الاستفسار
مليكة نجيب
كدت أسقط من السلم المفضي إلى الباب
الرئيسي للإدارة حيث أعمل، جمعت أشلائي، رتبت قميصي وعدت أدراجي أتعقب ذات اللون
الأبيض.
فات وقت العمل بالإدارة بعد الزوال،
وكنت وأنا في عجالة من أمري أتسابق مع الزمن الإداري، لأسجل حضوري، وألتحق بالمكتب
رقم 349، مثل باقي أيام العمل منذ ست وثلاثين سنة خلت، لم أهضم سبب عزوفي عن
الخنوع المعهود للروتين الذي امتلكني رهينا لديه، كل ما شعرت به هو حلول مارد قاهر
بي، انتزعني من قمقم عتيق وقذف بي وراء جسد أنثوي أسرتني رعونته التي نحتها في
انتناءات وغمرات وشطحات قلبت موازين اتزاني.
كان قالبا آدميا برع الخالق في صورته.
طيف يتهادى في خيلاء ودلال، "ذات الخلخال ونؤوم الضحى". شبح آسر انعتق
من القيد مقابل كنوز سليمان، أو على الأقل هذا ما اتضح لي، ولأنه لم يكن من
المناظر المألوفة لدي، فقد كان من الحمق التفكير في العدول عن تعقبه.
انعطفت ذات الرداء الأبيض على الجهة
اليمنى للطريق، وكانت طقطقات حذائها الدقيق هي مرشدي في تتبعها، كان الكعب يحدث
أنينا من حركات صاحبته الاستعراضية، وتتصاعد أصوات الكعب وتصاحبها دقات متسارعة
داخل صدري، تعقبتها، تعقبت أعضاءها المستفسرة، خاطبتها بعيون نهمة، وبفحولة ورثتها
عن بني هلال وبني سليم، وقسمت أن أحتفظ بمشعل الفحولة متقدا متأججا حتى أسلمه لمن
بعدي.
انحدرت مع الشارع الطويل المكتض
بالسيارات، ساهمت بعضها في عملية التعقب بإطلاق أبواقها ومعاكسة ملهمتي، انحدرت
وراءها، صعدت بزنقة على يسار الشارع تتوسطها ساحة وحديقة عمومية مهملة، اتبعت
خطواتها، لا يثنيني عن عزمي أي شيء.
قطرات سائل مالحة تقلق عيني في متعتها،
أمسحها بطرف كمي، أتحسس شاربي، أتذكر ملف الأوراق بيدي العرقة، أتفقده، تبللت بعض
جوانبه واختلطت حروف وكلمات الجريدة ولطخ مدادها الأسود كل ما حولها.
مسحت الطريق بنظرة تفقدية، اللون الأبيض
يتوهج تحت أشعة الشمس التي تسخر طاقتها لتوزيد الأعضاء الراقصة بطاقة تلهب إيقاع
المشي، وتصعد من درجة انفعالاته، هرولت لاحقا بضالتي، لاهثا آملا في ودها، فأشاحت
عني بازدراء وأسرعت في المشي.
لا أيأس، تشجعني همزات ولمزات جسدها
الكاشفة، كان خطيبا مفوها أتواصل معه جيدا، وأستيعد فتوة وخبرة بني هلال وبني
سليم، وأصر على حمل المشعل حتى نقطة الوصول، غيرت فضاء الملف والجريدة إلى اليد اليسرى،
أطلقت سراح اليمنى لتعيد نظام لباسي الذي انعكست عليه حالة نفسيتي المضطربة.
تنعطف مرة أخرى نحو جهة اليمين، تنزل
أزقة قذرة، بها حفر، لم يزرها قط دعاة البنية التحتية والفوقية، تتشابه الدور
المتراصة على الجانبين، أولاد صغار حفاة يتقاذفون بالحجارة، نساء عجائز يفترشن
التراب، ويملأن المكان ثرثرة، تتوقف هذه الأخيرة، وأشعر أنهن ركزن اهتمامهن على
مؤخرتي التي برزت بشكل غريب بفعل الطريق المحدبة.
