في تعزيز
جبهة الفكر النقدي في الثقافة المغربية
من أقلام
إلى فكر ونقد
كمال عبد
اللطيف
مقدمة:
عندما صدرت مجلة فكر ونقد سنة 1997، ذكرت المثقفين والباحثين والقراء وكل
من له علاقة بالمجال الثقافي المغربي بمجلة "أقلام"، وكان قد مر إذ ذاك
على صدورها أربعة وثلاثون سنة. أما اليوم وبحلول شهر مارس من سنة 2001، فإن
المسافة الزمنية بين مارس 1964 ومارس 2001 تقترب من الأربعين سنة، وهذا الأمر
يستدعي الإشارة إلى أن أعداد "أقلام" التي صدرت طيلة الزمن المذكور هو
واحد وستون عددا، وأن أعداد مجلة "فكر ونقد" التي لم تتم بعد عامها
الرابع، قد رسمت على عدد غلافها الأخير الرقم 37 بمعدل 10 أعداد كل سنة.
إن عودة "أقلام" إلى الواجهة بمناسبة صدور "فكر ونقد"
يحصل بفعل التداعي، ويستدعي بالمناسبة التفكير في العمل الثقافي الرامي إلى
المساهمة في التوجيه والتغيير والنقد. وقد حاولنا استثمار فعل التداعي بمراقبة
الخطوات الكبرى الأولى لفكر ونقد، لنتمكن استقبالا من إنشاء الأسئلة والملاحظات
التي تتوخى تطوير المشروع الجديد بالمحافظة عليه أولا، والعمل على إنجاح المرامي
البعيدة التي يتوخى تحقيقها.
لكن لماذا عادت مجلة "أقلام" إلى الواجهة بمناسبة صدور "فكر
ونقد"؟ لا يتعلق الأمر في نظرنا بحضور اسم الأستاذ محمد إبراهيم بوعلو
والأستاذ محمد عابد الجابري والأستاذ عبد السلام بنعبد العالي (أعضاء الهيئة
المشرفة على "فكر ونقد")، وقد ساهموا جميعا بدرجات متفاوتة في إصدار
وتحرير "أقلام"، وذلك رغم الأهمية البالغة لهذا الحضور،قدر ما يتعلق
بشعورنا بالحاجة إلى ضرورة مواصلة رسالة "أقلام" في سياق تاريخي جديد،
سياق يتطلب القيام بالمهمة المذكورة، مع مراعاة المتغيرات والمستجدات، ومحاولة
تكييف الرسالة القديمة الجديدة مع ما تقتضيه أحوال الوقت في جريانها المتواصل..
لا نريد أن يفهم مما نحن بصدده أن مشروع مجلة "فكر ونقد" هو
الصورة الجديدة لـ"أقلام"، وسنبين في سياق هذه الكلمة أن لغة
"أقلام" ومعارك "أقلام"، وكذا أهدافها المعلنة تختلف بصورة
واضحة عن لغات "فكر ونقد"، وأن التوجه العام للعمل الثقافي الذي تضطلع
به "فكر ونقد" يختلف في كثير من عناصره ومعطياته عن الحل الذي رسمته
طموحات الأسرة الثقافية الموسعة لمجلة "أقلام"، أسرة جيل كتاب ما بعد
الاستقلال السياسي في مغرب الستينيات وما تلاها.
صحيح ومؤكد أن المشروع الثقافي الذي أنشئت من أجله مجلة "أقلام"
ما زال قائما، وأن العمل على بلورته بإعادة تأسيسه وتعميم وترسيخ قواعده ما زال
أمرا مطلوبا، إلا أن السياقات التاريخية الثقافية العامة التي واكبته لا تماثل
الظرفية العامة التي واكبت وتواكب اليوم مشروع "فكر ونقد". ومن هنا فإن
وحدة الإرادة في المشروعين لا تعني بالضرورة وحدة الهدف، ذلك أن لفعل الزمن ومفعولاته
مقتضياتها الحاسمة في مجال تلوين المشاريع الثقافية وطبعها بطابع خاص ومتميز.
هناك عناصر متعددة مشتركة بين المشروعين أبرزها الفعل الإرادي الملتزم من
طرف أشخاص بعينهم، أشخاص كانوا وما فتئوا ينخرطون في المجال الثقافي المغربي
بوسائل ووسائط متعددة، من التدريس الجامعي إلى التأليف المدرسي والجامعي إلى
العناية بثقافة الطفل ومستقبل التحرر الثقافي في بلادنا. ولأن هؤلاء الأفراد وطنوا
أنفسهم على الحلم بغد مغربي أفضل، ومشروع ثقافي حداثي مطابق لصيرورة تاريخنا في
مختلف أبعاده، فإنهم ينخرطون اليوم في "فكر ونقد" مسلحين بالخبرات
والتجارب التي بلورتها تجربة "أقلام" في يفاعتها وعنفوانها، في انفتاحها
على أسئلة السياسة والإبداع والوطنية والمستقبل، ومراهنتها التاريخية الملتزمة على
الانخراط في العمل الثقافي المكمل والمدعم لإرادة عامة في التحرر والتحرير.
1 – مدخل لقراءة رصيد تجربة
مجلة "أقلام":
يبدو لي أن أحسن مدخل لقراءة تجربة مجلة "أقلام" ومنجزاتها في
مجال الثقافة المغربية المعاصرة، يتحدد في الدور الذي رسمته لنفسها وهي تتجه
للتفكير في تأسيس الملامح الكبرى لثقافة مغربية جديدة، ثقافة قادرة على مواكبة مخاضات وصراعات المجتمع المغربي في
فترة ما بعد الاستقلال، فقد واكب صدور المجلة ميلاد اتحاد كتاب المغرب الذي كان
يعبر عن إرادة جماعية لتحويل الجهد الفردي في الكتابة والبحث إلى جهد جماعي مؤسسي
ليتمكن الكتاب المغاربة من بناء جبهة ثقافية موصولة بأسئلة الثقافة والمجتمع في
بلادنا، جبهة تروم بلورة قيم ثقافية متحررة من قيود التقليد وعوائق التنميط
الثقافي المسخر لخدمة مصالح معادية للتاريخ والمستقبل.
