دولوز بصدد نيتشه
ترجمة(*): حسن أوزال
احتفاء بالذكرى المئوية
الأولى لوفاة فريديريك نيتشه (25 غشت 1900م) لا يسعني إلا أن أنحني إجلالا لرقة
هذا الرجل العظيم مرددا ما كتبه يوما "أرنست هيمنغواي" في إحدى رسائله
إلى صديق له، قبل أن يضع حدا لحياته، فأقول "لقد عشنا زمنا جميلا رغم كل شيء…".
النــص:
لقد دمج
نتشه، في الفلسفة نمطين تعبيريين جديدين هما: الحكمة والقصيدة. إنهما نمطان،
يبرهنان عن تصور فلسفي جديد، يفسحان عن وجه آخر لكل من المفكر والفكر على حد سواء.
هكذا دأب نتشه إلى الاستعاضة عن كل معرفة مطلقة وعن كل بحث غايته الحقيقة، واضعا
مقابلهما ما يسميه بـ"التفسير" و"التقويم". ومن ثمة، فإذا كان
التفسير هو ما يمنح الظواهر "معنى" جزئيا وفرعيا، فالتقويم هو ما يحدد
القيمة التراتبية للمعاني ويوحد ما بين الأجزاء دونما حجب أو إنكار لتعددها.
وبشكل دقيق، فإذا كانت
الحكمة هي ما يعني في نفس الوقت فن التفسير والشيء المفسر، فالقصيدة هي ما يعني فن
التقويم والشيء المقوم. أما المفسر، فهو الفزيولوجي والطبيب الذي يعتبر الظواهر
أعراضا وينطق بالحكم. في حين، أن المقوم هو الفنان الذي يضع في اعتباره التمثلات،
كما يبدعها وينطق بالقصيدة. لذلك ففيلسوف المستقبل، فنان وطبيب وبكلمة واحدة مشرع.
لعل صورة الفيلسوف هاته، هي الصورة الأكثر شيخوخة والأكثر توغلا في التاريخ. إنها
تخص، ذلك المفكر الما قبل السقراطي، أعني "الفزيولوجي" والفنان المفسر والمقوم
للعالم. كيف يمكننا إذن أن نفهم مثل هذه المودة والصداقة القائمة ما بين المستقبلي
والبدئي؟ إن فيلسوف المستقبل، هو في نفس الوقت من يستثمر كل العوالم القديمة،
بأمجادها ونكساتها فلا يبدع إلا بقوة تذكره لشيء ما طواه النسيان. ما كان هذا
الشيء، حسب نتشه، سوى ما يوحد ما بين الفكر والحياة. إنها وحدة جد معقدة: بحيث أن
كل خطوة في الحياة تقتضي خطوة في الفكر، وعلى هذا المنوال، تخلق لنا أنماط الحياة
طرقا للتفكير في نفس الوقت الذي تخلق لنا فيه طرق التفكير أنماطا للحياة. ومن ثمة،
فإذا كانت الحياة هي ما ينشط الفكر، فلا شك أن الفكر بدوره هو ما يثبت ويؤكد
الحياة.
لقد افتقدنا صراحة،
أدنى فكرة بخصوص هذه الوحدة الماقبل السقراطية، وما عدنا نملك سوى نماذج حيث الفكر
يلجم ويبتر الحياة كما يشلها وأمثلة حيث الحياة لا تني تأخذ بثأرها، فترعب الفكر
وتضيع معه. ما عاد لنا الحق في الاختيار، إلا بين أنماط حياتية زهيدة ومفكرين
مجنونين. حياة أكثر تعقلا لكل كائن مفكر وأفكار أكثر جنونا لكل كائن يحيى: كانط
وهولدرين. لذلك، فالوحدة المثلى هي تلك التي لازالت تحتفظ بأحقية البحث عنها، إنها
مثل الجنون الذي ليس أحادي المعنى –وحدة لا تنفك تصنع من حكاية الحياة فكرا حكيما
ومن تقويم الفكر تصورا جديدا للحياة.
لا مراء، أن هذا السر،
المرتبط بالماقبل السقراطيين، هو الذي افتقد، بطريقة ما، منذ البداية. لهذا، وجب
علينا التفكير في الفلسفة، كما لو كانت قوة. والحالة هاته، فقانون القوى يفترض عدم
إمكانية ظهورها دون التحجب وراء قناع قوى أخرى، كانت قد وجدت سلفا. لذلك كان على
الحياة أولا أن تقلد المادة. مثلما كان على القوة الفلسفية إبان ميلادها في
اليونان، أن تتنكر لكي تعيش؛ كان من المفروض على الفيلسوف، أن يقتفي حينئذ آثار
القوى السابقة، كما كان عليه أيضا أن يرتدي قناع الكاهن. فالفيلسوف اليوناني الشاب
كان يشبه إلى حد ما، ذلك الكاهن الشرقي المسن، وإلى يومنا هذا، ونحن ننخدع بمثل
هذا الخلط اللامحدود ما بين: زرادوشت وهيراقليطس؛ الهنود والإيليين؛ المصريين
وأمبدوكل؛ فيتاغور والصينيين.
كثيرا ما نتكلم عن
فضيلة الفيلسوف المثالي، عن زهده كما عن حبه للحكمة، لكننا لا نملك أي فكرة بخصوص
عزلته وشبقيته؛ كما نجهل أيضا كل الأشياء الرقيقة والقوية، الأقل حكمة والكامنة
خلف هذا القناع. إن السر الفلسفي هو ما يستدعي الكشف عنه مستقبلا، ما دام مفقودا
منذ البداية.
كان من الطبيعي إذن، أن
لا تعرف الفلسفة أي تطور تاريخي، إلا عبر انحطاطها وتكومها على ذاتها وخضوعها
لقناعها. وعوض الإعلان عن الوحدة ما بين حياة نشيطة وفكر إثباتي، نرى الفكر يأخذ
على عاتقه مهمة مقاضاة الحياة، فيواجهها باسم قيم فوقانية مزعومة ويخضعها لمعيار
القيم، محاولا بذلك النيل منها واعتقالها. ومن ثمة، وفي نفس الوقت الذي يصبح فيه
الفكر سلبيا نلاحظ ازدراء الحياة وانحطاطها حتى الشلل التام؛ فلا تني تختزل على
إثر ذلك، في صيغها الأكثر فتورا ومرضية، والمطابقة أساسا لما يدعى بالقيم العليا.
إنه انتصار للارتكاسية على كل حياة نشيطة، وتفوق للنفي على حساب الفكر الإثباتي.
هكذا، كانت العواقب
وخيمة بالنسبة للفلسفة. إذ أن مهمتي الفيلسوف المشرع، كانتا لا تكمنان في نقده لكل
القيم السائدة، أي للقيم المتعالية عن الحياة، وللمبدأ الذي ما فتئت تقوم عليه
هاته القيم فحسب، بل أيضا في إبداعه لقيم جديدة بما هي قيم حياتية تعلن عن مبدأ
مغاير. ويعبر عنهما بـ"المطرقة" Marteau و"التحول" Transmutation.
