فلسطين : اتحاد فيديرالي وكانتونات ...
ونهاية الصهيونية(
أود أن أستهل مداخلتي بملاحظتين: أولاهما أن عبارة
"التجدد الحضاري" التي جعلت عنوانا للبحث الذي طلب مني إنجازه قد أثارت
في ذهني قلقا والتباسا. فـ "الـتجدد" مصدر تجدد، وهو فعل لازم. وبالتالي
فـ "التجدد الحضاري" معناه أن الحضارات تتجدد من تلقاء
نفسها، وهذه مسألة فيها نظر: هل تتجدد الحضارات فعلا أم أن
التاريخ يدلنا على أنها تهرم وتنهار في مرحلة ما من تاريخها؟ أما الملاحظة الثانية
فتتعلق بالخطاطة المقترحة للبحث وهي خطاطة تتعامل مع "المشروع الحضاري"
بوصفه مشروع النهضة. وقد تكررت في "ورقة العمل"، المقدمة من طرف منظمي
الندوة، عبارة "المشروع الحضاري النهضوي العربي" حتى غدا من الجائز
الاستغناء عن لفظ "الحضاري" والاقتصار على عبارة "المشروع
النهضوي". وبما أن لي كتابا بنفس العنوان ("المشروع النهضوي العربي"
صدر عام 1996 عن مركز دراسات الوحدة العربية) وقد تناولت فيه، من جملة ما تناولت،
الموضوعات نفسها المطلوب مني معالجتها في البحث المقترح علي، فإني وجدت نفسي أمام
مهمة من أشد المهام التي تقلقني، وهي تكرار ما سبق أن قلته وكتبته. طلبت إعفائي من
هذا البحث وتكليفي بموضوع آخر، غير أن ذلك لم يكن ممكنا، فقد وزعت البحوث وسبق لي
أن قبلت الموضوع من دون مناقشة ودون أن أفكر فه، نظرا لانشغالي آنذاك بالعمل في
كتابي الأخير "العقل الأخلاقي العربي". لم يبق أمامي إذن سوى الاقتباس
من الكتاب الذي خصصته لهذا الموضوع، وبالخصوص من فصله الأخير الذي جعلت موضوعه
"آفاق المستقبل"، أي المشروع النهضوي العربي في أفق القرن الواحد
والعشرين.
سيقتصر عملي في هذه الورقة إذن على نوع من التلخيص والتحيين
لجملة الأفكار التي ضمنتها الفصل الأخير من الكتاب المذكور، وهي أفكار ما زالت
تمثل وجهة نظري رغم مرور خمس سنوات على كتابتها1
([1]).
لقد انطلقنا في الكتاب المذكور، الذي جعلناه عبارة عن
"مراجعة نقدية" للمشروع النهضوي العربي، من عرض سريع لـ "مشاهدات
رجل من القرن الماضي"، القرن التاسع عشر، رجل افترضناه أحد رواد النهضة
العربية الحديثة، كان يعيش في باريس أو لندن، لاجئا أو داعية. وقلنا إن هذا الرجل
لو بعث اليوم حيا ليرى ما تحقق من ذلك المشروع لهاله الأمر ولاحتار في إصدار حكم
عام على ما سيسجله من فروق بين ما كان يحلم به رواد ذلك المشروع والمبشرون به وبين
ما آل إليه اليوم.
[1]
- هناك نصوص أخرى كتبتها في مرحلة سابقة تلتقي مباشرة مع البحث المقترح علي في هذه
الندوة مثل البحث المدرج في كتابي "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"
بعنوان "المشروع الحضاري العربي بين فلسفة التاريخ وعلم المستقبليات"،
والأبحاث التي جمعتها في كتابي"قضايا في الفكر العربي المعاصر" وهي
تتناول : العولمة، وصراع الحضارات، وعودة الأخلاق، والديموقراطية ونظام القيم في
الثقافة العربية الخ، مما له صلة مباشرة بالموضوع.
ومن هنا انطلقنا في
مراجعتنا النقدية هذه، ففحصنا ظروف ميلاد هذا المشروع والمضايقات العاتية الخطيرة
التي تعرض لها من جانب المشاريع الأخرى المتزامنة معه والمنافسة بل المحاربة له،
وبالخصوص منها الوجه الآخر للحداثة الأوروبية، وجهها الإمبريالي، وربيبته الحركة
الصهيونية. ثم انصرفنا بعد ذلك إلى فحص الإشكاليات والمقولات الرئيسية التي تشكل
قوام هذا المشروع وهي تتمحور كلها، كما بينا، حول شعار مركزي واحد هو :
"الوحدة والتقدم".
وعندما وصلنا إلى
نهاية المراجعة لما كان وحصل، وحان أوان الالتفات للمستقبل وآفاقه، رأينا من
المفيد الرجوع إلى صاحبنا "رجل القرن الماضي" لنسأله ماذا كان يتوقع أن
يأتي به "المستقبل"، أعني القرن العشرين الذي كان ينتصب أمامه كما ينتصب
اليوم أمامنا القرن الحادي والعشرون، عسانا نجد في تجربته الاستشرافية دروسا
نستفيد منها في تعاملنا مع المستقبل، مستقبلنا ومستقبل الأجيال العربية الصاعدة.
لم يكن من الممكن لصاحبنا النظر إلى المستقبل العربي، وهو
يعيش نهاية القرن التاسع عشر ويتطلع إلى القرن العشرين، من دون أن يستحضر الأطراف
الثلاثة التي كانت تنافسه على مستقبله وهي : الغرب التوسعي الاستعماري، الحركة
الشيوعية العالمية، الحركة الصهيونية. لقد كان يدرك أن هذه الأطراف الثلاثة سيكون
لها تأثير ما على المستقبل العربي كما كان يتراءى آنذاك، ولكنه كان يعي تماما أن
الدور الأكبر والحاسم سيكون للغرب الاستعماري. أما مصير الحركة الصهيونية
والشيوعية العالمية فلم يكن من الممكن استشفافه، خصوصا وقد كانتا محصورتين في
أوروبا وجزء من كيان الغرب ذاته، ولم يكن أي منهما آنذاك ينافسه أو يضايقه خارج
القارة الأوروبية.
كان الطرف الوحيد
الذي كان وجوده يضايق الغرب، خصوصا في طريقه إلى الهند والشرق الأقصى، هو
الإمبراطورية العثمانية. وكان صاحبنا يعلم أن الغرب يتعامل مع هذه الإمبراطورية كـ
"رجل مريض"، وأنه كان ينتظر الفرصة للإجهاز عليها. ولربما كان صاحبنا
يعلم أيضا أن الحركة الصهيونية العالمية التي كانت تطالب بوطن قومي لليهود في
فلسطين كانت تقدم مشروعها لزعماء أوروبا على أساس أن وجودها في فلسطين سيجعل منها
الضامن المخلص والحارس الأمين لطريق أوروبا إلى الهند والشرق الأقصى، وأنها
تستطيع، أكثر من ذلك، أن توجه الضربات لذلك "الرجل المريض" لترغمه على
الانسحاب شمالا عن المنطقة الاستراتيجية الممتدة من قناة السويس إلى الخليج
العربي.
كان صاحبنا مشغولا بالمستقبل أكثر من انشغاله بالماضي
والحاضر. وسنظلمه إذا نحن افترضنا أنه كان يمكن له، أو حتى يجوز له، أن ينشئ لنفسه
تصورات عن المستقبل تمتد على مدى قرن من الزمان. ومع ذلك فإننا سنعجب العجب كله
لكونه لم يستطع -وما كان له في الحقيقة أن يستطيع- توقع ما حصل بالفعل في الربع
الأول من القرن العشرين. لم يكن يتصور قيام الحرب العالمية ولا كان يتوقع ثورة
الشريف حسين ضد تركيا ولا اندلاع الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفيتي ولا سقوط
الإمبراطورية العثمانية واقتسام فرنسا وبريطانيا لممتلكاتها، أعني الأقطار العربية
عموما. ومع أنه كان يسمع بالحركة الصهيونية فإنه لم يكن يتوقع وعد بلفور ولا
اتفاقية سايكس بيكو... الخ.
أما أبناء وحفدة
صاحبنا هذا، أولئك الذين عاشوا خلال الربع الثاني والثالث من هذا القرن
(1925–1975) فالغالب على الظن أن أيا منهم لم يكن يتوقع أن يتحقق وعد بلفور عبر
حرب خاطفة تنتصر فيها الجماعات اليهودية على سبعة جيوش عربية سنة 1948، ولا كان
يتصور أنه سيكون من نتائج هذه الهزيمة العربية قيام الثورة المصرية التي فتحت
آفاقا جديدة تماما أمام العرب. كما أن أيا منهم لم يكن يخطر بباله ما حدث سنة 1967
ولا كان ينتظر، بعد تلك النكسة الفاجعة، أن تنتصر القوات المصرية ذلك الانتصار
الباهر في حرب 1973. تماما مثلما لم يكن يخطر ببال أحد منهم أن ينتهي هذا الانتصار
إلى زيارة السادات للقدس 1977 وأن يوقع معاهدة كامب ديفد 1978.
