مساءلة
التاريخ في رواية "سباق المسافات الطويلة"
لعبد
الرحمن منيف
الرشيد
بوشعير
في
الروايات التي كتبها عبد الرحمن منيف من قبل كان مصير المادة الروائية يتمثل أساسا
في التجربة الذاتية العاطفية والاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية؛ ففي الأشجار
واغتيال مرزوق يكون التركيز على التجربة السياسية والفكرية، وفي قصة حب
مجوسية يكون التركيز على التجربة العاطفية، وفي شرق المتوسط يكون
التركيز على تجربة الاعتقال وآثارها، وهي التجربة التي عاناها منيف ذاته حسب
اعترافه، وفي حين تركنا الجسر يكون التركيز على التجربة السياسية العامة
التي تعرضت لها الأمة في نكسة 1967، وفي النهايات تشكل التجربة الأيديولوجية
مصدرا يرقى في أهميته إلى مستوى التجربة الصوفية، وفي عالم بلا خرائط ذات
المصادر الثنائية المشتركة بين منيف وجبرا، تتضافر تجارب فكرية وسياسية وجمالية
وثقافية كي تشكل نسغ المادة الروائية.
أما في سباق المسافات الطويلة،
فإن عبد الرحمن منيف يبدو كمن استنفذ مخزون التجارب الذاتية العاطفية والسياسية
والفكرية والجمالية، فأراد أن يبحث عن مصادر أخرى أكثر ثراء، ووجد ضالته في
التاريخ، وبالرغم من أن أعمال عبد الرحمن منيف المذكورة آنفا لا تمزق رحم التاريخ
ولا تخرج من جلده، إذا أردنا أن ننظر إليها بعيون "أصحاب النظرة التاريخية"
ممن يربطون بين الرواية والتاريخ بمفهومه العام الواسع الاجتماعي والزماني
والمكاني، وذلك بحكم ارتباط الأنواع الأدبية بالعصور والبيئات التي أفرزتها، وهو
ما يعيه عبد الرحمن منيف وعيا عميقا يجعله يعرف الرواية بأنها "تاريخ من لا
تاريخ لهم"، نقول: بالرغم من ذلك فإن الأعمال الروائية السابقة التي كتبها
منيف تكتسب تاريخيتها من السياق العام، وليس من مساءلة التاريخ المدون، خلافا
لرواية سباق المسافات الطويلة التي تسائل التاريخ عن قصد وتمتح من معينه
المحدد في الوثائق والكتب المرجعية الرسمية.
وإذا كان بعض النقاد يريدون أن يميعوا
حدود هذه المرجعية التاريخية المحددة في سباق المسافات الطويلة فيرتابون في
فضاء الرواية، على نحو ما فعل الناقد "عبد الحميد المحادين"، فإن
الاستئناس ببعض كتب التاريخ الحديث يضع أيدينا على مصدر منيف في هذه الرواية ويحدد
لنا فضاءها وزمانها تحديدا تاريخيا دقيقا؛ فالمرجعية التاريخية لهذه الرواية
تتراءى لنا في خيوط السياسة الاستعمارية الجديدة في إيران وتضارب مصالح القوى
الكبرى التي كانت تسعى إلى الهيمنة على مصادر الطاقة النفطية في الشرق.
ما سبل مساءلة التاريخ في هذه الرواية؟
لعلنا نستطيع أن نحصر هذه السبل في
عنصرين رئيسيين، وهما التاريخ المكتوب، وأدبيات الاستشراق.
