ص1    الفهرس    المحور

العولمة والهوية

حديث النهايات وحنين البدايات(*)

محمد شوقي الزين

منذ سنوات وكاتب هذه السطور يطلع على نتاج علي حرب الغزير المقدم بأسلوب شاعري ومنطقي وبلغة تميزها الروح النقدية ومساءلة الذات إفلاتا من الطوبويات المبشرة والدوغمائيات المقفلة. قراءتنا لكتاباته تجاوزت الزمان والمكان التقليديين لتصبح مشاركة في الفضاء السبراني قصد التعريف به إلى الجمهور الناطق بالفرنسية إلى جانب محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد في موقعنا بالإنترنت الموسوم "فضاء الفلسفة" (http://www.philo.8m.com). تعلمنا مصطلحات ومفاهيم عديدة من لدن علي حرب يدرجها بأسلوب متدفق وخلاق لا يعرف الفتور أو الانحسار أو الانحصار وبحرص مولع في المواقع التي يطؤها فكره وتجوبها لغته قصد ابتكار فلسفة متميزة في التعبير والتفكير والتدبير تتجاوز الإيديولوجيات الفاشلة والشعارات الفارغة والطوبويات الوهمية. لكن ينخدع الكاتب أحيانا بأدواته المفهومية ويندفع نحو نوع من الوثوقية القاتلة عندما يبشر بأن هذا النموذج أو ذاك هو العصا السحرية في صوغ الوقائع وإنتاج الحقائق وتشخيص الأحداث. هذا شأن كاتبنا عندما تصبح العولمة في كتابه هذا مفهوما مفارقا فيما وراء التهليل والتهويل أو التبجيل والتدجيل، مفهوما لائقا وليس نموذجا عائقا في تحقيق الوحدة والحرية والمشاريع بعيدا عن الهتافات الإيديولوجية المفلسة والنخبة المثقفة القابعة في نرجسيتها المطلقة وأبراجها العاجية المغلقة.

فكيف تتحقق الوحدة عبر الوسائط والطرق المعلوماتية والطرائق السبرانية، أي في زمان ومكان اعتباريين أو افتراضيين، فيما أخفقت هذه الوحدة في التحقق على أرض الواقع؟ وهل أصبحت العولمة فعلا البديل الضروري والكافي لعالمية متشبثة بثقافتها التنويرية والتوسعية وتمويهاتها الإناسية والتقدمية؟

يولي علي حرب أهمية كبرى إلى ثورة المعلومات التي تفتح للإنسان إمكانات جبارة في الخلق والابتكار والمشاركة الفعالة، كما أنها تهز أركان اليقينيات المفارقة والهويات الضيقة وتعمل على خلق مجال واسع ومتمدد فيما وراء الحدود القطرية والموانع الجغرافية، "إنه الإنسان التواصلي الذي تتيح له الأدمغة الآلية والتقنيات الرقمية التفكير والعمل على نحو كوكبي وبصورة عابرة للقارات والمجتمعات والثقافات"(ص9). وينعت العولمة بـ"فتح كوني" استنادا إلى العنوان الفرعي الذي خص به كتابه "فتوحات العولمة ومآزق الهوية". بهذا الفتح الكوني يتغير التعامل مع الواقع لينتقل من التصنيع والتسليع أو التمثيل والتنظير أو الأسطرة والتقديس إلى أنساق الأعلمة والرقمنة. إننا إزاء "نموذج جديد" بتعبير توماس كوهن يتجاوز الأدوات والمواد ويفلت من قبضة الإيديولوجيات ونوازع التمذهب والتقوقع ويكون بمثابة المحرك الرئيسي لأنظمة التفكير وأنماط التعبير ومسالك التدبير. تصبح "المعلومة" l’information الوحدة الأولية لمبنى العولمة وذات طابع كوني، تنتقل وتتحول وتبدع في مسارها ومسيرتها وسائط وإمكانات في الرؤية والإبداع والابتكار. يواجه الإنسان اليوم ثلاثة عوالمL1) عالم تقليدي بتصوراته اللاهوتية ومعتقداته الغيبية والماورائية؛ (2) عالم حداثي وتحديثي بتمثلاته العقلية ونوازعه العقلانية وممارساته العلمانية والتعقلية؛ (3) عالم عولمي وكوكبي بمجالاته الإعلامية وفضاءاته السبرانية وتعدديته المعلوماتية.

