجة أو تلك، في حياتنا المعاصرة. وهذا شيء لا يحتاج إلى بيان أو برهان. ومع ذلك فما يهمنا أكثر ليس نهاية "حياة" القيم كقيم، فهي في الغالب ذات عمر مديد ومنها ما هو "خالد"، وإنما يهمنا نهاية المسار الذي شقه لنفسه هذا النظام من القيم أو ذاك، المنتمي إلى هذا الموروث أو ذاك: النهاية التي تجعل الكلام عنه غير ممكن -وإلا كان تكرارا واجترارا- وذلك لكونه تجمد أو تلاشى أو اندمج في غيره. وهكذا سنلاحظ أنه سيجري على مسارات نظم القيم في الثقافة العربية ما جرى على مختلف منازع الثقافة العربية وهو توقفها عن النمو، وبالتالي عن الحركة، والدخول في عصر الاجترار والجمود على التقليد، ابتداء من القرن العاشر الهجري على أكثر تقدير وأوسعه.

هذا عن النهاية، أما البداية فالكلام فيها هنا سيخرج بنا عن نطاق هذا المدخل، فلنؤجل الخوض فيها إلى مكانها في القسم الأول من الكتاب. لنقتصر هنا إذن على التذكير بالموروثات الخمس التي سيدور الحديث عنها في القسم الثاني، سنذكرها هنا بنفس الترتيب الذي سبق أن عرضناها به عند تقديمنا لمشروع هذا الجزء في محاضرة مضى عليها الآن أربع سنوات([i]) أما ترتيبها في الكتاب فسيختلف، وسنبرر ذلك لاحقا. هذه الموروثات هي:

1- الموروث العربي "الخالص"، ونسميه "خالصا" لأنه ينتمي أصلا إلى ما قبل الإسلام، أي قبل "الاختلاط". ويتمثل فيما جمع ودون من أشعار العرب وأخبارهم وحروبهم ومفاخرهم ومكارمهم الخ… في الجاهلية والإسلام.

2- الموروث الإسلامي "الخالص" ونحن نصفه بـ "الخالص" لأن نظام القيم الخاص به يستند بصورة أو أخرى إلى المرجعية الإسلامية، وعمادها القرآن والحديث. وإذا كانت الموروثات الوافدة قد تخلت، من حيث المبدأ على الأقل، وبمجرد انتقالها إلى الثقافة العربية الإسلامية، عن الجانب أو الجوانب التي تتعارض فيه قيمها مع قيم الإسلام، فصارت هذه الموروثات كلها "إسلامية" بمعنى ما من المعاني -مثلما نتحدث مثلا عن "الفلسفة الإسلامية" و"التصوف الإسلامي"- فإن أخلاق هذه الموروثات، أو نظم القيم فيها، قد انتقلت إلى الثقافة العربية كما كانت مبنية في مصدرها، وبالتالي فالعلاقة بينها وبين الإسلام لم تكن على مستوى البناء بل على مستوى التساكن أو التعايش أو التوفيق وأحيانا "الاحتواء المتبادل". وفي جميع الأحوال فهي لم تشيد أول مرة انطلاقا من القرآن والسنة حتى تكون إسلامية "خالصة"!

3- الموروث الفارسي، وكان يمثل ثقافة أجنبية ورثها الإسلام، أخذ منها أشياء وأهمل أشياء حسب حاجته. وكان منه كتب ترجمت إلى العربية ترجمة نصية أو مع تصرف، إضافة إلى نقول وأخبار و“عهود” وعادات وآداب  الخ…

4- الموروث اليوناني ومثله مثل الموروث الفارسي: يمثل ثقافة أجنبية. وهذا الموروث قسمان: ما ينتمي إلى العصر الهيلينستي (العصر اليوناني –الروماني)، وما ينتمي إلى العصر الهيليني الإغريقي الخالص.

5- الموروث الصوفي، وهو ذو أصل أجنبي، ومن طبيعته أنه لا يعترف بكونه أجنبيا، بل هو يدعي أنه "الباطن" و"الحقيقة"، المحايثين لكل دين. 

وغني عن البيان القول إن كل واحد من هذه الموروثات كان يمثل ثقافة بأكملها، وإن مما تتميز به كل ثقافة وما يشكل جانبا أساسيا من خصوصيتها هو وجود نظام للقيم خاص بها، نظام للقيم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.