أ – التاريخ المكتوب:
لقد ركز عبد الرحمن منيف في هذه الرواية
على فترة تاريخية شديدة القلق والاضطراب، وهي فترة محمد مصدق رئيس وزراء إيران
الذي ألغى معاهدة مع بريطانيا سنة 1901 وأمم النفط، مما أدى إلى التوتر في
العلاقات بين البلدين، والاختلاف مع الشاه الذي عين رئيس وزراء جديد، وهو الجنرال
"زاهدي" قاطعا خط الرجعة على "مصدق" الذي كان قد حل مجلس
النواب والشيوخ، ثم سافر الشاه إلى أوروبا مع عائلته وترك الصراع محتدما بين
الفرقاء في الداخل، وهو الصراع الذي كانت تغذيه وتوجهه القوى الرأسمالية التي كانت
تمسك بخيوط الصراع، ويهزم "مصدق" بعد معركة جرت بالدبابات فيسجن ويحاكم
ويقتل، كي يعود الشاه إلى إيران.
ويعترف عبد الرحمن منيف صراحة بإفادته من
المصادر التاريخية التي تغطي هذه الفترة المتوترة في تاريخ إيران المعاصر؛ فإجابة
عن سؤال يتصل بمرجعية سباق المسافات الطويلة وما إذا كانت حكاية عادية تتخذ
"الحدث اليومي الذي ليس له تاريخ" مادة لها أم أنها كانت تتكئ على خلفية
تاريخية، يقول عبد الرحمن منيف:
"إن رواية سباق المسافات الطويلة
قد تكون الرواية الوحيدة، أو على الأقل، أكثر الروايات التي اعتمدت على التاريخ،
وعلى الوثيقة، ولم تكن أبدا مجرد حكاية.
عندما كتبت هذه الرواية كانت بذهني تماما
صورة محددة أريد تسجيلها، وهذه الصورة هي صورة إيران في فترة "مصدق".
وهذه الصورة تكونت نتيجة القراءة والاطلاع. ولقد اعتمدت في صياغة جزء من الوقائع
اعتمادا على وثائق من داخل إيران، فالصديق "حسين جميل"، والذي كان سفيرا
في إيران خلال فترة لاحقة، اطلع، وأطلعني مشكورا، على جميع المراسلات التي كانت
موجودة في سفارة العراق في طهران، والتي تغطي أحداث فترة الخمسينات من هذا القرن،
وعلى التحديد فترة مجيء مصدق ثم سقوطه، وما جرى من خلال هذه الفترة الحافلة، من
قيام حكم وطني، وهروب الشاه، وتراجع الإنجليز، وتقدم الأمريكيين، والصراع الذي دار
بين هذه القوى، إضافة إلى المؤامرات والمناورات التي جرت داخل المعسكر الواحد، أو
بين المعسكرات المتصارعة والمتنافسة، وما أدت إليه، في النتيجة، من هزائم
وانتصارات، وأخيرا من تغيرات، انعكست بإعادة ترتيب الوضع ضمن الصيغة التي نعرفها،
حيث عاد الشاه، وهزم الإنجليز، أو بالأحرى أصبحوا شركاء ثانويين، إضافة إلى تصفية
الحركة الوطنية".
ولكن عبد الرحمن منيف بوصفه كاتبا روائيا
مبدعا لم يلتزم بكثير من التفصيلات التاريخية كما سنرى، كما أنه لم يلتزم بحرفية
التاريخ بقدر اهتمامه بنتائجه السياسية والاجتماعية والنفسية.
ب – أدبيات الاستشراق:
وهو مصدر آخر لا يقل أهمية عن المصدر
السابق، بل يمكن أن يكون أكثر جدوى ونجاعة في بناء هذه الرواية شكلا ومضمونا.
وبالرغم من أن عبد الرحمن منيف لم يكن
يحرص على تحديد مصادره الاستشراقية على نحو ما رأيناه يفعل بمصادره التاريخية،
فإنه يقتطف بعض الأقوال والرؤى من "لورنس" الرحالة الإنجليزي المعروف
الذي اندمج مع المجتمعات العربية في منطقة الخليج واستطاع أن يوهم كثيرين ممن
قرؤوا عنه أو عايشوه بنبل أغراضه المريبة التي لا تختلف عن أغراض المستشرقين الذين
اتخذوا الاستشراق أسلوبا غريبا "للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك
السيادة عليه"، على حد تعبير المفكر "إدوارد سعيد".
