الخطاب –
وخطاب الحقيقة
(مبحث في
لغة الإشارة الصوفية)(*)
أحمد الطريبق أحمد
إذا كان موضوع الأطروحة، يتمحور بفصوله وغاياته، حول (الخطاب الصوفي في الأدب
المغربي خلال العصر الإسماعيلي، فإن تفكيك الدلالة لمفردات "الأطروحة"،
هو من أوليات البحث والتحليل لنكون على
بينة من خلفيات الأسئلة المطروحة في الطريق. خاصة وأن البحث في مجال الكتابة
الصوفية يستلزم، بالضرورة، الفهم الكامل لأجزاء الخطاب، وما يفترضه من "دلالة"،
هي على العموم لأهل الخصوص.
وقبل
أن نستجمع "المحددات/المكونات"
للخطاب الصوفي، علينا أن نتساءل: ما دلالة "الخطاب"؟ والحالة أن التشقيق
والتفريع –في هذا الشأن- من خصوصيات "الحديث المعاصر": فلقد كثرت
"الخطابات" وتعددت المخاطبات؛ فهناك الخطاب النقدي، والفلسفي، والديني،
والشعري، والسياسي.. بل إن الأمر تشابه علينا بإسقاط "المفردة" وإقحامها في مجالات غير علمية (تجارية – وإعلانية
وغير ذلك) وإذن، فالمفردة/الخطاب، قد فرضت وجودها، لما يحصل بها من اختزال لأجزاء
الكلام في مجال دون آخر.
ومفردة/الخطاب، في اللغة تنصرف إلى مراجعة الكلام، وقد
خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، كما ورد في "اللسان"[1].
إلا أن المفردة، وعلى وزن "فعال/خطاب"[2]،
كما وردت في القرآن لها دلالة أخرى. "قال بعض المفسرين في قوله تعالى:
"وفصل الخطاب"، قال: هو أن يحكم بالبينة أو باليمين، وقيل: معناه أن يفصل
بين الحق والباطل، ويميز بين الحكم وضده. وقيل: فصل الخطاب، أما بعد. وداود عليه
السلام، أول من قال: أما بعد.."[3].
ولعل هذا التوجيه، إنما تحدده الإضافة، أي إضافة الخطاب
إلى كلمة "فصل"، أما "الخطاب" بإفراد، فـ"هو الكلام الذي
يقصد به الإفهام". أو "هو اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو
مهيأ لفهمه". ويعزو الدكتور أحمد مطلوب هذا القول في كتابه عن معجم النقد
العربي القديم، إلى الكفوي، صاحب "الكليات"، ولم يكتف صاحب المعجم بهذا،
بل حاول حصر الأوجه المتعددة لمفردة "الخطاب". وقد تحدث الزركشي –يقول
الدكتور مطلوب- بالتفصيل عن وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن الكريم، وهي أكثر من
أربعين وجها[4].
إلا أن الأوجه المشار إليها في سياق العرض المعجمي، لا ترتبط بالدلالة المعجمية،
بل بدلالة "الخطاب" ونوعيته، من ظاهر وعام وخاص..
واستعملت المفردة/الخطاب، في مجالات بلاغية ونقدية. خاصة
عند تفريع الكلام وأقسامه، أو في تمديد مستويات الخطاب. من برهان وجدل، وخطابة،
وشعر. ويحدد هذا الأخير، صاحب "الروض المريع" بقوله: "وهو الخطاب
بأقوال كاذبة مخيلة على سبيل المحاكاة، يحصل عنها استفزاز بالتوهمات"[5].
كما أن السجلماسي في "المنزع البديع" لا يفرق بين الخطاب في تلونه، وبين
"الالتفات" فهو يقول: "النوع الأول الالتفات، وهو المدعو عند قوم
خطاب التلون"[6].
وهكذا تتجه المفردة بصيغة "فعال" اتجاهات مختلفة. لتخرج من محيطها
اللغوي، متساكنة مع فضاء "المصطلح" الخاص.
وبالرغم من الاستعمال البرهاني للكلمة، في ميدان الجدل
والخطابة، فإن "المعجم الفلسفي" لصاحبه الدكتور جميل صليبا لم يفرد
للمفردة أية دلالة في سياقها المعروف[7]
بين أهل الكلام.