والحق أن العرب لم يشعروا في يوم من الأيام، خلال تاريخهم
الحديث، بمثل ما شعروا به من إحباط وقلق على المستقبل بسبب معاهدة كامب ديفد. فلقد
كانت مصر منذ أوائل القرن الماضي مركزا للوطن العربي لا ينازع، وكان التفكير في
المستقبل العربي يستقطبه الدور القيادي لمصر: مصر قلب العروبة ومقر الجامعة
العربية والمتصدية الأولى لكل من يضع نفسه موضع الخصم والعدو للعرب والإسلام، سواء
كان استعمارا أو صهيونية أو جارا من جيران الوطن العربي. أما بعد كامب ديفد فلقد
تغير الوضع جذريا وصار القلق على المستقبل العربي عاما ومميتا. ومن نتائج هذا
القلق أن أصبح المستقبل عند النخبة العربية المثقفة شغلها الشاغل. وقد تجسد ذلك في
عدة كتابات ولقاءات وندوات. غير أن أهمها على الإطلاق هو ذلك العمل الذي دام خمس
سنوات (1983-1987) أعني به "مشروع استشراف المستقبل العربي" الذي أنجزه
"مركز دراسات الوحدة العربية".
وبمراجعة التقارير
والكتب التي أنجزت في إطار المشروع والتي غطت مختلف جوانب الواقع العربي وآفاق
مستقبله، يتبين للباحث اليوم أن فريق الاستشراف لم يهتد إلى أن يضع في الحساب عدة
حوادث حدثت ولم يتوقعها، حوادث ومعطيات تشكل آفاق ما يميز الواقع العربي. من ذلك
أن المشروع لم يطرح إمكانية انفجار الوضع في الخليج كذلك الذي حدث نتيجة احتلال
القوات العراقية للكويت. ولم يكن خبراء المشروع ولا أي واحد من الملاحظين العرب
والأجانب يتوقع الطريقة التي تم بها إخراج العراق من الكويت، وهي الطريقة التي
نعرفها جميعا: التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ومعها أوروبا ودول عربية،
والتدمير الشامل الذي استهدف، لا القوات العراقية وحدها في الكويت، بل البنية
العسكرية والاقتصادية والعمرانية العراقية بأكملها. ولم يتوقع المشروع أن يتطور
الوضع في الجزائر ذلك التطور الذي حصل، ولا أن يتزايد نشاط الحركات الأصولية في
مصر. كما أنه لم يكن يدخل في نطاق المفكر فيه عند خبراء المشروع تلك الحرب الأهلية
التي وحدت اليمن، ولا توقف الحرب الأهلية في لبنان، ولا اتفاقية أوسلو، ولا الصراع
العلني بين السعودية وقطر الخ. وأكثر من ذلك استبعد المشروع تماما إمكانية رجوع
مصر إلى الجامعة العربية خلال العقد الأول من الاستشراف (1985-1995) مما جعله ينصح
بإقامة علاقات واقعية اقتصادية بين العرب ومصر بدلا من التفكير في إقامة علاقات
دبلوماسية (ص 339 من التقرير العام 1988).
لقد فضل خبراء
المشروع تجنب الخوض في الأمور التي تثير الحساسيات العربية. ومع أنهم كانوا يعلمون
خطورتها على المستقبل العربي، فإنهم لم يستطيعوا استحضارها في سيناريوهاتهم، لا
لعدم تقديرهم لخطورتها، بل بالعكس لقد كان سكوتهم عنها من نوع تجنب الناس عادة ذكر
أسماء الأمراض الخبيثة ونتيجتها المحتومة. وهكذا سكتوا عن مشكل الحدود بين الدول
العربية مع أنه المشكل الذي كان -وما زال- كالنار تحت الرماد تهدد بالاشتعال في كل
آن. وسكتوا كذلك، بل تغاضوا، عن الموقف الحقيقي لمعظم الحكومات العربية من اتفاقية
كامب ديفد، وهو موقف كان يقبل في السر تلك الاتفاقية ويرحب بها، في حين يوافق، في
العلن، على طرد مصر من الجامعة العربية لنفس السبب...
وقبل "مركز
دراسات الوحدة العربية" ببيروت قام "مركز الدراسات العربية
المعاصرة"، في جامعة جورج تاون بواشنطن بعقد ندوة جند لها عددا من الباحثين،
عربا وأجانب، بهدف "استشراف المستقبل العربي" في "العقد
القادم" : عقد التسعينات. وقد ركز المساهمون على تحليل الواقع العربي من خلال
عشرين موضوعا موزعة على ستة محاور هي : 1- "الدولة والديمقراطية وحقوق
الإنسان". 2- "العلاقات الإقليمية والدولية". 3- "الاقتصاد
ومشكلة التنمية والنفط ". 4-
"الأزمة الثقافية والفكرية". 5- "المشاكل الاجتماعية بما فيها
تحرير المرأة والصراع الطبقي". 6- "أبعاد الصراع العربي الإسرائيلي
دبلوماسيا وعسكريا". لقد عقدت هذه الندوة في إبريل/نيسان من سنة1985 ونشر
"مركز دراسات الوحدة العربية" ببيروت أبحاثها مترجمة إلى العربية سنة
1986.
وإذن فالعقد الذي
أراد منظمو الندوة استشرافه هو عقد النهاية للقرن العشرين، وفي نفس الوقت مقدمة
القرن الواحد والعشرين. فما الذي توقعه هؤلاء الباحثون والمختصون، الذين صرحوا
بالتزام الموضوعية والصرامة وتجنب التمنيات؟ ثم ما مدى توافق توقعاتهم مع ما حصل
من تطورات؟
(…) إن المطالع لأبحاث ندوة "مركز الدراسات العربية
المعاصرة" بجامعة جورج تاون بواشنطن، حول "استشراف المستقبل
العربي" في عقد منتصف الثمانينات/منتصف التسعينات (1985–1995)، يخرج بنتيجة واحدة هي أنه رغم
الجهود الذي بذلها أصحابها في تحليل الواقع العربي وبناء السيناريوهات لاستشراف
احتمالات تطوره فإنهم، في مرحلة استخلاص النتائج، بقوا جميعا متأرجحين بين سيناريو
اتجاه التغيير إلى أسوأ، وسيناريو اتجاه التطور إلى الأفضل. ولعل القاسم المشترك
بينهم جميعا هو تأكيد كل واحد منهم على أن القضية التي هي موضوع بحثه ستبقى تستقطب
اهتمام الباحثين والمحللين طوال العقد موضوع الاستشراف. ومعنى ذلك أن القضايا العشرين
التي تدور حولها المحاور الستة المذكورة ستبقى معلقة مع ميل إلى التفاقم والتعقيد.
لنأخذ مثالا واحدا
فقط هو البحث القصير والمركز الذي قدمه سميث تيلمان، الأستاذ الباحث في
الدبلوماسية بجامعة جورج تاون، والذي عنوانه: "دبلوماسية الصراع العربي
الإسرائيلي في العقد القادم : السيناريوهات البديلة". لقد اخترنا هذا البحث
لنقف عنده قليلا لكونه، من جهة، يتناول موضوع الساعة في الوطن العربي، موضوع
"التسوية" بين العرب وإسرائيل، ولأنه من جهة أخرى، يقدم لنا نموذجا
للإخفاق الذي يتعرض له كل من يحاول توقع شأن من شؤون الوطن العربي، انطلاقا مما
يشكل "الواقع الراهن" في أية مرحلة من مراحل تاريخه الحديث والمعاصر
(...).
وهكذا فبعد أن يناقش الباحث السيناريوهات الثلاثة البديلة
التي افترضها يخلص إلى القول: "إن هذه السيناريوهات التي تبدو مقبولة ظاهريا
بدرجة أو بأخرى، والتي هي عقلانية وفق فهمي، إنما تقع بوضوح خارج حدود التحقق خلال
العقد القادم، وانه لا إسرائيل ولا منظمة التحرير الفلسطينية ولا الولايات المتحدة
تبدو قادرة الآن، أو يحتمل أن تكون كذلك في المستقبل القريب، على تجاوز القيود
المحلية التي شكلت دبلوماسية الصراع العربي الإسرائيلي زمنا طويلا".
تلك هي النتيجة
التي سجلها صاحب البحث في نهاية بحثه، وهي تلغي السيناريوهات الثلاثة التي قدمها،
مؤكدا أنه من غير الممكن التنبؤ بشيء واضح دقيق في هذه المسألة، مسألة الصراع
العربي الإسرائيلي. ولكن صاحبنا لم يقف عند هذه النتيجة بل تجاوزها بالانتقال من
الاستشراف، انطلاقا من المعطيات الحاضرة، إلى اقتراح رؤية تقع خارج إطار الاستشراف
وبعيدا عن المدى المحدد له، رؤية يقول عنها إنها : "ليست توقعا للعقد القادم
ولا لأي وقت في المستقبل. إنها فقط إفصاح عن احتمال واعد، في الظروف القائمة، ومع
واقعية نأمل أن تكون. إن توقعاتي المحسوبة بدقة، بفرض أن بمقدوري أن آتي بأحدها،
ستكون بكل تأكيد أقل إيحاء بالأمل، وأنا أفضل أن أنتهي بملاحظة مفعمة
بالأمل".
