ص1    الفهرس   31-40

حقوق الإنسان وحقوق الحيوان

في نصوص تراثية

محمد عابد الجابري

أعلن مؤخرا في المغرب أن الحكومة قررت تدريس، "حقوق الإنسان"  في المدارس. وسواه تعلق الأمر بالمدارس الابتدائية أو بالمدارس الثانوية أو بالمعاهد العليا والجامعات فإن تدريس هذه "المادة" الجديدة سيطرح بدون شك مسائل بيداغوجية تخص كيفية تنهيجها : فـ"حقوق الإنسان" ليست علما كالرياضيات ولا فنا كالأدب فتوزع موادها كما توزع مواد العلوم والفنون. هي فعلا أقرب إلى مادتي "التربية الوطنية" و"التربية الدينية"، ولكن تدريسها على الطريقة التي تدرس بها هاتان المادتان يعني إرهاق التلاميذ والطلاب بحصص دلت التجربة أنها أثقل الحصص عليهم، لكون هاتين المادتين تدرسان كـ"قواعد" و"أوامر" و"نواه" جافة، أشد جفافا وأثقل على النفس من بنود "قوانين السير".

ليس في نيتنا هنا الخوض بعيدا في هذه المسألة التي لا شك أن الذين وكل إليهم أمر الإعداد لتدريس "حقوق الإنسان" يولونها كبير عنايتهم واهتمامهم . كل ما نريد المساهمة به في هذا المجال هو الإلحاح على جوانب ثلاثة : أولها أن تكون، "حقوق الإنسان" حاضرة في أكثر ما يمكن من الدروس، فضلا عن الدرس الخاص بها. فمواد التربية الدينية والتربية الوطنية والتلاوة والنصوص الأدبية والتاريخ والفلسفة الخ، يجب أن تتضمن دروسا أو نصوصا تجعل هذه المواد متفتحة على "حقوق الإنسان" . ثانيها أن تكون مادة "حقوق الإنسان"، التي ستخصص لها حصة مستقلة، مادة متفتحة على هذه المواد نفسها وعلى المواد الاجتماعية عموما. ثالثها تجنب تدريس "حقوق الإنسان"، كقوانين مطلقة لا-زمنية، بل ينبغي تدريسها في تاريخيتها، وبهذا يتم تجاوز مسألة العالمية والخصوصية: فالتاريخية وحدها تجمع بين الجانبين : العام والخاص . وفي هذا المجال نريد أن نلفت النظر إلى أنه سيكون من المفيد توظيف نصوص من تراثنا -إلى جانب نصوص من تراث غيرنا- في تدريس"حقوق الإنسان". إن عالمية حقوق الإنسان في نظرنا، ليست في كونها "عامة" "كونية" تعلو على جميع الثقافات -وإلا فمن أين جاءت إذن ؟– بل في كونها حاضرة في جميع الثقافات وفي جميع العصور. وهي بطبيعة الحال تختلف باختلاف الزمان والمكان والثقافات.

 ولا جدال في أننا سنرتكب خطأ جسيما إذا نحن تعاملنا مع النصوص الإسلامية –أو مع أية نصوص أخرى من تراث الحضارات السابقة على الحضارة الأوربية الحديثة والمعاصرة- بنفس الفهم وبنفس الرؤى التي نتعامل بها في خطابنا المعاصر الذي تحكمه، بهذه الدرجة أو تلك، روح هذه الحضارة الأخيرة وما يسود فيها من مفاهيم ورؤى. إن الدلالات التي نعطيها اليوم لكثير من الكلمات التي تحيل إلى حياة الإنسان، حياته المادية والمعنوية، وبكيفية خاصة جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، هي وليدة تطور هائل تم عبر عصور وأجيال.

 لنأخذ كمثال على ذلك عبارة حقوق الإنسان نفسها. إن أول ما ينبغي ملاحظته في هذا الصدد هو غياب هذه العبارة في النصوص العربية الإسلامية التي ترجع إلى ما قبل منتصف القرن الماضي على أبعد تقدير، (وقد كانت غائبة كذلك في النصوص الأوربية قبل ذلك بنحو قرنين). إن العبارة القريبة منها، التي نصادفها في النصوص الإسلامية والفقهية منها خاصة، هي "حقوق الله وحقوق العباد". ولا جدال في أن الاختلاف بين العبارتين يعكس بصورة جلية الفرق بين المفكر فيه في القرون الوسطى و"المفكر فيه" في العصر الراهن.