العالم الأول أو عالم الأصولية والأَدْيَنَة فقد استنفد قواه على البناء والتصوير الطوبوي لوقائع تتعالى على الواقع. العالم الثاني أو عالم العالمية والأنسنة فقد أشكل عليه الواقع وأفلت من مشاريعه التحررية والعلمانية والعقلانية كما ينفلت الزئبق من أصابع اليد. العالم الثالث أو عالم العولمة والكوكبية تتحول فيه المعلومات وتسافر فيه الوسائط وتتسارع فيه الأحداث بقدر ما تتغير القيم والتصورات وتتصدع الأدلوجات والمعتقدات وتتحور الهويات والثقافات والخصوصيات. العولمة في تصور الكاتب هي "قفزة حضارية تتمثل في تعميم التبادلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على نحو يجعل العالم واحدا أكثر من أي وقت مضى، من حيث كونه سوقا للتبادل أو مجالا للتداول أو أفقا للتواصل" (ص29). والعولمة هي بلا شك "حديث النهايات": نهاية الإيديولوجيا، نهاية المثقف، نهاية الدولة، الخ؛ كما أنها إقرار بـ"وهم البدايات" وأفول قداسة الأصول التي يحتذى بها وانتهاء المشاريع التي يمتثل لصيغها وتنظيراتها وتنافر الهويات التي يحافظ عليها في صروح منيعة. ويركز الكاتب في صفحات عديدة من حديث النهايات على وهم النخبة المثقفة في تغيير الأوضاع أو تنظير المشاريع أو صوغ النظريات والتصورات. فالتغيير هو عمل يومي أو جهد حثيث (ص18) ينبع من القاعدة ومساحة التشتت والتعدد ولا يفرض ذاته من قمة تزعم امتلاك الحقيقة كأقانيم ثابتة وقيم محتكرة والتحكم في مهمز العالم حسب تصوراتها ورموزها وتمثلاتها ومثالاتها واستيهاماتها. يكسر الكاتب وهم النخبة لأن التغيير، من منظوره، سيرورة معقدة لا تنفك عن التحول والتجاوز، تنطلق من الفضاءات غير المرئية ومن المستويات الصغيرة لإنتاج التحولات الجبارة والانتقالات المدهشة والقفزات المفاجئة. لا يتعلق الأمر بفرد ينوب أفرادا في السياسة والفكر والثقافة ويدعي تمثيلهم والتفكير في راهنيتهم ومصيرهم لأن مثل هذا التصرف والادعاء يعترف ضمنيا بقصور الآخرين والتماسهم لمنقذ أو مخلص يحول المعادن إلى ذهب، بمعنى المشاكل إلى حلول والأزمان الخانقة إلى طوبويات فائقة. التغيير ممكن بشرط أن يساهم كل فرد في قطاعه بتحديث أدواته وإنتاج فكره. فهذا العالم يصنعه رجال الأعمال والإعلام ونجوم السينما والكرة كما يقرر الكاتب. فأين النخبة المثقفة من هذه السلطات الجديدة التي جاءت لتقوض الهيمنة الفكرية والنرجسية الثقافية التي تزعم تغيير الوقائع والأحداث نحو الأفضل والحفاظ على الهويات والخصوصيات؟ "إن الثقافة بمعناها الأعم والأشمل هي صناعة الحياة وتشكيل العالم. والعالم لا يصنعه المثقفون المحترفون وحدهم وإنما تصنعه كل القوى الفاعلة فيه" (ص19). ويرى الكاتب بأن نقد الذات والحديث بلغة المفهوم والفهم والتفاهم بعيدا عن منطق الاستلاب والاستكلاب وعقلية الطوبى والتعاظم بشأنه أن يحدث القفزة النوعية ويخرج الفكر الحديث من المآزق والصدمات: "فالأجدى هو أن نقرأ الحدث لا  بلغة الرجم واللعن ولا بلغة التعظيم والتسبيح، بل بلغة الفهم والتشخيص ومن أجل التعقل والتدبير بحيث لا نرد على الحدث بنفيه ولا بالمصادقة عليه، بل بفهمه والمساهمة في صوغه أي بتحويله إلى فكرة خصبة أو إلى حقل معرفي أو إلى مجال تواصلي أو إلى سوق تبادلي"(ص25).