إن سؤال استكمال التحرر والتحرير في الواجهة الثقافية هو السؤال الذي يقف
وراء مشروع "أقلام"، ولهذا السبب قدمت كلمة العدد الأول (مارس 1964)
مفاتيح لفهم أكثر تاريخية لطموح واختيارات الذين تبلورت في أذهانهم الفكرة
المشروع، وتحولت بفعل تضحياتهم وجهودهم إلى فعل تاريخي، فعل يمتلك مواصفات الحدث
الرمزي الدال والفاعل.
تكشف الافتتاحية المذكورة عن جملة من العناصر الهامة الموضحة لما ذكرنا،
فهي تعلن رفضها للصمت، وتدعو إلى المبادرة بالقول، أي المشاركة في فهم الحاضر
والعمل على تطويره. ومن الأمور الدالة أيضا في هذه الكلمة الإلحاح الذي جاء في
إحدى عباراتها على أهمية المؤسسة الثقافية الحاضنة لمشروعها في التفكير والعمل،
واستدراج الأقلام الناشئة إلى الفعل التاريخي الملتزم بها أطلقت عليه "بناء
شخصيتنا الرمزية، في تكامل وترابط مع قيم التطور الحديث"(1).
وعندما نعرف أن مغرب بداية الستينات كان على أبواب تاريخ جديد، وأن النخبة
السياسية المغربية كانت قد رسمت لنفسها في سياق الأوضاع المحلية والقومية
والعالمية العامة أفقا محددا للصراع السياسي، ندرك بعض عناصر الرسالة التي كانت
تحملها "أقلام"، وهي رسالة لا يمكن فصلها أبدا عن التحديات التي كانت
تواجه واقع المجتمع المغربي في مختلف تجلياته وأبعاده.
وربما لهذا السبب بالذات حاولت الأعداد الأولى من المجلة المساهمة في
الإجابة عن سؤال: أي دور للمثقفين المغاربة في مغرب ما بعد الاستقلال؟
ففي العدد الأول قدمت مقالة الأستاذ أحمد السطاتي "وضعية المثقفين في
المغرب" ما يمكن اعتباره دليل عمل للمجلة، وهي تشكل خلاصة وافية لتصور جيل من
المثقفين الوطنيين الملتزمين بكيفية بناء المستقبل من خلال بناء رؤية محددة لدور
العمل الثقافي في التغيير واستكمال التحرير.
أما عناصر هذا التصور فقد جاءت في صورة عامة واضعة السؤال الكبير المرتبط
بالظرفية التاريخية في صيغة البحث في كيفية مسايرة تيار التطور الحديث بمختلف
مقوماته، مع المحافظة في الوقت نفسه على مكونات الذات ومكونات الشخصية الاعتبارية.
وقد كان هذا السؤال كما نعرف مرتبطا بإشكالية النهوض العربي عامة، وإشكالية تجاوز
التخلف فيما كان يعرف إذ ذاك بالعالم الثالث، إلا أنها لم تكتف بصياغة هذا السؤال
بل عملت على تقديم جملة من العناصر الكاشفة للموجهات الكبرى لمشروع التحديث الذي كانت
تروم بلوغه وتحقيقه.
وقد تمثلت هذه العناصر فيما يلي:
1 – الارتفاع عن الواقع، والعمل على إعادة تحليل معطياته وإعادة بنائها، أي
النظر إليه بموضوعية وتحويله إلى موضوع للمعرفة.
2 – تهيئ وإعداد الشروط المناسبة لإطلاق حوار منتج وخلاق بين فئات
المثقفين، بهدف بلورة مبادئ وعناصر ارتكاز عامة متفق عليها.
3 – ربط إرادة المجتمع بمثل التحرر والتقدم كما تصنع في التاريخ.
وقد حاولت المجلة في مسيرتها المتقطعة الاقتراب من عناصر هذه الخطة واضعة
نصب عينيها المساهمة في تهيئ شروط إطلاق حوار يروم بلورة مشروع ثقافي جديد، حوار يسلم
أولا وقبل كل شيء بأن الثقافة التزام ومسؤولية، وأن تحرير الثقافة المغربية من
أوتانها يتطلب إطلاق شرارة أولى، وتأسيس فضاء قادر على استيعاب مخاضات الضمير
والوجدان في علاقتهما الحية بالصراع التاريخي والمجتمعي القائم في بلادنا(2).
جاءت المقالات التوجيهية الأساس في الأعداد الأولى مطبوعة بلغة تحتضر
مفاهيم الثورة والاشتراكية والتحرر والتقدم، وهي مفاهيم تستوعب التصورات والمواقف
السياسية لمغرب مطلع الستينات، بل إنها تتجه لإعادة بنائها في المجال الثقافي، حيث
لا يمكن الفصل بين الطموح الثقافي والطموح السياسي والمجتمعي.
وقد
نجحت "أقلام" في رسم المعالم العامة لثقافة اختارت الانحياز لأفق في
النظر يروم تخطي وتجاوز التحجر الثقافي، والمحافظة الاجتماعية، والرجعية السياسية،
لحساب قيم جديدة يتم التلويح بها، كما تنجز محاولات متعددة لبنائها بصورة نظرية
متماسكة، كوسيلة للإقناع بوظيفتها في إنعاش وتطوير الثقافة المغربية، والمساهمة في
إضاءة أسئلة الصراع الاجتماعي الثقافي القائمة بهدف الانتصار لجبهة الدفاع عن
مكاسب الفكر الحديث.