لكن، ما أن تدهورت
الفلسفة حتى انسحب الفيلسوف المشرع، تاركا مكانه للفيلسوف الخاضع؛ وعوض منتقد
القيم السائدة، وبدلا من مبدع قيم وتقديرات جديدة، ينبجس المحافظ عن كل القيم
المقبولة. هكذا يكف الفيلسوف، عن استحالته فزيولوجيا أو طبيبا، ليصبح ميتافيزيقيا؛
كما يكف عن استحالته شاعرا، ليصبح "أستاذا عموميا"؛ ورغم ادعائه أنه ما
خضع سوى لمقتضيات الحق والمنطق، فإننا غالبا ما نكتشف خلف مقتضيات المنطق هاته،
قوى متسترة، لا تمت صلة بالمنطق، إطلاقا. إنها قوى من قبيل: الدولة والدين وباقي
القيم المتداولة.
وإذا ما كان الفيلسوف
يتضرع بحبه للحقيقة، فمثل هاته الحقيقة لا تؤذي أحدا ("إنها تتجلى كمخلوقة
ساذجة، محبة لراحتها، تعاهد دوما كل القوى السائدة، بألا تكون قط مصدر إزعاجها،
لأنها ليست في نهاية المطاف سوى "العلم الخالص").
إن الفيلسوف هو من يقوم
الحياة من خلال قدرته على تحمل الأعباء والأثقال. وما هذه الأعباء والأثقال إلا
القيم العليا بالضبط؛ تلكم هي "بلادة الذهن" التي تجمع في صحراء واحدة،
ما بين الحامل والمحمول، ما بين حياة الارتكاس المذلولة والفكر السلبي الحقود.
عندئذ، ما بقي لنا بعد، سوى شلة من أوهام النقد وشبح من الإبداع؛ فما عاد نظيرا
للمبدع غير الحامل؛ مع أن الإبداع هو ما يعني التخفيف والإنقاص من حمولة الحياة،
وابتكار إمكانات جديدة لها. فما المبدع إلا المشرع-الراقص.
لقد بدا انحطاط الفلسفة
واضحا مع سقراط. وإذا ما حددنا الميتافيزيقا، على أنها ما يقيم المفاضلة ما بين
عالمين، بحيث تقابل ما بين الظاهر والجوهر؛ الخطأ والصواب؛ العقلي والحسي؛ وجب
القول بأن سقراط هو من يبتكر الميتافيزيقا: إذ ينظر إلى الحياة كشيء تجب مقاضاته؛
قياسه والحد منه، وإلى الفكر كمعيار محدد للحياة باسم القيم العليا –من قبيل:
الإلهي، الحق، الجمال والخير…
مع سقراط، ظهر نموذج
الفيلسوف الخاضع بشكل دقيق وإرادي. لكن لنستمر هكذا قافزين عبر العصور؛ فمن يستطيع
إذن أن يصدق بأن "كانط" هو من جدد النقد واستعاد فكرة الفيلسوف المشرع؟
لعل "كانط"، لا يني ينسب كل الادعاءات الخاطئة للمعرفة، لكنه لا يطرح
المعرفة المثلى للنقاش؛ يندد بالأخلاق السيئة، لكنه لا يطرح الادعاءات الأخلاقية
ولا حتى طبيعة وأصل هاته القيم ذاتها للنقاش. إنه يتهمنا، ويزعم أننا مزجنا ما بين
سائر الموضوعات، كما خلطنا ما بين كل الفوائد، رغم أن الموضوعات بقيت سليمة وفوائد
العقل ما تزال مقدسة (المعرفة الحقيقية، الأخلاق الحقيقية والدين الحقيقي).
ليست الجدلية بدورها،
إلا امتدادا لنفس لعبة الشعوذة والخداع. إنها الفن ذاته الذي لا يلبث يدعونا إلى
الاتصاف بخصال المعتوهين؛ إذ أن الكل يستند إلى العقل كمحرك وكنتاج للجدلية؛ كما
يستند أيضا إلى الوعي الذاتي وإلى الإنسان بما هو كائن جنسي. لكن فيما ستفيدنا
استعادة مثل هذه الخصال؟ وفيما سيفيدنا، أن نصبح موضوعها الحقيقي، ما دامت هي من
يعبر عن حياة رديئة وعن فكر مشوه.
هل ألغينا الدين عندما
عملنا على استبطان تعاليم الكاهن، وعندما صدقناه على منوال الإصلاح؟ هل قتلنا
الإله لما وضعنا الإنسان موضعه؟ وهل احتفظنا على ما هو أهم من ذلك كله، ألا وهو
الموضع ذاته؟ لعل التحول الوحيد الذي طرأ خلال هذا المسار كله يكمن في: كون
الإنسان، بدلا من أن يشحن من الخارج، بادر هو نفسه إلى حمل الأثقال فوضعها على
ظهره. لهذا السبب، ففيلسوف المستقبل، أعني الفيلسوف الطبيب، هو من سيشخص المرض ومن
سيكشف النقاب عن استمرارية نفس المرض، لكن على شكل أعراض مختلفة: فقد تتبدل القيم،
ليشغل الإنسان مكان الإله، كما قد يعوض النمو والسعادة والنفع كلا من الحق والخير
أو حتى الرباني –إلا أن الأهم من ذلك لا يتغير، أعني التصورات أو التقديرات التي
تتحدد وفقها سائر القيم، قديمة كانت أم جديدة.
إننا مدعوون، دوما
للإذعان ولحمل الأثقال حتى لا نعرف من الحياة إلا أشكالها الارتكاسية ومن الفكر
إلا نماذجه الاتهامية. لكن ما أن أبينا، وصرنا لا نطيق أن نشحن بالقيم العليا، حتى
دعوننا مرة أخرى إلى الاضطلاع بـ"الحقيقي كما هو"- إلا أن هذا الحقيقي
بما هو كذلك، ليس بالضبط إلا ما صنعته وحولته القيم العليا من واقع! (لقد احتفظت
الوجودية حتى أيامنا هذه بنوع من الذوق المرعب، يقتضي حمل الأعباء والتقلد بها؛
إنه ذوق جدلي خالص، جعل الوجودية تأخذ منحى مغايرا لمنظور نتشه).
يعتبر نتشه، إذن، أول
من علمنا أنه لا يكفي قتل الإله لإجراء عملية قلب القيم. هكذا، فكتاباته حافلة
بحكايات تروي موت الإله، يزيد عددها عن خمسة عشر حكاية كلها من الروعة بمكان.
إلا أن أجمل هذه
الحكايات بالضبط، هي تلك التي يصرح فيها أن قاتل الإله هو "أسوأ الناس".
لا شك أن نتشه يريد أن يقول هنا، أن الإنسان صار أكثر فظاعة بقتله للإله، ولما لم
يعد في حاجة إلى سلطة خارجية، سارع يمنع عن نفسه كل ما كان ممنوعا عليه، فتعهد
بذلك عفويا، بلعب دور الدركي وبحمل أعباء لم يعد يرى فيها أية غرابة.
من ثمة، فتاريخ
الفلسفة، منذ سقراط حتى هيجل، تاريخ يروي عن إكراهات الإنسان الطويلة والأعذار
التي يقيمها قصد تبرير إكراهاته تلك. لكن حركة الانحطاط هاته، لا تخص الفلسفة فقط،
بل تعبر أيضا عن الصيرورة العامة وعن صنف تاريخي أساسي؛ إنها ليست حدثا تاريخيا
بقدر ما هي المبدأ ذاته الذي تجري وفقه أغلب الأحداث. وما هذه الأحداث التي تحدد
تفكيرنا وحياتنا إلا علامات الفساد والتعفن. إن الفلسفة الحقيقية، بما هي فلسفة
المستقبل، ليست تاريخية في شيء، ما لم تكن أبدية: ينبغي عليها أن تصير لا وقتية،
ودوما لا وقتية.
