ص1     الفهرس  31-40

موقع البيوتيقا في إطار المعرفة المعاصرة

(القسم الثاني)(*)

 

عمر بوفتاس

2 ـ البيوتيقا والقانون:

إن النتائج المحققة والمحتملة في الميدان الطبي/البيولوجي، وخاصة في إطار تقنيات الإنجاب الحديثة وتقنيات الهندسة الوراثية، أقنعت السياسيين والرأي العام على حد سواء، أنه لم يعد ممكنا ترك التجريب والبحث العلميين في المجال الطبي/البيولوجي، ولا محاولة التحكم في ولادة الإنسان وموته وجهازه العصبي، ولا التصرف في الجينات البشرية في يد العلماء الاختصاصيين وحدهم، مادام الأمر مرتبطا بالوجود البشري ومصيره، وهويته وكرامته ومستقبله على ظهر الكرة الأرضية؛ ولذلك تقرر –محليا ودوليا- أن يتدخل علماء الأخلاق ورجال الدين والسياسة، وعلماء النفس والاجتماع، وخاصة الفلاسفة ورجال القانون: جهود متضافرة من أجل تسطير قواعد أخلاقية يلزم أن يراعيها الباحثون في المجال الطبي/البيولوجي. وقد حققت أخلاقيات الطب والبيولوجيا خطوة هامة حين اتخذت طابعا أكثر إلزامية لما أصبحت ترتبط أكثر فأكثر بالقانون، فأين يتجلى الارتباط القائم بين البيوتيقا بالقانون؟

"علاقة البيوتيقا بالقانون" موضوع قائم بذاته يحتاج لمقال مستقل سننجزه إذا أتيحت الفرصة لذلك، أما الآن فسنكتفي بهذه الخطوط العريضة:

- منذ الأربعينات من القرن الماضي والأصوات تتعالى وتحذر من مخاطر الأبحاث الطبية/البيولوجية، وقد ازدادت حدة هذه التحذيرات مع توالي العقود، إلا أن العقدين الأخيرين من القرن العشرين عرفا، بسبب تزايد وتفاقم المشاكل الأخلاقية التي يطرحها المجال الطبي/البيولوجي من جهة، وبسبب الفراغ القانوني الحاصل في هذا المجال من جهة ثانية، سعيا حقيقيا للانتقال من الأخلاق إلى القانون؛ ولقد أدى ذلك بالتالي إلى تطور القضايا البيوتيقية من جهة، وإلى تطور القانون بدوره من جهة ثانية.

- يمكن أن نقول، بناء على ما سبق، أن الفكر الأخلاقي الجديد هو أيضا فكر قانوني جديد، وأن "العودة إلى الأخلاق"، في المجال الطبي/البيولوجي، صاحبتها "عودة إلى القانون"، وقد تم تتويج هذه العودة إلى الأخلاق، أو ما يسميه البعض أيضا بـ: "الانتقال من الأخلاق إلى القانون"، بإنشاء مبحث قانوني جديد يهتم بتنظيم القضايا المستجدة في ميادين الطب والبيولوجيا والصحة، وقد أطلق عليه اسم: "القانون الطبي/ البيولوجي = BioLaw = Biodroit"، ويختلف القانون الطبي/البيولوجي عما يعرف بالطب الشرعي = Médecine légale: فإذا كان القضاء والعدالة يستعينان بالخبرة الطبية لحل مشكلات قانونية في إطار "الطب الشرعي"، فإنه –على خلاف ذلك-  يستعين الطب والبيولوجيا، في إطار "القانون الطبي/البيولوجي"، بالقانون لتسوية معضلات أخلاقية تثيرها الممارسة الطبية/البيولوجية .

- لقد ارتكزت العودة إلى القانون –في المجال الطبي/البيولوجي- على مبادئ حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ارتباطها بالأخلاقيات التطبيقية وآداب مهنة الطب، ولذلك تطرح الحركة البيوتيقية معضلة كبيرة يمكن تشخيصها بالتساؤلات التالية: هل البيوتيقا –في حقيقتها– عودة إلى الأخلاق أم عودة إلى القانون؟ ويبين الوقوف على نشأة وتطور وحركية البيوتيقا أن الأمر يتعلق بتداخل بين الأخلاق والقانون أو بانتقال من الأخلاق إلى القانون أو بتحويل تدريجي للمعايير الأخلاقية إلى قواعد قانونية، إلا أن عملية تقنين المجال الطبي/البيولوجي ترتبط بحركة حقوق الإنسان التي نشطت في هذا المجال، مستنكرة ما يحصل فيه من تجاوزات لهذه الحقوق، ومنددة بما يعرفه من انتهاك لكرامة الإنسان، ومنبهة لما يمكن أن يهدد الوجود الإنساني والبيئة الملائمة لهذا الوجود من جراء ما يحصل في هذا المجال من تجارب وأبحاث؛ ومن جهة أخرى ترتبط حركة حقوق الإنسان بدورها بالحقوق الطبيعية للإنسان المتمثلة –أساسا– في تلبية مطالبه الأساسية التي يمكن إجمالها في التغذية والصحة والأمن والتكاثر وتوفر البيئة الملائمة.

- إن هذه المطالب تعتبر اليوم مهددة، ويعتبر التقدم التكنولوجي من أهم العوامل التي تهددها، وذلك في نفس الآن الذي يساهم فيه في تلبيتها وتطويرها، إن الإنسان، باعتباره كائنا متميزا داخل الطبيعة، يحتاج إلى تحقيق المزيد من التقدم في المجالات العلمية والتقنية والطبية، تماما كما يحتاج إلى الحفاظ على كرامته وهويته وبيئته، وهنا يبرز دور القانون لرسم الحدود بين الممكن والمحظور، بين الحقوق والواجبات، بين ما يمكن الاستفادة منه من مصالح وما يجب تحمّله من مسؤوليات.