إن عبد الرحمن منيف يقتطف بعض أقوال
"لورنس" ويصدر بها أقسام روايته، كما فعل في القسم الثاني الذي صدره
بهذه الفقرة الطويلة:
"إذا لبست اللباس الشرقي، كن شرقيا
بكل معنى الكلمة، اترك على الساحل كل ما هو إنكليزي وتبن العادات الشرقية بكاملها،
ويمكن للأوروبي، إذا انطلق من هذا المستوى، أن يتغلب على الشرقيين في ميدانهم
الخاص، لأن دوافعه أقوى من دوافعهم، وحماسه أشد من حماسهم، فإذا تغلبت عليهم في
هذا المجال فإنك تكون بذلك قد خطوت خطوة واسعة نحو النجاح الكامل. إلا أن ضغط
العيش والتفكير بلغة لا تفهمها فهما كاملا، واضطرارك إلى تناول أطعمة لا يهضمها
إلا الوحوش، وإلى لبس الملابس الغريبة والسلوك بمسلك الغريب، بالإضافة إلى انعدام
الهدوء والعزلة وإمكانية الاستراحة من تقليد الآخرين شهرا بعد شهر.. ومصاعب
التعامل.. وقساوة المناخ.. أمور ينبغي التفكير بها بشكل جدي قبل ركوب هذا المركب
الخشن".
وقد حقق عبد الرحمن منيف، باللجوء إلى
مثل هذه المقتطفات، كثيرا من الأهداف الفكرية والجمالية التي منحت روايته صياغتها
المتميزة، وفي مقدمة هذه الأهداف تحديد طبيعة الرؤية الاستشراقية وملابساتها
وتحديد ملامح صورة المشرق في أذهان الرحالة الأوروبيين من خلال نصوصهم أو
أدبياتهم، وهو مما يضفي على عمل عبد الرحمن منيف مسحة موضوعية لا يخطئها النظر،
وفضلا عن هذا فإن المادة الاستشراقية أسهمت إسهاما كبيرا في بث الحياة في هذه
الرواية وجعلها مقنعة وموهمة بالواقعية إلى حد بعيد، حتى أن ناقدا مثل الدكتور
"فيصل دراج" تنطلي عليه الحيلة فيرى في هذه الرواية عملا قريبا "من
الحدث اليومي الذي ليس له تاريخ"، وهي شهادة عفوية صادقة في حق سباق
المسافات الطويلة ونجاح منيف في كسر حدة المادة التاريخية الجافة،
وليست طعنا فيها كما أراد الدكتور دراج.
ومن المصادر التي رفدت أدبيات الاستشراق
في سباق المسافات الطويلة يمكن أن نذكر الدراسات التي تناولت ظاهرة
الاستشراق، وهي الدراسات التي لا يحتمل أبدا أن يتجاهلها عبد الرحمن منيف، وأهم
هذه الدراسات على الإطلاق كتاب "إدوارد سعيد" الموسوم بـالاستشراق،
ويؤنسنا إلى هذه الحقيقة أن موقف عبد الرحمن منيف في الاستشراق يكاد يكون هو نفسه
رأي "إدوارد سعيد".
ففي الكاتب والمنفى –على سبيل
المثال لا الحصر- يحدد عبد الرحمن منيف موقفه من الاستشراق قائلا:
"إننا بوصفنا عربا، مرسومون في
ذاكرة الغرب من خلال الاستشراق بانحيازه وأهوائه وقراءاته الوحيدة الجانب، وأيضا
بكم وفير من العداء وتناقض المصالح، هذا في إطار التاريخ والعلاقة بين حضارتين
وثقافتين".