***
لا يفتأ كل تفسير أن
يكون تحديدا لمعنى ظاهرة معينة؛ هذا المعنى الذي يكمن أساسا في علاقة القوى، التي
من خلالها يعمل بعضها ويؤثر في حين تكتفي أخرى برد الفعل في إطار معقد ومتسلسل.
ومهما بلغت الظاهرة من
تعقيد، فإننا نميز جيدا بين قوى للغزو والقهر، فاعلة ورئيسية وأخرى للتكيف
والتنظيم، ارتكاسية وثانوية. إلا أن هذا التمييز ليس كميا فحسب، بل أيضا كيفي وتصنيفي.
ذلك لأن جوهر كل قوة يتحدد من خلال علاقتها كقوة بقوى أخرى؛ سيما وأنها في إطار
تلك العلاقة تحصل على جوهرها وامتيازها.
تسمى العلاقة ما بين
قوة وأخرى بـ"الإرادة". لهذا، يجب، قبل كل شيء، تفادي كل التفسيرات
المعكوسة التي تطال مبدأ "إرادة القوة" Volonté de puissance
النتشاوي. إن هذا المبدأ لا يعني (وعلى أي حال لا يعني أولا) أن الإرادة تنزع نحو
السلطة وترغب في الهيمنة. وكلما فسرنا إرادة القوة بمعنى: "الرغبة في
الهيمنة" كلما صارت رهينة القيم السائدة، تلك التي وحدها قادرة على تحديد من
الأقوى في حال من الأحوال وأثناء صراع من الصراعات. من ثمة، إذن، جهلنا لطبيعة
"إرادة القوة" كمبدأ تشكيلي لكل تقديراتنا وكافتراض خفي قادر على ابتكار
قيم جديدة، غير معروفة. إن "إرادة القوة" كما يقول نتشه، لا تقتضي
التمني ولا حتى الأخذ، إنما الإبداع والعطاء. ليست الإرادة إذن،
بما هي "إرادة القوة"، ما تريده الإرادة بل ما يريده داخل الإرادة،
دينزوس شخصيا. إنها عنصر المفاضلة الذي منه تنشأ كل القوى المتواجهة وميزتها
الخاصة، في إطار معقد. أما تزال [ إرادة القوة] أيضا ماثلة كعنصر متحرك، أثيري
ومتعدد!. فبواسطتها فقط، يمكن لقوة أن تسود، كما أنه بواسطتها أيضا يمكن لذات
القوة أن تخضع. يقابل إذن، هذان الصنفان أو النوعان من القوى، صنفان أو نوعان
آخران من "إرادة القوة"، ذات السمات الفريدة والسائلة والأكثر عمقا من
سمات القوى التي تنشأ منها. هكذا لا تفتأ "إرادة القوة" أن تجعل القوى
الفاعلة، قوى تؤكد وتثبت اختلافها الخاص: فالإثبات بالنسبة لها، أولي في حين أن
النفي ليس إلا نتيجة، كفائض في المتعة. لكن وبعكس ذلك، فما يميز قوى الارتكاس،
إنما هو معارضتها أولا لكل ما يخالفها، محاولة الحد منه؛ وبالنسبة لها، يبقى النفي
رئيسيا، حيث بواسطته فقط تحقق إثباتا مزيفا.
وإذا ما كان الإثبات
والنفي خاصيتين وصفتين لـ"إرادة القوة"، فالفاعلية والارتكاسية خاصيتين
وصفتين لـ"القوى". ومثلما يعثر التفسير على أسس المعنى داخل مجال القوى،
يعثر التقويم على أسس القيم داخل "إرادة القوة".
ـ سنتفادى أخيرا، وبحسب
الاعتبارات الاصطلاحية السابقة، كل محاولة اختزال لفكر نتشه في ثنائية بسيطة. إذ
يحدث أحيانا، كما سنرى، للإثبات أن يكون ذاته متعددا ومضاعفا، في حين يبقى النفي
أحاديا وواحديا Moniste.
والحالة هذه، فغالبا ما
يجعلنا التاريخ ماثلين أمام أغرب الظواهر: حيث تنتصر قوى الارتكاس، وتعود بذلك
الغلبة للنفي داخل "إرادة القوة". إن الأمر لا يتعلق هنا، بتاريخ
الإنسان فحسب، بل بتاريخ الحياة وكوكب الأرض أيضا، خاصة منه ذلك الوجه الذي يقيم
عليه الإنسان. على هذا النحو، وفي كل مكان، نسجل انتصارا كاسحا للنفي على حساب
الإثبات؛ ولرد الفعل على حساب الفعل. مما يفضي بالحياة إلى الميل نحو أساليب
التكيف والتنظيم، لتختزل بذلك في صيغتها الثانوية: إلى درجة لم نعد ندري فيها، ما
تعنيه كلمة "فعل" فوق هذه السحنة المقفرة. يسمي نتشه هذا الانتصار
المشترك لكل من قوى الارتكاس وإرادة النفي بـ"العدمية" أو بالحري:
"انتصار العبيد". ومن ثمة فموضوع البسيكولوجيا، حسب نتشه، هو
"تحليل العدمية"، حالما استوعبنا أن هذه البسيكولوجيا ليست شيئا آخر غير
بسيكولوجيا "الكون" "Cosmos".
إنه لمن الصعب، على كل
فلسفة للقوى أو للإرادة، أن تشرح كيف ينتصر كل من: "العبيد"
و"الضعفاء" و"قوى الارتكاس". وبما أن الضعفاء يكونون قوة
عظمى، تفوق قوى الأقوياء، يستحيل علينا من ثمة، أن نضبط كل ما يطرأ من تغيرات، كما
لا نستطيع فهم كل ما تقوم عليه التقديرات الكيفية من أسس. إذ أن هؤلاء الضعفاء
والعبيد، لا يتفوقون حقيقة بتجميعهم لقواهم، إنما بعملهم على التنقيص ما أمكن من
قوة الأقوياء: فهم بذلك يفصلون القوي عما يستطيعه. إنهم لا ينتصرون بتأليفهم لقوة
أرقى، بل بفضل قدرتهم على نقل العدوى. وبذلك فهم السبب في كل
"صيرورة-ارتكاسية" لسائر القوى، وبالتالي سبب "الانهيار"
عينه. لقد سبق لنتشه أن وضح أن معايير الصراع من أجل البقاء والانتخاب الطبيعي، لا
تني ترجح، أساسا، كفة الضعفاء والمرضى، بقدر ما هم "ثانويين" (نسمي
المرض كل حياة يمكن اختزالها في صيرورة-ارتكاسية).