- بناء على هذا الارتباط الذي بدأ يتقوى في الوسط الأمريكي بالتدريج، بين الأخلاق والقانون، وبالموازاة مع سيادة مبدأ "الاستقلال الذاتي للفرد" وترجمته قانونيا على المستوى التشريعي والتنفيذي والقضائي، ظهر عند الأمريكيين ما يعرف بـ: أخلاقيات المرافعة أو الأخلاق المرافعاتية = Ethique procédurale، وذلك بفعل تضاعف أشكال التقنين التي تجمع بين إقرار القانون واحترام أخلاقيات الطب والبيولوجيا، وسنقف فيما يلي عند إحدى القضايا الأخلاقية التي تم الفصل فيها عن طريق المحكمة:

قضية "Baby Doe" التي أدت إلى نتائج هامة على مستوى الممارسة الطبية في الولايات المتحدة الأمريكية: لقد حصل والدان سنة 1973 من المحكمة على إذن يأمر الأطباء المعالجين بتوقيف ما كان يبقي طفلهما على قيد الحياة من أطعمة وأدوية، وقد كان هذا الأخير يعاني من قرح أدى إلى انسداد في البلعوم يستحيل معه ابتلاع الطعام، وكان بالإمكان معالجة هذه الحالة عن طريق عملية جراحية، إلا أن الوالدين رفضا ذلك لأن طفلهما كان مصابا بالمغلية = Mongolisme، وقد أثارت هذه الحالة آنذاك ضجة إعلامية دفعت بكاتب الدولة المكلف بالصحة للتدخل في المسألة والتذكير بالقانون الأمريكي الصادر ضد التمييز تجاه المعاقين وبناء على ذلك، اتخذ قرار حرمان المستشفيات التي تخرق هذا القانون من الدعم المالي الفدرالي. لقد تلت هذه القضية قضايا أخرى مماثلة لا يتسع المقام لذكرها لعل أبرزها قضية " Baby Jane Doe " وقضية " Karen Ann Quinlan "[1]، وبذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية سباقة إلى ضبط الممارسات الطبي/البيولوجية ضبطا قانونيا في اتجاه ما يخدم مصلحة المرضى ويدعم حقوق الإنسان، وبالتالي إلى تحويل بعض أخلاقيات الطب والبيولوجيا إلى قوانين سارية المفعول، إلا أن هذا التقنين لم يكن رغم ذلك شاملا لكل الولايات، بل نجد أن كل ولاية تقبل القوانين التي تلائمها وترفض غيرها، ولذلك سنقف عند النموذج الفرنسي الذي يتميز بعموميته، مما يؤكد أكثر عالمية الفكر البيوتيقي.

يتميز النموذج الفرنسي بريادته على المستوى الأوروبي في إطار البيوتيقا وبمحاولته، منذ البداية، توجيه النقد للنموذج الأمريكي، ويتجلى ذلك في الجدال الذي دار بين المفكرين الفرنسيين حول تسمية هذه القضايا الأخلاقية الجديدة التي يثيرها التقدم العلمي/التكنولوجي في إطار الطب والبيولوجيا، حيث رفض الكثير منهم، خلال الثمانينات من القرن الذي ودعناه، استعمال مصطلح "البيوتيقا"، وفضلوا مصطلح "الأخلاق الطبية =L’éthique médicale " أو مصطلح "أخلاقيات الطب والبيولوجيا = L’éthique biomédicale"، وإذا كان بعض الباحثين يرون أن ذلك راجع إلى تأخر الفرنسيين، مثلهم في ذلك مثل باقي الأوروبيين، في هذا المجال مقارنة مع الأمريكيين، فإن هذا النقص سيؤدي –في المقابل– إلى تبلور حس نقدي لدى الفرنسيين تجاه البيوتيقا؛ أما خلال التسعينات، فسيختلف الأمر حيث سيسود مصطلح "البيوتيقا"، وسيأخذ الفرنسيون الريادة من جديد، ولكن على المستوى العالمي هذه المرة، حيث تم إصدار ما يعرف بـ: "قوانين البيوتيقا = Les lois de la bioéthique "، وهي  ثلاثة قوانين أساسية صوت عليها البرلمان الفرنسي، وذلك بعد نقاش ماراطوني بدأ منذ نوفمبر 1992 واستمر إلى غاية يونيو1994، وتفتخر فرنسا لذلك بكونها أول دولة أوروبية تتوفر على إطار تشريعي خاص بالبيوتيقا يضمن مرورها بشكل فعلي من الأخلاق إلى القانون، مما يصب في اتجاه تأكيد تشبثها العملي بحقوق الإنسان.

 إذا ركزنا على ما هو أساسي في هذه القوانين البيوتيقية الفرنسية، فسنجد أنها تؤكد على حقوق الإنسان البيولوجية وضرورة احترام الإنسان بشكل عام وجسمه بشكل خاص، إن هذه القوانين تحضر التصرف في الجسم الإنساني: فلا أحد يحق له أن يتصرف في جسم غيره سواء في حياته أو بعد مماته إلا بموافقته، كما يمنع في نفس الإطار الاتجار في الجسم الإنساني حتى من طرف صاحبه، وهذا ما يفسر إقرار السلطات الفرنسية اعتماد المواطنين على"بطاقة المتبرع"؛  نقرأ في الفصل السادس عشر من هذا القانون: "إن القانون يعطي الأولوية للشخص الإنساني، ويمنع أي نوع من أنواع النيل من كرامته، ويضمن احترام الكائن الإنساني منذ بداية حياته". ونقرأ أيضا في البند الأول من الفصل السادس عشر: "لكل واحد الحق في أن يحترم جسمه: إن الجسم الإنسان مصون ويمنع انتهاكه، ولا يمكن لأعضاء ومنتجات الجسم الإنساني أن تورث. "أما في البند الثاني من نفس الفصل فنقرأ: "يمكن للقاضي أن يتخذ كل الإجراءات اللازمة لمنع أو توقيف أي اعتداء محظور على الجسم الإنساني، أو أية تصرفات محظورة تتعلق بأعضاء أو منتجات هذا الأخير. "وأخيرا نقرأ في البند الثالث من نفس الفصل: "لا يمكن النيل من وحدة الجسم الإنساني إلا في حالة الضرورة العلاجية الخاصة بالشخص"[2].                                                                                             

لقد كان إصدار القوانين البيوتيقية "الفرنسية منطلقا حقيقيا لعملية تقنين متزايدة، محلية ودولية، للمجاال الطبي/البيولوجي، إلا أن درجة الإلزامية القانونية تختلف من بلد إلى آخر، وذلك لأن الأمر يرتبط بدور الدولة تجاه المواطنين وتجاه الفاعلين داخل المجتمع: فغياب التقنين –على سبيل المثال– على المستوى المركزي،في الولايات المتحدة الأمريكية، باستثناء ما يتعلق بزرع الأعضاء، يدل على ضعف تدخل الدولة في الحياة الاجتماعية نتيجة تقوي التوجه اللبرالي، ويوجد نفس التقليد اللبرالي وراء إصدار القانون الإنجليزي المتعلق بالتخصيب الإنساني وعلم الأجنة سنة 1990، ووراء سماح الحكومة البريطانية باستنساخ الأجنة البشرية خدمة للبحث العلمي خلال شهر غشت 2000، بينما نجد أن دولا أوروبية أخرى كفرنسا وألمانيا تتوفر على نصوص قانونية أكثر إلزامية بحيث أنها تحد من حرية الاختيار فيما يتعلق بالتكاثر الإنساني (= القانون الألماني الصادر سنة 1990) أو فيما يتعلق بحماية الأجنة (= القوانين الفرنسية الصادرة سنة 1994).