يوجه الكاتب نقدا لاذعا وعتابا إلى النخبة وينعت خطاباتها بشعارات خاوية وطوباويات مستحيلة وإيديولوجيات مفلسة ويقف عند ثلاث محطات: (1) صادق جلال العظم، حيث يرى الكاتب أن العودة إلى فهم وتفسير العالم بعد العجز عن تغييره لم يغادر أرضية الماركسية التقليدية؛ (2) بيار بورديو وتصوره الاختزالي للعولمة لإنقاذ تصوراته الثابتة عن العدالة والحرية والمساواة؛ (3)  محمد عابد الجابري الذي يعتبر قراءته للعولمة"نموذج القراءة الإيديولوجية التي يهيمن عليها البعد الأنثروبولوجي أي التعاطي مع العولمة من منطلق الدفاع عن الهوية الثقافية" (ص45). يمضي الكاتب قدما في سحب البساط عن النخبة المثقفة ولا يخلو حديثه من نزوع عدمي وتشكيكي: "وبالإجمال إن القراءة الإيديولوجية هي قراءة هشة تشهد على عجز أصحابها عن مواجهة العولمة، بقدر ما يستخدمون في قراءة العالم مفاهيم قديمة باتت شعارات خاوية ومطلقات هشة لا تنتج سوى ألغامها على الأرض، كما هو شأن المصطلحات المتداولة في الخطاب الثقافي حول العقلانية والديمقراطية أو حول الحرية والعدالة أو حول الهوية والثقافة. إنها محاولات المثقف النخبوي قولبة الواقع على مقاس مثله ونماذجه ومعاييره"(ص47). في رأيي، تحميل المثقف أو النخبة المثقفة مسؤولية الواقع المنهار وفشل المشاريع في التحديث والتنمية وتفاقم الخيبة والنكوص لا يختلف عن الاتهام التعسفي وتحميل ألبرت أينشتين مسؤولية تدمير هيروشيما بالسلاح النووي في منتصف القرن العشرين؛ مع أن أينشتين لم يقم سوى باتباع مسار علمه وابتكار فرضياته وقوانينه ليتوج هذا الإنتاج وهذا الخلق والإبتكار بصياغة معادلات فيزيائية صنعت بموجبها الأسلحة النووية الفتاكة، أو تحميل نيتشه مسؤولية المجازر التي ارتكبتها النازية بسبب مفاهيمه حول إرادة القوة والإنسان الأعلى. النخبة المثقفة مشروطة بواقع مجتمعاتها وصياغة المشاريع والنظريات هي نتاج قراءة المجتمع ومحاولة فهمه وتفسيره، أما تغييره فهي مسألة تفلت من قبضة المثقفين مهما ادعوا عرض الحلول الخارقة والانتقال بالمجتمع إلى أنماط حياتية وأنظمة معيشية ملائمة ومتطورة. ما سكت عنه خطاب الكاتب هو الإقرار بالمذهب المسمى "الفوضوية" Anarchisme  والذي أحبذ تسميته "مناهضة الأصول والنماذج": من البادئة (a) والتي تعني في اللاتينية "النفي أو السلب أو الرفض" و (archè) ومعناه في الإغريقية "القاعدة أو الأصل أو النموذج أو البدء" (Commencement) وأيضا "القيادة أو الإدارة أو التوجيه أو السلطة" (Commandement). والمسار المناهض للأصول والنماذج يتجلى في غير موضع من الكتاب عندما تصبح صناعة العالم وبلورة الحياة بمعزل عن النخبة والساسة ممن يدعون تمثيل المجتمع في البرلمانات ومجالس الشعب: "وفي موازاة ذلك تتعولم السياسة بتحررها من سيطرة الناخبين ومن سلطة الدول والحاكمين في آن. فالقرارات لم تعد تصنعها اليوم المؤسسات الحكومية والهيئات التمثيلية أو الإجراءات الانتخابية من برلمانات واستفتاءات"(ص103). عولمة الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدينية استبعدت الممثلين الفاعلين في السياسة والفكر والاقتصاد لتبرهن عن سقوط الأقطاب وتشظي المراكز وانهيار الهوامش لنحيا في عالم "كاوسي" (chaotique) يسوس فيه الفرد ذاته بمعزل عن هيمنة أهل السياسة ويفكر ذاته وفي ذاته وبذاته بعيدا عنوصاية النخبة المثقفة ويدير شؤون حياته بمفرده. لكن نعرف بأن قوام الحياة الفردية والاجتماعية هو التواصل أو تحقيق "الإنسان التواصلي" بتعبير علي حرب، يرتبط بموجبها الأفراد ويصبحون وسطاء لبعضهم البعض. والنخبة المثقفة التي انهالت عليها معاول النقد في هذا الكتاب تحقق، من وجهة نظرنا، فكرة الإنسان التواصلي باعتبارها تنخرط في نظام عمال المعرفة ونظام الوساطة ولنا أمثلة على ذلك: المشاركة الفعالة لجون بودريار في شبكة الأنترنيت قصد شرح نصوصه وعرض أفكاره وأيضا مواقع محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد ومهدي المنجرة في الأنترنيت دون أن ننسى لعبة الوساطة التي يسعى بعض المفكرين لتجسيدها مثل جاك دريدا وبيار بورديو وأندري غلوكسمان ولوك فيري... دون ادعائهم الوصاية الفكرية أو التمثيل الثقافي.