 ومع ذلك ، فإن غياب عبارة أو اختلاف نوع العلاقات التي تطرحها، بين عصر وآخر، لا يعني بالضرورة وجود فجوة لا تقبل التجسير، ولا أن ما لم يكن موضوعا للتفكير فعلا كان غير "قابل للتفكير فيه" دوما. إن قضايا الإنسان ، في جوهرها، هي هي في جميع العصور. والاختلاف يكون عادة على مستوى المضمون الاجتماعي وطريقة التعبير عنه. وبعبارة أخرى إن ما يختلف في قضايا الإنسان الجوهرية من عصر لآخر هو درجة الوعي بها وليس جوهرها ذاته . فـ "العدل" مثلا يختلف مضمونه اليوم عن مضمونه أمس، على مستوى الدلالة، ولكن "قضية العدل" ، تبقى هي هي . كان مضمون "العدل" في العصور القديمة والوسطى يتحدد بتلك العبارة الشهيرة : "العدل هو إنزال الناس منازلهم". والاختلاف بين الأمس واليوم هو في مسألة،المنازل ، هل هي مراتب كالسلم يقتضي "العدل" الحفاظ عليها، كما كان الشأن في الفكر القديم، أم أن "العدل" هو في إخضاعها لمبدأ "المساواة" بين الناس ، كما نفكر نحن اليوم؟

 

***

في هذا الإطار نورد النصوص التراثية التالية كنماذج لما يمكن أن يوظف من تراثنا لإغناء تدريس مادة "حقوق الإنسان" في مدارسنا ومعاهدنا.

يميز الفقهاء بين "حقوق الله" و"حقوق العباد" بعبارات مختلفة ولكنها في مضمونها تلقي في "القاعدة" التالية، التي نعتبرها أقرب إلى الفهم المعاصر: قال بعضهم :"المراد بحق الله : ما يتعلق به النفع العام للعباد ولا يختص به أحد، كحرمة الزنا، فإنه يتعلق به عموم النفع من سلامة الأنساب عن الاشتباه وصيانة الأولاد عن الضياع. وإنما نسب إلى الله تعظيما، لأنه يتعالى عن التضرر والانتفاع فلا يكون حق له بهذا الوجه. والمراد بحق العبد ما يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير، ولذا يباح (المال) بإباحة المالك ولا يباح الزنا بإباحة الزوج (… ). أما "الصلاة والصوم والحج الخ  فهي حقوق لله لأنها شرعت لتحصيل الثواب ورفع الكفران، وهذا منفعة عامة لكل من له أهلية التكليف بخلاف حرمة مال الغير"(


[1]). وبعبارة أخرى :"حقوق الله" : تشمل الإيمان والصلاة والصوم وسائر الفرائض والسنن التي لها مظهر تعبدي صرف، أو رافقها معنى المئونة كزكاة الفطر وعقوبات الحدود كحد الزنا وحد السرقة والكفارات . أما "حقوق الناس" فمثل حق أولياء المقتول في القود (أي قتل القاتل، الدية) وحق الجروح في القصاص (اليد باليد والسن بالسن…)، وحق الرجل الذي تعرض لما يمس عرضه كاللعن والشتم ، وحق الزوجة على زوجها، وحق الزوج على زوجته، وحقوق الورثة . فهذه حقوق خاصة بأفراد معينين بينما "حقوق الله" تتميز بكونها "ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم"([2]).

على أن أوسع تحليل عثرنا عليه في هذا المجال ويتناول حقوق الله وحقوق الإنسان، وحقوق الحيوان أيضا، هو هذا النص، وهو للفقيه المقل بـ"سلطان العلماء" : العز بن عبد السلام.

يصنف ابن عبد السلام أعمال الإنسان، من حيث كونها جلبا للمصالح أو درءا للمفاسد إلى أربعة أصناف: صنف يلبى به الإنسان "حقوق الخالق"، وصنف يقيم به حقوق نفسه عليه، وصنف يقيم الناس به حقوق بعضهم على بعض. وصنف يقيم به الإنسان حق الحيوان. 

1- أما حقوق الخالق فهي ثلاثة أصناف : الأول خالص لله كالإيمان بالله وكتبه ورسله الخ. والثاني يتركب من حقوق الله وحقوق العباد كالزكاة والصدقات والكفارات والأموال المندوبات، والضحايا (الأضحيات) والهدايا (الهدي في الحج) والوصايا والأوقاف "فهذه قربة إلى الله من وجه، ونفع لعباده من وجه. والغرض الظاهر منها نفع عباده وإصلاحهم بما وجب من ذلك أو ندب إليه، فإنه قربة لباذليه ورفق لآخذيه". والثالث: ما يتركب من حقوق الله وحقوق رسوله وحقوق العباد، أو يشتمل على الحقوق الثلاثة: كالآذان والصلاة  ففيهما حقوق الله كالتكبيرات، وفيهما حق الرسول بالشهادة له بالرسالة، وفيها حقوق العباد بالإشارة إلى دخول الوقت ودعاء الفاتحة في الصلاة بالهداية الخ (ص 111).