ففي حالة الإنسان،
غالبا ما تؤيد معايير التاريخ وترجح، لأسباب عديدة، كفة العبيد بما هم كذلك، ومن
ثمة الصيرورة-المرضية لكل الحياة، و"الصيرورة- عبد" لكل الناس الذين
ساهموا في انتصار العدمية. لكن هل سنتفادى، مرة أخرى، كل التفسيرات المعكوسة التي
تخص الكلمات النتشاوية من قبيل: "قوي" و"ضعيف"،
"سيد" و"عبد" ما دام العبد، وإن امتلك السلطة، لا يكف أن يصير
عبدا، شأنه في ذلك شأن الضعيف. كما أن "قوى الارتكاس" لا تكف، رغم
انتصارها، أن تصير ارتكاسية؛ بحيث أن الأمر هنا، فيما يخص كل الأشياء وحسب نتشه،
لا يتعلق إلا بتصنيف كيفي أي بالدناءة والنبالة. ذلك أن أسيادنا ليسوا إلا عبارة
عن عبيد، لا ينفكون يحققون انتصارهم في إطار "صيرورة-عبد" كونية: تشمل
الإنسان الأوروبي والإنسان المدجن والمهرج… يصف نتشه، الدول الحديثة كمنملة(*)، حيث لا
ينتصر الرؤساء والأقوياء سوى بفضل ما يميزهم من دناءة وما يسري في دمائهم من داء
هاته الدناءة وهذا الهزل. ومهما كان المنظور النشاوي معقدا، فبوسع القارئ أن يعرف
بسهولة في أي صنف (أو خانة) يمكن لنتشه أن يخندق ما يسمى بعرق "الأسياد"
الذي طالما اعتقد به النازيون.
هكذا، فعندما تنتصر
العدمية، حينئذ فقط تكف إرادة القوة عن دلالتها الأولى، فلا تفيد بتاتا معنى
"الخلق" إنما تعني: إرادة السلطة والرغبة في الهيمنة (فتنسب وتعزو
لنفسها سائر القيم السائدة من مال وسعادة وسلطة…). والحالة هذه، فإرادة القوة هاته
لا تخص غير العبد بالضبط، بحيث أنها لا تنفك أن تكون بمثابة الطريقة التي يستوعب
بها كل من العبد والعاجز مفهوم السلطة؛ كما ليست شيئا آخر غير ما يحمله من تصورات
حول هذه السلطة بالذات، والتي سرعان ما ينفذها حالما انتصر.
قد يحدث، أحيانا، أن
ينطق أحد المرضى قائلا: "آه! لو كنت في صحة جيدة، لأقدمت على عملي هذا بلا
تردد!" –لكن هل سيقدم فعلا على عمله ذاك؟- لعل هذه المشاريع والتصورات، إن
كانت تدل على شيء فإنما تدل على مشاريع وتصورات إنسان مريض لا غير. قس على ذلك
سائر أحوال العبد وتصوراته للسلطة أو الحكم؛ كما يسري هذا أيضا على الإنسان
الارتكاسي وتصوره للفعل. من ثمة، ففي كل مكان نجد قلبا للقيم وللتقديرات؛ والأشياء
لا ينظر إليها من زاوية ضيقة، بحيث أنه غالبا ما تكون الصور مقلوبة كما يحدث عادة
داخل عين الثور.
تبقى المقولة النتشاوية
التالية: "علينا دائما أن ندافع عن الأقوياء ضد الضعفاء" من بين أعظم
المقولات عند نتشه. وسعيا وراء فهم الخطاب النتشاوي، يلزمنا الضبط الجيد، لكل
مراحل انتصار العدمية، خاصة وأن الأمر هنا يتعلق بالإنسان، كما أن هذه المراحل
ذاتها هي ما يشكل أساس الاكتشافات العظمى التي توصل إليها علم النفس النتشاوي.
إنها أصناف "النموذجية"(*) الضاربة في الأعماق:
1 – الذحل: إنه خطؤك،
إنه خطؤك...
لا شيء غير الاتهام
والمؤاخذة الإسقاطيين؛ إنك السبب في شقائي وضعفي!؛ لا مراء أن الحياة الارتكاسية،
هاهنا، تكاد تتعرى في وجه قوى "الفعل"، كما يكف "رد الفعل"
بدوره عن أن يكون "مفعولا به"؛ بحيث يصير شيئا محسوسا فلا يعني غير
"الحقد" الذي يواجه كل ما ينزع نحو "الفعل". لقد أصبح
"الفعل" خزيا: الحياة نفسها متهمة ومحرومة من قوتها كما من إمكاناتها
ومن كل ما تستطيعه. يقول "الحمل" Agneau: "بوسعي أن أفعل كل
ما يفعله "النسر"، إلا أنه كان لي الفضل في الامتناع عن ذلك، حتى لا
يقلدني ويفعل مثلي…"
2 – الوعي الشقي: إنه
خطئي..
إنها لحظة
"الاندماجية"(*) Introjection. لما خدعت الحياة
وأوقعتها في الفخ، تمكنت قوى الارتكاس من الارتداد إلى ذاتها؛ فاستبطنت الخطأ،
وأقرت بذنبها ثم تكومت بعدئذ على نفسها. إلا أنها، ما انفكت تضرب لنا المثل وتدعو
الحياة كلها للقدوم قصد اللحاق بها، وبذلك تحصل على ذروة قوتها المعدية –فتنشئ
حينئذ، جماعات ارتكاسية-.
3 – المثل الأعلى
الزهدي: لحظة الإعلاء La sublimation
لعل تعديم الحياة، هو
ما ترغب فيه أخيرا، كل حياة ارتكاسية ومريضة. ومن ثمة فرغبتها في السلطة، لا تعدو
أن تكون إلا رغبة في العدم، كشرط ضروري لانتصارها. وبشكل معكوس لا تحتمل إرادة
العدم، ولا تحب سوى أنماط الحياة المريضة، المبتورة والارتكاسية: إنها لا تريد غير
حالات محادية للصفر. فلا ينفك عندئذ، أن ينعقد وأن ينشأ تحالف مقلق، على إثره سوف
تحاكم الحياة، من طرف قيم اعتبرت ذات شأن أرفع من الحياة ذاتها: فهذه القيم الورعة،
هي نفسها التي تقف حاجزا أمام الحياة، فتدينها وتقودها نحو العدم. إنها قيم، لا
تعد بالخلاص سوى تلك الأنماط من الحياة الأكثر ضعفا وارتكاسا وسقما. تلكم إذن، هي
طبيعة التحالف القائم ما بين الإله –العدمي والإنسان-الارتكاسي. هكذا صار الكل
معكوسا ومقلوبا: إذ سمي العبيد أسيادا، والضعفاء أقوياء؛ كما صارت كل دناءة تنعت
بالنبالة. فإن أصبح يقال أن فلانا قوي ونبيل، فلا لشيء إلا لأنه يحمل: يحمل أعباء
القيم العليا، كما يشعر بكامل المسؤولية تجاهها. لكنه لا يلبث في نفس الوقت، أن
ينظر إلى الحياة باشمئزاز كبير، فلا يطيقها سيما وأنها غدت تتجلى له صعبة المنال.
ولفرط ما كانت تقديراتنا، مشوهة، عدنا لا ندرك قط أن الحمال عبد وأن ما يحمله
"عبودية" Esclavagisme وأن العتال إنما هو عتال ضعيف –إنه مناقض تماما للمبدع الراقص.
فنحن حقيقة، لا نحمل سوى من فرط العجز كما لا نتعود الحمل إلا رغبة في العدم (انظر
مهرج زرادوشت، عيد حمار).