نستنتج مما سبق أن نشأة البيوتيقا ارتبطت بعملية تقنين محلية ودولية، وقد انتدبت هيآت جديدة من أجل اقتراح القوانين الملائمة للمجال الطبي/البيولوجي، وهي ما يعرف بـ: "اللجن الأخلاقية = Comités d’éthique"، فما هي طبيعة هذه المؤسسات الجديدة ؟ وما هي وظائفها الأساسية؟

يمكن اعتبار ا للجن الأخلاقية مؤسسات جديدة أو أدوات تشريعية جديدة تعرف نموا وتزايدا في العالم أجمع، وقد نشأت استجابة لأمور عدة أهمها:

+ مطالبة الباحثين والسياسيين بضرورة تحمل المسؤولية تجاه ما يطرحه التقدم العلمي/ التكنولوجي، في المجال الطبي/ البيولوجي، من مشاكل أخلاقية تمس كرامة الإنسان وتهدده في وجوده ومستقبله.

+ التماس التأطير للممارسات التجريبية المجددة في هذا المجال.

+ الوعي بضرورة إقامة جسر تواصل بين العلم التجريبي الموضوعي من جهة، وبين مختلف المظاهر الرمزية للعالم التي تنتجها الأخلاق والأديان والفلسفات والآداب من جهة ثانية.

+ الحاجة إلى مراقبة وفحص دقيقين ينظمان ممارسات العاملين في ميادين علوم الحياة والطب والصحة، وذلك إما على ضوء القيم والمبادئ الأخلاقية، حسب توجه البيوتيقا الأمريكية، أو من وجهة نظر تنطلق من عالمية حقوق الإنسان، حسب التوجه الأوروبي والفرنسي بشكل خاص. وعلى غرار الفكر البيوتيقي، ظهرت اللجن الأخلاقية في الولايات المتحدة وكندا، وذلك منذ بداية الستينات من القرن الماضي، وتنقسم إلى نوعين أساسيين حسب ميادين الممارسة التي ترتبط بها وهي: "لجن أخلاقيات البحث العلمي = Institutional Review Boards" و"لجن أخلاقيات الطب العيادي = Hospital Ethics Committee"، وسنقتصر على ذكر النموذج الأول: يتمثل العمل الأساسي الذي تقوم به لجن أخلاقيات البحث العلمي في مراجعة مسألة الموافقة الواعية وسرية المعلومات الخاصة بالمرضى أو الأشخاص الذين تجرى عليهم التجارب، وإذا  كانت هذه اللجن ترجع -في أصلها- إلى الحاجة لحماية الأشخاص من مخاطر الأبحاث والتجارب العلمية، فإن السلطات الأمريكية لمّا سمحت لمؤسسات البحث العلمي أن تتحمل بنفسها مسؤولية فحص ومراقبة الطبيعة الأخلاقية لمشاريع البحث، قد فتحت الباب أمام ظهور أهداف أخرى، ويعتبر بعض الباحثين ذلك مجازفة من طرف الحكومة الأمريكية، إلا أنها مجازفة ديموقراطية أدت إلى تحمل الوسط العلمي لمسؤولياته بنفسه؛ وإذا كان بعض الباحثين يعتبر ذلك القرار إيجابيا ويؤكدون أن هذه المؤسسات قد استطاعت رفع التحدي، فإن البعض الآخر يرى أنه من السابق لأوانه الجزم بذلك حاليا، خاصة وأن واقع بعض لجن أخلاقيات البحث العلمي يؤكد أنها انحرفت عن غايتها الأساسية والتي هي حماية حقوق المرضى وأشخاص التجارب، بل إنها كثيرا ما تحولت إلى غايات معاكسة تماما لذلك لما أصبحت تقوم أساسا بحماية مؤسسات البحث العلمي من انعكاسات لجوء بعض المرضى والأشخاص الذين تجرى عليهم التجارب أو ذويهم إلى المحاكم.

لقد عرفت اللجن الأخلاقية تطورا كبيرا منذ نشأتها في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الستينات من القرن الماضي، فقد بدأت على شكل لجينات أخلاقية تعالج مشاكل أخلاقية محددة كالإجهاض وتحديد النسل، لتنتقل إلى مرحلة اللجن الأخلاقية المحلية التي تراقب تصرفات الأطباء والباحثين داخل المستشفيات، وبعد ذلك انتقلت إلى مرحلة اللجن الأخلاقية الوطنية التي تراقب أعمال الأطباء والباحثين على مستوى الدولة ككل، وقد انتشرت اللجن الأخلاقية الوطنية في الدول المصنعة بشكل خاص، ويرجع أصلها إلى قيام الكونغرس الأمريكي سنة 1974 بتأسيس"اللجنة الخاصة بحماية الأشخاص من التجارب الطبية/البيولوجية والسلوكية"، وهي جهاز متعدد التخصصات يجتمع مرة كل أربع سنوات، وقد تلتها لجن أخرى مماثلة سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في كندا أو في الدول الأوروبية، وتشترك هذه اللجن كلها في كونها غير دائمة، ولذلك تعتبر فرنسا أول دولة تتوفر على جهاز دائم أسس سنة  1988تحت اسم: "اللجنة الوطنية الاستشارية لأخلاقيات علوم الحياة والصحة = Comité consultatif national d’éthique pour les sciences de la vie et de la santé"، ويتم حاليا إحصاء ما يفوق ثلاثين لجنة أخلاقية وطنية، منتشرة في جميع بقاع العالم بما فيها أوروبا الشرقية وإفريقيا، ويختلف أعضاء هذه اللجن ومدى صلاحياتها من بلد إلى آخر، كما تلتقي كلها في كون سلطتها رمزية لا إلزامية؛ ونجد -إلى جانب هذه اللجن الأخلاقية الوطنية- لجنا أخرى أكثر خصوصية، تعالج قضايا محددة مثل "الإنجاب الاصطناع" و"الاستنساخ" و"زرع الأعضاء" و"الموت الرحيم"...الخ، ويطلق عليها اسم "اللجن المرحلية"، ورغم الطابع الخصوصي لهذه اللجن المرحلية، فقد كان لها دور كبير في تقوية الاهتمام العالمي بالمشاكل الأخلاقية والقانونية التي يطرحها المجال الطبي/البيولوجي[3].

منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، نما الاهتمام العالمي بالمشاكل الأخلاقية والقانونية المطروحة في ميادين الطب والبيولوجيا والصحة، وبدأ المهتمون يفكرون في دمج اللجن الأخلاقية ذات الطابع الوطني في إطار أوسع: إما تحت رعاية "المجلس الأوروبي" أو في إطار "المجلس الخاص بالمنظمات الدولية للعلوم الطبية"، هل معنى ذلك أنه قد تم الانتقال إلى مرحلة ثالثة هي مرحلة اللجن الأخلاقية الدولية؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، يستحسن الرجوع قليلا إلى الوراء لنجد أن الاهتمام الدولي بالقضايا الأخلاقية التي يطرحها المجال الطبي/البيولوجي، وكذا بحقوق الإنسان بشكل عام، قد بدأ قبل أكثر من خمسة عقود من الآن، وذلك خلال " الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان سنة 1948، وقبل ذلك بقليل مع "قانون نورنبرغ" الذي صدر سنة 1947 بعد الحرب العالمية الثانية، في إطار محاكمة مجرمي الحرب النازيين، وضمنهم مجموعة من الأطباء الذين قاموا بتجارب وحشية على مجموعة من الأسرى نزلاء المخيمات النازية، ويعتبر هذا القانون مرجعية هامة للجن الأخلاقية: فبالنسبة للأطباء والباحثين الذين تهمهم أخلاقيات العلاج والبحث العلمي، يعتبر ما أكد عليه قانون نورنبرغ من "ضرورة موافقة الشخص المريض على العلاج" و"الأهلية القانونية الكاملة للشخص الذي سيقبل أو سيرفض  الخضوع لعلاج أو تجربة ما "من أركان البحث الأساسية؛ وجاء بعده دور إعلان هلسنكي سنة 1964، الذي يوصي بضرورة استشارة اللجن الأخلاقية فيما يتعلق بـ"الموافقة الواعية" وما يقدم من معلومات للمرضى أو الأشخاص المشاركين في التجارب العلمية؛ ثم إعلان مانيلا الذي يقترح إيجاد لجان مختصة في التقويم الأخلاقي.

مما سبق، يتبين أن الانشغال العالمي –وبشكل جماعي– بأخلاقيات الطب والبيولوجيا ليس وليد اليوم، بل الشيء الجديد –خلال العقد الأخير من القرن العشرين– هو سعي المهتمين بالمسألة لإيجاد إطار يدرس القضايا والمشاكل والآراء، ويركب ويوفق بين مختلف المعايير والضوابط الأخلاقية والقواعد القانونية التي يعدّها خبراء مختصون في القضايا القانونية والاقتصادية والأخلاقية المرتبطة بميادين الطب والبيولوجيا والصحة، وغالبا ما يكون هؤلاء المختصين إما أعضاء أو لهم ارتباط باللجن الأخلاقية. ومن هذا الباب ولجت منظمة اليونسكو هذا الميدان، وذلك باعتبارها مؤسسة ذات طابع دولي، منشغلة أساسا بالملاءمة بين حقوق الإنسان وبين الاعتراف بمشروعية التنوع الثقافي، ولذلك أسست، في سبتمبر 1993 "اللجنة الدولية للبيوتيقا = Le comité international de bioéthique"، وقد أسندت لهذه اللجنة مهمة تشجيع التعاون والتضامن العالمي في إطار الأبحاث التي تتعلق بالإنسانية كجنس، وبشكل خاص الأبحاث المتعلقة بـ: "المحدد الوراثي للإنسان = Le génome humain".

بناء على ما سبق، يتبين أن الأخلاق لم تبق مجرد قضايا معيارية مرتبطة بالضمير، بل أصبحت ضوابط اجتماعية وحتى دولية -ذات طابع إلزامي- تملك أحيانا قوة القانون، وذلك هو ما يقصده الباحثون حين يتكلمون عن: "الانتقال من الأخلاق إلى القانون" أي أن الأخلاق تم إخراجها من دائرة ضمائر الأفراد إلى دائرة المؤسسات الاجتماعية المختصة، وبذلك تم الانتقال من الأخلاق كقيم معيارية تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات، إلى قواعد أخلاقية متفق عليها عالميا، أو على الأقل متفق عليها من طرف النخب العالمة أو المثقفة في العالم، أو ما اصطلح على تسميته بـ: "لجن الحكماء" في العالم، إن ا للجن الأخلاقية تضعنا أمام فكر أخلاقي/قانوني جديد، ينحو نحو الصبغة العالمية، عالمية توازي عالمية حقوق الإنسان.

إلى جانب القانون والاقتصاد، ترتبط البيوتيقا بمجالات معرفية أخرى لا تقل عنها أهمية، إلا أن معالجة الارتباط بينها وبين تلك المجالات المعرفية المختلفة يحتاج إلى مقال آخر،وعلى أمل أن تتاح لنا فرصة المشاركة بمقال آخر، سنكتفي ببعض الإضاءات الخاطفة في إطار علاقة البيوتيقا بكل من الدين والفلسفة.