فما هي هذه الملاحظة أو الرؤية المفعمة بالأمل التي يقدمها
صاحب البحث كمخرج من مأزق فشل السيناريوهات؟ (…) خلاصة هذه الرؤية، إذن، هي
التعبير عن الأمل في أن يندمج فلسطينيو الضفة والقطاع في إسرائيل اندماجا نهائيا
فيصيروا في وضعية فلسطينيي 1948 الذين بقوا في إسرائيل. وبما أن عدد الفلسطينيين
سيزداد مع السنين نظرا لارتفاع نسبة التناسل بينهم، فإنه لا بد أن يأتي يوم يكون
لهم فيه صوت مسموع ومؤثر في الكنيست الإسرائيلي مما سيخلق وضعا جديدا قد يسمح في
نهاية المطاف بتحقيق "دولة ثنائية القوميات".
نحن لا نريد أن نحاكم نيات هذا الباحث، فقد يكون ساذجا إلى
درجة الصدور عن صدق وإخلاص في اقتراحه ذاك، وقد يكون ذكيا يريد أن يصرف
الفلسطينيين عن قضيتهم المستعصية نحو أوهام يقدمها في صورة أحلام مشروعة وممكنة
التحقق على المدى البعيد... ما يهمنا هنا استخلاصه من آرائه هو الدرس الأساسي
التالي : إن "استشراف المستقبل العربي" من خلال السيناريوهات التي تريد
أن تكشف عن اتجاه التطور من خلال تحليل المعطيات التي تشكل الحاضر العربي، عملية
تنتهي دائما إلى باب مسدود. فالسيناريوهات الثلاثة التي تعتمد عادة في الاستشرافات
التي من هذا النوع (سيناريو استمرار الوضع القائم، وسيناريو احتمال تطوره إلى
أسوأ، وسيناريو حدوث تغيير نحو الأفضل) تبقى متكافئة عندما يتعلق الأمر بالأوضاع
العربية. ومن هنا يجد الباحث المستشرف نفسه أمام خيارين: إما أن يمزق أوراقه ويلغي
موضوعه ويعترف باستحالة تركيب معادلة للمستقبل العربي قابلة للحل، وإما أن يضع
عقله الاستشرافي الموضوعي العلمي بين قوسين ليفسح المجال للحلم، لنظرة سحرية ترى
المستحيل ممكنا. وحينئذ سيرسم صورة لما ينبغي أن يكون من زاوية ميوله وعواطفه إزاء
القضية العربية.
وهنا، وفي هذا
المثال الذي اخترناه، نجد أنفسنا ليس فقط أمام سيناريوهات استبعدها صاحبها نظرا
لتكافئها واستحالة ترجيح أي منها، بل نحن نجد أنفسنا هنا أيضا أمام رؤية قدمت في
صورة تمنيات -مخلصة أو غير مخلصة- كذبتها الأحداث تكذيبا. والسبب هو أن الباحث كان
عاجزا تماما عام 1985، على الرغم من اطلاعه الواسع على الشؤون العربية ومن تخصصه
في الموضوع الذي اختاره، عن أن يتوقع ما حدث بالفعل في هذا العقد الذي كان موضوع
استشرافه، بل إن ما حدث وما كان يحدث خلال ذاك العقد كان ينتمي عنده إلى اللامفكر
فيه بل إلى ما هو غير قابل للتفكير فيه. إنه لم يستطع، لا هو ولا غيره، أن يتصور
إمكانية قيام "الانتفاضة"، انتفاضة "أطفال الحجارة"، وقد قامت
بعد سنتين فقط من تاريخ كتابة بحثه، كما أنه لم يكن يستطيع أن يتصور، بل لقد
استبعد تماما، أن تكون نهاية العقد الذي تناوله الاستشراف مقرونة بانسحاب الجيش
الإسرائيلي والسلطة الإسرائيلية من قطاع غزة ومدن الضفة الغربية. وبطبيعة الحال لم
يكن يخطر على باله، ولا ببال أي مستشرف آخر للمستقبل، أن تعترف إسرائيل بمنظمة
التحرير الفلسطينية وتعترف هذه بإسرائيل، ولا كان بإمكانه أن يصرح باحتمال تبادل
الاعتراف والتمثيل الدبلوماسي بين الأردن وإسرائيل وفتح مكاتب ارتباط (وهي مقدمة
للسفارات) بين إسرائيل ودول عربية أخرى. ولو أننا سألنا صاحبنا قبل أيام من نهاية
العقد موضوع الاستشراف عن أيهما يتوقع أن يغتال، بسبب المضي في تطبيق اتفاقية
أوسلو، رابين أم عرفات؟ لأجاب بدون تردد إنه ياسر عرفات، وما كان من الممكن قط أن
يخطر بباله أن الضحية ستكون : إسحاق رابين.
(…) إن إمكانية نجاح مناهج الاستشراف للتنبؤ بما سيكون عليه
المستقبل العربي، موضوع المشروع النهضوي العربي، إمكانية محدودة جدا. إن المشروع
النهضوي -أو الحضاري- بما أنه "مشروع" فهو لا يتقيد بمعطيات
"الواقعية" التي ينطلق منها الاستشراف، لأنه أصلا يهدف إلى تغيير هذه
المعطيات، إلى تغيير الواقع. وإذن فالتفكير في المشروع النهضوي يجب أن ينطلق من
زاوية الإرادة في التغيير، الإرادة في تشييد "المستقبل العربي"، لا
انطلاقا من المعطيات التي يتشكل منها الواقع العربي الراهن، الذي كله متغيرات
مؤقتة، بل انطلاقا من الأخذ في الحسبان رغبات الشعوب العربية وطموحاتها وقدرتها على
التضحية والحركة والفعل التي لا تقل عن قدرتها على الصبر والتحمل، و"للصبر
حدود في ضمير الأمة العربية"، كما هو معروف.
ولا بد من الأخذ
بالحسبان كذلك الاتجاه العام الذي يميز الوضع العالمي المعاصر، الاتجاه إلى نظام عالمي
قائم على المجموعات الإقليمية المتنافسة المتصارعة، ولكن المتداخلة والمتفاهمة
كذلك : المجموعة الأوروبية ومجموعة اليابان وشرق آسيا، ومجموعة دول أوروبا الشرقية
الخ. ولا شك أن حكام الدول العربية سيجدون أنفسهم يوما مضطرين، في هذا الوضع، إلى
تشكيل مجموعة منفردة أو مجموعة متميزة داخل أخرى أوسع، إسلامية أو شرق أوسطية. أما
الولايات المتحدة الأمريكية فسواء بقيت في وضعها الراهن كقطب رئيس، أم تراجعت
لتصبح رئيسة لمجموع القارة الأمريكية بشمالها وجنوبها، فإن زعامتها للعالم ستكون
زعامة ضمن مجموعات أخرى منافسة.
وفي مثل هذا الوضع
الدولي المنتظر سيضطر العرب، خلال العشرين سنة القادمة، إلى نوع من التعامل بعضهم
مع بعض بصراحة وواقعية، خصوصا والقضايا التي كان حكامهم يختفون وراءها للمزايدة
ويستظلون بها كشعارات للاستهلاك الداخلي قد انتهت الآن. لقد انتهت "القضية
الفلسطينية"، وبعد وقت ستكون فلسطين قد برزت بدولتها، وستكون التسوية مع
إسرائيل قد بلغت منتهاها. ومن يدري فلعل ذلك سيجعل إسرائيل تنفتح لما هو كامن فيها
من عوامل التمزق الداخلي؟ وعلى كل حال فهيمنتها على المنطقة ليست بالأمر السهل
وليست حتمية تاريخية. إن حلم الصهيونية "من النيل إلى الفرات" قد أصبح
اليوم والى الأبد مجرد سراب، تماما كما أن طموح إسرائيل، بعد حرب 1967، إلى جعل
دولتها تمتد "من النهر إلى البحر" قد تبخر تحت ضربات المقاومة وانتفاضة
أطفال الحجارة.
أما العلاقات العربية/العربية فمن المنتظر أن تعرف تطورا
إيجابيا بعد تسوية الدول العربية تسوية نهائية لمشاكل الحدود القائمة بينها، وهي
مشاكل من المرجح أنها، حتى وإن لم تسو بالإرادة، فإنها ستتقادم خلال العشرين سنة
المقبلة لتترك المجال لعلاقات جوار أفضل. ومن المرجح كذلك، بل من المؤكد أن تظهر
مشاكل أخرى حادة توحدهم وتجمع بينهم في "جامعة الدول العربية" أو في
إطار آخر، مثل مشكلة الماء والغذاء ومشكلة تصريف الإنتاج، والتنافس مع المجموعات
الإقليمية الأخرى الخ الخ.