وهذا الموقف ذاته هو موقف "إدوارد
سعيد" الذي عبر عنه بشيء من التفصيل على النحو الآتي:
"إن الشرق ليس حقيقة خاملة من حقائق
الطبيعة. فهو ليس مجرد وجود ثمة، بالضبط، كما أن الغرب نفسه ليس مجرد وجود ثمة،
وينبغي أن نأخذ بجدية ملاحظة فيكو العظيمة أن البشر يصنعون تاريخهم، وأن ما
بمقدورهم أن يعرفوه هو ما صنعوه، وأن نسحب هذه الملاحظة لتنطبق على الجغرافية: ذلك
أن مواضع وأقاليم وأقساما جغرافية كالشرق والغرب، من حيث هي كيانات جغرافية
وثقافية –دون أن نقول شيئا عن كونها كيانات تاريخية- هي من صنع الإنسان. ومن ثم،
فإن الشرق، بقدر الغرب نفسه تماما، هو فكرة ذات تاريخ وتراث من الفكر، والصور،
والمفردات التي أسبغت عليه حقيقة وحضورا في الغرب ومن أجل الغرب، وهكذا فإن كلا من
هذين الكيانين الجغرافيين يدعم الآخر و، إلى حد ما، يعكسه".
وعلى أي حال فإنه من حق عبد الرحمن منيف
أن يطعم رؤاه الفكرية برؤى مفكر كبير مثل "إدوارد سعيد" الذي يعد من
أفضل من حللوا ظاهرة الاستشراق، إن لم يكن أفضلهم جميعا، وهو ما يضفي على سياق
"المساقات" مسحة موضوعية قد ترقى إلى مستوى العلم.
تلك أهم المصادر التي حاورها عبد الرحمن
منيف في سباق المسافات الطويلة، فما الخامات السردية التي اختارها من تلك
المصادر؟ وما الرؤى الفكرية التي أراد أن يعبر عنها من خلال توظيف تلك الخامات؟
قبل الشروع في وصفأو تلخيص الخامات
السردية التي وظفها عبد الرحمن منيف في هذه الرواية نلفت النظر إلى أننا لن نهتم
كثيرا بمطابقة تلك الخامات السردية كما وردت في الرواية بمصادرها الموضوعية، سواء
في التاريخ أم في أدبيات الاستشراق؛ لأنه من حق الكاتب أن يتصرف في الخامات التي
يستقيها من أي مصدر من المصادر المتاحة والمباحة، ما دام مبدعا وليس مؤرخا أو عالم
اجتماع، ومن هنا فإنه ليس من حقنا أن نحاسبه تاريخيا أو استشراقيا، إن صح التعبير.
هناك أحداث وتفصيلات كثيرة في سباق
المسافات الطويلة، ولكننا لن نحرص على إيراد كل تلك الأحداث والتفصيلات، بل
نحاول أن نلخصها تلخيصا مركزا غير مخل.
منذ بداية الرواية نقابل
"بيتر" رجل المخابرات العتيد الذي سبق له أن سجن في الحرب الكونية
الثانية في المعتقلات الألمانية، وهو ما أكسبه صلابة وروحا وطنية متفانية في خدمة
الإمبراطورية البريطانية، كما نقابل "راندلي" رئيس "بيتر" في
إحدى شركات النفط، ومرشده في العمل المخابراتي الذي يستهدف الحفاظ على المصالح
البريطانية في الشرق.
ويكلف "بيتر" بالنهوض بمهمة
دقيقة في الشرق (إيران تحديدا، بالرغم من أن اسم إيران لا يذكر في الرواية)،
فيتظاهر بالتذمر والقلق على عائلته (زوجته وابنتيه)، ويتلكأ قليلا، ولكنه ما يلبث
أن يحزم حقائبه ويسافر إلى "بيروت" حيث يتعرف على عملاء إيرانيين
يتعاملون مع المخابرات البريطانية، وهم "ميرزا محمد" و"رضا صفراوي
عباس" و"شيرين عباس"، ويسافرون إلى إيران حيث ينضم إليهم
"أشرف آية الله".