وانطلاقا من هذا التوجه الأخير، فإن فصل الخطاب، (تركيبا
إضافيا)، إنما يؤسس لدى أصحابه "سلطة البيان". وقد أشرنا –سابقا- إلى
هذا الاستعمال القرآني، "وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" لكن
صاحب "اللسان أورد ما قيل في الكلمة، مضيفا بأن "فصل الخطاب الفقه في
القضاء[8]
ثم إن أهل الكلام من الفلاسفة يجعلون للكلمة دلالة برهانية بما تحمله من حمولات.
وفي كتاب بنية العقل العربي يحاول الجابري أن يحلل الارتباط الجدلي بين
البيان كسلطة، وبين دلالة الخطاب داخل النسق الكلامي. وهكذا –يقول الجابري- يكون
بـ"القول الفصل" أو "فصل الخطاب". وهو نوع من القول تجتمع فيه
الصنعة اللفظية والحجة المقنعة.. ويورد الجابري في هذا السياق، نصا للجاحظ، نقلا
عن أحد أقطاب المعتزلة عمرو بن عبيد "إنك إن أوتيت تقرير حجة الله في عقول
المكلفين، وتخفيف المأونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين
بالألفاظ المستحبة في الأذهان المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي
الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل
الخطاب"[9].
وإن هذا الاستعمال المزدوج بين العقل واللسان، يوسع من الإطار الحرفي الذي يرسمه
سياق التفسير، كما ورد في إشارة صاحب "اللسان". وهناك إشارة، في كتاب
"الينابيع" لأبي يعقوب السجستاني، لها دلالتها العقلية، ذلك أن الخطاب
عنده ينقسم إلى قسمين، خطاب علوي، وخطاب سفلي. وقد أفرد في "الينابيع"
الينبوع الحادي عشر، في كيفية مخاطبة العقل للنفس، "إن العقل يخاطب النفس
خطابين: خطابا علويا، وخطابا سفليا، فالخطاب السفلي من الجسمانيات.."[10].
وتظل المفردة، رغم جنوحها عن دلالتها اللغوية، أحيانا،
بمنأى عن دائرة "التخصيص" الاصطلاحي ولكن اطراد الاستعمال يقربها من
حدود "المصطلح" ويبقى مجال التأويل الإسقاطي هو الفصل والفيصل في هذا
وذاك.
وما دام البحث –من المبدأ إلى المنتهى- يرصد مستويات
الخطاب الصوفي، وتحديدا في المتن الأدبي المغربي..، فإن الباحث ملزم بتقصي الدلالة
الخاصة لهذه المفردة عند القوم. حتى لما كانت القصدية غائبة. وسأحاول أن أعرض
بالإجمال لمواضع استعملت فيها "المفردة" على غير هدى من إشعاعها
الاصطلاحي ولكنها تكاد تحوم حول حمى المعرفة الغنوصية. يقول الجنيد في رسالة له
صغيرة بعنوان "كتاب دواء التفريط" شارحا خطوط المذهب الصوفي، وما يحظى
به القوم في ارتقائهم سلم المعرفة الصوفية: "ولقد فاز قوم نظر إليهم وليهم
فدلهم على مختصر الطريق، وأوقفهم على محجة النجاة، وألاح لهم خفي فهم الدعوة إلى
المسارعة بالمناقشة عند فهم الخطاب.."[11]
وهكذا يكون الفهم المنصوص عليه في كلام الجنيد نابعا من لغة العرفان الصوفية التي
تسربل الخطاب الديني بسرابيل باطنية[12]، ولعل ابن العربي الحاتمي[13] هو الصوفي الذي تعامل مع "المفردة"، في
مواضع مختلفة من كتاباته الصوفية. وهو يلتقي مع الجنيد في كون المعرفة الصوفية لها
خطاب خاص. وإذا كان ابن العربي في التفسير المنسوب إليه –قد التزم بالدلالة
الظاهرة للآية القرآنية الكريمة (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)، فلم
يحد قيد أنملة عن السياق التفسيري الظاهري، حيث يقول: "وآتيناه الحكمة