لم تكن مبادرة "أقلام" سهلة ولا متيسرة، وذلك رغم كل الجهود التي
بذلت من طرف الذين يقفون وراء المشروع في التشبث بها، والعمل على استمرارها
وتطويرها (يمكن التأكد من ذلك بمعاينة الأشكال المتعددة التي صدرت فيها المجلة
خلال سنوات صدورها، حيث ظلت المجلة تتوقف ثم تعود إلى الصدور في عناد تاريخي
ومقاومة لا تقبل المساومة ولا الوصاية). فقد كان الحقل الثقافي يعكس بكثير من
العمق الدرجات السفلى لتأخرنا العام، حيث تنتعش أقصى درجات الأمية والجهل في مغرب
يحاول أن يتخلص بكثير من البطء من أرديته العتيقة الطاغية على مختلف مستويات وجوده
التاريخي.
لم تكن الجامعة المغربية إذ ذاك قد أخرجت أكثر من أربعة أو خمسة أفواج، لا
يتجاوز عددها بضع عشرات في مختلف التخصصات، إضافة إلى انعدام تقاليد العمل الثقافي
التطوعي في صيغه الفردية والجماعية. فكيف واجهت أقلام وضعية تاريخية من قبيل ما
ذكرنا؟ وكيف عملت على رسم ملامح توجه في الثقافة سيكون دون شك علامة فارقة في
تاريخ المشروع الثقافي المغربي المعاصر؟
2 – "أقلام"
تحتضن الحساسيات الثقافية والأدبية الجديدة:
يمكن أن نرسم جدولا نرصد فيه أعداد المجلة خلال سنوات صدورها وتوقفها ثم
عودتها إلى الصدور وهو الأمر الذي يكشف جوانب من الصعوبات التي لم تسعفها
بالانتظام، ولم تتح لها إمكانية التطور التصاعدي لعملها، إلا أن معطيات الأرقام
رغم دلالتها الهامة لا تكفي للإحاطة بالعوائق الفعلية التي رافقت المشروع منذ
انطلاقه إلى حين توقفه، فهناك عناصر متعددة ساهمت في تأطير صيرورة هذا المشروع،
وطبعته بطابع خاص، نخص بالذكر منها إرادة الاستقلال عن كل وصاية معادية للتحرر، مع
رغبة جامحة في الدعوة إلى بناء ثقافة مغربية مستقبلية، ثقافة تروم بناء الشخصية
الثقافية المغربية عن طريق مواجهة الأسئلة الجديدة والواقع المجتمعي الجديد، وبناء
الفكر القادر على رسم معالم اختيارات مناقضة تماما لنوعية الثقافة السائدة.
توزيع الأعداد الصادرة من مجلة "أقلام" حسب
سنوات الصدور.
السنوات
|
1964/65 |
1966/68 |
1972 |
1973 |
1975 |
1976 |
1977 |
1978 |
1979 |
1980 |
1981 |
الأعداد |
7 |
4 |
3 |
6 |
1 |
4 |
6 |
6 |
6 |
4 |
3 |
لقد استطاعت "أقلام" رغم مسيرتها المتقطعة كما هو مبين في الجدول
السابق، أن تكون مرآة للذات المغربية المبدعة منذ نهاية الستينات، وعكست في الوقت
نفسه جوانب من سؤال الفكر المغربي والعربي المعاصر في تشكله وتكونه بكل ما تحمله
مرحلة التكون والتشكل من سمات معروفة. ولأن القائمين على المجلة كانوا على بينة من
مخاضات الفضاء الثقافي المغربي وتناقضاته، فقد عملوا على أن تكون
"أقلام" مرآة فعلية لميلاد أقلام الثقافة المغربية في مجالاتها
الإبداعية والبحثية المختلفة، تمثل ذلك في تبويب المجلة المتنوع والمشتمل على
دائرتين كبيرتين: دائرة الكتابة النظرية القريبة من فضاء الفكر والعلوم الإنسانية،
ودائرة الإبداع، وداخل الدائرة الثانية خصص حيزان اثنان رئيسيان ثابتان للشعر
والقصة، كما نشرت المجلة بعض المسرحيات المؤلفة والمترجمة، إضافة إلى افتتاحية
عامة، وبعض المساجلات والمناقشات التي كانت تتم على هامش المواد المنشورة بهدف
تشجيع الحوار والنقاش الهادف إلى تطوير الإنتاج الثقافي المنشور فيها أو المتداول
في المجال الثقافي المغربي.
لم يتجاوز متوسط صفحات المجلة في الأغلب الأعم مئة وعشرين صفحة، ولم يتجاوز
صدورها السنوي طيلة سنوات صدورها 9 أعداد في السنة، وفي بعض السنوات كانت تكتفي
بإصدار أربعة أو خمسة أعداد إن لم يكن أقل من ذلك، ورغم أن المجلة بدأت بطاقم
مُؤَسِّس مُكون من الأساتذة عبد الرحمن بن عمرو وأحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو
فإن مسؤولية التحرير كانت مسندة إلى الأستاذين أحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو.
وقد حصل فيها تغير واحد طيلة فترات صدورها، وذلك بإضافة هيئة تحرير مستقلة في
الصفحة الأولى من سلسلتها الجديدة الصادرة سنة 1972، وقد ضمت هذه الهيئة الأسماء
الآتية: محمد القبلي، إدريس الغروشني، عبد الكريم العمري، محمد زنيبر، ومحمد عابد
الجابري، ومحمد صالح الزعيمي.
