ص1     الفهرس    المحور

موال على البال...

المصطفى كليتي

هدأة السكون تسربل فضاء البيت، والليل الساجي ينساب بتؤدة بين فروج أصابع صمت ملائكي النسمات..

ـ زن.. زن.. زن.. زن.. زن..

بت أشعر بأن دماغي قد تحول إلى حذاء قديم مهترئ، الضجيج يخترقه حتى العظم، الصداع أنَّى وليت: صداع.. صداع.. صداع..

ـ أيها العالم الضاج صمتا مجرد لحظة صمت لا غير، أصيخ السمع خلالها لهفهفة جناح طائر الصمت المبلسم بألطافه السندسية جراحاتي الراعفة..

الملف شائك يحتاج إلى طاقة قوية للعمل، لم أعد قادرا على المتابعة، فقد أمسيت منهارا من الوكد..

تسمر المسؤول الأول للمصلحة ذلك الصباح مصلبا يديه خلف ظهره بعصبية واضحة ونظره ساهم الإطراقة على بلاط المكتب، جاب أرضية المكتب عشرات المرات غدوا ورواحا..

ألقيت بالتحية وأومأ إلي بالجلوس..

انتظرت متوجسا بسأم وقنوط أن يفاتحني.. فلم ينبس بحرف وطفق يتحرك دارعا المكان الضيق جيئة وذهابا حتى ضجرت وهممت بالخروج. طافت في خلدي وساوس أفكار قاتمة، ترى هل صدر مني ما يثير كل هذه العصبية والتشنج!..

بعد هنيهة، قرن المدير في مكتبه، فاركا يديه بحبور استجلابا لدفء ما:

ـ تفضل اجلس.. اسمع يا "سين"؟..!.. لقد اخترتك أنت بالذات لكي توضب لي هذا الملف بالدقة المهنية المعهودة فيك، لك أسبوع بأتمه لتخلص منه، جميع الوثائق التي تحتاجها معك، وهذه رقائق الحاسوب تحتوي على البيانات والمعطيات اللازمة والمسعفة في البحث والدراسة..

صدحت أنغام هاتفه المحمول، فاستله من وسط حزامه وانغمر في حديث مسترسل دافق.

وأشار إلي بالخروج وعدم التقصير في العمل غامزا عينيه على أن المكافأة ستكون هامة إذا ما نجحت في أداء المهمة..

اندلق نهر الأيام السبع يجري برتابة، مضت علي أيام ثلاثة وأنا أقرأ وأعيد المراجعة المرة تلو المرة، أجلس مواجها شاشة الحاسوب وأضيع بين تلافيف الملفات والأرقام.. أوراق أرقام.. دامغة قاصمة مسنونة كأنصال مسمومة..

لدت بالفراش متصيدا إغفاءة رقاد ولكن الأرقام تتسلل عنوة إلى فراشي.. تخزني وخزا وأعود ثانية وثالثة وعاشرة إلى نقر ظهر فأرة الحاسوب والإبحار بين عباب موج الأوراق والأرقام اللامنتهية في خضم فيض دائم الانثيال أمامي عبر الشاشة..

لا أستطيع العمل ودماغي ممسوح مثل حذاء اهترأ تماما، ليعود دماغي إلى رأسي، أغلقت علي كل منافذ الضوء وأغمضت عيني ناشدا النوم بغية استرجاع حيويتي المهدورة، ولكن من أين نفذ هذا الصرصار العنيد، وبدأ لغطه:

ـ زن.. زن.. زن.. زن.. زن..

تلمست زر الأباجورة ثم سلطت حزمة الضوء على زوايا الغرفة متحريا مساقط الصوت المزعج:

ـ زن.. زن.. زن.. زن.. زن..

خلت الصرصار يحرض علي باقي الصراصير::

ـ يا صراصير العالم.. اتحدوا..

زن.. زن.. اتحدوا..

زن.. زن.. زن..