لاتصافه بعلمنا وفصل الخطاب والفصاحة المبينة للأحكام، أي الحكمة النظرية
والعملية، والمعرفة والشريعة.."[14]
نعم إن ابن العربي، وفي مقام صوفي آخر من الكلام قد زاوج بين المعنيين، الظاهري
والباطني. "وقال السالك، فقلت له مولاي أما العبد فبصره بك حديد، وقد ألقى
السمع وهو شهيد، فإن أيدته بالحكمة وفصل الخطاب، فسيوفق لإصابة الجواب"[15]
وجاء ذلك في معرض الحوار الصوفي في رحلة الأسراء، التي اخترق بها ابن العربي
الحدود والآفاق، وكانت علامة من علامات الفتوحات الأدبية. وإذا ما قلبنا أوراق
رسائل ابن العربي، فإننا سنصادف استعمالات مختلفة لهذه المفردة الساحرة. إلا أن
التحديد المعرفي الصوفي للكلمة، جاء في هذه العبارة من كتاب "الأعلام"
داخل التراكم في كتابة الرسائل "ومنهم من قال: المعرفة خطاب بخصوص من الحق
لعبده يسمى عارفا.."[16]
ويستعرض ابن العربي في "باب المعرفة" تعاريف ينسبها إلى أصحابها
المجهولين في دنيا القوم، ومنهم من قال..)، ولكنها صادرة عن ينابيع روحية، ليست في
متناول العموم. لأنها خطاب مخصوص من المرسل الحق. إلى المرسل إليه خاصة الخلق.
وحالما يغرق ابن العربي في خضم الاتحاد، وأمواج الحلول، فإن الخطاب العرفاني هو
الموحد بين الطرفين: اللاهوت والناسوت. وهذا البيت من كتابه الخطير "فصوص
الحكم"، يؤيد هذا التوجه الصوفي، الذي –لا محالة- مثير لغضب أهل الظاهر:
وأنت رب وأنت عبد لمن له في
الخطاب عهد[17]
وإن الخطاب الإلهي للأنبياء –كما يدعي المتصوفة- فيه من
اشتراك الصفة بينهم وبين الأولياء. ويكاد البعض يتعالى في الدعوى لوجود الواسطة في
خطاب، وانتفائها من خطاب. وانظر كيف عبر ابن العربي عن الخطاب المباشر الذي تجلى،
بصفة الجمال، على الكائنات الوجودية:
ألم تروا لكليم الله كيف بدا له الخطاب من الأشجار القبس[18]
والتجليات الإلهية هنا، قامت مقام الحروف والكلمات، بذلك
كانت أعظم وقعا وتأثيرا لغلبة لغة الجلال فيها على رموز الجمال –ولنا أن نتساءل
بعد هذا العرض السريع، كما تساءل بعض الدارسين:
"كيف يؤسس العرفانيون الإسلاميون توظيفهم للزوج
الظاهر/الباطن، في تأويل الخطاب القرآني أساسا"؟[19]
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل المعرفي –النقدي- لا بد من
الإطلالة على تعاريف "معاصرة" لمفردة الخطاب، وما تحمله من دلالات
مرجعية وإيديولوجية. ولقد حاول بعض الدارسين للمصطلحية أن يعرض الأوجه الخاصة
لمفردة الخطاب، وما تتفرع عنها من دلالات مرجعية، حسب النوع والجنس والفصل. وهكذا
عدد في معجمه عناوين فرعية، كرؤوس أقلام ينطلق منها تحليل الخطاب. فأول تعريف
يصادفنا في هذا المعجم بأن الخطاب هو "مجموع خصوصي لتعابير تتحدد بوظائفها
الاجتماعية ومشروعها الإيديولوجي"[20].
وإذا كانت بعض العناوين هي فرعية في جرد المعجم المشار إليه، فإن بعضا منها يكون
المفتاح لبوابة الخطاب الصوفي باعتباره "خطابا غير مباشر. وباعتباره أقرب إلى
الخطاب الضمني الذي يعارض الخطاب المباشر، ويفسر على ضوء هذا التعارض الذي يفترض
قدرة حدسية بالمرجعية.. والخطاب الضمني توليد لمستويات التأويل إلى ما لا نهاية..
ويمتلك كل خطاب ضمني خلفية تحيل إلى الجماعة السوسيو-ثقافية المنتجة لخطابه"[21].