صحيح أن العالم يصنعه أشخاص مثل بيل غيتس كما يعتد به علي حرب في كتابه، لكن هذه الصناعة لا تخلو من تمويه وتضليل واختراق فاضح وفاحش لقوانين التبادل والمنافسة كما يشهد على ذلك تدخل القاضي الأمريكي توماس جاكسون لفصل مؤسسة ميكروسوفت إلى مؤسستين قصد كسر الهيمنة المطلقة لهذه المؤسسة المعلوماتية على نظام الاتصالات والمعلومات في العالم وسيطرتها على السوق العالمية في الأنظمة الإلكترونية والحواسب والشبكات المعلوماتية. تفتح العولمة إمكانات هائلة وطرائق متعددة في التفكير والرؤية وفي التعبير والصياغة وفي التدبير والممارسة بقدر ما تتحول إلى إيديولوجيا هدفها الهيمنة والسيطرة كما يشهد على ذلك تسنين تسعيرات باهضة ضد أوروبا أو عقوبات اقتصادية ضد بعض دول آسيا قصد بيع المنتجات وتصدير الثروات. هل قوانين المنافسة تقتضي لغة الويل والوعيد وإقامة الحصارات والعقوبات قصد بيع المنتوجات والسيطرة على الأسواق العالمية؟ أصبح جوزي بوفي في فرنسا رمز المناهضة للأمركة والعولمة بعد أن فرضت الولايات المتحدة تسعيرة بنسبة 100% على المنتجات الفرنسية بعد رفض فرنسا لاستيراد اللحوم الهرمونية الأمريكية. احتجاجا على هذه التسعيرة الباهضة، قام زعيم التعاضديات الفلاحية الفرنسية جوزي بوفي بمظاهرات مناوئة لوجود مطاعم "الماكدونالد" في فرنسا.