تقابل مراحل العدمية
السالفة الذكر، عند نتشه، كلا من الدين اليهودي والمسيحي. إلا أن هذه الأديان ما
كان لها أن تكون، لولا ما أسدته لها الفلسفة اليونانية من خدمة، إثر ما لحقها من
انحطاط وتدهور. وبشكل عام، فإن نتشه، يوضح جليا هنا كيف كانت مراحل العدمية تلك،
أساس ومصدر تكوين وبزوغ أنواع كثيرة من الأفكار الكبرى من قبيل:
"الأنا"، "العالم"، "الله"، "السببية"،
"الغائية"... الخ – مع ذلك، فالنزعة العدمية لا تقف عند هذا الحد، بل
تواكب طريقها لتشمل تاريخنا كله.
4 – موت الإله: لحظة
الاسترجاع La Récupération
منذ أمد بعيد، ونحن
نعتبر موت الإله، كحدث درامي ضمديني، وكقضية نشبت ما بين الإله اليهودي
والإله المسيحي؛ إلى حد لم نعد نعرف فيه قط ما إذا كان الابن هو الذي مات من جراء
حقد الأب أو أن الأب هو ذاته من أقدم على الموت حتى يتمتع ابنه بكامل حريته (فيصير
بذلك "عالميا"). إلا أن "القديس بول" Saint Paul،
قد شيد سلفا المسيحية على أساس فكرة مفادها، أن المسيح مات تكفيرا عن ذنوبنا Nos Pèchés.
ومع الإصلاح، أصبح موت الإله، شيئا فشيئا، مسألة تخص الله والإنسان، إلى اليوم
الذي كشف فيه الإنسان عن باطنه، فعرف أنه قاتل الإله؛ حينئذ أراد أن يرتضي بحاله
هذا، فسارع يحمل هذا الثقل الجديد. لقد رغب في النتيجة المنطقية لهذا الموت: أن
يصبح هو ذاته إلها، أن يعوض الله.
تكمن فكرة نتشه، في
اعتباره لموت الإله حدثا لجبا عظيما، لكنه غير كاف، ما دامت النزعة العدمية مستمرة
وتكاد لا تتغير إلا من حيث الشكل. وإذا كانت العدمية منذ قليل تعني إنقاصا ونفيا
للحياة، باسم القيم العليا، فهي الآن تعني نفي هاته القيم العليا ذاتها وتعويضها
بقيم إنسانية (ومن ثمة يستعاض عن الدين بالأخلاق كما يستعاض عن القيم الإلهية
بمفاهيم من قبيل: التقدم، التاريخ والنفع). لا شيء تغير إذن، ما دامت نفس الحياة
الارتكاسية وما دامت نفس العبودية، والتي كانت تسود في ظل القيم الإلهية، هي التي
تسود الآن، في ظل ما يدعى بالقيم الإنسانية. إنه نفس الحمال، نفس الحمار، الذي كان
مثقلا بعبء رفات القديسين، خدمة للإله؛ والذي لا يني يتعهد الآن، من تلقاء ذاته،
متحملا كامل مسؤوليته الشخصية. إن أقدامنا لا زالت لم تطأ بعد صحراء العدمية: قد
نزعم أننا على إلمام بكل الحقيقة، رغم أننا لسنا على علم سوى بما أبقته منها القيم
العليا من حثالة تتجلى في قوى الارتكاس وإرادة العدم. لهذا السبب بالضبط، سعى نتشه
في الجزء الرابع من كتابه هكذا تكلم زرادوشت إلى تبيان الأزمة الخانقة التي
ما انفكت تلحق بمن يسميهم بـ"الناس الراقية" Les Hommes Supérieurs. فحينما أرادت هاته الأخيرة أن تعوض الإله، سعت إلى الاضطلاع
بالقيم الإنسانية معتقدة أنها بذلك فقط تكون قد اكتشفت الحقيقة واستعادت معنى
الإثبات. إلا أن الإثبات الوحيد الذي تستطيع "الناس الراقية" الإقدام
عليه، ليس إلا إثبات الحمار(*) (I-A)، هاته القوى الارتكاسية
التي تعتني بدورها، بمنتجات العدمية، وتظن أنها ترد بالإيجاب كلما أقدمت على
الرفض. (هناك مؤلفان حديثا العهد، يتضمنان تأملات بخصوص الإثبات والنفي وما يتعلق
بهما من آليات الصدق والخداع: نتشه وجويس).
5 – الإنسان الأخير
والإنسان الذي يريد الهلاك: لحظة النهاية.
يعد موت الإله إذن،
حدثا بارزا، إلا أنه لا زال لم يحظ بعد بما هو جدير به من معنى وقيمة؛ وطالما لم
نغير معايير التقويم، واكتفينا بالاستعاضة عن القيم القديمة بقيم جديدة، مبرزين
فقط ما ينشأ من روابط جديدة، ما بين قوى الارتكاس وإرادة العدم، فلا شيء تغير، بل
ما نزال دائما تحت رعاية القيم السائدة. أكيد أننا نعرف جيدا، أن هناك من القيم من
تولد شائخة؛ والتي منذ ولادتها لا تنفك تؤكد مطابقتها وامتثاليتها، كما تدل على
عجزها عن خلخلة أي نظام قائم. لكن العدمية رغم ذلك، تتقدم في كل خطوة زيادة، كما
ينكشف فراغ أكبر؛ بحيث أن ما يبدو جليا أثناء موت الإله، إنما هو كون التحالف
الحاصل ما بين قوى الارتكاس وإرادة العدم، وما بين الإنسان الارتكاسي والإله
العدمي، بدأ يدخل في طور الانفصال: فزعم الإنسان على إثر ذلك، أنه استغنى عن الإله
ويحق له أن يقوم مقامه. إذا كانت المفاهيم النتشاوية مفاهيم ذات طابع لا شعوري،
فالأهم من ذلك كله، إنما هو الطريقة التي يتلاحق بها الحدث داخل هذا الشعور. ذلك
أن قوى الارتكاس، ما أن زعمت أنها في غنى عن كل "إرادة" حتى بدأت عندئذ
تتدحرج شيئا فشيئا، بعيدا، داخل سديم العدم، لتلج عالما خال من القيم الإلهية وكذلك
الإنسانية. وعلى صرح الناس الراقية، نشأ الإنسان الأخير، هذا الذي يقول: الكل عبث
وبدون جدوى، الموت السلبي أفضل! انعدام الإرادة، أفضل من إرادة العدم! لكن إرادة
العدم ما انفكت بدورها، تنقلب بفضل هذه القطيعة، ضد قوى الارتكاس، لتصبح إرادة نفي
للحياة السلبية ذاتها، فتحث الإنسان على الميل نحو التقوض بكل سرعة. لكن، ما وراء
الإنسان الأخير، لا يزال ثمة إذن، الإنسان الذي يريد الهلاك. إلى هذا الحد من
انتهاء العدمية وكمالها (منتصف الليل)، يكون الكل مهيأ-مهيأ من أجل التحول La transmutation.
***
يتحدد تحول كل القيم
كالآتي: صيرورة-فعالة للقوى، انتصار للإثبات داخل إرادة القوة. فإذا كان النفي في
ظل سيادة العدمية هو ما يشكل ظاهر وجوهر إرادة القوة، فالإثبات ثانوي فقط وملحق
بهذا النفي،كقاطف وحامل لثماره، بحيث أن موافقة الحمار (I-A)
ليست سوى موافقة كاذبة وساخرة. وبخلاف ذلك يكون كل شيء قد تغير حاليا: فصار
الإثبات جوهر إرادة القوة، إن لم يكن إرادة القوة ذاتها. أما بالنسبة للنفي، فلا
زال يستمر في وجوده لكن كتجل لهذا الذي يثبت ويؤكد، كالعدوانية المميزة للإثبات،
كالبرق المنذر والرعد الذي يليه فيؤكده كالنقد الإجمالي الملازم للخلق والإبداع.