وليس الغرض هو تحليل هذه المقولات، فأصحاب اللغة
وفلسفتها –وبشتى مدارسها- قد أفاضوا القول فيها[22]
وإنما الغرض من هذا الإسقاط، هو الوصول إلى منطقة مشتركة يتحرك فيه "الخطاب
الصوفي وهو على بصيرة بما نعنيه اليوم، متداولين مفردة "الخطاب" وفي
مجالها الاصطلاحي.
ولا شك أن القدماء، الفلاسفة منهم والمتصوفة، كانوا
يحملون "المفردة" أكثر من طاقتها ودلالتها اللغوية. ولكننا نستبعد من
استعمالاتهم–الإدراك اللساني للمفردة. ومن ثم فإن هذا الجرد المتواضع للمفردة
واستعمالاتها في كتب القوم، وفي مواطن معرفية أخرى، هو باب التأصيل لا غير. ومن
باب إضفاء شرعية المصطلح على العنوان العريض لهذه الأطروحة.
وقد وصلنا الآن إلى المفردة الثانية في التركيب (الخطاب
الصوفي)، فما هو الخطاب الصوفي؟ إن الجواب تحدده ماهية الكتابة الصوفية، وعلى
مستويات الدال والمدلول، وما بينهما من خفي الإشارة وشفافية التأويل. ولقد سبق أن
تناولنا –مسرعين- خصوصية الكتابة الصوفية[23]
والتي تتأسس على زوايا ثلاث وفي مثلث متساوي الأضلاع.
1 – التجربة الصوفية
2 – التعبير عن هذه التجربة
3 – وباللغة الخاصة بكل خطاب صوفي.
وإن الغوص في أعماق هذه التجربة، هو من قبيل اللهاث وراء
السراب، فحسب الباحث أنه يرصد تجلياتها المعبر عنها بلغة تختزل الأبعاد الذاتية
والروحية. كما يمكن للباحث أن يحيط بالإطار الخارجي الذي يتحدد في الأغراض، حسب
اللغة النقدية القديمة[24].
وإذن فإن التجربة الصوفية، عبر الامتداد والتأسيس أو التأسيس والامتداد تضايقت فيها
وعبرها المحاور الآتية:
ـ الحب الإلهي
ـ التغني بالذات المحمدية عبر الحقيقة المطلقة
ـ رؤية الجمال المطلق، وتجليات الحق في مظاهر الكون
والطبيعة.
".. والصوفي لا يعيش التجربة لتظل فيه صامتة،
وحبيسة الذات الهائمة. وهو إن لم يعبر عنها داخل التجربة لاستحالة ذلك، فإنه
يستبطئ الزمن حتى تهدأ فيه اللوامع والطوالع واللوائع..، ليستقبل "زمن
الواردات فيسجلها بلغة الإشارة والدلالات الرمزية. وإذن فإن العبارة مثقلة
"بجني الثمار" المقطوفة من فراديس التجربة الروحية، بأشواقها وأذواقها..
والصوفيون أنفسهم، أحسوا باللامدى الذي يرسم الفناء المطلق لتجربتهم، كما شعروا
_أحايين- بنسبية اللغة التي يمكن لها احتواء ما يمكن احتواؤه من الأشواق
والمواجيد. وكانوا مضطرين لأن ينشقوا عن محدودية العبارة الثابتة.."[25]
فاصطلحوا على لغة دالة على التجربة الروحية التي لا تقاس بالحدود والأوصاف.
ولا تخلو المصادر الصوفية من الحديث المسهب –أو من
الإشارة المقتضبة- عن لغة "الإشارة"، وما استوجبته من مصطلح لا يدل إلا
عليها. ولعل الإشارات المقتضبة هي السابقة على التقعيد وعلى التنظير، لأنها تكون
"المرجعية" الأولى لأولي الأصول الذين يجمعون الأشباه والنظائر، وهم يقعدون
أو يرصدون تحركات اللغة من محيطها الاجتماعي إلى الانغلاق في دائرة المصطلح الخاص.