رمت صيدلية البيت الصغيرة، وبحث عن نفشة قطن ووسدتها طبلتي أذني لأعزل الصوت اللحوح عن أسماعي، لقد بلغ التوتر عندي منتهاه، لا أريد أن أسمع صوتا بالمرة، أحتاج إلى سكون يعيد إلي بعض إنسانيتي، دماغي –الآن- حذاء اهترأ تماما.. تماما.. وقد لحستها آلة قاهرة لا ترحم..

أيها العالم الضاج.. صمتا، مجرد لحظة صمت..

كان الصرصار –بعدما هزم كل محاولاتي الخائبة الهادفة إلى اكتشافه- يرتع في بحبوحة حريته، ينتقل من هذا الشراب أو يتذوق هذا الطعام أو يغازل صرصورة شاردة وما يفتأ أن يرتخي حالما بتحسين أوضاع الصراصير المضطهدة رافعا شعاره المستفز:

ـ يا صراصير العالم.. اتحدوا.. اتحدوا..

زن.. زن.. زن..

يصمت لحظة فيغشاني سكون آسر، ولكن ما يلبث الصرصار أن يفتض الصمت بنكير زنزنته:

ـ زن.. زن.. زن.. زن.. زن..

فطوال بهمة الليل والصرصار الثرثار يحكي ويشتكي ويؤلب العالم ضدي..

اكتسحني برد الوحدة. ولأربط الصلة بالعالم الحي، شغلت التلفاز الذي يتنافس عليه أطفالي على مدار النهار، قلت في نفسي هذه سانحتي لأتابع برنامجا موسيقيا يهدأ أعصابي التالفة، فجأة، مثل أمامي صرصار عملاق يرتدي وزرة بيضاء ويضع على عينيه نظارات طبية مقعرة، ويشد إلى عنقه مجسا طويلا، قفز من الشاشة وشرع يتفحصني مشخصا:

ـ لا بأس عليك.. لا بأس عليك..

عليك بالراحة فقط، أرهف السمع إلى وجيب قلبك وتذكر إحدى ذكريات الطفولة السعيدة ونم ملء أجفانك؟..

فركت عيني جيدا، كان منشط التلفاز يتابع بحماس هجمة شرسة لأسد هصور يجري متحفزا خلف غزالة لاهثة السرح في البراري السمحة..

ضغطت على "الرموت" ساد صمت مضيق على المكان، كسر الصمت الرائن موال الصرصار الممعن في نرفزتي..

ـ زن.. زن.. زن.. زن.. زن..

صممت على وضع حد لهذا الصرصار الأهوج، الذي حرمني لذة النوم..

ـ آه لو أستطيع كبسه لدعصته دعصا..

رششت رائحة المطهر الحريفة في كل الاتجاهات آنئذ يبدو لي تخلخل وتزلزل كيان الصرصار برهة؛ عم الصمت، لا شك بأنه يزحف رويدا رويدا إلى مكان آمن..

لبد خلف الأريكة متجمدا، كنت أسكب جدول ماء مخلوط بجميع أصناف المطهرات التي عثرت عليها بمطبخ البيت، في ثنايا الأريكة لمحت ذبابتين ملتحمتين لم تحفلا قط بالخطر المحدق بهما..

الصرصار –سخط عليه حظه العاثر هذه المرة- فانقلب على ظهره، فوقع في شرك طابور نمل أحمر هائج مفترس، لست أدري من أين استنفرت حشود النمل ورصت بهذا العدد الجرار صفا صفا كعربات قطار صغير متماوج..

تخيلت صوت الصرصار الضحية يملأ الأفق:

ـ زن.. زن.. زن..

النجدة.. النجدة.. النجدة..

صببت جردل الماء بقوة، فتمطى الفيضان ليكتسح الآكل والمأكول ثم عدت إلى فراشي مزهوا بانتصاري..

مسكت الجريدة فألفيت حروفها المسكوكة نملا يتحرك في كل الاتجاهات..

ضغطت على المكبس فتلفع المكان بستار محكم الإظلام، لكن من حيث لا أحتسب زن موال الصرصار..

ـ زن.. زن.. زن..

شعرت عندها بارتياح عميق، وأنا أستمع إلى زنزنة الصرصار وأخرجت صوتا من حلقي محاولا تقليده..