هذه الاحتجاجات المناوئة لعولمة مؤدلجة كما تجسدها أيضا منظمة التجارة العالمية لا ترفض أساسا مبدأ التواصل وقانون المنافسة ونفحات الإمكان والخلق والابتكار بقدر ما تناهض لفحات الهيمنة والنزوع الذرائعي في التعامل مع السوق والتجارة والتبادل. تماما مثل رائدي مدرسة فرانكفورت تيودور أدورنو وماكس هوركايمر اللذين لم يتنكرا للعقل بقدر ما ناضلا ضد العقل الأداتي (Raison instrumentaliste) في بسط الهيمنة وجنون العظمة.

الانبهار بحضارة المعلومة والحاسوب كما يتجلى في هذا الكتاب لا يختلف عن الانبهار الأول تجاه ما يسميه إرنست رينان بـ"المعجزة الإغريقية". "المعلومة" كوحدة أولية (informatème) لبنية واسعة وكونية وهي "العولمة" تنوب "التمثل" في العقل الحداثي و"الاعتقاد" في العقل الغيبي الما ورائي: "الثورة الإعلامية، بإعطائها سلطة لتقنية المعلومات، تتجاوز تقنية المماثلة، على النحو الذي يجعل المعرفة، ليس فقط عبارة عن تصنيع للواقع، بل اصطناع واقع جديد، عبر عمليات الحوسبة والأعلمة والرقمنة" (ص174-175). والمعلومة (information) ليست مجرد فضاء أثيري يحمل في طياته الأحداث والوقائع في خلوصها وبداهتها، لكنها عبارة عن "ثقب أسود" كما يسميها جون بودريار تقوم على البث والإعلان وامتصاص الحدث. فهي تنتقل وتتحول، لكنها تتلقى مصيرها في مقبرة المعلومات كنفايات غير قابلة للتداول وإعادة الاستعمال (Recyclage). وهذه النفايات التواصلية والمعلوماتية والإعلامية تزن بشكل مدهش على مجرى الأحداث والوقائع، كما هو حال الصورة الإعلامية أو الأيقونة الإشهارية. انتقاد بيار بورديو التلفزة والعولمة لم يكن من جراء "مشاركته في حلقة تلفزيونية فاشلة، خرج غاضبا محبطا، لكي يعلن بأن التلفزيون ليس وسيلة للاتصال بقدر ما هو أداة رهيبة للهيمنة والرقابة والحجب" (ص44) كما يقول علي حرب. جون بودريار من خلال كتبه إيهامات وتصنعات (Simulacres et simulations) وشفافية الشر (La transparence du mal) يدعم ما ذهب إليه بورديو من كون سيناريوهات الصورة الإعلامية أو الكاميرا ذات طبيعة تصنعية، تصنع الواقع ولا تصفه، وتقولبه ولا تعكسه، تقوم بانتقاء الصور والمشاهد بتركيبها ونمذجتها واختيار الفرص والمناسبات وكذا الوضعيات والأبعاد والمنظورات وكل الشروط المكانية والزمانية التي لا يتدخل المشاهد في انتقائها واختيارها باعتباره مستهلك هذه الصور والأيقونات، فإن المشاهد يقبل بما يعرض عليه دونما اعتراض. هذا ما يقوله بودريار ولا نعتقد أن بورديو ينتقد منطق الصورة الإعلامية كمحاولة انتقام أو تصفية حسابات بعد فشل حصته التلفزيونية أو لاعتبارات أخرى.