كانت أسباب تعثر المجلة تكشف من جهة حدود العمل التطوعي في الجبهة
الثقافية، كما كانت تعبر عن إشكالات تخترق المشروع الثقافي المغربي المستقل. ففي
افتتاحية العودة إلى الصدور المرتبطة بالسلسلة الجديدة لسنة 1978 يتم الحديث عن
إرادة الاستمرار والتحدي، وهي إرادة تراهن على ثقافة مستقبلية تعبر عن أسئلة
المشروع الثقافي المغربي باعتباره مشروعا تاريخيا جماعيا تبنيه إرادات الفاعلين في
المجال الثقافي مهما تنوعت مواقفهم واختياراتهم، وفي هذه النقطة بالذات نريد
التأكيد على مسألة تتعلق بقدرة المجلة على إنشاء فضاء فعلي لاحتضان الفعل الثقافي
المغربي الناشئ، فقد استطاعت "أقلام" أن تشكل في سنوات صدورها رغم تعثره
وتذبذبه مرفأً جميلا لكل الأقلام التي بدأت تنشئ لنفسها علاقة محددة مع الكلمات،
سواء في إطار الأبحاث والدراسات، أو في
إطار تجريب القول الأدبي بمختلف أجناسه وألوانه.
وإذا كنا نعرف طبيعة المشروع الثقافي المغربي في نهاية المرحلة الاستعمارية
في الأربعينات والخمسينات، أدركنا نوعية الحساسية الثقافية الجديدة التي أنجزتها
"أقلام" في منتصف الستينات، حيث أثمرت تربة الحقل الثقافي المغربي
أقلاما يانعة، أقلاما سيشتد عودها خلال السبعينات، وهو الأمر الذي سمح بإطلاق
مشاريع في الكتابة والتجريب الفني لعلنا اليوم نستظل بظلها، ولعلها تشكل في وضعنا
الراهن الإطار المؤسس لفضاءنا الثقافي بما أنتجته وما طورته، وما تولد عنها ونتج
عن مغامرتها من عملية إنضاج وتطوير لمجالنا الثقافي بمختلف جوانبه(3).
يمكن
أن نذكر على سبيل المثال عينة من الكتاب الذين وجدوا في "أقلام" الإطار
الذي ساعدهم على بلورة منتوجهم الثقافي والأدبي: محمد عابد الجابري، عبد الله
العروي، محمد برادة، أحمد اليابوري، الوديع الأسفي، محمد زفزاف، عبد الكبير
الخطيبي، إدريس السغروشني، أحمد المجاطي، محمد زنيبر، أحمد المديني، محمد بيدي،
محمد الخمار الكنوني، صبري أحمد، ربيع مبارك، عبد الكريم الطبال، إدريس الناقوري،
محمد السرغيني، محمد إبراهيم بوعلو، أحمد السطاتي، مبارك الدريبي، نجيب العوفي،
شغموم الميلودي، محمد الأشعري، محمد بنطلحة، أحمد زيادي، سعيد علوش، إبراهيم
الخطيب، عبد القادر الشاوي، محمد الهرادي، محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي،
كمال عبد اللطيف، محمد وقيدي، سالم يفوت، المهدي أخريف، علال الحجام، مصطفى يعلى،
الدامون مصطفى، محمد العياشي، أحمد بلبدوي... إلخ.
إن العينة المذكورة لا تعكس فقط كماً من الكتاب والشعراء والباحثين، بل
إنها تعبر في العمق عن جوانب من روح المشروع الثقافي المغربي في تنوعه وتطوره،
وتكامله وتناقضه، ودرجات ارتفاعه بسؤال المغرب في الثقافة والفن إلى مستوى البناء
وإعادة البناء، من أجل أن تحضر الذات الثقافية المغربية معبرةً عن درجات وعيها
بدور الثقافة في تكوين رأسمال رمزي قادر على الإمساك بأسئلة الحاضر في مختلف
أبعادها، وقادر في الوقت نفسه على إبراز دور الثقافة في بناء الشخصية المغربية،
وتنميتها بتطويرها في أبعادها الوطنية والكونية.
ولأن "أقلام" حرصت منذ انطلاقها على إنجاز مشروع ثقافي مستقل
ومتحرر، بل وملتزم بأهداف اجتماعية تاريخية محددة، فقد ترجم هذا الإنجاز في علميات
الانفتاح التي جعلت المجلة تنفتح في مقارباتها على مفاهيم وأقلام، فاستقطبت كتابا
من المشرق العربي، حيث ساهم في تحريرها كل من ياسين رفاعية، وصالح الأشتر، وحسن
حنفي، كما ترجمت لباحثين ومفكرين ومبدعين ينتمون لثقافات مختلفة.
إن هاجس الانفتاح القومي والكوني الذي تبنته المجلة يندرج ضمن الدفاع عن
مبدأ بناء إبداع المشروع الثقافي المغربي في علاقاته المتعددة بالآخر والآخرين،
وذلك رفضا لكل انغلاق مُفْقِر ومُهَمِّش للوعي الذاتي، وهذا المبدأ يعي جيدا
وبصورة غير معلنة أن قوة الثقافة تكمن أولا وقبل كل شيء في مغامرة انخراطها في
العالم دون تقوقع، وسعيها لبناء وعي مطابق لأسئلة الذات في تاريخيتها الحية
والمركبة، المتناقضة والمتغيرة.
وقد عملت المجلة على إنجاز مشروعها الثقافي مستعينة بمنشورات مرتبطة
باسمها، حيث نشرت كتاب "العلم والإيديولوجيا" لماركوفيتش وهو من ترجمة
الأستاذ أحمد السطاتي كما نشرت كتابا "لينين والفلسفة" لألتوسير الذي
قام بترجمته محمد سبيلا، ونشرت كتابا لسالم يفوت بعنوان: نقد النزعة الاختبارية
في بنيوية ليفي ستروس، والمجموعة القصصية السقف للأستاذ بوعلو وكذا بعض
مسرحياته كما نشرت مجموعة قصصية للأستاذ محمد زنيبر الشابل.