3 – البيوتيقا والدين: 

لقد كانت النشأة الرسمية للبيوتيقا سنة 1971، إلا أن الفكر البيوتيقي -أو أخلاقيات الطب والبيولوجيا- قد عرف بدايته الفعلية قبل ذلك خلال الستينات من القرن الماضي، وخاصة بعد الفضائح التي عرفها ميدان الطب والبيولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي نشر هنري بيتشر أهمها في مقال له يحمل عنوان: "أبحاث أخلاقية/طبية" في جريدة "اليومية الطبية لإنجلترا الجديدة"، وقد مرت علاقة البيوتيقا بالدين بثلاثة مراحل أساسية:

- تمتد المرحلة الأولى من أواخر الستينات إلى أواسط السبعينات من القرن العشرين، وفي هذه الفترة بدأ الانفصال عن الأخلاق الطبية الكلاسيكية التي كانت تحت هيمنة رجال الدين المسيحي والكاثوليكيين منهم بشكل خاص، وقد كان هؤلاء هم الذين يتكلمون باسم الأخلاق، وقد يكون ذلك من الدوافع الأساسية التي جعلت البروتستانت في طليعة من صنع الحدث البيوتيقي، وعلى رأس هؤلاء جوزيف فليتشر = Joseph Fletcher و بول رامسي = Paul Ramsay وجيمس تشيلدرس = James Childress ووليام مي = W.F.May وجيمس غستافسن = James Gustafson ...الخ. إلا أن الكاثوليكيين بدورهم، لم ينتظروا طويلا كي ينخرطوا في المشروع البيوتيقي، وأبرزهم ريتشارد ماك كورميك = R.Mc. Cormick وتشارلز كيوران = Ch.Curran ووارين ريتش = W.Reich؛ وقد انضم رجال الدين اليهودي بدورهم إلى قافلة المهتمين بالقضايا البيوتيقية، وعلى رأسهم إيمانويل جاكوبوفيتش = I.Jakobovitz وفريد روسنر = F.Rosner ودافيد بليخ = D.Bleich؛ وبذلك كان المجال المعرفي الأساسي الذي شكل مرجعا للجمعيات الأخلاقية الأولى كان هو الدين وليس الفلسفة أو القانون[4].

 إن رجال الدين المسيحي واليهودي الأوائل الذين ساهموا في تأسيس الفكر الأخلاقي الجديد كانوا ينطلقون من حمولة أخلاقية دينية كلاسيكية، ومن فكر إنساني يقوم على مفاهيم ذات حمولة دينية قوية مثل الإحسان والشفقة والتعاطف مع المريض، ومن استنكار الممارسات اللاإنسانية التي أصبحت تتزايد نسبتها في المجال الطبي/البيولوجي، إلا أن كون أغلب هؤلاء المفكرين والعلماء من البروتستانت (باعتبار أن البروتستانتية هي أكثر المذاهب المسيحية انفتاحا على معطيات التقدم العلمي) يفسر كيف سيتحوّل الفكر البيوتيقي، في وقت وجيز لا يتعدى العقد الواحد، من فكر أخلاقي لاهوتي إلى فكر أخلاقي جديد يرفض الوصاية الدينية والطابع الإطلاقي للفكر الأخلاقي الديني المسيحي.

-  تمتد المرحلة الثانية من أواسط السبعينات إلى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وتتميز العلاقة بين البيوتيقا والدين في هذه المرحلة بتراجع الخطاب الديني مع مجيء الفلاسفة ورجال القانون بكثافة إلى الميدان البيوتيقي، وتزايد أعداد اللجن الأخلاقية والبيوتيقية التي تشخص الطابع التعددي للخطاب البيوتيقي، وفي هذا الإطار، لابد من الإشارة إلى ما عرفته هذه الفترة من انتقال للفكر البيوتيقي إلى أوروبا، وخاصة الدول الغير الناطقة بالإنجليزية، وما صاحب ذلك من تأكيد على الطابع العلماني للفكر البيوتيقي، وقد شهدت هذه المرحلة حدثا هاما على المستوى الأوروبي حيث أسست فرنسا سنة 1983 لجتها الأخلاقية الوطنية والتي تؤكد بدورها على الطابع العلماني اللائكي للبيوتيقا، وكنتيجة لذلك سيتم إقصاء رجال الدين من النشاط البيوتيقي، وسيتم رفض مشاركتهم في الحوار البيوتيقي، بل وحتّى حضورهم في اجتماعات اللجن الأخلاقية إلا كملاحظين أو كمشاركين عاديين لهم رأي إلى جانب الآراء الأخرى المتعددة دون أية وصاية أو طابع توجيهي[5].

من جهة أخرى، تم استبدال مبادئ الإحسان والتعاطف مع المريض بمبادئ أخرى على رأسها مبدأ الاستقلال الذاتي وحق المريض في تقرير مصيره بنفسه، واستبدلت النزعة الإنسانية الدينية بنزعة حقوق الإنسان، كما بدأ التفكير عمليا في تحويل أخلاقيات الطب والبيولوجيا أو المبادئ الأخلاقية التي تحرك العاملين في الميدان الطبي/البيولوجي، إلى تشريعات قانونية، تنظم هذا المجال، وتعرّض كل من ينتهك حقوق المرضى أو كرامتهم للعقوبات المختلفة، وتفتح المجال أمام المرضى لكي يقابلوا العاملين في المجال الطبي/البيولوجي أمام المحاكم، وهكذا انتقلت مسؤولية الأطباء والباحثين من مسؤولية أخلاقية/ دينية إلى مسؤولية قانونية مدنية.

-  تمتد المرحلة الثالثة من أواخر الثمانينات من القرن الماضي إلى أيامنا هذه، وتتميز علاقة البيوتيقا بالدين في هذه المرحلة بالرجوع إلى القضايا الدينية بقوة، وذلك تحت ضغط الاهتمامات الاقتصادية التي أصبحت تشغل بال العاملين في المجال الطبي/البيولوجي، والطابع المادي الذي طغى على العلاقة بين الطبيب والمريض، بالإضافة إلى تزايد اهتمام علماء الدين بالقضايا البيوتيقية والمعضلات التي أفرزتها الثورات الأخيرة التي عرفتها ميادين الإنجاب الاصطناعي والهندسة الوراثية وزراعة الأعضاء، وهكذا طال النقاش الديني قضايا أطفال الأنابيب وبنوك المني والبويضات والمشائج والاتجار بالأرحام والأجنة، وزراعة الأعضاء والتبرع بها أو بيعها، وتمديد الحياة بشكل اصطناعي، والاستنساخ والعلاج الجيني والطب التنبئي ؛ وقد شارك علماء الإسلام بدورهم في هذا النقاش، وقد تمثل ذلك في الندوات التي تقام هنا وهناك حول هذه القضايا الجديدة، كما أنشأت لهذا الغرض مجمّعات فقهية تشبه، إلى حد ما، اللجن الأخلاقية التي انتشرت في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، وخاصة على مستوى تشكيلها، فهي لا تتشكل من الفقهاء المتخصصين في الشريعة الإسلامية فحسب، بل نجد إلى جانبهم الأطباء وعلماء البيولوجيا وعلماء النفس والاجتماع والاقتصاد والقانون وغيرهم...