أدفع بمؤخرتي إلى الأمام وأستغرب حضور
مقدمة ابن خلدون في هذه الظروف الخاصة، يخفت كلامهن، يتهامسن، تنطلق عقيرة الصغار
"اطلق الدجاجة لماليها لتبيض وتوحل فيها" يرتفع الصوت، يقوى، تقوى
الرغبة بي في التمكن من ذات الرداء الأبيض، أتمنى أن تبيض وتوحل في، أجدد طاقة
الركض لمحاذاتها، فجأة تغيب عن ناظري، أبحث عنها، لا أثر لها، أقف، أحذق، أبحث،
ألتفت، أمعن النظر في أبواب الدور المفتوحة بعض أبوابها، لا أثر لدجاجتي، يحتويني
غيظ وقلق، وكديك منفوش الريش أبحث عن دجاجتي المفضلة بين عشرات يتسابقن إلى ودي.
أطفال الزنقة لا يتعبون من ملاحقتي وزجري، يرفقون صياحهم بقذفي بالحجارة. أجري،
أحتمي من الرجم بقامات بعض المارة، تستقبلني النساء المتجمعات، تشتمني عجوز بينهن
وتدعو علي ببتر رمز ذكورتي، تتضاحك الباقيات، وتستنكت إحداهن على عملية البترة.
عند عودتي أقطع نفس الأزقة الآهلة التي
لم أعرها أدنى اهتمام إبان عملية القنص الفاشل، أنتبه حذرا من أكوام الخضر
والبضائع المعروضة على الطريق، باعة متجولون يصيحون بأثمان معروضاتهم، تختلط
الأصوات بروائح البصل والسمك والنعناع، الطماطم التي رفضت تأشيرتها للقاء بلاد
الله الواسعة، ملقاة بمهانة على عربات يد متسخة، اجتزت الممرات الضيقة، حيث تزاحم
الباعة، واتجهت صاعدا نحو ساحة الحي، ارتكنت على حجر مستو، أعدت إصلاح تضاريس هندامي،
رحت أجتر مرارة الفشل وبؤس القنص، فكرت مليا في تبرير معقول أفسر به غيابي عن
المكتب رقم 349، فعلا هو غياب غير مرخص له، وأنا مطالب بإيجاد تفسير يقبله
المسؤول، استبعدت تبرير وفاة أحد من الأقارب، لأني اضطررت لقتل بعضهم مرات خلا 36
سنة من الأقدمية،… مرض أحد الأطفال، عذر مقبول لكنه غير مضمون العواقب، قد يتصل
الزملاء أو الفضوليون بزوجتي ليطمئنوا على حالة المريض وينكشف أمري، وسأكون عرضة
إذاك لمواجهة عدة مسؤولين عوض مسؤول الإدارة فقط.
ما العمل؟
لو أني فزت برضى ذات الرداء الأبيض لهان
الأمر، كنت سأكاشفها عن وحدتي وتيهاني في الزحام البشري اليومي، كنت سأحكي لها
نبوة سيفي وكبوة فرسي، كنت سأعزف لها وجع الاغتراب والضياع، وحنين الموظف للخلاص
من ربقة التيه. كنت سأبشرها بالإصلاح الذي يأتي بالإنسانية المفقودة بين غبار
السنين ورفوف الأرشيف وترسنات القوانين.
لماذا تسللت مني كرؤية فجر مشرق واعد
بالحب والخير؟
أهو تضخم رأسي ونزوح قمته نحو الأعلى؟
أم هو تداخل كتفاي اللذين أعياهما حمل المشعل المطفي؟
رتبت الأوراق بين يدي. تحمل إحداها
تعليمات مستعجلة التنفيذ، حمى مثلجة تعم أطرافي، أسببها فشلي في الصيد أم الاقتطاع
الذي سيلحق راتبي الشهري؟ ذاك الراتب الذي استوطنته الديون وغزته الاقتطاعات حتى
صار هشا نحيلا، بالكاد يملأ أفواه صغاري الأربعة بما يلهيها عن التضور بالجوع.