خارج إطار الافتتاحيات والمساهمات التي كتب كل من أحمد السطاتي ومحمد عابد
الجابري ومحمد برادة ومحمد زنيبر لا نعثر في المجلة على مساهمات تنظيرية في
مجال إعادة تأسيس الفكر المغربي المعاصر،
صحيح أن سلسلة منشورات أقلام التي أشرنا إليها آنفا قد عملت على استيعاب جوانب من
الإنتاج ذي الطبيعة الفلسفية والنظرية الاجتماعية والنقدية العامة، معوضة به
انكفاءها الكبير في السنوات الأولى لصدورها على الإنتاج الأدبي في مستواه الإبداعي
على وجه الخصوص، إلا أن قلة الأعداد التي صدرت قبل توقفها خلال عقد الثمانينات، لم
يمكنها من التجاوب الكافي مع متغيرات المشهد الثقافي المغربي، وكان قد بدأ يعرف إذ
ذاك تحولا كما وكيفا في مجال الإنتاج الثقافي(4).
نستطيع أن نجد تبريرا معقولا لهذه المسألة في معطيات الفضاء الثقافي
المغربي الذي عملت المجلة على تأطيره، حيث كانت حصة الإنتاج الإبداعي تفوق كثيرا
الإنتاج البحثي ومجال الإنتاج النظري على وجه العموم. وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة
تتعلق بمبدأ تشجيع المجلة لمختلف الأقلام الناشئة، فقد كان لهذه العملية مفعول
التأثير الإيجابي الذي مكن كثيرا من الأدباء المغاربة من مواصلة جهودهم في تطويع
أدواتهم التعبيرية وهو الأمر الذي مكنهم في النهاية من احتلال مكانة مرموقة في
فضاء الحركة الثقافية والأدبية المغربية، إن احتضاننا أقلام الكثير من الكتاب
المغاربة في بداية عطاءهم شكل حافزا قويا مكنهم في النهاية من المكانة الرمزية
التي حققوها، ومنح المجلة قصد المساهمة في إغناء فضاء الثقافة المغربية.
وربما لهذا السبب جاءت "أقلام" مراهنة على جيل من الكتاب نهضوا
بالمشروع الثقافي المغربي في بداياته، حيث شكلت إطارا يهدف إلى ترسيخ تقاليد جديدة
في الثقافة المغربية، تقاليد تتوخى المساهمة في تأسيس حساسية أدبية مناهضة
للتقليد، ومصحوبة بالإرهاصات الأولى لمشروع ثقافي جديد.
ولم تكن مهمة "أقلام" كما أشرنا سهلة ولا متيسرة، وفي الآثار
التي نسجت والأشواط المتقطعة التي قطعت ما يكشف بصورة مادية ملموسة جوانب من عوائق
هذا المشروع، ويكشف في الوقت نفسه الدور الكبير الذي قامت به.
إننا نعتقد أن درس "أقلام" الكبير يتمثل في الكيفيات المثابرة
التي قام بها مجموعة من الفاعلين المتحمسين لأداء دور محدد في مجال الفكر المغربي،
وفي علاقة موصولة بأسئلة التحول السياسي والاجتماعي التي كانت تجرى في مغرب
الستينات. وعندما نستحضر المحدد الزمني المذكور، ونتأمل مسيرة "أقلام"
والآثار التي أنجزت خلال هذه المسيرة، وبالوسائل التي كانت تعتمد عليها إذ ذاك،
نتبين قيمة المنجزات التي ركبت وراكمت، ونتساءل عن الفرص التي خسر المشروع الثقافي
المغربي بعدم قدرتها على الاستمرار، أي عدم قدرتها على مواصلة مسيرتها في البناء
الثقافي الفاعل والملتزم، ولا شك أن هذه المسألة أكبر من الإرادة الجميلة المتحمسة
والإرادة الشابة التي كانت تقف وراء المشروع، حيث لم يكن مؤسسوها قد بلغوا سن
الثلاثين في زمن إصدارها.
إن العمل الثقافي الذي لا تسنده الروافع والحوامل المجتمعية والمؤسسية يظل
عملا محدودا مهما حسنت النيات وأخلصت الإرادات، وربما لهذا السبب لم تستطع
"أقلام" مواصلة حضورها والمحافظة عليه، وربما لهذا السبب يتجه مؤسسوها
من جديد لموصالة نفس المساعي الثقافية النبيلة في صيغة جديدة خدمة لنفس الأهداف
ورغبة في تحقيق نفس الطموحات.
صحيح أن مآل مجلة "أقلام" لم يكن فريدا، وأن منابر ثقافية أخرى
ربما تأسست بنفس الطرق والوسائل، أي بالتضحيات الفردية والجماعية لأصحابها، لكنها
لقيت المصير نفسه، نحن نشير هنا إلى "الثقافة الجديدة" و"الزمن
المغربي" و"البديل"
و"الجدل"، دون أن نذكر أسماء المنابر الأخرى ذات الصبغة السياسية
المباشرة. إلا أن هذا المصير لا يستنفذ في نظرنا سؤال المجلة الثقافية المستقلة في
مجتمعنا وفي ثقافتنا.
3 – "فكر ونقد":
نحو إعادة بناء المشروع الثقافي المغربي
عندما صدرت "فكر ونقد" سنة 1997 مشيرة إلى أن طاقم إدارتها
وتحريرها يتكون من الأساتذة محمد إبراهيم بوعلو ومحمد عابد الجابري وعبد السلام
بنعبد العالي، كان من الواضح بالنسبة للمهتمين بالشأن الثقافي في بلادنا أن مشروع
مجلة "أقلام" ينطلق تحت اسم جديد، وذلك بعد أربعة وثلاثين سنة من العمل
الثقافي المنقطع والمرتبط بمختلف مخاضات الجبهة الثقافية في مغرب عقود النصف
الثاني من القرن العشرين.