هل انتهينا بدورنا
إلى نظرة مرشحة هي الأخرى لأن يصدق عليها ما قلناه بصدد تلك "النظرات"
والاستشرافات التي عرضناها، وهو أن المستقبل يأتي دوما على غير ما يتوقعه الناس؟
الواقع أننا هنا لا
نتوقع ولا نتنبأ ولا نخمن، فلقد بنينا نظرتنا صراحة على إرادة المستقبل وليس على
مجرد استشرافه وبناء التمنيات حوله، ولذلك فنحن مقتنعون بأن مصير توقعاتنا سيكون
مختلفا. إن "إرادة المستقبل العربي" التي حملت الأجيال العربية السابقة
المتعاقبة منذ أزيد من قرن على تقديم التضحيات تلو التضحيات إرادة حققت الكثير:
فلقد تحقق للأقطار العربية استقلالها ولفلسطين بعض حقها وللهوية العربية، لغة
وثقافة وتراثا ومشاعر وطموحات، كيانها الذي لم يعد يخاف عليه…
إن هذه الإرادة يجب
أن تنبعث من جديد في عقولنا وقلوبنا وفي سلوكياتنا، ذلك لأنه ليس هناك من بديل
عنها غير الاضمحلال والفناء. إنه لولا إرادة "المستقبل العربي" وكفاح
الأجيال العربية من أجله على امتداد هذا القرن العشرين والذي قبله لما كنا اليوم
نناقش، كما كان يفعل رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر، هموم النهضة
والتقدم للأمة العربية. ويجب أن نعي ونعترف بأن ظروفنا الراهنة هي، بكل المقاييس،
أهون وأفضل من ظروفهم.
والتاريخ، كحصيلة
عامة للأحداث والظروف التي تجري عبر الزمن، يتقدم في كافة المجالات، ما في ذلك شك.
وفي ما يخص موضوعنا يمكن أن ندعي أن من مظاهر تقدمنا كون قدرتنا اليوم على تحليل
واقعنا والتخطيط لمستقبلنا وتوظيف الماضي بصورة عقلانية في تشييد تصور يدعم ما
عبرنا عنه بـ "إرادة المستقبل العربي" هي أقوى من قدرة أسلافنا رواد
النهضة في القرن التاسع عشر، وذلك لجملة أسباب : منها ذلك التقدم الهائل الذي حصل
في ميدان مناهج البحث وأدوات التحليل، ومنها ذلك النمو الكبير الذي تحقق لدينا على
مستويات عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ومنها التجارب التي خضناها على
هذه المستويات نفسها واكتسبنا منها دروسا وقناعات تفرض نفسها فرضا على الجميع،
ومنها أن الظروف الدولية قد تغيرت، والأطراف التي تزاحم اليوم وغدا العمل النهضوي
العربي، وتنافسه وتحاربه أو تسانده، ستفعل ذلك بأساليب أخرى فعلا، ولكنها لن تكرر
ما سبق أن فعلته : فالراجح أن الحملات الاستعمارية لن تتكرر، وتقسيم الوطن العربي
بين الدول الكبرى على الشكل الذي حدث لن يتكرر، واحتلال فلسطين لن يتجدد بالصورة
التي حدثت... هناك تحديات جديدة ستواجهنا بدون شك وسيكون علينا أن نواجهها، ولكن
هل الحياة شيء آخر غير مواجهة التحديات ؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن للمرء أن يدعي أن القضايا
العربية الداخلية، مثل قضية الديمقراطية وقضية حقوق الإنسان وقضية التنمية الخ،
ستعرف، أو هي تعرف الآن بالفعل، مصيرا يختلف نوعيا عن الذي عرفته من قبل. إن تأجيل
الديمقراطية أصبح غير قابل للتبرير، والإدعاء بأن الحزب الوحيد -أو الطليعي- هو
الخيار الأنسب أو المحتوم ادعاء لم يعد يجد اليوم أي سند، لا في الواقع ولا في
الخيال. والتطرف، باسم هذا الشعار أو ذلك، لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية،
فالتطرف في استعمال السلطة وتوظيفها لمصالح خاصة، كالتطرف في الدين أو في التعبير
عن اليأس والرفض، ليس سنة في الحياة بل هو من الظواهر المؤقتة التي يفعل فيها
الوقت فعله الخ.
غير أن ذلك لا يعني
بحال من الأحوال ترك الأمور لفعل الوقت وحده، كلا. إن إرادة المستقبل تبقى مشلولة
جوفاء إذا لم تبن على إرادة التغيير وعلى ممارسته بعقلانية وتخطيط وصبر وأمل.
والتغيير يبدأ، أو يجب أن يبدأ، من تغيير طريقة النظر إلى الأمور، من تحليل الواقع
تحليلا يجمع بين النظرة الموضوعية والهدف الاستراتيجي، هدف التغيير وإعادة البناء.
ونحن هنا لا ندعي أننا سنقوم بتحليل لمختلف جوانب الواقع
العربي هذا التحليل المطلوب، بل كل أملنا أن نتمكن من استئناف النظر في قضايا "قديمة"
ما زالت في حاجة إلى نظر بل إلى نظرات جديدة من جهة، وأن ندشن النظر، من جهة أخرى،
في قضايا جديدة باتت تشكل الآن قضايا القرن الحادي والعشرين الذي يطل علينا ملوحا
بكل جديد وغريب، ونحن ما زلنا نقف على عتبته!
من هذه القضايا ما
يتصل بمسألة الحكم، كقضية الديمقراطية وقضية العلاقة بين الدين والسياسة وبين
السياسة والإيديولوجيا في الفكر العربي الحديث والمعاصر. ومنها ما يتعلق بالمسألة
القومية كقضية توظيف التراث العربي الإسلامي في إعادة تأسيس الوعي القومي، وقضية
التفكير في "الوحدة" على ضوء مستجدات الحاضر والمستقبل. ومنها كذلك ما
يتعلق بالمسألة الثقافية وبالخصوص ما عبرنا عنه، مرارا، بضرورة سلوك استراتيجية
التجديد من الداخل لتحديث الفكر العربي.
والى جانب هذه القضايا العربية الطابع التي تتطلب نوعا
جديدا من النظر، هناك قضايا أخرى يطرحها العصر علينا، بعضها قديم في مظهره جديد في
جوهره، وبعضها جديد تماما، مظهرا ومخبرا. من هذه القضايا ما يخص العرب وحدهم ومنها
ما يعم البشرية جمعاء... فإلى هذه وتلك سننصرف باهتمامنا في الفقرة التالية.
لعل أول ما ينبغي علينا فعله هو التخلص من الأسئلة المزيفة.
وأقصد بالأسئلة المزيفة الأسئلة التي تطرح على التاريخ أسئلة لاتاريخية من نوع: هل
يقبل الإسلام الديمقراطية؟ هل يقبل مضامين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ؟ هل
يقبل العلمانية؟ تماما مثلما تساءل كثيرون بالأمس تساؤلات صارت اليوم غائبة وغير
واردة مثل : هل يقبل الإسلام الاشتراكية؟ وأسئلة أخرى يحلو اليوم لبعضهم طرحها،
مثل: لماذا لم يكن لعقلانية ابن رشد امتدادات في الوطن العربي مثل تلك التي كانت
لها في أوروبا من خلال "الرشدية اللاتينية؟" أو لماذا لم تتطور الأوضاع
في الوطن العربي خلال القرون الوسطى إلى ما يشبه الحداثة الأوروبية ؟
مثل هذه الأسئلة أسئلة مزيفة لأنها تسأل عما لم يحدث في
التاريخ وتريد معرفة "سبب عدم الحدوث"، هذا في حين أن السؤال التاريخي
العلمي هو الذي يستفسر عما حدث بالفعل، عن كيفية الحدوث أولا، ثم عن سبب الحدوث،
إن كان هناك طريق أو طرق لالتماس السبب أو الأسباب لحوادث الماضي. فالذي يسأل،
مثلا، عن "أسباب" عدم تطور الأوضاع في الوطن العربي في القرون الوسطى
إلى ما يشبه ما آلت إليه الأحوال في أوروبا في العصر الحديث، من رأسمالية
وديمقراطية وعلمانية الخ، هو كمن يسأل : لماذا لم يتطور فلان في جسمه وقوة حواسه
وحدة ذكائه وفي صحته ومرضه الخ، مثل فلان؟ إن السؤال المشروع والعلمي هو الذي يسأل
عما حدث لفلان وأسباب ذلك، وليس عما لم يحدث لفلان وأسباب عدم الحدوث. ومن الأسئلة
المزيفة كذلك تلك التي تطرح قضايا من نوع : لماذا لم يكن لعقلانية ابن رشد مستقبل
في الحضارة العربية بينما كان لهما دور كبير ورئيسي في تأسيس العقلانية الأوروبية
والفكر العلمي الحديث؟ هذا السؤال يتجاهل أن عدم تأثير ابن رشد وغيره من العلماء
في مسار التطور الذي عرفته الحضارة العربية هو كون هذه الحضارة قد دخلت في مرحلة
"الانحطاط "، مرحلة التراجع والجمود على التقليد، وهي ظاهرة عامة شملت
النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية. إن ما أصاب العقلانية الرشدية في الحضارة
العربية هو نفس ما أصاب عقلانية أرسطو في الحضارة اليونانية، أرسطو الذي وجدت
فلسفته وعلومه مستقبلها في الحضارة العربية وليس في الحضارة اليونانية التي دخلت
بعد أرسطو مباشرة في مرحلة التفكك والانحطاط.