هكذا، فما كان زرادوشت إلا الإثبات الخالص، ذاك الذي يوصل النفي بكل إتقان ودقة،
إلى حدوده القصوى، جاعلا منه فعلا وحجة في خدمة هذا الذي يؤكد ويخلق.
تعارض موافقة زرادوشت
كليا، موافقة الحمار، مثلما يعارض الخلق والإبداع كلا من الحمل والنقل. كما يعارض
رفضه أيضا، رفض العدمية، مثلما تعارض العدوانية الحقد. وما التحول، إلا آلية القلب
هاته، لكل العلاقات القائمة ما بين الإثبات والنفي. مع ذلك فنحن نرى أن التحول غير
ممكن سوى عند نهاية العدمية. بحيث ينبغي إذن، الوصول إلى الإنسان الأخير، ومنه إلى
الإنسان الذي يريد الهلاك، إذا ما أريد للنفي أن يصبح، وهو ينقلب أخيرا ضد قوى
الارتكاس، فعلا؛ فيمر على التو إلى خدمة إثبات أعلى (من هنا عبارة نتشه: العدمية
المهزومة، لكن المهزومة لذاتها..).
إذا كان الإثبات، هو
أعلى درجات الإرادة، فما الذي يثبت؟ ربما كانت الأرض والحياة… لكن أي شكل يأخذه،
كل من الأرض والحياة حالما صارا موضوع إثبات؟ أشكلنا المجهول؟ نحن الذين لا نقطن
سوى، هذا الوجه المقفر من الأرض، ولا نعيش سوى حالات محادية للصفر. لعل ما تتهمه
العدمية وتجهد نفسها لنفيه، ليس هو الوجود لأن الوجود، نحن من يعرفه منذ أمد
بعيد، وهو شبيه بالعدم كالراهب. إنه بالأحرى المتعدد Le Multiple والصيرورة
Le devenir.
سيما وأن العدمية ما فتئت تعتبر الصيرورة شيئا يجب التكفير عنه واختفاؤه من
الوجود، والمتعدد شيئا غير عادل، يجب محاكمته واختزاله في الواحد. المتعدد
والصيرورة مذنبان، تلكم كانت أول وآخر كلمة تنطق بها العدمية. فهل يمكن أيضا، وتحت
سيادة العدمية، أن نعتبر كل الإحساسات السوداء، دافعا من دوافع التفلسف؟: نوعا من
"الاستياء"، يجعلنا نحتار في قلق الحياة واضطرابها-شعورا معتما بالإثم.
وبالعكس، فأولى صور التحول، تفصح عن المتعدد والصيرورة، وهما في عز قوتيهما: حيث
يجعلان منها موضوع إثبات. وداخل إثبات المتعدد، يوجد الفرح الفعلي للمتنوع. مما
يفصح عن الفرح، وكأنما هو الباعث الوحيد على التفلسف. فما تقييم الإحساسات السلبية
أو الرغبات الحزينة إلا الخداع الذي ما فتئت تشيد على صرحه، العدمية سلطتها. (لقد
كتب سلفا، كل من لوكريتس "Lucrèce" وسبينوزا Spinoza، صفحات قطعية في هذا المضمار حيث كانا يتصوران الفلسفة، قبل نتشه،
كقوة للإثبات، وكالكفاح الفعلي ضد الخداع وكطرد للسلبي).
إذا كان المتعدد مؤكدا
بما هو متعدد، فالصيرورة مؤكدة بما هي صيرورة. مما يعني أن الإثبات، يكون متعددا
لذاته ويصير هو ذاته، في نفس الوقت الذي يكون فيه كل من الصيرورة والمتعدد،
بدورهما، إثباتان. لعل هناك ما يشبه لعب المرايا، داخل الإثبات المدرك جيدا.
"أيها الإثبات الأبدي.. أنا إثباتك إلى الأبد!" هاته هي صورة التحول
الثانية، والمتمثلة أساسا في إثبات الإثبات والازدواج أو الزوج المقدس
دنزوس-أريان. وإذا ما كان دنزوس، معروفا بالخصال السابقة، فنحن بعيدون كل البعد عن
دنزوس الأول، ذلك الذي ما فتئ نتشه يتصوره، تحت تأثير شوبنهار، كمختزل للحياة، في
موضوع الأصلي وكمنصهر مع أبولون لإنتاج التراجيديا.
أكيد أن دنزوس، عرف منذ
ميلاد التراجيديا، بواسطة معارضته لسقراط، أكثر منه بمصاهرته لأبلون: هكذا كان
سقراط يحاكم الحياة ويقاضيها باسم القيم المتعالية، في حين أن دنزوس، وبخلاف سقراط،
كان أكثر دراية بأن الحياة هي ما لا يجب محاكمته لكونها أكثر عدالة وطهارة.
والحالة هذه، فكلما تقدم نتشه في عمله، إلا وتأكد أن الاعتراض الرئيسي، ليس هو
دنزوس ضد سقراط، بل هو دنزوس ضد المصلوب. يبدو أن مسألة استشهاديهما متشابهة،
لكنالاختلاف والفرق، يكمن في كيفية تفسير وتقدير هذا الاستشهاد: فإن كان هنالك من
جهة أولى، الحكم الصادر في حق الحياة ومشروع الانتقام الذي يقتضي نفيها، فهنالك من
جهة ثانية، إثبات الحياة وإثبات المتعدد والصيرورة إلى حد تمزيق وشتات أعضاء دنزوس.
إن الرقص، والخفة
والضحك كلها خصال دنزوسية. فدنزوس هو من يقوم باعتباره قوة إثبات، بإحداث مرآة
داخل مرآته وحلقة داخل حلقته: هكذا نكون في حاجة إلى إثبات ثان، حتى يصبح الإثبات
بدوره مثبتا. يخاطب دنزوس خطيبته أريان ("لديك أذنان صغيرتان، لك أذناي:
أطنبيهما بكلمة فطنة")، وما الكلمة الوحيدة الفطنة إلا "نعم". هكذا
تأتي أريان على إتمام جميع العلاقات التي يتحدد بموجبها كل من دنزوس والفلسفة
الدنزوسية.