هناك اختلاف كبير حول القضايا البيوتيقية، حاصل بين علماء الدين، وذلك سواء فيما بين ممثلي الديانات السماوية الثلاث، أو داخل كل ديانة على حدة، وإذا كان حجم هذا المقال لا يسمح بالتعرّض لهذه الاختلافات، فسنكتفي بعرض جدول يلخصها، ونترك بذلك للقارئ حرية الاستنتاج من خلال المقارنة بينها:[6]

 

جدول للمقارنة بين مواقف الديانات السماوية إزاء القضايا البيوتيقية

  

الديانة الإسلامية

الديانة اليهودية

الكنيسة الأرثوذكسية

الكنيسة البروتستانتية

الكنيسة الكاثوليكية

مواقف الديانات  من القضايا البيوتيقية

ممنوع

ممنوع بشكل كلي

مرفوض

مقبول للأزواج العاجزين عن الإنجاب بالطرق العادية

مرفوض بشكل قطعي

التلقيح الاصطناعي مع وجود متبرع بالمني

مسموح به

مسموح به مع وجود الضرورة الطبية

مقبول

مقبول للأزواج العاجزين عن الإنجاب بالطرق العادية

مرفوض مع إمكانية التساهل

التلقيح الاصطناعي اعتمادا على مني الزوج وبويضة الزوجة

ممنوع

ممنوع بشكل عام

مرفوض

مقبول للأزواج العاجزين عن الإنجاب بالطرق العادية

مرفوض

أطفال الأنابيب مع وجود متبرع

مسموح به

مسموح به مع وجود الضرورة الطبية

مسموح به شرط ألا تكون هناك أجنة زائدة

مقبول

مرفوض مع إمكانية التساهل

أطفال الأنابيب اعتمادا على مني الزوج وبويضة الزوجة

ممنوعة

ممنوعة

مرفوض بشكل قطعي

اختلاف الآراء حول المسألة

مرفوض بشكل قطعي

الإعارة المجانية للرحم

ممنوع

ممنوع

مرفوض بشكل قطعي

مرفوض

مرفوض بشكل قطعي

استئجار الرحم مع تعويض مادي للمرأة

ممنوعة

ممنوعة مع وجود استثناءات

مرفوضة

مقبولة

مرفوضة

هبة السائل المنوي

ممنوعة

ممنوع بشكل كلي

مرفوضة

مقبولة

مرفوضة

هبة البويضة

ممنوعة

ممنوع بشكل كلي

مرفوضة

مقبولة

مرفوضة

هبة الجنين

مسموح به مع التأكد أن الزوجة لقحت بمني زوجها

ليس ممنوعا ولكن يحذر منه

مرفوض

مرفوضة من الناحية الأخلاقية تجنبا ليتم الوليد

مرفوض بشكل قطعي

التلقيح من السائل المنوي بعد موت الزوج

مسموح به إذا تم بين الزوجين

مسموح به إذا تم بين الزوجين

مرفوض أو مقبول حسب الحالة

موقف متردد

مرفوض

تلقيح امرأة متقدمة في العمر

مسموح به إذا وافق  الأعراف والأخلاق والدين مع تحمل الطبيب للمسؤولية

مسموح به

مرفوض

مسموح به إذا كان التجميد محددا في فترة معينة

مرفوض

تجميد الأجنة

مرفوض

مسموح به على اعتبار أن هبة الجنين ممنوعة

مرفوض

مقبول

مرفوض بشكل قطعي

إتلاف الأجنة الزائدة أو المجمدة

مرفوض

مسموح به

رفض قاطع

مقبول مع ضرورة وضع قواعد لاتلاف الأجنة وعدم المتاجرة بها

مسموح بتلك التي تهدف إلى غاية   علاجية

إجراء الأبحاث على الأجنة

مسموح به في إطار هدف علاجي وغير انتقائي

مسموح به

مرفوض

مقبول في الحالات العلاجية

مرفوض كليا لأنه يؤدي إلى التمييز بين الأجنة

التشخيص الوراثي قبل الزرع

مسموح به في إطار هدف علاجي وغير انتقائي

يعالج الحاخام كل حالة على حدة

مسموح به شرط ألا يقود إلى الإجهاض

مسموح به

مسموح به شرط ألا يهدف إلى اكتشاف تشوه فيه

التشخيص ما قبل الولادي للجنين

 

ممنوع

مقبول في الحالات الجدية مثل التنويع الجنسي للأولاد

مقبول

آراء متضاربة حذرة

مرفوض بشكل قطعي

فرز الحيوانات المنوية

ممنوع

مسموح به تبعا للتعليمات الطبية

مرفوض

أمر خطير وعبثي

مرفوض بشكل قطعي

اختيار الأجنة لغايات تتعلق بتحسين النسل

 

4 - البيوتيقا والفلسفة:

هناك ارتباط كبير بين البيوتيقا والفلسفة، فالبيوتيقا هي -أساسا- فكر أخلاقي جديد، أي تجديد لمبحث أو فرع أساسي من فروع الفلسفة وهو "الأكسيولوجيا = L’axiologie" حسب التقسيم الكلاسيكي للفلسفة إلى ثلاثة مباحث أساسية هي الأنطولوجيا أو مبحث الوجود، والإبستمولوجيا أو مبحث المعرفة، والأكسيولوجيا أو مبحث القيم .

إلى جانب ذلك، كان للفلاسفة دور كبير في نشأة البيوتيقا وتطورها، فبوتر وهيليغرز اللذين يرجع إليهما الفضل في نحت مصطلح "بيوتيقا" ورسم المسار العام للفكر البيوتيقي، إن لم يكونا فيلسوفين بالمعنى الرسمي للكلمة، فإن ميولاتهما الفلسفية تتجلى واضحة في كتاباتهما، كما لا يمكن إغفال الدور الكبير الذي قام به بعض الفلاسفة، وعلى رأسهم دانيال كالاهان = Daniel Callahan، في إضفاء الطابع العلماني على البيوتيقا وفصلها بالتالي عن الأخلاق الطبية الكلاسيكية التي كانت غارقة في اللاهوت المسيحي، فكالاهان هو الذي أسس مركز هاستينغز الذي اهتم بنشر الفكر البيوتيقي والتعريف به، وكان من أهم إنجازاته تأسيس المجلة الناطقة باسم البيوتيقا والمشاركة في تأليف أول موسوعة بيوتيقية.