وما دمنا قد استحضرنا ابن رشد وأرسطو فلنستلهم المنهج الذي
عالج به ابن رشد العلاقة بين الإسلام والعلوم القديمة من منطق وطبيعيات وإلهيات،
وهي العلوم التي خاض فيها اليونان تحت اسم عام هو: الفلسفة (أو محبة الحكمة،
والحكمة هنا تعني المعرفة من أجل المعرفة. معرفة الحقيقة). ذلك أن كثيرا من
الأسئلة المزيفة التي تطرح اليوم، مثل السؤال عما إذا كان الإسلام يقبل
الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية -أو بعبارة جامعة "الحداثة
الأوروبية"- تثير مشكلة هي أشبه ما تكون بالمشكلة التي واجهها العرب
والمسلمون في القرون الوسطى والمعروفة بمشكلة "التوفيق بين الدين
والفلسفة"، أي بين الإسلام والعلوم العقلية اليونانية التي كانت تحتل آنذاك
نفس الموقع الذي تحتله اليوم الحداثة الأوروبية.
لقد خاض الفارابي وابن سينا وغيرهما من فلاسفة الإسلام
ومفكريه، قبل ابن رشد، في هذا الموضوع، فكان منهم من نظر إلى العقائد التي يقررها
الدين بوصفها مثالات ومحاكيات للحقائق التي تقررها الفلسفة وبالتالي فلا تناقض
بينها (الفارابي)، وكان منهم من حاول التوفيق بين العقائد الدينية والقضايا
الفلسفية باعتماد نوع من التلفيق وذلك بإدخال قيم وسطى تكون جسورا بين هذه وتلك
(ابن سينا)، وكان منهم من نحا منحى آخر فسود الدين على الفلسفة أو العكس. فلما جاء
ابن رشد ولاحظ أن محاولات التوفيق السابقة قد أدت إلى خلط ولبس/ مما نشأ عنه سوء
فهم وعدم تفاهم بين الفلاسفة ورجال الدين فاندفع بعض هؤلاء يكفرون أولئك، لما جاء
ابن رشد، والحالة هذه، نظر إلى المسألة لا من زاوية الفيلسوف كما فعل الفارابي
وابن سينا بل من زاوية الفقيه الذي يفتي من موقع القاضي المحايد، فكتب كتابه
الشهير: "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". وهكذا بدأ
فيلسوف قرطبة وفقيهها وقاضيها بطرح السؤال التالي: "هل النظر في الفلسفة
وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به، إما على جهة الندب وإما على جهة
الوجوب"؟
ونحن نعتقد أن هذا النوع من الطرح هو وحده الطرح الصحيح في
ما نحن بصدده. ذلك أنه سواء تعلق الأمر بسؤال الأمس حول العلاقة بين الدين
والفلسفة أو بسؤال اليوم حول العلاقة بين الإسلام والحداثة المعاصرة، فإن ترتيب
هذه العلاقة يجب أن يتم من داخل الشرع لا من خارجه. ذلك لأن المسألة تؤول في نهاية
الأمر إلى التماس حكم الإسلام، أعني الشرع الإسلامي. أما المقارنة بين الإسلام
والحداثة الأوروبية، مثلها مثل المقارنة بين الدين والفلسفة، فهي مقارنة غير
مشروعة لأن الطرفين ليسا من طبيعة واحدة. وبما أن الدين، عند أهله على الأقل، يعلو
ولا يعلى عليه، وتلك هي طبيعة الإيمان عند الناس جميعا، فإن كل ما يقع خارجه يجب
أن يلتمس المشروعية داخله وليس خارجه. على أن السؤال الذي يطرح بصيغة "هل
يقبل الإسلام الحداثة أو الديمقراطية أو... " هو سؤال يطلب حكم الشرع بصريح
العبارة. وأحكام الشرع في الإسلام تندرج كما هو معروف تحت خمس جهات: الواجب،
والممنوع، والمندوب إليه، والمكروه، والمباح.
لقد نظر ابن رشد
إلى المنطق والفلسفة من هذه الزاوية، فانطلق، بخصوص المنطق، من هذه القضية التي لا
يستطيع أن يجادل فيها أي مسلم وهي "أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في
الموجودات واعتبارها". وبما أن النظر العقلي ليس خاصا بقوم دون قوم، وبما أنه
قد سبقت إليه أمم قبل الإسلام، فإنه "يجب علينا -يقول ابن رشد- أن نستعين على
ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير
مشارك في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التذكية (يعني السكين الذي تذبح به الأضحية)
ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا
كان فيها شروط الصحة (= إذا كانت حادة تذبح بسهولة وسرعة فلا تعذب الحيوان)، وأعني
بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام". ثم يضيف
قائلا: "وإذا كان الأمر هكذا وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس
العقلية (= المنطق) قد فحص عنه القدماء أتم فحص فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا في
كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان صوابا قبلناه منهم وإن كان فيه ما ليس
بصواب نبهنا عليه".
هذا بخصوص المنطق، أما بخصوص الآراء الفلسفية فيقرر ابن رشد
في السياق نفسه أنه :"يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا
في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان (= البحث العلمي) أن ننظر
في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه وسررنا
به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه
وعذرناهم".
أعتقد أن هذه
الطريقة التي سلكها ابن رشد هي أنسب وأقوم للإجابة عن سؤالنا المعاصر : "هل
يقبل الإسلام الحداثة ومقتضياتها من ديمقراطية وعقلانية وحقوق الإنسان" الخ؟.
إن الخطوة الأولى حسب هذه الطريقة هي وضع قضايا الحداثة تلك، واحدة واحدة، في
ميزان الشرع : ميزان الوجوب والمنع والمندوب والمكروه والمباح. فالعقلانية مثلا
واجبة لأن "الشرع أوجب النظر العقلي في الموجودات واعتبارها"، حسب تعبير
ابن رشد. أما الديمقراطية والاشتراكية وحقوق الإنسان الخ، فيمكن أن يلتمس لها هي
الأخرى حكم الوجوب كما في العقلانية، وذلك بتوظيف مفاهيم "الشورى"
و"تكريم الإنسان" والدعوة إلى "العدل والإحسان" وغيرها من
المفاهيم الواردة في القرآن والحديث، بصيغة فعل الأمر، في كثير من الأحيان. على أنه
يمكن الرجوع بجميع قضايا الحداثة المعاصرة إلى أصل واحد هو المصلحة العامة. فما
كان منها يحقق المصلحة، مصلحة الإنسان كفرد ومصلحة المجموع، فهو واجب أو على الأقل
مندوب إليه. وعلى العموم، فكل ما لم ينص القرآن والسنة الصحيحة على منعه فهو مباح.
فإذا طرحنا مثلا مسألة الديمقراطية بالصيغة التالية : أيهما يحقق المصلحة العامة
أو أقرب وأجدر بتحقيقها، هل حكم الفرد المستبد أم الحكم الذي يقوم على الانتخاب
الحر النزيه وعلى المراقبة الفعلية للحكام، فإن الجواب لا يحتمل غموضا ولا
التباسا. إن الشرع مع الانتخاب والمراقبة لأنهما أقرب إلى الشورى من أي شيء آخر.
وكذلك الشأن في القضايا الأخرى وكلها تقبل مثل هذا الطرح.
يبقى بعد ذلك البحث
في وجوه المصلحة ودرجاتها وأنواعها، وهذه هي الموضوعات التي يجب أن ينصرف إليها
النظر والاجتهاد. والاختلاف فيها سيكون اختلافا مقبولا ومشروعا لأنه سيكون في
الفروع، وهو من قبيل اختلاف الأئمة، مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم.
يمكن أن نخرج مما
تقدم بقول مجمل حول قضية "التراث والحداثة"، وهو أن ترتيب العلاقة بين
قضاياهما يتطلب المعرفة بكل منهما معرفة كافية. وأصالة ابن رشد في هذا المجال ترجع
إلى أنه كان فيلسوفا وفقيها في الوقت نفسه. لقد أدلى في موضوع العلاقة بين الحكمة
والشريعة بفتوى فلسفية (عقلية) لا من موقعه كفيلسوف، بل من موقعه كفقيه. إن
المعرفة بالتراث أمر ضروري للدفاع عن الحداثة وتأصيلها، كما أن تطبيق الشريعة في
الزمن المعاصر يتطلب المعرفة بما يشكل قوامه ومعاصرته. وقد سبق لابن خلدون -حفيد
ابن رشد في هذا المجال- أن أفتى بوجوب المعرفة بالتراث العربي الإسلامي على كل من
يخوض في الفلسفة وعلومها، فقال : "فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها،
وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه،
ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم لذلك من معاطبها".
وهذا الموقف هو في الحقيقة موقف أكثر الفقهاء بما في ذلك ابن رشد.
نستطيع أن نقرب
عبارة ابن خلدون إلى مشاغلنا ولغة عصرنا فنقول : إنه لا بد من الامتلاء بالثقافة العربية
والتراث العربي الإسلامي عند الخوض في الحداثة الأوروبية الحديثة وقضاياها
وإمكانية تبنيها أو اقتباس شيء منها. فالامتلاء بالثقافة العربية الإسلامية، وهي
ثقافتنا القومية، هو امتلاء الهوية. وبدون هوية ممتلئة بمقوماتها يكون الانفتاح
على الثقافات الأخرى، خاصة المهيمنة منها، مدعاة للانزلاق نحو الوقوع فريسة
للاستلاب والاختراق.