لم يعد المتعدد خاضعا
للواحد، كما لم تعد الصيرورة خاضعة للوجود، وأحسن ما قام به كل من الوجود والواحد،
عوض فقدان كلي لمعناهما، إنما هو انتحالهما لمعنى جديد؛ فصار الآن يعبر عن
المتعدد، من حيث هو متعدد (على شكل شظايا أو أجزاء) بالواحد، كما يعبر عن
الصيرورة، من حيث هي صيرورة، بالوجود. تلكم إذن، كانت آلية القلب النتشاوية أو
صورة التحول الثالثة. لم نعد قط، نقابل الصيرورة بالوجود، والمتعدد بالواحد (فهذه
المقابلات تحيل إلى أنماط العدمية) وبخلاف ذلك، فإننا نؤكد وحدة المتعدد، ونثبت
كينونة الصيرورة، أو كما يقول نتشه، نثبت ضرورة الصدفة. وإذا ما كان دنزوس لاعبا،
فاللاعب الجيد هو الذي يجعل من الصدفة موضوع إثبات: فيثبت أجزاء وأعضاء الصدفة؛
ومن خلال هذا الإثبات، ينبثق العدد الضروري، العدد الذي يصاحب رمية النرد. هكذا
تتجلى لنا ماهية هذه الصورة الثالثة: كلعبة العود الأبدي. فما العودة أساسا، إلا
كينونة الصيرورة، وحدة المتعدد وضرورة الصدفة. أينبغي أيضا، أن نتفادى كل ما يمكنه
أن يجعل من العود الأبدي، عودة الشيء ذاته! وإلا فسوف نكون، قد جهلنا طبيعة التحول
والتغير في إطاره الأساسي؛ فـ"الشيء ذاته" لا يسبق المتنوع في وجوده
(إلا في حالة العدمية). ليس "الشيء ذاته" هو الذي يعود، ما دامت العودة
هي الصورة الفريدة لـ"الشيء ذاته"، والتي لا تطلق إلا على المتنوع
والمتعدد والصيرورة. بحيث إن "الشيء ذاته" لا يعود، إنما فقط عودة
الـ"صائر" هي التي تتشابه.
لقد أصبحت ماهية العود
الأبدي في خطر، ومن ثمة وجب على مسألة العود الأبدي هاته، أن تتخلص من كل أنواع
المواضيع التافهة والخاطئة. قد نتساءل أحيانا، كيف اعتقد نتشه بمثل هذه الفكرة واعتبرها
بالتالي جديدة ومذهلة، رغم كونها مكرورة عند اليونان: إلا أن نتشه كان يعرف جيدا،
أنها وإن وردت عند القدامى، سواء في اليونان أم في الشرق، فليس ذلك إلا بشكل جزئي
ومرتاب، وبمعنى يختلف تماما عن المعنى النتشاوي.
هكذا عمد نتشه، بشكل
مسبق إلى التحفظ وبكل سرعة، بخصوص "هيراقليطس"، وما وضع العود الأبدي
داخل فم زرادوشت، كمن يضع الأفعى داخل الحلقوم، إلا دلالة على أنه يمنح لشخصية
زرادوشت القديمة ما لم تكن قادرة على إدراكه. فلا يلبث نتشه، يعتبر شخصية زرادوشت،
كتلميح أو لنقل بشكل أفضل، كقلب للمعنى وككناية، منحته، بشكل إرادي، ثروة من
المفاهيم الجديدة لم يكن قادرا على تكوينها.
يحدث أن نسأل أيضا، عما
يبهر في العود الأبدي، وإذا ما كان قوامه في الدورة، أي في عودة الكل، في عودة
"الشيء ذاته" Le même، في العودة "إلى الشيء ذاته" Au même:
لكن الأمر بالضبط، لا يتعلق بهذا؛ إذ يكمن سر نتشه في كون العود الأبدي ذو طابع
انتقائي. علما بأن انتقاءه ذو وجهين. يتمثل الوجه الأول، كفكر، إذ يمنحنا قانونا
بموجبه تصبح حرية الإرادة، خالية من كل الأخلاق: أياما ابتغيت (كسلي وجوعي، نذالتي
وعيبي كما أبتغي فضيلتي) وجب علي أن أبتغي على نحو، أبتغي فيه أيضا العودة الأبدية
لهاته الأشياء. هكذا يجد عالم "أنصاف-الإرادة" نفسه مقصيا، بمعية كل ما
نرغب فيه، شريطة أن نفصح عنه: مرة واحدة لا غير. وحتى النذالة والكسل، الراغبان في
عودتهما الأبدية، لا يلبثان يستحيلان إلى أشياء أخرى، غير الكسل والنذالة: ليصبحا
فاعلين ويصيرا قوى إثباتية.
ليس العود الأبدي،
"فكرا انتقائيا" Pensée sélective فقط، إنما هو "الوجود الانتقائي" L’être sélectif أيضا. فلا يعود سوى الإثبات، لا يعود سوى ما يمكنه أن يكون محط
إثبات، لا يعود سوى الفرح، بحيث أن كل ما يمكنه أن يكون محط نفي، وكل ما هو سلبي،
مطرود بفضل حركة العود الأبدي نفسها. قد نخشى عودة توافقات كل من العدمية وقوى
الارتكاس، باستمرار: غير أن العود الأبدي شبيه بالعجلة؛ وحركة العجلة موهوبة بقوة
نابذة، لا تفتأ تطرد كل ما هو سلبي. وبما أن الوجود مؤكد من طرف الصيرورة، فإنه
يبعد عنه كل ما يتعارض والإثبات؛ ومن ثمة، فنحن لن نعيش كل أشكال العدمية
والارتكاس: من وعي شقي وحقد… سوى مرة واحدة.
ورغم ذلك، فما فتئ نتشه
يعتبر في كثير من نصوصه، أن العود الأبدي شبيه بالدورة، حيث الكل يعود وحيث
"الشيء ذاته" منذور بالعودة ولا ينفك يرتد ويعود إلى ذاته –لكن ما دلالة
هاته النصوص؟ خاصة وأن نتشه مفكر، يمسرح الأفكار، أي أنه يعرضها كأحداث متتالية،
وعلى مستويات مختلفة من حيث الحدة. هذا ما شاهدناه سلفا وبخاصة مع فكرة "موت
الإله" Mort du Dieu. وما العود الأبدي بدوره إلا موضوع بيانين (كان بود عدد البيانات
التي تتناول هذه الفكرة، أن يزداد لو لم يتوقف العمل كله؛ بسبب الحمق الذي حال دون
حصول تدرج كان نتشه يتصوره بوضوح). والحالة هذه، فأحد البيانين المتبقين يتعلق
بـ"زرادوشت المريض"، في حين أن البيان الآخر يخص "زرادوشت
الناقه"، الذي شفي تقريبا من مرضه. فما رد زرادوشت مريضا، إلا فكرة الدورة
هاته: فكرة أن الكل يعود، وأن الشيء ذاته منذور للعودة وأن كل شيء يستحيل ويصير
ذاته. ذلك لأن العود الأبدي، وهذه الحالة بالذات، ليس إلا افتراضا غريبا ومريعا في
نفس الوقت. غريب، ما دام يعادل يقينا طبيعيا، حيوانيا ومباشرا (هذا هو السبب الذي
جعل زرادوشت يجيب أفعوانه ونسره لما حاولا مواساته قائلا: "لقد أردتهم العود
الأبدي "تكرارا" واختزلتماه في صيغة جد معروفة")- مريع
أيضا، لأنه إذا ما كان الكل سيعود حقيقة وسيرجع هو ذاته، فسيعود بذلك كل من
الإنسان الصغير والحقير؛ كما ستعود العدمية والارتكاسية بدورهما (لهذا السبب
بالذات، أجهر زرادوشت بملله وبازدرائه الكبير، مصرحا أنه لا يقوى كما لا يرغب ولا
يطيق النطق بكلمة العود الأبدي).