إضافة إلى كالاهان، نجد الفيلسوف الألماني الشهير هانس جوناس = Hans Jonas الذي ساهم بأفكاره في عالمية الفكر البيوتيقي، وفي التأكيد على طابعة الشمولي، وذلك من خلال ربطه بأخلاقيات البيئة من جهة، ومن خلال إغناء وتطوير أحد المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الفكر البيوتيقي وهو مفهوم المسؤولية من جهة ثانية، بالإضافة إلى تنبيهه إلى خطورة الأبحاث الطبية/البيولوجية بشكل خاص والأبحاث والتجارب العلمية بشكل عام، ليس على حاضر الإنسانية فحسب، بل وعلى مستقبلها أيضا.

يتجلى الحضور القوي للفلسفة في الفكر البيوتيقي، من جهة أخرى، في تشكيلة اللجن الأخلاقية التي صاحبت نشأته وتطوره، فقد كان الفلاسفة من أبرز أعضاء هذه اللجن، وهكذا ظهرت شخصية علمية جديدة هي "عالم الأخلاق = L’éthicien" وهي شخصية علمية ترتبط بالأخلاق كفكر فلسفي وترفض الارتباط بها كفكر ديني، وإذا كانت الأخلاق فرعا من فروع الفلسفة منذ القديم، فإن التطور الأخلاقي الحالي يفرض علينا –رغم ذلك– أن نطرح السؤال: هبل ستبقى الأخلاق في وضعية التبعية للفلسفة أم أنها ستنفصل كعلم جديد؟ خاصة وأن هناك مؤشرات قوية تدل على ذلك أهمها التمييز الذي نجده حاليا في الدراسات الأخلاقية بين "Morale" و"Ethique" وتزايد استعمال المصطلح الثاني على حساب الأول، بالإضافة إلى حلول عالم الأخلاق معل فيلسوف الأخلاق.

يحاول أقطاب الفكر البيوتيقي أن يؤكدوا على الطابع العلمي والعملي والواقعي للفكر البيوتيقي، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور توجهات أو تيارات أخلاقية فلسفية، أهمها التيار المبدئي = Principisme، والتيار الذمامي = Casuistique، والتيار الذي يركز على دراسة الحالات، والتيار النسوي؛ هذا بالإضافة إلى أن تأكيد علماء البيوتيقا على الطابع الواقعي والعملي لهذا الفكر الجديد، ذو صلة واضحة بالفلسفة البراغماتية التي كانت وما تزال أبرز التيارات الفلسفية الأمريكية، وإلى جانب ذلك يعتبر بعض الباحثين أن التجديد الفلسفي الذي عرفته أواخر القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة هو الفكر البيوتيقي ذو النشأة الأمريكية[7].

من أبرز أشكال الارتباط القائم بين الفلسفة والبيوتيقا، نجد مساهمة الفكر البيوتيقي في إبداع الكثير من المفاهيم الجديدة، فإلى جانب المفهوم المركزي وهو مفهوم البيوتيقا نفسه، نجد مفاهيم أخرى مثل مفهوم البيو/قانون = Biodroit، وهو ما ترجمناه بـ: "الفكر القانوني الخاص بقضايا الطب والبيولوجيا والصحة". ومفهوم العلم التقني = Technoscience (يمكن أن نلاحظ أن مصطلح العلم/التقني أقرب إلى المصطلح اللاتيني من مصطلح التقنو/علم الذي اعتمدته بعض الترجمات، وذلك قياسا على مصطلحات أخرى).

زيادة على المفاهيم والمصطلحات الجديدة، للفكر البيوتيقي دور في تجديد وإغناء مضامين بعض المفاهيم والمصطلحات القديمة، وعلى رأس هذه المفاهيم نجد مفاهيم أخلاقية أساسية مثل مفهوم الحق والواجب والمسؤولية والإحسان، ومفاهيم أخرى ذات ارتباط بعلاقة الطبيب بالمريض مثل مفهوم الموت الرحيم والإنجاب الاصطناعي والتوالد الجنسي والجسدي ومفهوم تحسين النسل، ويعتبر مفهوم "حقوق الإنسان" من أهم المفاهيم التي تم إغناؤها في هذا الإطار، حيث توجه الاهتمام إلى مدى احترام هذه الحقوق في ميادين الطب والبيولوجيا والصحة،وهكذا تبلور مفهوم حقوق المرضى والأجنة الأشخاص الذين تجرى عليهم التجارب، بالإضافة إلى حقوق الأجيال الإنسانية القادمة، وعلى رأسها حق الحفاظ على هويتها و تنوعها، هذا الحق الذي يتعرض حاليا للانتهاك، وخاصة في إطار التصرف في الجينات الحاصل في مجال الهندسة الوراثية وما يصاحب ذلك من تفكير في استنساخ الإنسان.

يمكن اعتبار أن أهم أثر تركته البيوتيقا على الفكر الفلسفي، هو مساهمتها في تحقيق حلم كان  وما يزال يراود بعض الفلاسفة، وهو انتقال هذا الفكر من النخب والجامعات لكي تهتم به الفئات العريضة للمجتمع: وبالفعل، تبلور الفكر الأخلاقي الجديد خارج الجامعة، مادامت هذه الأخيرة تريد أن تكون الفلسفة نخبوية وترفض أن تكون شعبية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الفكر البيوتيقي، على خلاف الفكر الفلسفي السابق، لا يرتبط برموز معينة، ولا حتى بمجال معرفي معين، فكل التخصصات، بل وكل الفئات الاجتماعية تشارك في مناقشة القضايا البيوتيقية، وليس الأطباء وحدهم ولا البيولوجيين وحدهم، وهكذا أصبحت أخلاقيات الطب والبيولوجيا وما يرتبط بها من قضايا علمية وقانونية ودينية واقتصادية وفلسفية، همّا يحمله الجميع.

استنتاج عام:

يتبين مما سبق أن الفكر الأخلاقي الجديد الذي ارتأينا نعته بالفكر البيوتيقي أو "البيوتيقا" يتميز بما يلي:

من سمات البيوتيقا أو الفكر الأخلاقي الجديد أنه ذو طابع تركيبي حيث يعتبر ملتقى لأهم المجالات المعرفية المعاصرة.