ويجد "بيتر" نفسه أمام وضع
متأزم في الداخل؛ إذ أن الرئيس [ أو العجوز كما يسميه ] أمم صناعة النفط واستغلاله
فمس المصالح الإنجليزية بذلك، وألب عليه بعض القوى السياسية المحلية.
وينتهز الأمريكيون الفرصة فيستطيعون أن
يبسطوا نفوذهم في إيران ويمسكوا بخيوط الصراع الداخلي بأيديهم، ويحاول
"بيتر" أن يوقف عجلة التاريخ ويبحث لبريطانيا عن موطئ قدم فيحاول أن
يؤجج نار الفتن الداخلية عن طريق الاغتيالات السياسية التي تعمق هوة الخلافات بين
الفرقاء، ولكنه لم يستطع أن يجني ثمار جهوده المضنية؛ ذلك أن الأمريكيين بدؤوا
بالوصول إلى المنطقة على نطاق واسع، وأصبحوا يعزفون عن التشاور مع الإنجليز كما
كانوا يفعلون من قبل، وما لبثوا أن فرضوا سيطرتهم على الوضع من خلال منع أية
محاولة لعودة العلاقة بين القوى السياسية الداخلية، وخاصة بين اليساريين ورجال
الدين، واحتواء "العجوز" الذي كان "يضرب ببندقية فارغة" كما
يقول الإنجليز في أمثالهم.
وإضافة إلى هذه الصراعات بين الإنجليز
والأمريكيين فقد كان هناك "السوفييت" –أو "الآخرون" كما يسمون
في الرواية- الذين كانوا يتربصون من بعيد وينتظرون الفرصة المناسبة للتدخل كذلك،
وهو ما كان يقلق الإنجليز والأمريكيين على حد سواء، ويجعلهم يتعاونون أحيانا من
أجل درء ذلك الخطر الذي لم يكن يستهان به، خاصة وأن هناك قوى سياسية داخلية تتعامل
معه، تتمثل في "حزب تودة"، وهو الحزب الذي كان يومأ إليه في الرواية،
ولم يكن يذكر صراحة.
وبعد فوات الأوان، يكتشف
"بيتر" أن العملاء المخبرين من أمثال "أشرف"
و"ميرزا" كانوا يلعبون على الحبال ويتعاملون مع الأمريكيين في الخفاء.
وفي سياق عرض هذه الصراعات السياسية التي
كانت تلقي بغيومها الثقيلة على فصول الرواية، كان عبد الرحمن منيف يحاول أن يخفف
من وطأتها بإقحام بعض المغامرات العاطفية التي كان "بيتر" يحاول أن
يستغلها لتحقيق مآربه، مثل مغامرته مع "ماتيلدا" اليونانية، و"اليانور"
الأمريكية، وأخيرا مغامرته مع "شيرين" التي كان يريد أن يتخذها
"حصان طروادة" في إيران، فيحقق عن طريقها ما لم تحققه السفن البريطانية،
ولكنه يخفق في ذلك إخفاقا ذريعا.
***
ولعله من نافل القول الإشارة إلى أن
مساءلة التاريخ أو مساءلة أدبيات الاستشراق في هذه الرواية لم تكن تستهدف فهم
الماضي بقدر ما كانت تستهدف الإسقاط على الحاضر، أو الواقع الراهن، وتنوير الشعوب
المستعمرة (بفتح الميم)، وفضح أساليب الاستعمار الجديد الذي يلجأ إلى زرع الفتن
والقلاقل في البلاد المستهدفة، تمهيدا لإنهاكها وفرض السيطرة عليها.
وهذا الإسقاط التاريخي يبدو لنا بوضوح من
خلال حرص عبد الرحمن منيف على كشف مخططات "بيتر" التي بدأت بشراء ذمم
الضعفاء وإصدار البيانات المريبة وتأسيس المنظمات الوهمية وانتهت بالاغتيالات
السياسية التي أشعلت النار بين القوى الداخلية المتنافرة.