2- وأما حقوق نفس الإنسان عليه فكتقديمه نفسه بالكساء والمساكن والنفقات الخ.

3- وأما حقوق الناس بعضهم بعض: فضابطها جلب كل مصلحة واجبة أو مندوبة، ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة. وهذه الحقوق منقسمة إلى فرض عين وفرض كفاية وسنة عين وسنة كفاية، ومنها ما اختلف في وجوبه وندبه في كونه فرض كفاية أو فرض عين. والشريعة طافحة بذلك، ويدل على ذلك جميعا قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح ، وقوله تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى"، وهذا أمر بالمصالح وأسبابها ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها" (ص 113).

ولحقوق المكلفين بعضهم على بعض أمثلة كثيرة، ويمكن إجمالها في الحق في التعامل بالأخلاق الحسنة، وتدخل كلها في "جلب المصالح ودرء المفاسد"، كما وردت في القرآن والسنة. يذكر ابن عبد السلام منها ما يلي :

منها التسليم عند القدوم، وتشميت العطس، وعيادة المرضى، والإعانة على البر والتقوى وعلى كل مباح. ومنها ما يجب على الإنسان من حقوق المعاملات. ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الأمر بالمعروف سعي في جلب مصالح المأمور به، والنهي عن المنكر سعي في درء مفاسد المنهي عنه.

ومنها أيضا تحمل الشهادة وأداؤها عند الحكام. ومنها حكم الأئمة والحكام والولاة بإنصاف المظلومين من الظالمين، وتوفير الحقوق على المستحقين العاجزين، ومنع صرف الدعاء عن الله بأن ينصف الوالي المظلومين من الظالمين ولا يحوجهم أن يسألوا الله في ذلك، وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين، وكان عمر بن الخطاب قد قال في خطبة له: "أيها الناس إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء" (أي أن أرد إلى  الناس حقوقهم حتى لا يحتاجون إلى الدعاء إلى الله برد تلك الحقوق ) 115-114.

ومن ذلك حفظ أموال الأيتام والمجانين والعاجزين والغائبين، والتقاط الأموال الضائعة والأطفال المهملين. ومنها اصطناع المعروف كله دَقِّه وجليله، وإنظار المعسرين وإبراء المقترين.

ومنها حقوق نكاح النساء على الأولياء (حق المرأة في الزواج فلا يمنعها وليها) وحقوق كل من الزوجين على صاحبه.

ومنها القسْم بين المتنازعين. والرحمة والرأفة إلا في استيفاء العقوبات المشروعات.

ومنها الإحسان إلى الرقيق بأن لا يكلفه ما لا يطيق، وأن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، وأن يكرم من يستحق الإكرام من العبيد والإماء، ولا يفرق بين الوالدة وولدها، ولا بين الأخت وأختها. وعلى الأرقاء القيام بحقوق ساداتهم التي حث الشرع عليها وندب إليها.

ومنها ستر الفضائح والكف عن إظهار القبائح. والكف عن الشتم والظلم. ومنها كسوة العراة وفك العناة (الذين يعانون من الأسر عند العدو)، والقرض والضمان والحجر بالإفلاس على المرضى فيما زاد على الثلث، إعانة القضاة والولاة وأئمة المسلمين على ما تولوه من القيام بتحصيل الرشاد ودفع الفساد وحفظ البلاد وتجنيد الأجناد ومنع المفسدين والمعاندين.

ومنها نصح المستنصحين بل نصح جميع المسلمين، وبر الوالدين وإسعاف القاصدين، و الإنفاق على الأقارب كالآباء والأمهات والبنين والبنات والأجداد والجدات إذا كانوا عاجزين، و حضانة الأطفال وتربيتهم وتأديبهم وتعليمهم حسن الكلام، والصلاة والصيام إذا صلحوا لذلك، والسعي في مصالحهم العاجلة والآجلة، والمبالغة في حفظ أموالهم ودفع الأذى عنهم وجلب الأصلح فالأصلح لهم، ودرء الأفسد فالأفسد عنهم. وإذا وجب هذا في حق الأصاغر والأطفال فما الظن بما يلزم القيام به من مصالح المسلمين.