إذا كان لنا أن نخرج بنتيجة عامة من الفقرات الماضية التي
عرضنا خلالها لمقومات المشروع النهضوي العربي كما يمكن التفكير فيه من زاوية إرادة
المستقبل، إرادة التغيير، وجب القول : إن أول مهمة تواجه اليوم من يروم التفكير في
المستقبل العربي، هي مهمة إعادة بناء الأهداف. ذلك لأن التفكير في المستقبل بدون
استحضار أهداف واضحة يراد أن تتحقق فيه نوعا من التحقق هو تفكير يبتعد عن
استراتيجية إرادة المستقبل ويتجه نحو الحزر والتخمين والاستشراف انطلاقا من الواقع
القائم. وكما أكدنا ذلك قبل فنحن هنا لا نقف موقف العراف ولا موقف المستشرف المشيد
لسيناريوهات، بل ننطلق من إرادة التغيير ومن الاقتناع بضرورته. ولذلك سيتجه
اهتمامنا إلى إعادة بناء الأهداف انطلاقا من تغيير وجهة النظر واتجاهه، نتيجة ما
حصل من تطور على الصعيد العالمي والعربي معا، وانسجاما كذلك مع طبيعة المرحلة
القادمة.
لقد لخصنا أهداف
المشروع النهضوي العربي الذي تبلور في مثل هذا الوقت من القرن التاسع عشر في هدفين
رئيسيين : الوحدة والتقدم، وعرضنا بالمراجعة والنقد لهذين الهدفين على ضوء معطيات
عتبة هذا القرن الذي بدأنا نلج فيه، معطياتها الدولية والعربية. وكما أوضحنا سابقا2 [2]، فلقد حقق العرب أشياء على طريق "الوحدة والتقدم" ولكنهم لم
يتمكنوا لحد الآن من تحقيق ما يمكن أن يكون تجاوزا أو بداية لتجاوز هذين الهدفين.
وبما أنه لا يمكن العدول عنهما إلى غيرهما، إذ ليس هناك ما يقوم مقامهما كإطار
لمشروع عربي مستقبلي جدير بهذا الاسم، فإن أي تفكير في المستقبل، من زاوية الإرادة
والتغيير، سيكون حتما واقعا داخل هذين الهدفين كليهما.
ذلك أنه إذا كان من الممكن القول بإمكان الشعوب والدول
العربية أن تستغني عن هدف "الوحدة" وأن تتمسك بهدف "التقدم"
وحده، فإن المعطيات القائمة الآن، عربيا ودوليا، إضافة إلى تحديات المستقبل كما
تبدو على المدى المنظور، تشير إلى أن تقدم الدول العربية منفردة يتوقف على مدى
التنسيق بينها في إطار من التضامن والتكامل والوحدة. وإذن فـ "الوحدة والتقدم" هدفان لا
يمكن الاستغناء عنهما في أي تفكير أو عمل عربي تحركه إرادة المستقبل، إرادة
التغيير في اتجاه الأفضل والأحسن. ولكن بما أن المعطيات العربية والدولية التي
أطرت التفكير والعمل من أجل هذين الهدفين، خلال القرن الذي ودعناه، قد تغيرت شكلا
وموضوعا، فإن استمرار التفكير فيهما بالطريقة نفسها التي سادت خلال ذلك القرن، لم
يعد ممكنا. وإذن فمن الضروري ونحن نتجه إلى المستقبل، إلى القرن الحادي والعشرين،
أن ننظر إلى
(2)
الإشارة هنا إلى "ما تقدم" في الكتاب
"الوحدة
والتقدم" من الزاوية التي تعكس المعطيات التي باتت تفرض نفسها على الحاضر
والمستقبل، سواء منها ما كان كامنا في الماضي أو ما هو وليد الحاضر.
وفي هذا الإطار، إطار التفكير في "القديم"
و"الجديد" والمقارنة بين ما ينتمي إلى "الماضي" وما هو من
إفرازات الحاضر، نرى من المفيد لفت الانتباه، مرة أخرى، إلى تلك المفارقة التي
طبعت وتطبع علاقة الفكر العربي الحديث والمعاصر بـ "الجديد" الذي ينتصب
أمامنا. وكما كان الشأن في القرن التاسع عشر، فإن "جديد" الفكر العربي
لم يخرج من جوف قديمه، بل هو منقول إليه من الفكر الأوروبي. وبما أن
"الجديد" لا يبقى في موطنه جديدا دائما إذ سرعان ما يدخل في حيز القديم
بصورة ما وبدرجة ما، وأيضا فبما أن نقله إلى موطن آخر يتطلب وقتا لقبوله وتبنيه...
فإنه كثيرا ما يحدث أن يفقد المنقول جدته ويدخل في مجال "القديم" في
موطنه الأصلي، بينما يقدم كمشروع للمستقبل في الموطن الذي ينقل إليه.
ذلك ما حصل لشعارات
الفكرة القومية والحداثة والتقدم وغيرها من شعارات الجديد في أوروبا والغرب عامة
خلال القرن الماضي. فالقومية التي كانت شعارا مستقبليا في القرنين الثامن عشر
والتاسع عشر في أوروبا، قد تحولت هناك في القرن العشرين -أعني في الوقت الذي اتخذت
فيه شعارا للمستقبل العربي- تحولت إلى مقولة بغيضة ترتبط بالتعصب العرقي والوطني
وبالنزاعات الدينية والحروب المهولة (الحروب القومية في أوروبا والحربان
العالميتان) فصارت الدعوة للفكرة القومية والعمل لها في الوطن العربي مرتبطة لا
بحاضرها في أوروبا بل بمستقبلها الماضي هناك، المستقبل الذي تم تجاوزه بتحقيقها.
وكذلك الشأن في
مقولة "الحداثة" التي دخلت مع أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين،
في أوروبا موطنها الأصلي، في مرحلة ساد فيها وجهها الآخر، وهو بالنسبة للعرب وجه
عدواني متعدد الجبهات : الاستعمار، الصهيونية... وبالنسبة لأوروبا وجه الأزمة
والخيبة : الاستغلال الرأسمالي والتنافس القومي والصراع الطبقي... وهكذا وجد العرب
أنفسهم مشدودين إلى ماضي كل من الفكرة القومية والحداثة، أعني فكر
"الأنوار"، فكر القرن الثامن عشر، وليس إلى حاضرهما في القرن التاسع عشر
والقرن العشرين. إن ما يريدونه منهما هو مستقبلهما الماضي الذي لم يتحقق، وليس ما
آلتا إليه. تلك هي المفارقة التي عانى منها المشروع النهضوي العربي خلال القرن
العشرين.
واليوم يعيش العرب، وهم على عتبة القرن الحادي والعشرين،
مفارقة أخرى مماثلة للأولى وان اختلفت عنها في بعض جوانبها. ذلك أن الواقع السائد
الآن في الوطن العربي هو ما سبق أن أطلقنا عليه منذ بداية الثمانينات اسم
"الدولة القطرية"، وهو الاسم الذي شاع بعد ذلك بسهولة لأنه يسمح بالتخلص
من التناقض الوجداني الذي أثاره في الضمير العربي اسم "الدولة الوطنية"
في وقت كانت "دولة الوحدة" ما تزال شعارا لم يتقادم بعد.
لقد تطورت
"الدولة القطرية" هذه، سواء على صعيد الواقع أو صعيد الوجدان إلى دولة
وطنية : دولة قومية في حدود القطر العربي الواحد، وهي الآن ليست فقط "مجرد
أمر واقع" بل هي في وجدان الأغلبية الساحقة من أبنائها مشروعا للحاضر
والمستقبل. وهكذا دخل شعار "دولة الوحدة" مثلها مثل نقيضها
"التجزئة" في حيز فكر الماضي وصار الحاضر والمستقبل كلاهما للدولة
القطرية الوطنية بوصفها حقيقة أولية، موضوعية وذاتية، لها نفس مقومات الدولة
"الدولة/ الأمة" في أوروبا، وهذه المقومات هي:
- الاستقلال الجغرافي الذي جسمته في أوروبا حدود واضحة
معترف بها تفصل بين قطر وآخر، بين مجموعة عرقية -حقيقية أو وهمية- وأخرى، وتفرض
أداء الحقوق الجمركية كشرط لتنقل السلع، والإدلاء بجوازات السفر لتنقل البشر، بما
فيهم الأقارب وأبناء العمومة...
- والاستقلال الاقتصادي الذي جسمه التنافس بين الدول
الأوروبية في تحقيق التقدم داخل حدودها، والهيمنة على الطرق التجارية والمواقع
الاستراتيجية ومنابع الثروة والمواد الأولية في "ما وراء البحار" (أي
خارج أوروبا).
- والاستقلال
السياسي الذي كرسه وحافظ عليه مبدأ عدم تدخل الدول الأوروبية في الشؤون الداخلية
لبعضها بعضا والتعامل على قدم المساواة في علاقاتها الخارجية.