يرتبط الفكر الأخلاقي الجديد بالفكر الاقتصادي، نظرا لما يحصل من استغلال اقتصادي لمنجزات التقدم العلمي/التكنولوجي، في المجال الطبي/البيولوجي، وما يصاحب ذلك من انتهاك لحقوق الإنسان وتهديد لإنسانيته ووجوده الحاضر والمستقبل.

اقتضى ذلك الإسراع في اتخاذ إجراءات محلية ودولية للانتقال من الأخلاق إلى القانون وتحويل المبادئ الأخلاقية المتفق عليها إلى قواعد قانونية سارية المفعول.

عرفت العلاقة بين البيوتيقا والدين توترا منذ نشأتها، ولم يمنع ذلك من مشاركة علماء الدين باختلاف مذاهبهم في النقاش البيوتيقي.

تدين الفلسفة للبيوتيقا في إخراجها من حالة العقم والاجترار التي أصابتها في العقود الأخيرة، وذلك بما أتاحه الفكر البيوتيقي من مناقشة عميقة لقضايا فلسفية أصيلة ترتبط بالذات والشخص والحياة والموت والوجود والمصير والعلاقة مع الآخر...الخ، وذلك في وسط جميع الفئات الاجتماعية وليس وسط الاختصاصيين وحدهم.

ينتظر من الفكر البيوتيقي أن يساهم – بشكل كبير–  في ترسيخ قيم الديموقراطية والحوار والتسامح والتضامن وحقوق الإنسان خلال القرن الواحد والعشرين.

إن ما أفرزته التكنولوجيا الحيوية من قضايا متعددة بدءا بأطفال الأنابيب، ووصولا إلى وضع الخريطة الجينية للإنسان، ومرورا بالأرحام المستأجرة والبنوك الحيوية والموت الرحيم وزرع الأعضاء والتحكم في الدماغ البشري والاستنساخ...الخ، تطرح "إشكاليات أخلاقية" تثير اليوم الكثير من الجدل الفلسفي والقانوني والديني، وقد ركزت –في هذا المقال– على الإشكاليات المرتبطة بالجانب الاقتصادي بالأساس، وبدرجة ثانية بالجوانب القانونية والدينية والفلسفية، وذلك راجع إلى الرغبة في لفت الانتباه إلى أهمية هذه الجوانب، وإلى كون اهتمامات الباحثين المغاربة -مع قلتها- قد انصبت فقط على الجانب الأخلاقي.

وأخيرا لابد أن نشير إلى أن المغرب قد عرف في السنوات الأخيرة اهتماما بالقضايا البيوتيقية سواء فيما تنشره بعض الجرائد والمجلات الوطنية، أو بعض الندوات التي تقام حول بعض القضايا البيوتيقية المغربية أو بعض البحوث الجامعية التي أنجزت خاصة في كليتي الطب والحقوق، إلا أن ما يجمع بين كل هذه الاهتمامات هو التناول الجزئي لهذا الموضوع مما يستدعي القيام ببحوث ذات طابع شمولي، ونأمل أن تكون مساهمتنا هذه المتواضعة وما قد يتلوها من مشاركات أخرى  –في نفس الإطار–  تشجيعا للباحثين المغاربة لكي يساهموا ويشاركوا في تجديد وإغناء الفكر الفلسفي الراهن.

إن إكراهات العولمة تفرض علينا أن ننخرط في الاهتمام العالمي بالفكر البيوتيقي، وبالتالي بمشاكل التطور العلمي، الطبي/البيولوجي بالخصوص، وهذه المعاصرة لا تتعارض مع الأصالة التي يمكن أن تتمثل في الاستئناس بآراء علماء الدين، وإدماج أكثرها اعتدالا وانفتاحا على معطيات التقدم العلمي الذي لا يعرف التوقف؛ إن هذا يفرض علينا طرح بعض الأسئلة: ما موقع المغرب من التقدم الطبي/البيولوجي؟ أين وصل المغرب في مجال الإنجاب الذي يتم الإشراف عليه طبيا؟ وأين وصلت عندنا تقنيات الإنجاب الاصطناعي؟ وما هي آفاق البحث العلمي الطبي/البيولوجي؟ وما مدى تفكير المغاربة في تأسيس لجن أخلاقية تراقب ممارسات الأطباء ومدى احترامهم لحقوق المرضى من جهة، وتهتم بحقوقهم المادية والمعنوية من جهة ثانية، وتعمل –أخيرا– على الملاءمة بين التطور العلمي/الطبي ومقاصد الشريعة الإسلامية؟ 

 

أهم المراجع التي اعتمدتها هذه الدراسة:

- ناهدة البقصمي، الهندسة الوراثية والأخلاق، سلسلة عالم المعرفة، عدد 174، يونيو 1993.

- كارم السيد غنيم، الاستنساخ والإنجاب، دار الفكر العربي، 1998.

- جوزيف معلوف، الأخلاق والطب، المكتبة البولسية، جوليه، لبنان، 1997 .

- مجلة العربي، عدد 496، مارس 2000.

- الانترنيت.

- Huber Doucet, Au pays de la bioéthique, Labor et Fides, 1996.

- Jacqueline Russ, La pensée éthique contemporaine, Que sais-je ? P.U.F, 1995 .

- Gérard Badou, Le corps défendu, éd.Jean-Claude Lattés, 1994 .

- Science et vie, Edition spéciale, 1995 + 1996.

- Internet.

 

 



[1]  -Hubert Doucet, Au pays de la bioéthique, Labor et Fides, 1996,  P.53-54+P.46.  ( بتصرف.)

[2]  -Jacqueline Russ, La pensée éthique contemporaine, Que sais-je ? P.U.F,1995, P :105.

[3] - Hubert Doucet, ibid. P :158-164. ( بتصرف)   

[4]  -Hubert Doucet, Au pays de la bioéthique, P. 35.  ( بتصرف.)

[5]  - نفس المرجع السابق، ص : 43-44 ( بتصرف.)

[6]  -  جوزيف معلوف،" الأخلاق والطب"،المكتبة البولسية، جوليه، لبنان، 1997، ص : 179 ( بتصرف.)

[7]  - لقد تمت الاستفادة  في هذا الإطار من  كتاب : H.Doucet ، Au pays de la bioéthique، السابق ذكره.