ولقد استشعر أحد أكابر الصوفية القدماء (أبو سعيد الخراز
– 286) هذا الفيضان الغاص الذي يتحرك في داخله ضاقت عنه لغة العبارة، وسقط في سديم
اللامعنى. يقول أبو سعيد الخراز في إحدى رسائله (كتاب الصفاء)[26]،
يخاطب من أرسل إليه الخطاب الصوفي: "وبعد، كل ما ذكرته لك غير ما أردته ولا
أعرفه، ولا أدري ما أريد، ولا ما أقول، ولا أدري من أنا، ولا من أين أنا فهل تعرف
أيها المستمع ما أقول لك؟ هو عبد قد ضاع اسمه فلا اسم له، وجهل فلا علم له، وعلم فلا
جهل له، ثم قال: واشوقاه! إلى من يعرف ما أقول ويدخل معي فيما أقول.."[27]
وقد أفرد الخراز في إحدى رسائله النادرة، أضاءت على بعض الحقائق الصوفية، تكون في
مجموعها أول محاولة لوضع المصطلح الصوفي. يقول في مقدمة (كتاب الحقائق).. "أما
بعد، فإني قد جمعت في كتابي هذا مسائل من طريق الحكمة على بيان الشريعة، بلسان أهل
المعرفة، علي الإيجاز والاختصار، دون الإطالة والإنكار.."[28].
وما دمنا مع أبي سعيد الخراز، فإن صاحب "عوارف
المعارف" ينسب إليه هذه القولة المثيرة:
"للعارفين خزائن أودعوها علوما غريبة، وأنباء
عجيبة، يتكلمون فيها بلسان الأبدية ويخبرون عنها بعبارة الأزلية، وهي من العلم
المجهول، فقوله بلسان الأبدية وعبارة الأزلية –يقول السهرودي- إشارة إلى أنهم
بالله ينطقون. وقد قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم- "بي
ينطق"، وهو العلم اللدني"[29].
ولقد جاءت هذه القولة، كتمهيد من السهرودي، من الباب
المخصص لشرح كلمات مثيرة إلى بعض الأحوال في اصطلاح الصوفية.
ويكاد الدارسون للتراث الصوفي، يجمعون على أن وراء هذه
اللغة الإشارية، مقاصد وغايات. منها الفني الصوفي تمشيا مع طبيعة كل علم على حدة
(كباقي العلوم الأخرى)، حيث إن لكل علم من العلوم مصطلحاته. ومنها ما يصب في
المحيط المعرفي، وبدافع إيديولوجي، ليرتقي بالخطاب إلى ميزان لمراكز القوى داخل
الخطابات الأخرى، خاصة منها الخطاب الشريعاتي الظاهري، وليس هذا بخاف أو خفي، فإن
بعض النصوص لم تفتها الإشارة، إلى هذا المقصد الخفي وراء العبارة الظاهرة.
والقشيري واحد ممن فطنوا إلى هذا المقصد؛ فأظهره في مقالته الآتية: "اعلم أن
من المعلوم أن لكل طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها، في ما بينهم، انفردوا
بها عما سواهم، تواطأوا عليها لأغراض لهم فيها: من تقريب الفهم على المخاطبين بها،
أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم بإطلاقها.
وهذه الطائفة (الصوفية) يستعملون ألفاظا في ما بينهم،
قصدوا الكشف عن معانيهم لأنفسهم والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم، لتكون
معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب (من غير الصوفية) غيرة منهم على أسرار من أن
تشيع في غير أهلها، إذ ليس حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي
معاني أودعها الله تعالى، قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم..)[30].
إن مقالة القشيري لا غبار عليها، حيث صرح بتلك المقاصد
والغايات التي تختفي وراء الخطاب الصوفي والذي باعثه الستر والإجمال، لتقف دون
فهمها كل القراءات "الأجنبية" كما في نص القشيري، لأنها صادرة عن أهل
الرسوم الذين لا يمتلكون وسائل الحوار مع النصوص الصادرة عن أهل الفهوم والأذواق.
ولقد كان تمهيد القشيري سنة اهتدى بها من جاء بعده من
أرباب المصنفات الصوفية، وقلما نجد الإضافة على ما كتبه القشيري في تمهيده
لمصطلحات القوم. والهجويري في مصنفه (كشف المحجوب) قد أبان بعض ما استتر، وفصل ما
أجمل. من إعطاء الأمثلة الموضحة للمقصود. ولكنه لم يحد عما رسمه سلفه القشيري. فهو
يقول: "فلهذه الطائفة –أيضا- ألفاظ موضوعة لكمون وظهور كلامهم ليتصرفوا بها
في طريقتهم، ويظهروها لمن يريدون، ويخفوها عمن يريدون"[31]
والهجويري، في آخر الكتاب، وفي كشف الحجاب العاشر، وضع عنوانا مبينا لبابه، والغرض
منه "بيان منطقهم وحدود ألفاظهم وحقائق معانيهم".