وبما أن العلاقة بين هذه الموروثات كانت علاقة تنافس وصراع، وبما أن "السياسة" قد لعبت دورا أساسيا في هذا الصراع، كما سنرى، فإن كثيرا من القيم التي روجت لها هذه الموروثات الثقافية كانت قيما سياسية أو ذات حمولة سياسية. ومن هنا اهتمامنا بالوجه السياسي لهذه القيم دون إغفال وجهها السلوكي الفردي. والحق أن الأخلاق والسياسة كانا مندمجين في الفكر القديم. ففي الفلسفة اليونانية كانت "السياسة" تصنف كـ "القسم الثاني" من "العلم المدني"، بينما كان القسم الأول يسمى :"الأخلاق". السياسة بمعنى :"تدبير المدينة"، والأخلاق بمعنى : "تدبير النفس". وكما سنرى فقد كان البحث في  الأخلاق عند اليونان "صناعة" أي علما، ليس من أجل "الأخلاق" ذاتها -فهذا ما كان موكولا في الغالب للعرف والتقاليد والدين- بل لقد كان التنظير للأخلاق من أجل "السياسة"، بمعنى "تدبير المدينة". لقد كانت القضية المركزية في الفكر الأخلاقي القديم هي كيف ينبغي أن يكون "المواطن" الصالح (أو الرعية الصالحة) ليكون المجتمع/الدولة (أو الراعي) صالحا، وبالتالي فصلاح الفرد (الأخلاق) كان من أجل صلاح الجماعة السياسية (الدولة).

 وإذن فالقيم التي سنهتم بها هنا هي تلك التي تخص "الحياة المدنية"، الحياة في المدينة/الدولة، سواء كانت من أجل "المدينة" القائمة أو من أجل أخرى فضلى، أو ضد المدينة القائمة ومن أجل "الفرد". إن هذا يعني أن رؤيتنا لموضوعنا ستكون أكثر اقترابا من الرؤية "القديمة" للأخلاق والسياسة منها للرؤية الحديثة التي تتميز بالفصل بينهما. سنكون أكثر قربا من مفكرينا الذين تناولوا في تراثنا مسألة الأخلاق والقيم، وربما أكثر بعدا من المفكرين والفلاسفة في العصر الحديث والعصر الحاضر الذي عالجوا المسألة الأخلاقية على أساس ذلك الفصل الكامل والنهائي الذي أقامه ميكيافيللي بين الأخلاق والسياسية، الشيء الذي ترتب عنه النظر إلى "المشكلة الأخلاقية" بمفاهيم حديثة وإشكاليات جديدة أفرزتها الحضارة الأوربية الحديثة والمعاصرة. وهكذا فلن نسجن أنفسنا في دائرة المفاهيم والرؤى الحديثة فنضيق -أو نوسع- من دائرة الأخلاق حسب الاتجاهات الفلسفية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية والحقوقية المعاصرة، وبالتالي سنتحرر تماما من هاجسين: هاجس "الرد" على "الغربيين"، وهاجس "اكتشاف" قيم عصرنا في حضارة أسلافنا. إننا سنبقى نتحرك داخل تراثنا بوصفه تراثا. وأعتقد أن شيئا من "النفي" أو "الغربة" لن يترتب عن ذلك، فالتراث العربي الإسلامي يغلِّفنا تغليفا قويا. وإذا ادعى أحد منا أنه مستغن عن هذا الغلاف متحرر منه فليعترف أنه مسكون بهوية أخرى غير الهوية العربية الإسلامية. أما أن يكون غلافنا العربي الإسلامي لباسا قابلا للتجديد، ليغدو مناسبا لروح العصر وتحدياته ومتطلبات التقدم فيه، أو أنه قوقعة تكيف الجسد بدل أن يكيفها الجسد، فتلك مسألة أخرى، لن نطرحها هنا كما لم نطرحها في الأجزاء السابقة بصورة مباشرة. ومع ذلك فنحن لا نخفي أن مشروع "نقد العقل العربي" بأجزائه الأربعة محاولة لتحويل القوقعة إلى لباس لنا…

 



  [i]- ثم نشرت في عدة جرائد ومجلات كان آخرها مجلة "فكر ونقد" التي نتولى رئاسة تحريرها (مايو ويونيو 1999، العددان 19 و20).