فماذا حدث لما كان
زرادوشت، في فترة النقاهة؟ هل جهد نفسه في أن يحتمل ما لم يحتمله منذ قليل؟ لقد
قبل بالعود الأبدي واستخفه الفرح. ألا يتعلق الأمر هنا سوى بتحول سيكولوجي؟ بالطبع
لا، ما دام الأمر مرتبط بتحول في آليات الفهم والمعاني الموكولة للعود الأبدي
ذاته. لقد علم زرادوشت أنه لما كان مريضا، لم يكن يدرك قط معنى العود الأبدي، كما
لم يكن يدرك أن العود الأبدي ليس دائريا ولا يعني عودة "الشيء ذاته" بل
ولا حتى العودة "إلى الشيء ذاته". لم يكن يعرف أن العود الأبدي، ليس
بداهة طبيعية بسيطة تخص الحيوان، ولا قصاصا أخلاقيا محزنا يخص الإنسان. هكذا استوعب
زرادوشت معنى المتساوية: "عود أبدي = وجود انتقائي". فكيف يمكن لما هو
ارتكاسي وعدمي أن يعود؟ كيف يستطيع السلبي أن يرجع، ما دام العود الأبدي كينونة
موسومة بالإثبات وبـ"الصيرورة-الفاعلة"، لا غير؟ إنه عجلة نابذة
"كوكبة نجوم الوجود السامية، التي لم تبلغها أية أمنية، ولم يلوثها قط أي
نفي". ما العود الأبدي إلا التكرار الذي ينتقي ويحرر. إنه السر الثمين، سر
التكرار المحرر والانتقائي.
للتحول إذن، شكل رابع
وأخير: إنه ينطوي على الـ"فو إنسان" وينتجه. ذلك أن الإنسان، ما دام
ارتكاسيا بطبعه، فهو لا ينفك يوحد قواه مع العدمية. ومن ثمة تعرضه للطرد من طرف
العود الأبدي. هكذا فالتحول يخص بالذات، عملية تحويل راديكالية للجوهر، هاته
العملية التي وإن كانت تجري داخل الإنسان، فهي ما ينتج الـ"فو إنسان".
ليس الفوإنسان بالضبط، إلا ذلك التأمل الذي نخص به كل ما يمكنه أن يكون محط إثبات؛
إنه الصورة المثلى والنموذج المجسد للوجود الانتقائي، خلف وشخصية هذا الوجود ذاته.
ربما كان أيضا نتاج
تلاقح ما بين سلالتين؛ فمن ناحية أولى، هو ما ينشأ من الإنسان بواسطة كل من
الإنسان الأخير والإنسان الذي يريد الهلاك، لكن في تجاوز لهما، كتمزق وكتغير
للجوهر. ومن ناحية ثانية فهو، إن نشأ من الإنسان فلا يعني ذلك أنه نشأ من طرف
الإنسان: إنه ثمرة كل من دنزوس وأريان. وبما أن زرادوشت نفسه، قد انحدر من السلالة
الأولى، فإنه ما يزال في مرتبة أدنى من دنزوس، إنه رسوله ومبشره. وإن كان زرادوشت
يعتبر الفو إنسان ابنه، فهذا الأخير لا يلبث أن يتجاوزه، بحيث يصبح الأب الحقيقي
مجسدا في دنزوس.
هكذا، نكون قد خلصنا
إلى نهاية كل أطوار التحول المتمثلة في: دنزوس أو الإثبات؛ دنزوس-أريان أو الإثبات
المزدوج؛ العود الأبدي أو الإثبات المضاعف؛ الفو إنسان أو نموذج ونتاج الإثبات.
***
ينبغي علينا، نحن قراء
نتشه، أن نتفادى أربع تفسيرات معكوسة وممكنة:
1 – بخصوص إرادة القوة:
(أن نعتقد بأن إرادة القوة تعني "الرغبة في الهيمنة" أو "إرادة
السلطة").
2 – بخصوص الأقوياء
والضعفاء: (أن نعتقد بأن الأكثر "تسلطا" في نظام اجتماعي معين، هم من
ثمة أيضا "الأقوياء").
3 – بخصوص العود
الأبدي: (أن نعتقد بأن الأمر يتعلق بفكرة قديمة، تم اقتباسها عن الإغريق، الهنود
أو البابليين…؛ أن نعتقد بأن الأمر يتعلق بدورة أو بعودة الشيء ذاته أو بالعودة
إلى الشيء ذاته).
4 – بخصوص مؤلفاته
الأخيرة: (أن نعتبر هاته المؤلفات، زائدة أو مقصية سلفا بواسطة الحمق).
(*) تمت
ترجمتنا لهذه النصوص عن كتاب:
Nietzsche, Sa vie, son œuvre, avec un exposé
de sa philosophie par Gilles Deleuze. Presses universitaire de France.
وهو كتاب عملنا على ترجمته وسوف يرى النور فيما قريب.
والنصوص المشار إليها في هوامش النص المترجم تحيل باقي نصوص
الكتاب.
- نذكر أحيانا نص "المعتوه" (المعرفة
الجذلى، III، 125) كأول رواية رائعة تحكي موت الإله. إلا أنها قد لا تعني شيئا
أمام ذلك السرد الرائع المتضمن في كتابه: المسافر وظله والذي يحمل عنوان:
"السجناء". انظر بعيدا، النص رقم 19. يحمل هذا النص رنة غريبة مماثلة
لتلك التي نصادفها في كتابات "كافكا".
(*) نسبة إلى
النمل: ذلك أن النمل كتنظيم، يقوم على سيادة وهيمنة الرؤساء في حين أن العناصر
المنتجة، تكتفي بالعمل والخضوع للأوامر(م).
(*) علم
النماذج البشرية، منظورا إليها من حيث العلاقات بين الطبائع الذهنية والعضوية
(المنهل).
(*) تقليد
الغير لا شعوريا (المنهل) وذلك من جراء إسقاط الذنب على الذات مما ينتج الصيرورة
الارتكاسية، المولدة بدورها للألم؛ هكذا يصبح الألم نتيجة للخطأ المرتكب؛ مما
يفترض آلية التكفير (الدين) (م).
(*) إنه إثبات
مزيف سيما وأن الحمار لا يعرف أن يقول "لا" ويجيب دوما
بـ"نعم"، بذلك يكون إثباته في خدمة النافي باستمرار (م).
- إن التمييز ما بين الإنسان الأخير والإنسان
الذي يريد الهلاك، أساسي جدا لفهم فلسفة نتشه: انظر مثلا، الاختلاف القائم ما بين:
تنبؤات الكاهن (الكاهن، الجزء II) ونداء زرادوشت (المقدمة، 4 و5) في كتابه هكذا تكلم زرادوشت.
انظر كذلك النصين المرقمين: 21 و23.
- انظر "هذا الإنسان" لماذا أنا قدر،
الفقرة 3 – وفي النهاية، فالأمر جد مريب، في كون فكرة العود الأبدي قد أثيرت يوما
داخل العالم القديم. ومجمل الفكر الإغريقي مخفي القول في هذا الصدد: انظر الكتاب
الجديد لـ"Charles Mugler"، موضوعان بخصوص الكوزمولوجيا الإغريقية: الصيرورة
الدائرية وتعدد العوالم (Knincksieck,
1953). وباعتراف كل المختصين،
فكذلك الأمر بالنسبة للفكر الصيني والهندي، الإيراني والبابلي. وما التعارض القائم
بين الزمن الدائري عند القدامى والزمن التاريخي عند الحداثيين إلا فكرة بسيطة
وخاطئة. وعلى كل حال، فإننا نستطيع، مثل نتشه نفسه، أن نعتبر العود الأبدي،
ابتكارا نتشاويا ذا مقدمات منطقية قديمة ليس إلا.