كان واقعه يؤلمني وجاهدت لأعتقه مرات من
مؤسسات بنكية تمتص دماءه. كنت أريد أن يسترد عافيته الطبيعية النسبية، لكن سرعان
ما تتقاذفه أمواج الحاجة والطوارئ فتلوح به في مستنقعات عميقة من الدين والتبعية
لا فراق له منها.
حاولت مرات إمداده بدعم عابر، واقتناص
تعويضات إضافية أو ساعات عمل وهمية، يتكرم علي ذوي الأريحية كل مناسبة أذكرهم فيها
بالموظف صاحب 36 سنة من الأقدمية.
ليت ذات الرداء الأبيض توقفت عن جريها،
لأخبرها بالمرض المستديم الذي حل براتبي وقضى على كل عناصره، أكاشفها سرا ظل
مستكينا بين أضلعي، خوف ورهبة من البوليس والشرطة وكل أصحاب البدل الرسمية رافقاني
طيلة دراستي الجامعية، وكبر الخوف وتضخم حتى اتخذ أحجاما سريالية محت مني مكامن
الشجاعة والرجولة، وتنفست الصعداء بعض الشيء بعد توظيفي، انزاحت على أنفاسي تلك
الكوابيس بعد أن اكتشفت أن جل أصحاب البدل الرسمية أناس بسطاء كرماء يستوطنهم
الخوف والرهبة مثلي، وأن بدلهم لا تمنع عيونهم من البكاء، بسبب الحاجة والضياع.
أصبحت بعد توظيفي أشعر بالأمان، قبل أن
تصل عدوى الديون والاقتطاعات إلى راتبي.
أفكر في تبرير معقول ينقذ راتبي من
العض، ويضمن لصغاري عضة إضافية من خبز أسود، أفكر في ذات الرداء الأبيض ورغبتي في
البوح لها بأن بغيتي هو مكاشفتها عن بحثي المضني عن عملة الحب الصادق، عن مثالية
هتكت عرضها ديون واقتطاعات أغرقت قيمي في وحل آسن.
ما العمل؟
يراودني صوت أمي ملهبا كالسوط:
"أحمد الله وأشكره حتى إذا لم يبق لديك سنتيم آخر الشهر، انظر إلى غيرك من
القاريين، يحتجون ويطبخون بالهدرة حتى شاخوا، ويكفي أنك تدخل وتخرج، ويعرف الكل
أنك تعمل مع المخزن.
"احمد الله على الخبزة لكي لا
يحرمك منها".
واكتشفت أنني أمتثل لنصيحة أمي دائما،
ولكن الآن بماذا عساي أبرر غيابي عن العمل وتهمة التقصير في تنفيذ التعليمات؟
عدت أعقابي، أصعد وأنزل الأزقة التي لم
يزرها قط دعاة البنيتين التحتية والفوقية والتي لا ألمس لهما وجودا سوى في لباس
زوجتي التقليدي وطلب الحصول على تحتية وفوقية على مقاس الموضة.
ودخلت بيتي أبحث عن خلوة وراحة.
قررت أن أعد تبرير الغياب قبل توصلي
بالاستفسار:
وكتبت بخط واضح:
"سيدي المسؤول أطال الله عمركم
ووقاكم ضيم كل دين واقتطاع
تغيبت بعد ظهر اليوم عن عملي دون إذن
مسبق لأن كارثة حلت بي، إذ أصيب كل ما حولي بالصمم، وأصبت بالبكم، أعاهدكم أنني
سأكف عن البحث عن العملة المفقودة، ولن أفكر قط في محاربة أعداء رزقي".