"اتفقنا على إصدار مجموعة من
البيانات ننسبها إلى منظمات معينة، على أن تكون هذه البيانات مدروسة بعناية من حيث
أفكارها وطريقة صياغتها، وأن نطرح في هذه البيانات أفكارا مثيرة، وقد أصر ميرزا
على تسمية هذه البيانات "الألغام الموقوتة"، لأن كل بيان منها لا بد وأن
يكون لغما ينفجر في مكان ما، في وقت ما، ويؤدي إلى نتيجة، باعتبار أن النظام يستند
إلى مجموعة من القوى غير المتجانسة من حيث الأفكار، فلا بد أن تركز هذه البيانات
على نقاط الخلاف بين هذه القوى. وما دام الدين عنصرا هاما في حياة الشرق فلا بد
وأن تتطرق البيانات وبإلحاح إلى مهاجمة الدين واتهام رجاله، فإذا كانت الصياغة
متقنة، فسوف توحي بأن كاتبها يمثل الفئة المنافسة، وباعتبار أن رجال الدين سريعو
العضب فيمكن إثارتهم بسهولة، فإذا بدأت المعركة بهذا الشيء فلا بد أن تؤدي إلى
نتائج كبيرة وخطيرة.
على هذا النحو كان رجال المخابرات من
الأجانب يحركون خيوط المؤامرات، ثم يوجهون دفة الصراعات حسب مصالحهم، كما يعترف
"بيتر" نفسه، وهو يؤكد لنا نية الإسقاط في هذه الرواية.
***
تلك هي سبل مسائل التاريخ ومسوغاتها، في سباق
المسافات، فماذا عن جماليات المساءلة؟
لقد وظف عبد الرحمن منيف في السباق
أدواته الفنية التي وظفها من قبل في أعماله الروائية الأخرى، من مثل الاسترجاع [
الفلاش باك ] ، وتيار الوعي، والمذكرات، وأحلام اليقظة، وهو ما يسهم دون شك في
تأكيد روائية الرواية أو أدبيتها، ولكن الذي كان له أثر مباشر وفعال في تأكيد هذه
الروائية أو الأدبية هو القدرة على التجريد والإيهام بالواقعية في الوقت ذاته،
وإذا كانت هذه القدرة تتجلى لنا في أعمال روائية سابقة لعبد الرحمن منيف، فإنها
تتجلى لنا في هذه الرواية أكثر من غيرها [باستثناء الأعمال الروائية التي لم
نقرأها حتى الآن، وهي الأعمال التي لا نستطيع أن نحكم عليها بطبيعة الحال]، ولعل
السبب يتصل بطبيعة الموضوع الذي يتناوله منيف في هذه الرواية، وهو موضوع تاريخي
يحتاج إلى جهد كبير من أجل تلافي الوقوع في المباشرة التي تعد ألد أعداء الفن بشكل
عام، ومن أجل بث الحياة في أحداث ووقائع تعد في حكم العناصر الميتة.
1 – التجريد:
وهو الأسلوب الذي لجأ إليه منيف في السباق
بغية تجنب المباشرة. ومن العناصر الروائية التي اتسمت بالتجريد في هذه الرواية
اللغة التي كانت حيادية لا توحي إطلاقا بالإحالة على أي بيئة أو أي قطر من أقطار
المشرق، خاصة وأن الحوار كان يدور بين شخصيات مشرقية وأخرى إنجليزية وأمريكية،
ولذلك كان يحرص على تذكير القارئ في الهامش من حين لآخر بأن الحوار كان يدور
بالإنجليزية ويترجم إلى العربية أو يؤدى بها، كأن يلفت النظر إلى أن الحوار الذي
كان يدور بين "بيتر" و"عباس" و"ميرزا"
و"شيرين" كان يدور بالإنجليزية، وذلك على النحو الآتي:
ـ "أثرت كلمات بيتر بميرزا، وجدها كلمات
كبيرة خارقة، قال: سبحان الله.. سبحان الله".