ومنها حسن الصحبة وكرم العشرة وكف الأذى وبذل الندى وإكرام الضيفان والإحسان على الجيران وصلة الأرحام وإطعام الطعام وإفشاء السلام، والعدل في الأقوال والأفعال، والإحسان والإجمال (فعل الجميل).

ومنها الوفاء بالعقود والعهود وإنجاز الوعود وإكرام الوفود، ومنها الإصلاح بين الناس إذا اقتتلوا واختلفوا وامتنعوا من الحقوق الواجبة، أو بغوا على الأيمة أو اجترموا على الأيمة.

ومنها إرشاد الحيارى وتزويج الأيامى (من لا زوج لها) ورد الأصدقاء وإكرام الأرقاء والبشاشة عند اللقاء.

ومنها أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وبلغ من ذلك أن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه ويحسن إلى من أساء إليه، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن لا يبيع على بيعه، ولا يسوم على سومه، ولا يشتري على شرائه ولا يخطب (للزواج) على خِطبته، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه، ولا يظلمه ولا يشتمه ولا يبرمه ولا يخجله ولا يرحله ولا يجهله ولا يحقره ولا يخفره.

ومنها أن يسامح بحقه وأن يعفو عما يستحقه على الناس من قصاص أو حد أو تعزير، وأن يغض بصره عن العورات ويجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الزلات ويسد الخلال، وأن يتصدق على الناس بماله وجاهه وجميع ما يقدر عليه من المعروف والمبرات.

ومنها ألا يحاسدهم ولا يقاطعهم ولا يدابرهم ولا يتكبر عليهم ولا يسيء إليهم، وأن يترك اغتيابهم وهمزهم ولمزهم والطعن في أعراضهم والقدح في أنسابهم، وأن لا يتلقى الركبان ولا يحتكر احتكارا يزيد في الأثمان، وأن لا ينجش ولا يبخس ولا ينقص (تصرفات غير محمودة في البيع والشراء).

ومن أمثلة حقوق بعض المكلفين على بعض أن يُنظر المعسر (يمهله على دين عليه)، ويتجاوز على الموسر، ويوسع على المقتر، ولا يماطل بالحقوق، وأن يجانب العقوق، ولا يخاتل ولا يماحل ولا يجاحد بالباطل ولا يقطع كلام قائل.

ومنها أن لا يؤخر الزكاة إذا وجبت ولا الديون إذا حلت ولا الأحكام إذا أمكنت ولا الشهادات إذا تعينت ولا الفتيا إذا تبينت، وأن لا يؤخر حقوق الناس إلا بعذر شرعي وطبعي. مثال ذلك أن يؤخر الزكاة لحضور جار أو قريب أو لمن هو أشد ضرورة من الحاضرين… (ص114-116).

كان ذلك عن حقوق الناس بعضهم على بعض، أما "حقوق البهائم على الإنسان، فمنها أن ينفق عليها، نفقة مثلها، ولو زَمِنت (أصابها عجز) أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحمِّلها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين ما يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو جرح، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبح أولادها بمرأى منها وأن يفردها، ويحسن مباركها وأعطانها (إراحتها بعد الشرب حتى تعود وتشرب)، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها (وقت التناسل)، وأن لا يخذف صيدها (يرميه بالمقلاع)، ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه (ص121).

ومن حقوق البهائم "الإحسان الشرعي" إليها : "وذلك بالقيام بعلفها أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها فلا يكلفها من ذلك ما لا تقدر عليه، وبأن لا يحلب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جربها (يطلي بالقطران من أصابه الجرب) ويداوي مرضاها، وإذا ذبحها فليحسن ذبحها بأن يحد شفرته ويسرع جرته مع إضجاعها برفق، وأن لا يتعرض لها بعد ذبحها حتى تبرد. وإن كان بعضها يؤذي بعضا بنطح أو غيره فليفرق بينها وبين ما يؤذيها. فـ"كل كبد رطبة أجر"، و"من يعمل مثقال ذرة خيرا يره" (الزلزلة7). وإن رأى من حمَّل الدابة أكثر مما تطيق فليأمره بالتخفيف عنها وإن أبى فليطرحه بيده، فـ"من رأى منكم منكرا فليغره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وقال (ص) إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة (القحط)  فبادروا بها نِقْيَها" (مخ العظم. المعنى: إذا سافرت في وقت الخصب فلا تسرعوا بها واتركوها تأكل، وإذا سافرتم في القحط فأسرعوا حتى لا تضعف وتهزل). وقد "غفر (الله) بسقي كلب" (البخاري). وهكذا فمباشرة الإحسان إلى الدواب لطف وإحسان وبر وتواضع وتبذل في دق الإحسان وجِله" (ص218-219).  وفي الحديث: "أفضل دينار ينفقه الرجل: دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله" مسلم (ص 241).  وأيضا: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت هزلا". البخاري ومسلم (ص 372). ورأى الرسول حمارا قد وسم في وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه" (مسلم). ونهى (ص) عن صبر البهائم (البخاري:صبر البهائم "هو أن تربط وترمى بالسهام، وهو حرام لما فيه من تعذيبها وإفساد ماليتها" . وفي الحديث: "قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح الله" البخاري (ص 372).