هذه الدولة الوطنية -الدولة/الأمة- التي سادت في أوروبا
خلال القرن التاسع عشر وإلى الربع الأخير من القرن العشرين، والتي غدت وما تزال
النموذج اـ "الدولة" في الوطن العربي، سواء دولة الحلم (دولة الوحدة) أو
دولة الواقع (الدولة القطرية)، قد أصبحت الآن شيئا من مخلفات الماضي في أوروبا
والغرب عامة. إن المستقبل كما يفكر فيه هناك اليوم سيكون مجالا للعولمة والكونية،
لا معنى فيه للاستقلال الجغرافي والاقتصادي والسياسي والثقافي… وها هي بدايات
القرن الواحد والعشرين تشهد تنامي الاتحاد الأوربي، وأفول الدولة/الأمة وبالتالي
تراجع الفكرة القومية كما تجسدت في الدولة القطرية.
ومثل الفكرة القومية في ذلك مثل "الحداثة" ككل.
لقد بدأ نقد الحداثة في أوروبا منذ أواخر القرن التاسع عشر واستمر طوال القرن
العشرين، في مختلف المجالات: مجال الفلسفة والأخلاق والأدب كما في مجال الاقتصاد
والاجتماع والسيكولوجيا والسياسة. وقد اختلط الأمر على الفكر العربي طيلة هذا
القرن فارتبط، وهو يطلب الحداثة، بالتيارات الناقدة للحداثة المشهرة بإخفاقاتها،
وها هو اليوم يواصل التغني بالحداثة كمطلب وشعار ويردد في الوقت نفسه مقولات تنتمي
في أوروبا إلى ما يعبر عنه اليوم هناك بـ "ما بعد الحداثة".
واضح إذن أن إعادة بناء الأهداف في المشروع النهضوي العربي
بالصورة التي تجعله يستأنف الحياة في الحاضر والمستقبل تتطلب الانطلاق من المعطيات
الجديدة التي يبدو الآن أنها ستطبع المستقبل العربي على المدى المنظور على الأقل.
إنه عالم "ما بعد" الذي يتوجب التعرف عليه وعلى ممكناته.
إن إعادة بناء أهداف المشروع النهضوي العربي تتطلب، كما
قلنا، الأخذ بعين الاعتبار الكامل ليس العوامل الداخلية وحدها بل الظروف والتطورات
الدولية أيضا. وبعبارة أخرى، إن وضع الوطن العربي في القرن الحادي والعشرين سيكون
محكوما، إلى حد كبير، بما يسود هذا القرن من تيارات واتجاهات وقوى على الصعيد
العالمي، وبكيفية خاصة تلك التي مركزها الغرب الذي يشكل، وسيبقى يشكل لمدة من
الزمن، لا سبيل إلى تقديرها، القوة المهيمنة على العالم بفكره وتقانته وقواه
الاقتصادية والعسكرية. ولما كانت عملية إعادة بناء الأهداف عملية فكرية بالأساس،
فإنه من الضروري استحضار التأثير الذي يمارسه الفكر الغربي على رؤانا الفكرية
المعاصرة، ومن بينها تصورنا لأهداف المشروع النهضوي العربي مستقبلا.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بد من استحضار الدور الذي
ستلعبه القوى المعادية والمنافسة للمشروع النهضوي العربي اليوم وغدا، سواء في
مرحلة رسم الأهداف أو في مرحلة تحديد استراتيجيات التخطيط لها والعمل لتحقيقها.
لقد تأثر المشروع النهضوي العربي الحديث الذي تبلور في أواخر القرن التاسع عشر،
سواء في صياغة أهدافه أو أثناء العمل من أجل تحقيقها خلال القرن العشرين، بما ساد
في الغرب آنذاك من تيارات حصرناها في ثلاثة رئيسية : الحداثة الأوروبية، الحركة
الصهيونية، الاشتراكية العالمية. وقد عرفت هذه التيارات تطورات هامة خلال هذا
القرن، وستشهد تحولات أخرى خلال القرن المقبل بدون شك. ولما كانت العلاقة بين
الغرب وتياراته ومشاريعه من جهة، والوطن العربي من جهة أخرى، لم يطرأ عليها أي
تغيير جوهري إذ بقيت إلى الآن وستبقى -على الأقل في المدى القريب- من نوع علاقة
السيد بالعبد (السيد سيد على العبد ولكنه يحتاج إليه ويتوقف عليه في كثير من جوانب
حياته)، فإنه من المنتظر أن يسري تأثيره على الوطن العربي عبر التيارات نفسها في
صورتها الجديدة. إن هذا يعني أنه علينا أن نتعرف أولا على نوع التطور الذي حصل
ويحصل في التيارات الثلاثة المذكورة في أفق القرن الحادي والعشرين حتى نكون على
وعي بنوع التأثير الذي ستمارسه تلك التيارات، في صورتها الجديدة، على ما نحن
مطالبون به من إعادة بناء أهداف المشروع النهضوي العربي ورسم معالم مساره الجديد.
فما هي إذن حقيقة التطورات التي حصلت والتي هي بصدد الحصول
في كل من الحداثة الأوروبية والحركة الصهيونية وحركة الاشتراكية العالمية، في أفق
القرن الحادي والعشرين ؟
يمكن القول، بصفة عامة، إن كل واحد من هذه التيارات يجتاز
الآن مرحلة انتقالية غير قابلة للتحديد الماهوي. ولذلك فإن الوصف الذي يعبر عن
طبيعتها الراهنة هو : الـ "ما بعد" : ما بعد الحداثة، ما بعد الصهيونية،
ما بعد حركة الاشتراكية العالمية. ومفهوم الـ "ما بعد" هنا لا يفيد وجود
خط فاصل بينه وبين ما كان وما هو كائن، بل يعني الاستمرارية في شكل جديد عبر منعطف
تختلف زاوية الانعطاف (أو الانحراف) فيه من مكان لآخر ومن زمن لآخر. قد يكون هذا
الانعطاف محكوما بما حصل من تقدم في الاتجاه الأصلي نفسه، وقد يكون سببه انبعاث ما
ترك على الهامش أو ما أهمل إهمالا خلال السير.
وإذا كان مفهوم "ما بعد الحداثة" رائجا اليوم
بكثرة في الخطاب العربي الذي يتخذ الفكر الغربي مرجعية له، بصورة أو بأخرى، فإن
رواجه لا يعني أن مستعمليه من الكتاب العرب يستحضرون جميعهم أبعاده وتأثيره على
الرؤية ومجالاتها في الساحة الفكرية الحداثية العربية، هذا فضلا عن تعدد الدلالات
التي تعطى لهذا المفهوم في الفكر الغربي نفسه. ولما كانت علاقتنا بالغرب هي
الأساس، إذ تندرج تحتها علاقتنا بالصهيونية وغيرها من التيارات الخارجية، ولما
كانت هذه العلاقة تمر في الوقت الراهن، وفي المجال الفكري خاصة، عبر الفلسفات
والإيديولوجيات التي تنظر في الغرب لمرحلة "ما بعد الحداثة" وقيمها،
فإنه من الضروري الوقوف قليلا مع هذه الفلسفات والإيديولوجيات لتوضيح أسسها
وآفاقها بهدف اكتساب ما يكفي من الوعي النقدي إزاء قيمها ومفاهيمها التي أخذنا
نستهلكها ونروج لها وكأنها جزء ضروري في حداثتنا وشرط لازم لنهضتنا.
وقد تكفي هنا، لإثارة الانتباه وتوجيه الاهتمام إلى هذه
المسألة، الإشارة إلى أن فلسفات وإيديولوجيات "ما بعد الحداثة" في الغرب
تروج لقيم وشعارات وآراء ونظريات ليست كلها ضرورية ولا حتى مفيدة لنا في عملية
إعادة بناء أهداف مشروع نهضتنا. من ذلك مثلا: التركيز على الفرد بدل الجماعة، وعلى
الاختلاف بدل الائتلاف والوحدة، وعلى الاثنيات بدل الأمة من جهة، وترويجها، من جهة
أخرى، لنظريات حول "نهاية الأمة"، ونهاية السياسة، ونهاية الديمقراطية،
ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات الخ... وكما أنه من غير المعقول الوقوف موقف الرفض
والعداء إزاء مناقشة هذه القيم والنظريات وأخذها بعين الاعتبار، بوصفها تبرز ما
كان مهمشا أو مهملا وتحاول استشفاف اتجاه التطور من زاوية أخرى غير الزاوية
"الرسمية"، فإنه من غير المعقول كذلك الانسياق معها وكأنها حقائق لا
مناص منها، تفرض نفسها على عالم اليوم والغد وعلى جميع الأمم والشعوب. إن النظرة
التاريخية النقدية ضرورية هنا، والآن، أكثر من أي وقت مضى.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، لا بد من الأخذ بالحسبان كذلك أن
انهيار "الاشتراكية العالمية" ممثلة في المعسكر الشيوعي وعلى رأسه
الاتحاد السوفيتي سابقا، لا يعني بحال من الأحوال نهاية المسألة الاجتماعية، ولا
"نهاية التاريخ". ذلك أن ما حرك الصراع بين الليبرالية والاشتراكية هو
شيء ما زال قائما وبصورة أكثر تفاقما، نقصد بذلك الفوارق الطبقية والاستغلال
الرأسمالي والهيمنة الإمبريالية. وبعبارة أخرى، إن المسألة الاجتماعية لم تذب ولم
تحل، بل هي في استفحال وتفاقم في جميع البلدان، "المتقدمة" منها
و"المتخلفة" سواء بسواء. وإذا
كانت "الاشتراكية العالمية" كفكر ونظام وحركة لم تنجح في حل المسألة
الاجتماعية، فإن بقاء هذه المسألة وتفاقمها يطرحان الحاجة إلى "ما بعد":
إلى معالجة جديدة، نظرية وعملية، لهذه المسألة، مسألة الفقر والحرمان واستفحال
الفوارق الطبقية وما ينشأ عنها أو يرافقها من ردود وأفعال تكتسي اليوم في كثير من
البلدان طابعا ممنهجا على صعيد الفكر (التطرف) وعلى صعيد العمل (الإرهاب والإرهاب
المضاد).