يعتد علي حرب بالإنسان التواصلي العابر للقارات والثقافات والمجتمعات وكأمل (espoir) في إعادة رسم خريطة العلاقات الإنسانية وتطوير مشاريع التنمية وتداول أرشيفات الذاكرة البشرية عبر الشبكات الأثيرية وتقريب الجغرافيات المتباعدة وتوحيد القوى المتنافرة. لكن الإنسان التواصلي (عامل المعرفة ووسيط الحضارة) في الفضاء السبراني ليس شيئا آخر سوى الإنسان العادي في التناهي الزمكاني أمام شاشة الكمبيوتر يراقب حركة العالم وتداول الأسهم وتواصل الأفراد من بقعته المتناهية في الزمان والمكان رغم وجود نصوصه الفائقة وذاكرته الأثيرية في الفضاء السبراني والمكان الاعتباري-الافتراضي. والإنسان التواصلي ليس أكثر طوباوية وملائكية ومثالية من الإنسان العادي إذا علمنا الخسائر الفادحة التي تتلقاها الشركات والمؤسسات وحتى الحكومات والوزارات من جراء ظاهرة القرصنة الأثيرية بنشر وتوزيع فيروسات فتاكة عبر شبكة الأنترنيت مثلما حصل مع فيروسات "ميليسا" (Melissa) و"تشرنوبيل" (Tchernobyl) ومؤخرا فيروس "أحبك" (I love you) الذي أدى إلى تعطيل وتحطيم الملايين من الحواسيب عبر العالم وضياع وثائق ونصوص فائقة (hypertextes) هامة وخسائر قدرت بملايير الدولارات. الإنسان التواصلي يباعد بقدر ما يقارب ويتنصل بقدر ما يتواصل وينفصل بقدر ما يتصل من خلال المواقع الإلكترونية في الشبكة الأثيرية الداعية إلى الدعارة أو العنصرية أو المتاجرة بالأطفال، الخ. لا ننكر بطبيعة الحال حضارة التواصل التي فتحت وسائط هامة وفائقة تقرب المسافات والأفراد على سبيل التواصل والتبادل والتداول، ولكن هذا الانفجار الهائل في التكنولوجيات الإلكترونية والسبرانية لا يسلم بدوره من الاستعمال الذرائعي والأداتي في بسط الهيمنة أو زرع أسلحة فتاكة في شكل فيروسات تحطم في فضائها السبراني كل الوثائق والأرشيفات والنصوص الفائقة. ربما الحرب الفائقة (hyperguerre) في الفضاء الأثيري أو الاعتباري أقل دموية وهمجية من الحرب المدمرة على أرض الواقع ولكنها أشد وقعا وأثرا وأكثر تكلفة. يستطيع المواطن البيني (internaute) أن يرتكب جرائم بتسلله عبر الشبكة الأثيرية إلى مراكز أو محطات يمكن وصفها بالسرية أو المنيعة ويمكنه تعديل مسار الأحداث فيها أو تبديل بنيتها كما وقع مؤخرا عندما نشر البيت الأبيض (واشنطن) خطابا للرئيس كلينتون على الأنترنيت وتسلل مواطن الشبكة أو أنترنوت إلى الجهاز الإلكتروني للبيت الأبيض واستطاع أن يغير بعض المفردات في الخطاب الرئاسي!الأدهى والأمر أن يتسلل أنترنوت إلى مراكز نووية عبر الشبكة الأثيرية ويغير فيها ما يحلو له من أعداد أو لوحات أو معادلات قد تؤدي إلى ما لا يدخل في الحسبان والتوقع أو يهدد بنوع من القرصنة البنوك والمراكز المالية. هذه الحقائق يتجاهلها الكتاب ويغض عنها الطرف. يعيب على النخبة المثقفة إبداء مساوئ وسلبيات العولمة والكتاب حافل بتبيان سلبيات النخبة وعدم جدواها وتحميلها مزاعم التمثل والتمثيل وإن كان العديد من المثقفين يتورعون عن هذه الادعاءات في الدفاع أو الحراسة أو الوصاية أو المناضلة.