ومن الذين تعرضوا في تراثنا لحقوق البهائم أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الطبيب المشهور([3]) ، وحديثه عنها ليس من منظور فقهي بل من منظور فلسفي خاص كان يتبناه في موضوع "خلاص النفس"، وهو منظور لا تخفى اصوله الأفلاطونية الغنوصية. وقد ورد ذلك في سياق استنكار ما يتلذذ به بعض الكبراء ""من الصيد للحيوان، ويفرط الناس فيه من الكد للبهائم في استعمالها، فوجب أن يكون ذلك كله على قصد وسنن وطريق ومذهب عقلي عدلي لا يتعدى ولا يجار عليه". أما تشغيل البهائم لفائدة الإنسان فيجب أن يكون تشغيلا ملائما "لا عنف فيه إلا في المواضع التي تدعو الضرورة إلى الإعناف ويوجب العقل والعدل ذلك، كحث الفرس عند طلب النجدة من العدو".

أما الحيوانات المفترسة والمؤذية مثل الحيات والحشرات فيجوز إبادتها. ذلك أن هذا النوع من الحيوان إن لم نقتله قتل هو حيوانات كثيرة. وأيضا لأنه "ليس تخلص النفوس من جثة من جثث الحيوانات، إلا من جثة الإنسان فقط"، وذلك بالتعلم ودراسة الفلسفة. "وإذا كان الأمر كذلك كان تخليص هذه النفوس من جثثها شبيها بالتطريق والتسهيل إلى الخلاص. فلما اجتمع للتي لا تعيش إلا باللحم الوجهان معا وجب إبادتها ما أمكن، لأن في ذلك تقليلا من ألم الحيوان ورجاء أن تقع نفوسه في جثث أصلح". (تناسخ الأرواح؟). وأما الحيات والعقارب وما أشبه "فاجتمع لها أنها مؤذية للحيوان ولا تصلح أن يستعملها الإنسان كما يستعمل البهائم المعمولة (…)، فجاز لذلك إهلاكها وإبادتها. وأما الحيوان المعمولة (=التي يستعملها الإنسان) والعائـشة بالعشب فلم يجب إبادتها وإهلاكها، بل الرفق بالمعمولة (…) والاستقلال (=التقليل) من الاغتذاء بها ما أمكن، و(التقليل) من إنسالها لئلا تكثر كثرة تخرج إلى إكثار ذبحها، لكن يكون ذلك بقصد وحسب الحاجة. ولولا أنه لا مطمح في خلاص نفس من غير جثة الإنسان لما أطلق حكم العقل ذبحها البتة". فذبح الحيوان تخليص لنفسه من سجن بدن ذلك الحيوان. وليس هناك من وسيلة أخرى إلا بالنسبة للإنسان الذي يمكنه تخليص نفسه من الانغمار في البدن بالعلم والمعرفة. فبالعلم والمعرفة تستقل نفس الإنسان عن بدنه ويصير هو (نفسه، عقله) المسير للبدن المتحكم فيه وليس العكس.

 تلك نماذج من التفكير في حقوق الإنسان والحيوان كما مارسه مفكرونا في القرون الوسطى. ولا مراء في أن كثيرا من الاعتبارات التي شغلتهم لم تعد اليوم قائمة، وأن  اعتبارات جديدة تشغلنا اليوم لم تكن حاضرة في فكرهم. غير أن تدريس مثل هذه النصوص في مادة "حقوق الإنسان" أو في المواد التي يجب أن تنفتح عليها سيكون –فيما نعتقد- من بين الآليات البيداغوجية التي قد تساعد على إضفاء بعض الحيوية على هذه المادة.

 



[1] - التهانوي. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم.

[2] - تقي الدين بن تيمية. السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. دار الكتاب العربي القاهرة 1969 ص61

[3] - نفس المرجع الفصل 11