وإذا كان من المؤكد أن المشهد الثقافي المغربي في نهاية عقد التسعينات
وبداية الألفية الثالثة قد عرف تحولات كمية وكيفية لا يمكن أن تغيب عن بال أصحاب
المبادرة المتجددة، ونقصد بذلك أسرة تحريرها الصغيرة والكبيرة، فإن الأهم من ذلك
هو أن يكون المنبر الجديد "فكر ونقد" قادرا فعلا على السباحة في مياه
المجال الثقافي المغربي وقد اتسعت شطآنه وتنوعت مشاربه، دون أن نغفل التحول الطارئ
على نسبة الأمية وكم القراء ومختلف أشكال التغير التي طرأت على فضاء الإنتاج
الثقافي في بلادنا، وفضاء الإنتاج الثقافي العالمي ونحن في قلب ثورة تكنولوجية
الاتصالات بمختلف آثارها العارمة والجارفة.
أمر آخر يكتشفه المعاين الشديد القرب من المجلة الجديدة، وهو يرتبط بتوجهها
الفكري العام، فقد تلخصت مقالاتها الافتتاحية المتمثلة في أبحاث ودراسات
واستجوابات رئيس تحريرها الأستاذ محمد عابد الجابري من نزعة ظلت حاضرة في
افتتاحيات الاستمرار بعد الانقطاع والعودة بعد التوقف في مجلة "أقلام"،
أقصد بذلك التموقع السياسي المباشر الذي يعلي من الإرادة السياسية للمثقف على حساب
ما يمكن أن نسميه بالإرادة الثقافية والعمل الثقافي، دون أن ينفي هذا الأمر الصلات
الثابتة فعلا بين العمل الثقافي والعمل السياسي.
لهذا
السبب يحضر النقد كعنوان مركزي في المنبر الجديد، ليصبح المشروع الثقافي النقدي
بديلا لكل المفاهيم التي ظلت عنوانا ملازما لأقلام، أقصد بذلك مفاهيم الثورة
والتغيير والمواجهة والالتزام الأخلاقي. إن دلالة النقد الجديد تروم إعطاء
الاعتبار للفاعلية النظرية باعتبارها وسيلة من الوسائل القادرة على مجابهة معضلة
الدوغمائيات التقليدية التي تشل قدرة العقل الفاحصة والمشرحة والناقدة، قدرة
التحليل والفهم ومحاولة بناء الفكر القادر على زحزحة المعتقدات القديمة وآليات
الفكر التقليدية والراسخة، وبناء بدائلها التاريخية والمرتبطة بالثورات العلمية
والفلسفية المتواصلة في الفكر المعاصر.
ولا شك أن عوامل متعددة تقف وراء استبدال الحديث عن الثورة بالحديث عن
النقد، إلا أن دلالات النقد لا يمكن أن تستشف من مقدمة "هذه المجلة"
عنوان افتتاحية العدد الأول، التي ترسم الملامح العامة للطريق كما يراها من يقف
وراء المشروع. فمشروع النقد في المجلة أمل تغذية إرادة معلنة ومصرح بها، إرادة
تروم العمل في الجبهة الفكرية للمساهمة في إضاءة الطريق، وما ستراكمه المجلة خلال
مسيرتها يعتبر في نظرنا المعيار الأفضل لقياس دلالة النقد في هذه المسيرة، وفي
الآثار التي ستركب وتبني خلالها.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن ما يقرب من أربع سنوات من عمر المجلة يكشف عن
جوانب هامة من فعل البناء الذي تتجه لإقامته بإيقاع صدور منتظم، وبجهد في التبويب
والترتيب والتنويع لا يمكن إغفاله أو التقليل من قيمته رغم شح الموارد ونقص
الإمكانيات ومواصلة العمل بإرادة الاستقلال والاعتماد على الذات.
لقد أصدرت "فكر ونقد" خلال عمرها القصير ما يزيد عن نصف ما
أصدرته "أقلام" خلال 34 سنة (سنوات الصدور والتوقف) وقد صدرت المجلة كما
أشرنا آنفا بتبويب متنوع يشمل حديث الشهر الذي يكتبه باستمرار رئيس تحريرها
الأستاذ محمد عابد الجابري، ثم باب ملف العدد ودراسات وابحاث، ومطارحات نقدية، ثم
باب المتابعات وتقديم الكتب، مع صفحات مخصصة لتقديم نصوص متميزة من التراث العربي
والعالمي.
عملت "فكر ونقد" بنفس آلية عمل "أقلام" في مجال
الانفتاح على الفضاء الثقافي المغربي، وأضافت إلى ذلك انفتاحا مماثلا على قارة
التراث وفضاء الفكر المعاصر. وقد استطاعت أن تستقطب كتاب جيل "أقلام"
والأجيال الجديدة من الكتاب الذين وجدوا في "فكر ونقد" وفي انتظام
صدورها إطارا للفعل الثقافي الموصول بجبهة من القراء والمهتمين؛ والحامل لرسالة
محددة الأهداف والغايات.
تضمنت أعداد "فكر ونقد" التي صدرت لحد الآن ما يزيد عن ثلاثين
ملفا في قضايا متنوعة، ويمكننا تصنيف هذه الملفات كما يلي:
ـ إشكالات نظرية عامة: الفلسفة والشعر (ع8)، التأويل(ع16)، السلطة والعنف
(ع26)، وتكنولوجيا الإعلام (ع29)، الخيال (ع33).
ـ إشكالات العلوم الإنسانية: التربية والتعليم(ع12)، التربية الخاصة (ع20)،
علم النفس (ع21)، في الإبيستمولوجيا وتاريخ العلوم (ع32)، في التربية (ع27).
ـ العرب الإسلام والغرب: الغرب والإسلام (ع5)، العقل الأوروبي في مرآة
ذاته(ع4) ابن رشد(ع14)، العرب والعولمة(ع7)، اللغة العربية والمعالجة الآلية
(ع31).
ـ قضايا فنية وأدبية: النقد الأدبي بالمغرب (ع6)، المسرح الغربي (ع15)، في
شعرية البلاغة (ع 17)، إبداع (ع23)، البلاغة الجديدة (ع25)، نظرية الأدب (ع28).