ـ "رفع رأسه بطريقة مسرحية، وقال:
ـ أفهم ذلك يا سيدتي.. وأنا جئت لكي
نتفق!
ـ لكي نلوي رقبة هذا العجوز، أما ذو
اللسان الطويل فسوف نجعله كبابا..
هكذا قال عباس بصوت بطيء مشحون
بالحقد".
ويذكر منيف في الهامش أن جملة
"سبحان الله" وجملة "نجعله كبابا" وردت في الحوار بالعربية.
ومن العناصر الروائية التي جردت في السباق
كذلك الأحداث التي كان يومأ إليها إيماء دون حرص على التحديد، ولذلك فإن أطراف
الصراع وأسبابه لم تذكر بأسمائها المباشرة؛ فرئيس الوزراء الإيراني :محمد
مصدق" كان يومأ إليه بـ"العجوز"، والسوفييت كان يومأ إليهم
بـ"الآخرين"، والنفط الذي كان سبب النزاع والتدخل الأجنبي لم يذكر صراحة
في الرواية إلا مرة واحدة في سياق الحوار الذي دار بين "بيتر"
و"فوكس" الأمريكي، حيث يؤكد "بيتر" إصرار بريطانيا على البقاء
في إيران "حتى آخر قطرة من النفط!".
ولكن العنصر الذي جرد أكثر من غيره في
هذه الرواية هو عنصر الفضاء أو المكان، وهو ما يبدو لنا من أول صفحة في الرواية،
حيث يورد عبد الرحمن منيف الجملة المبهمة الآتية: "من يملك الشرق يملك
العالم".
إن هذه الجملة التي صدر بها عبد الرحمن
منيف روايته تجرد عنصر الفضاء المادي تجريدا كبيرا يصعب معه تحديده أو تعيينه.
ومن هنا كان الدخول في فضاء إشكالي، من
وجهة جغرافية، ومن وجهة نفسية: ما الشرق؟! ما الحدود التي اقترحتها هذه التسمية
فضاء لهذه الرواية؟ من أين تمتد هذه الفضاءات؟ وأين تنتهي؟ هل الشرق تسمية نسبية
تصح أن تكون مقابل الغرب؟ هل هي تسمية ثابتة دون ارتباطها ببعد خارجها؟ هل الشرق
سمات؟ هل الشرق جغرافيا؟ هل الشرق مجرد مكان؟ هل الشرق فضاء يحتوى؟ أهو محتوى
لتسمية تدل على أن شيئا ما هناك؟! هل هي تسمية لها بعد حضاري، أو ثقافي أوسياسي أو
إنساني؟".
إن هذه الأسئلة التي طرحها الناقد
"عبد الحميد المحادين" تظل أسئلة مشروعة، وهي تؤكد مدى تجريدية الفضاء
في هذه الرواية.
وإذا كان تجريد الفضاء في أعمال عبد
الرحمن منيف ليس جديدا(*)، فإنه في هذه الرواية يتخذ أبعادا مبهمة
وتعوم حدوده بشكل لافت للنظر، ومما أسهم في تجريد فضاء هذه الرواية وتعويمه أن عبد
الرحمن منيف يوظف الرؤية الاستشراقية التي تضفي على الشرق مسحة خيالية سحرية، كما
أشرنا من قبل.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن هذه الرؤية
الاستشراقية التي استقاها عبد الرحمن منيف من أدبيات الاستشراق لم تكن تخلو من بعض
رؤاه الذاتية الخاصة التي تبدو لنا بوضوح في الأشجار واغتيال مرزوق من خلال
المقابلة بين الشرق والغرب، وهي المقابلة التي يجريها "عبد السلام
منصور" بطل الرواية كي يقنع الفتاة المجرية "كاترين" بضرورة
الابتعاد عنه؛ لأنهما من عالمين لا يلتقيان أبدا، وهما عالم الشرق وعالم الغرب".