ومن جهة ثالثة لا بد من الأخذ في الحسبان التطورات التي
حصلت وتحصل الآن وغدا على أرض فلسطين التي كانت وستظل -في المستقبل المنظور على
الأقل- قلب القضية العربية، وبالتالي عنصرا أساسيا في مستقبل النهضة العربية. إن
عبارة "ما بعد الصهيونية" التي اخترنا استعمالها في هذا المجال تعبر
بدورها عن وجود منعطف يصعب تحديد اتجاهه ومداه، سواء بالنسبة للفكرة الصهيونية
ذاتها أو للقضية العربية.
ذلك أنه لم يعد ممكنا، لا دوليا ولا إقليميا، تحقيق الحد
الأقصى الذي كان يشكل "الهدف" النهائي في الصراع العربي الإسرائيلي لكلا
الطرفين. إن شعار "من النيل إلى الفرات" الذي رفعته الصهيونية، مثله مثل
شعار "تحرير فلسطين، كل فلسطين" الذي رفعته الحركة القومية العربية، لم
يعد من الممكن اليوم التلويح بأي منهما كبرنامج للمستقبل المنظور على الأقل. إن
اعتراف العرب بإسرائيل الحالية واعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية وبـ
"الحكم الذاتي" للفلسطينيين في الضفة والقطاع وتزايد القبول في المجتمع
الإسرائيلي بدولة فلسطينية، إن هذه التطورات الحاصلة فعلا تجعل المرحلة المقبلة
مجالا لتطورات محتملة لا يمكن تحديدها الآن أي نوع من التحديد، وبالتالي فكل ما
يمكن وصفها به هو أنها : مرحلة "ما بعد" اعتراف العرب بـ
"الوجود" لإسرائيل واعتراف إسرائيل بـ "الوجود" للفلسطينيين…
نقول الاعتراف بـ "الوجود"، وليس "الاعتراف"، هكذا بشكل مطلق،
لأن الوجود هنا يسبق الماهية. إن الماهية -والتطبيع جزء منها- مشروع للمستقبل،
وبالتالي فهي تنتمي إلى "ما بعد".
ولابد من أن نسجل هنا أن الـ"مابعد" بالنسبة
للقضية الفلسطينية يطرح نفسه اليوم بشكل ملح وبصورة لم يسبق لها مثيل. لقد كان
الاتجاه من قبل، وهو الذي قام عليه "مسلسل أوسلو" هو قيام دولة
"ثانية" في فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل. والذين فكروا في حل
"القضية" على هذا الأساس بنوا تفكيرهم على "الممكن الذهني"
وليس على "الممكن الواقعي". واليوم وبعد مفاوضات ماراطونية دامت أزيد من
سبع سنوات بدأ يتضح، كلما اقتربنا من "الممكن الواقعي"، أن الوضع لم يعد
يقبل، لا على صعيد "الذهني" ولا على صعيد "الواقعي"، وجود
دولتين متمايزتين تكون لكل منهما هوية قومية خاصة بها. إن ما يطبع الوضع الراهن في
عموم فلسطين هو "التداخل" البنيوي الذي يجعل من الدولتين الإسرائيلية
والفلسطينية دولتين متداخلتين. إن انتفاضة القدس قد كشفت عن حقيقة أن "عرب
إسرائيل"، أعني الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية والمنحدرين من حرب 1948 هم
فلسطينيون كما كانوا دائما. وإذا ما قامت غدا دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة
في الضفة والقطاع، مهما شكل هذه الدولة، فإنهم سيكونون "مواطنين" في
دولة إسرائيل اعتبارا للأرض التي يقيمون فيها، ومواطنين في دولة فلسطين بالهوية
القومية. وفي المقابل سيكون المستوطنون الإسرائيليون –الذين لا ينتظر أن تقبل
إسرائيل في ظل الوضع الراهن أن يغادروا كلهم مستعمراتهم- مواطنين بالهوية القومية
في دولة إسرائيل يقيمون في أرض دولة فلسطين. وإذا أضفنا إلى ذلك العمال
الفلسطينيين الذين يدخلون إسرائيل يوميا من أجل العمل هناك، وهم نحو مائتي ألف،
والذين هم في حاجة إلى هذا "العمل" خارج الوطن/الدولة، وداخل
الوطن/الأرض المغصوبة، بقدر ما هي دولة إسرائيل في حاجة إليهم، وهي تفضلهم على
غيرهم على الأقل لأنهم لا يسكنون أرضها ولا هم مقيمون في دولتها، وأضفنا كذلك
العلاقات التجارية بين التجار ورجال الأعمال في الجهتين، وعلاقات التداخل الأخرى
على صعيد الماء والزراعة والتسويق والإنتاج والاستهلاك الخ، والتداخل على صعيد
الأماكن الدينية المقدسة للطرفين (حائط البراق عند المسلمين هو نفسه حائط المبكى
عند اليهود، وهؤلاء يدعون ويؤمنون بأن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى الخ)، إذا
أدخلنا في الحساب هذه الأنواع من التداخل الذي يستعصي على أي نوع من "فك
الارتباط"، أدركنا أي تعقيد وأي تشابك سيطبع العلاقات بين الطرفي: تشابك لا
يمكن تنظيمه ولا ترتيبه في إطار دولتين، كل منهما تحمل في جوفها أجزاء من الأخرى.
من هنا يبدو لي أن الحل العقلاني الوحيد الممكن –ولو أنه
حالم- هو قيام دولة اتحادية واحدة على غرار الاتحاد السويسري، دولة قوامها مجموعة
من الكانتونات، بعضها علماني وبعضها ديني، وبعضها بين بين. دولة تجد فيها جميع
الطوائف والاثنيات مكانا خاصا بها في شبه استقلال، في إطار من التبعية للدولة
الفيدرالية. هذا هو الشكل العقلاني الممكن لدولة تكون عاصمتها الفيدرالية هي القدس
الموحدة جغرافيا والمتعددة -لا المنقسمة- سياسيا وثقافيا ودينيا واثنيا. إنه حل
يبدو لي، الآن على الأقل، الحل الوحيد الممكن إزاء ما تعانيه القضية الفلسطينية من
وضعية أشبه ب"المأزق" وما تعيشه الدولة الصهيونية الآن من وضعية
"أزمة وجود". ولا
أدل على ذلك من فشل مفاوضات "الوضع النهائي" بل وعدم قدرة إسرائيل على
البت في أي "حل نهائي" يعتمد قرارات مجلس الأمن القاضية بالانسحاب إلى
ما قبل حرب 1967، وهي القرارات التي يتمسك بها العرب كمرجعية للشرعية الدولة. لذلك
نرى إسرائيل اليوم تقول إن كل ما تستطيع فعله هو الدخول في مفاوضات من أجل حل
مرحلي "طويل المدى"!! وهذا لا يفسره إلا شئ واحد وهو أن إسرائيل تدرك
الآن جيدا أن الحل النهائي يقتضي إقبار الفكرة الصهيونية إلى الأبد!
يبقى بعد ذلك التنظيم العملي لهذه الدولة التي نستوحي فيها
النموذج السويسري دون أن ندعو إلى استنساخه، بل ولا نفكر في إمكانية النسج على
منواله لاختلاف الأوضاع والظروف والملابسات. إن بناء النموذج الفيدرالي لفلسطين
على أساس كانتونات موضوع للاجتهاد. كما أن تحقيق هذا النموذج واقعيا لا يمكن تحديد
موعد له. كما أنه يتطلب مواصلة الكفاح وصرف النظر نهائيا عن "التطبيع"
إلى أن يتحقق النموذج.
هذا الانفتاح على نموذج غير محدد وزمن غير معين يبرره هنا
أننا نفكر في "المشروع الحضاري النهضوي العربي" في أفق قرن كامل من
الزمن: القرن الواحد والعشرين!
(*) نص المداخلة التي ساهمنا بها في ندوة "المشروع الحضاري
النهضوي العربي" التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية، بمدينة فاس، أيام
23-26 إبريل 2001
[1] - هناك
نصوص أخرى كتبتها في مرحلة سابقة تلتقي مباشرة مع البحث المقترح علي في هذه الندوة
مثل البحث المدرج في كتابي "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" بعنوان
"المشروع الحضاري العربي بين فلسفة التاريخ وعلم المستقبليات"، والأبحاث
التي جمعتها في كتابي"قضايا في الفكر العربي المعاصر" وهي تتناول :
العولمة، وصراع الحضارات، وعودة الأخلاق، والديموقراطية ونظام القيم في الثقافة
العربية الخ، مما له صلة مباشرة بالموضوع.