وقد جاءت مادة ملفات هذه المحاور متنوعة، ولم تخضع لتوجيه مسبق، بل إنها
قدمت في المجال المدروس أسئلة وخلاصات، وفتحت الباب للمزيد من التفكير في
موضوعاتها، وهذا الأمر نتبينه في العودة المتواصلة من المجلة للملفات التي دشنت
القول فيها، حيث أنجز عددان عن الترجمة، وثلاثة أعداد في موضوع التربية والتعليم،
وأكثر من ثلاثة أعداد في موضوع اللغة العربية والبلاغة العربية.
إن جمع المجلة بين باب الملفات وباب الدراسات والأبحاث المتنوعة، يمنحها في
كل عدد فرصة مخاطبة القراء من أهل الاختصاص المباشر، إضافة إلى القراء الذين تهمهم
أبحاثها الأخرى التي تفكر في قضايا مختلفة. وهذه الطريقة تحول المجلة بالتدريج إلى
إطار مرجعي يعمل على مراكمة المعطيات وتطويرها، مع اعتماد مبدأ التنويع وتوسيع
دائرة المشاركين في تحريرها بالانفتاح على الأقلام الجديدة وفتح الباب أمامها
لمباشرة عملية التمرس على الكتابة والبحث والنشر، وهذا الأمر يوسع آفاق المجلة
ويحولها بالفعل إلى فضاء لإعادة بناء الثقافة المغربية بتحديدها وإعادة ربطها
بينابيع الفكر الإنساني دون أي انفصال عن أسئلة المشروع الثقافي المحلي والقومي.
4 – "فكر ونقد":
نحو مثاقفة نقدية خلاقة
لا تتشكل قوة "فكر ونقد" فقط من الملفات التي قدمت وبالصورة التي
قدمت حيث يفتح الملف على زوايا متعددة دون إدعاء الإحاطة الشاملة، أو الوصول إلى
درجة قصوى من التملك المعرفي، فمن الأمور التي أصبحت معروفة اليوم، أن مجال
المعرفة والبحث يزداد تنوعا واتساعا بالصورة التي تؤكد أن الإسهام الفردي والجماعي
والمؤسسي مهما بلغ من العمق وسعة المقاربة، فإنه لا يملك القدرة على استيعاب كل
متغيرات وثوابت المجال المبحوث، في رحابته وجريانه واتساعه، بل إنه في أحسن
الأحوال سيساهم في إضاءة بعض جوانبه والإلمام بها بهدف المشاركة في الإنجاز
الثقافي بتعميمه وتوسيع دائرته بخلاصاته وآفاقه.
إن عنصرا هاما من عناصر قوة هذا المنبر تبرز فعلا في الصفحات التي خصصها
لترجمة نصوص بعض أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، فقد ترجمت المجلة صفحات هامة لأزيد
من عشرين مفكرا، وفاق مجموع الصفحات المترجمة في أعدادها المختلفة 400 صفحة، قدمت
فيها للقراء منتخبات من نصوصهم المتعلقة بقضايا لها ارتباط مباشر بأهم إشكالات
الفكر الفلسفي والعلوم الإنسانية وقضايا الإبداع ومناهج القراءة والتأويل والنقد.
ففي هذه النصوص نعثر على دور المجلة في تأسيس حساسية فكرية لغوية جديدة، كما نعثر
على آفاق في النظر تقدم تمارين الفكر المعاصر في لحظات امتحانه لأسئلته وبلورته
لمفاهيمه وأطروحاته، وهذه المعطيات النصية بالذات ستساهم في صناعة وتأطير جوانب من
أفعال المثاقفة القائمة في الفكر العربي وفي الثقافة المغربية بالذات.
أما أسماء المفكرين الذين ترجمت أعمالهم فيمكن استعراضها بالتتابع الآتي:
هيدجر، فوكو، دولوز، دريدا، هابرماس، بارث، بلانشو، جون بوفري، لاكان، لوكوف،
مرسيا إلياد، كارل بوبر، كوجيف، بورديو، دومنيك لوكور، أمبرتو إيكو، بورخيس.
ولا جدال في أن مسيرة المجلة إلى حدود هذه اللحظة، أي شهر مارس 2001، لحظة
تحرير هذه الورقة، تعكس أمرا مؤكدا يتمثل في إرادة الفعل الثقافي النقدي المتبنى
من طرف المشرفين عليها، ومن طرف الباحثين والكتاب الذين يساهمون في تحريرها. ففي
هذه الإرادة المعلنة يتبلور الإنجاز ويتشكل مساهما في تطوير الثقافة المغربية،
ومعبرا عن أسئلتها وقضاياها، مع محاولة لبناء فكر نقدي جديد، فكر يتيح للمجال الثقافي
المغربي إمكانية تطوير كفاءته في التواصل مع التاريخ والمجتمع، مع الذات في
تنوعها، ومع الآخر في تعدديته واختلافه.