2 – الإيهام بالواقعية:
ويتراءى في التفاصيل الكثيرة التي تتصل
بالوصف العام للشرق وعلاقاته الاجتماعية ومزاج سكانه وطبائعهم وأخلاقهم وقيمهم
وأسواقهم ومحلاتهم، سواء في المدينة أم في الريف(*)، كما يتراءى في
إبداع الشخصيات الروائية المقنعة (مثل شخصية بيتر المخاتل، وشخصية شيرين اللعوب،
وشخصية عباس الدايوث).
"الناس في القرية متشابهون:
بالوجوه، بالملابس، بطريقة الجلوس في مقاهي الشاطئ البسيطة القدرة، بالأصوات
العالية، حتى الأطفال وأنا أتمعن وأراقبهم وهم يتقافزون مثل العصافير أو القطط ويتدافعون
ليرموا بعضهم أو أنفسهم في الماء، بدوا لي متماثلين إلى درجة لا يمكن أن أميز
واحدا عن آخر. وبدت لي أجسادهم الصغيرة المحروقة ضامرة، بارزة الأضلاع، وأقرب إلى
جذوع الأشجار، بالنتوءات التي تظهر بين الأكتاف، وعند المفاصل. أما عيونهم فإن
حمرتها تختلط مع صفرة، وتؤكد دون أي خطأ، أنهم يشكون من أمراض الكبد والتراخوما في
وقت واحد.
أما حين يأكلون فإنهم أقرب إلى الطيور
نصف الأليفة؛ إذ يأكلون بسرعة ويتخاطفون الخبز، ويبدي الكبار خشونة واضحة لكي
يحصلوا على أكبر كمية من الغذاء!
لم أر على الشاطئ طيلة الفترة التي
قضيتها امرأة واحدة تستحم، عدا مرة، وعن بعد كبير. رأيت ثلاث نساء بملابسهن
الكاملة يخضن الماء كما لو أنهم أفيال البحر، وقبل أن أصل إلى قربهن بمسافة كبيرة
تراكضن بخوف، ووقعت إحداهن، فبدا المنظر طريفا ومحزنا في نفس الوقت، حتى إذا
اقتربت رأيتهن يحتمين بزورق صغير كان على الرمل، وقد أصبحن كتلة واحدة، ولا يمكن
أن تميز بداية الكتلة أو ملامحها من الداخل".
على هذا النحو كان عبد الرحمن منيف ينظر
إلى الشرق من خلال عيني "بيتر" الذي لم يكن مهتما بتحقيق أغراضه
السياسية فحسب، بل كان مهتما كذلك بتسجيل انطباعاته ومشاهداته في الشرق، وكأنه
مستشرق يحرص على تدوين مذكراته وليس رجل مخابرات.
وكما نرى فإن عبد الرحمن منيف كان يمتلك
قدرة كبيرة على إضفاء الحياة على المشاهد التي يصفها، وتسجيل أدق التفاصيل التي
توهم بالواقعية، وهو يقترب في أسلوبه هذا من أساليب الواقعيين الطبيعيين، من أمثال
"زولا"، و"فلوبير"، و"تشيكوف"، و"غي دي
موباسان".
***
وختاما فإن تجربة عبد الرحمن منيف في سباق
المسافات الطويلة تعد تجربة جديدة تضاف إلى تجاربه الروائية السابقة، سواء من
حيث كونها تنطلق من الموضوع وليس من الذات، أم من حيث كونها تسائل مادة عصية على
التشكيل والتخييل، وهي المادة التاريخية وأدبيات الاستشراق، ولكن عبد الرحمن منيف
استطاع أن يطوع هذه المادة وأن يرويها بماء الإبداع الذي خفف من حدة الرؤية
السياسية، وذلك بتوظيف جماليات الرواية الحديثة (أدوات الاستبطان)، وتلافي
الأساليب المباشرة في إنتاج الخطاب الروائي، فضلا عن الحرص على بث الحياة في
المواقف والشخصياتg