الكتاب لا يعدو مجرد "بيان من أجل العولمة" ولكنه بيان فيما وراء التهويل أو التهليل والتراشق أو التصفيق. إنه بيان من أجل الإمكان، من أجل "أن تكون على غير ما أنت عليه" (ص192) بالإجهاز على المفارقات والمطلقات ومغادرة التمثلات والتمثيلات والتماثلات والتطابقات. إنه أيضا بيان يحكي "حديث النهايات" ولا يحاكي "حنين البدايات" وتقديس النماذج وقولبة الأصول ومماهاة الأقانيم والأصنام الثابتة: "ومعنى النهاية تشكل إمكان جديد يفسح المجال أمام كائن، فاعل، لا يتعامل مع نفسه بوصفه آية الحق ورسول الحقيقة، أو محامي الحرية والعدالة، أو صفوة الأمة والبشرية"(ص193). حديث النهايات في هذا الكتاب هو التطلع إلى "ما بعد الإنسان" الذي يتغير عما هو عليه وينحو قدما صوب الهوية المولدة والوساطة التواصلية والكوننة العولمية. الغريب في الأمر أن حديث النهايات يستدعي ضمنيا ما يستبعده ويراه سبب الأفول والسقوط والخطابات الفجة والشعارات الهشة، بل يحيل إليه ويتماهى معه بشكل سري وفاضح وبصورة تحتية ومتوارية عن الأنظار. لهذا يربط جون بودريار حديث النهايات بالحنين إلى البدايات في كتابه وهم النهاية أو إضراب الأحداث (غاليلي، باريس، 1992)، بقدر ما يبدد بودريار وهم النهاية فإنه يعلن عن نهاية الوهم وأن غائية التاريخ ونهايته عبارة عن طوبويات حالكة ومزاعم هالكة. إننا اليوم في "ما وراء" النهاية. إنها وضعية مبهمة تقرر بتحقق الطوباويات المتعددة في التحرر والتقدم والإنتاج والتنمية والمعلومة والإعلام. ليس هناك نهاية نتجه نحوها لأننا تجاوزنا أصلا النهاية نفسها، ونتواجد في فضاء انهارت فيه قواعد اللعبة الوجودية. وهو ما يفسر، حسب بودريار، تنامي الفراغ والرعب والهوس الجمعي تجاه وضعية "أنتروبية" Entropique تتنامى فيها قوى التبعثر والتشظي وهي وضعية تجسدت فيها كل الأحلام والطوبويات وانفتحت عليها الأنظار بنوع من الخيبة والنكوص désillusion. وهو ما يفسر محاولة الوعي البشري في الرجوع إلى الوراء بعد مجاوزته النهاية، بحثا عن البدايات وحنينا إلى الأصول. نرى في كل مكان هاجس البدايات الذي يطال علوم الحياةوالوراثة في سبر أغوار "الجينوم" génome البشري عبر الخرائط الوراثية والشيفرات الجينية وأيضا العلوم الفلكية في تحديد عمر الكون والبحث عن لحظة البداية أو "الانفجار العظيم Big Bang. التاريخ بدوره أصبح ضمن هاجس الضمير الجمعي بمعنى التدليل على وقوع الأحداث وانبثاق الوقائع. إننا، نوعا ما، مولعون بالبرهنة على أن الماضي وقع فعلا بالرجوع القهقرى إلى الوراء وهذا الهاجس المتنامي يبرهن بما فيه الكفاية حالة الأمه وفقدان الذاكرة التي أصابت الوعي الجمعي الذي يستنجد بالوسائط والذاكرات الاصطناعية والحواسيب في عدم فقدان الأصول أو الانفصال عن البدايات. تعمل هذه الوسائط والشبكات والأجهزة كـ"رادارات" في تقصي حضور الأصل ومعالجة المنحى الانفصامي أو السكيزوفريني للوعي الجمعي. بهذا المعنى يمكن قراءة العولمة كمجاوزة للقدامة والحداثة أو التقليد والتحديث، لكن تنبع من صلبها قوى تحن إلى الأصول في المعرفة والفكر والثقافة والممارسة والسياسة. يصبح الوعي الجمعي في وضعية حرجة لا يستطيع بموجبها الرجوع إلى الوراء بعد أن جاوز النهاية ولا يمكنه المضي قدما فيما وراء النهايات القصوى. حالة مفزعة يقول بودريار يصبح فيها الزمن لا خطيا ولا دوريا بل كاوسيا متبعثرا. يظهر الماضي كشبح مرعب والمستقبل كسراب وهمي، أما الحاضر فتكتنفه اهتزازات وارتجاجاتg