سلمنا في هذه المحاولة بناء على تبريرات معلنة بصلة الوصل القائمة بين
مشروع مجلة "أقلام" ومشروع مجلة "فكر ونقد"، ونريد أن نؤكد
على هذه الصلة مع الإلحاح أيضا على التطور الذي لحق المشروع، والذي نعتقد أن
الأيام ستزيده وضوحا وتأكيدا، وهذه المسألة في نظرنا لا تبخس أي مشروع منهما لا في
استقلاليته، ولا في الأهداف الكبرى التي رسم لنفسه، فنحن نستطيع معاينة الطعم
المختلف للمادة الثقافية المنجزة والمتحققة في كلا المشروعين، ولا نستطيع القول
بوجود انفصال في روح الرسالة الضمنية الجامعة بينهما، هذه الروح التي ترفع من قيمة
الرسالة الثقافية داخل فضاء التحول التاريخي في بلادنا، ففي الينابيع الأولى
للرسالة كما تبرعمت في "أقلام" يحضر الطقس الرسولي في اللغة، وتحضر مطرقة
الثورة معبرة عن مشروع في التحول التاريخي لم يكتمل بعد، حيث لا يصنع التاريخ
بواسطة جبهة ثقافية محاصرة بتاريخ مسلح بالإسمنت المسلح، وحيث يعلن سلاح النقد
اليوم وسط مدارات التحول الجارية في مجتمعنا، ومدارات التحول الفكري اللولبية
الجارية في العالم يعلن أفقا لتموقع ثقافي نقدي قد تكون ثماره أوفر في المستقبل،
متى استطعنا مواصلة الجهد الجماعي المعاضد لهذا العمل في اتجاه إعادة بناء المشروع
الثقافي المواكب لتحولاتنا الجارية وأحلامنا الجديدة، مع ضرورة مراعاة متطلبات
التغير المنجزة والقائمة في فضاء الثقافة المعاصرة، ومحاولة العمل على استيعابها
بتجاوزها ونفيها بصورة خلاقة ومبدعة، وهذا الأمر لا يصبح ممكنا دون تضافر الإرادات
وعزمها على المغامرة والفعل الثقافي الأكثر تجذرا في المجتمع وفي التاريخ والأكثر
قدرة على تمثل مكاسب الفكر المعاصر، وخاصة في أبعادها النقدية.
عود
على بدء..
كان هدفنا المباشر من الحديث عن مجلة "أقلام" في علاقتها بمجلة
"فكر ونقد" مناسبة للتذكير بالجهود المتواصلة لجيل من المثقفين المغاربة
المنخرطين في مجال الصراع الثقافي من أجل تعزيز وتدعيم جبهة الفكر النقدي في
حاضرنا.
لم يكن بإمكاننا أن نبحث مختلف خليات وابعاد وآثار "أقلام" في
الثقافة المغربية المعاصرة، كما أننا لم نضع من بين مهامنا هذه المحاولة بالذات
موضع الرصيد الذي تؤسس اليوم مجلة "فكر ونقد"، كان هدفنا المركزي يتمثل
في لفت النظر إلى الدور الكبير الذي تلعبه المنابر الثقافية في تحريك أسئلة المجال
الثقافي وذلك من خلال أمثلة حية تتعلق بالدور الذي لعبته مجلة "أقلام"
في تاريخنا الثقافي المعاصر. وإذا كانت "أقلام" قد تبلورت مدافعة عن
الحق في القول وفي التفكير بل الحق في ممارسة التفكير الملتزم بقضايانا السياسية
والثقافية فإن من حقها علينا اليوم أن نشير إلى أفضالها الكبيرة في إغناء رصيدنا
الثقافي المعاصر وتطويره. بل إننا بين نشأتها وما أسميناه بتبلور حساسية ثقافية
أدبية جديدة في فضاءنا الفكري والإبداعي.
وعندما نستحضر اليوم جهود "أقلام" بصورة مكثفة فإننا نرفع
بالمناسبة أروية النسيان التي تكاد تغطي جهود جيل من المثقفين الفاعلين في حياتنا
الثقافية، وهو جيل ما تزال عطاءاته مشهودة في مجالنا الثقافي، بل إنه عندما يواصل
هذا الحضور في صيغة جديدة، صيغة محلة "فكر ونقد" فإنه يعبر بكثير من
القوة والجرأة عن مواصلة للمساعي والأهداف التي عمل على تأسيسها في مطالع الستينات،
ولعل هذا المشروع الجديد في حاجة إلى الاحتضان الذي يمنحه جدارة مواصلة العمل
الثقافي النقدي خدمة لتطلعاتنا في مجال الإبداع، وفي هذا الإطار نقترح فتح نقاش
عام حول دور المجلات الثقافية في ترسيخ ثقافة الحوار في فكرنا كما ندعو إلى فتح
نقاش آخر حول كيفيات تطوير أداء "فكر ونقد" بالصورة التي تجعله يستجيب
للأهداف المرسومة في العلامة الراسمة لدلالة الاسم "فكر ونقد" لتتمكن
الثقافة المغربية فعلا من مواصلة العمل على تأسيس فكر نقدي مطابق للذات المغربية
والشخصية المغربية في تنوعها وتعددها وفي سياقا مساعيها الرامية لبلوغ عتبة النهضة
والتقدم.. إن هذا الاقتراح ينبع من إحساسنا بأن "فكر ونقد" تعكس إرادة
في التحدي الثقافي وأن هذه الإرادة موجهة بإيمان عيمق بجدوى العمل الجماعي
المشترك، فهل نستطيع إسناد فكر ونقد؟ وهل نستطيع المحافظة عليها بتطويرها وتطوير
أداءها الثقافي؟
(1) افتتاحية ع1/مارس 1964.
(2) راجع مقالة الأستاذ الجابري "مسؤولية
المثقفين في البلدان المتخلفة"، في "أقلام"، العدد الثاني، أبريل
1964، وهي تواصل التفكير في موضوع مقالة: "وضعية المثقفين في المغرب"
للأستاذ أحمد السطاتي المنشورة في العدد الأول، وتقدم معطيات إضافية معتمدة في
التحليل معطيات المجتمع والتاريخ، ومؤكدة على الدور التاريخي الكبير المنوط
بالمثقفين في مجال التغير الاجتماعي.
(3) بلغ عدد المساهمين في تحرير أعداد مجلة أقلام
طيلة مدة صدورها ما يقرب من 100 كاتب مغربي.
(4) عمل الأستاذ محمد إبراهيم بوعلو إضافة إلى
جهوده في مجلة "أقلام" الإشراف على مجلة للأطفال "أزهار"، كما
أصدر بتعاون مع الدكتور عبد الكريم العمري المجلة الصحية والسلسلة الطبية..