وفي إطار التراكم الصوفي وتراثه، وعبر التطور الحاصل في
بنيات المعرفة الصوفية وحمولاتها الفلسفية والتي أثارت حفيظة الفقهاء وأهل الظاهر،
نعم في هذا السياق جاء خطاب ابن العربي الحاتمي كأكبر متصوف في ديار الغرب
الإسلامي، هذا الخطاب الصوفي الذي استوعب الكثير من مقولات الإشراقيين وكان من
اللازم عليه أن يخصص جزءا كبيرا من تراثه الصوفي، متحدثا، ومفسرا، ومنظرا.. لهذا
الخطاب الذي ملأ به الدنيا وشغل الناس.
ولا نغالي إذا قلنا، بأن ابن العربي، هو الصوفي الوحيد،
الذي حاول التأسيس "للكتابة الصوفية، بكل أبعادها ومستوياتها، فتارة ينطلق من
تجربته الإبداعية الخلاقة، وتارة يأتي بالإضاءات، وهو يقرأ خطاب الغير، ممن سبقه
من الصوفية، لتقرأ هذا التمهيد، من كتاب اصطلاح الصوفية:
".. أما بعد، فإنك أشرت إلينا بشرح الألفاظ التي
تداولها الصوفية المحققون، من أهل الله، بينهم، لما رأيت كثيرا من علماء الرسوم قد
سألونا في مطالبة مصنفاتنا ومصنفات أهل طريقنا، مع عدم معرفتهم بما تواطأنا عليه
من الألفاظ التي بها نفهم بعضنا عن بعض فأجبتك إلى ذلك، ولم أستوعب الألفاظ كلها،
ولكني اقتصرت منها على الأهم فالأهم، وأضربت عن ذكر ما هو مفهوم، من ذلك، عند كل
من ينظر فيه بأقل نظرة، لما فيها من الاستعارة والتشبيه..)[32].
وإن العنصر البارز المعبر عنه بالعبارة الصريحة، في هذا
البيان، هو ذكر ابن العربي لأهل الرسوم الذين يقفون أمام الخطاب الصوفي، إما
منكرين وجاحدين، وإما مستفسرين جاهلين، وأما العنصر الثاني، فله ارتباط بالناحية
الفنية للكتابة الصوفية (لما فيها من الاستعارة والتشبيه)..
تلك مقتطفات، انتقيناها من بعض المصنفات الصوفية، التي
أولت الاهتمام للجديد في الكتابة الصوفية القائمة على أجزاء الخطاب الخاص. ثم إن
تلك المقدمات التمهيدية-التمثيلية فقط- لم تغص في أعماق الخطاب الصوفي، وإنما هي
إحالات منبهة ودالة. ولقد تسائل البعض –من دارسي الخطاب الصوفي- سؤالا وجيها[33]:
كيف تطور المصطلح الصوفي، وهل حصل هذا التطور فعلا، عبر تاريخ المعرفة الصوفية؟
علما بأن مصنفات الفت في هذا السياق؟ منذ أبي سعيد الخراز إلى يومنا هذا..[34]
والسؤال الوارد أيضا هو: ألا يدل هذا التراكم –المصطلحي-
على أحد الثوابت في الكتابة الصوفية؟
ومع
مشروعية هذا التساؤل، فإن هناك ثوابت أخرى، تضاف، بالتداخل، إلى عناصر مؤسسة لكل
خطاب صوفي. ولقد شكلت تلك العناصر المؤسسة ظاهرة بارزة تجاوزت حدود اللغة المعبرة
عن مؤسسات المجتمع المتفاهمة بالخطاب العادي. ومن ثم كثرت التحليلات والبحوث في
هذا المجال[35].
وإذا كان بعض الدارسين للخطاب الصوفي وعناصر، قد حدد
أركانا ثلاثة، بتداخلها وتوحدها تتحدد ماهية الكتابة الصوفية، وهذه الأركان هي:
1 – الغرض
2 – المعجم التقني
3 – المقصدية[36]
فإن هذه الأركان المعيارية لا تستبطن التجربة الصوفية من
الداخل، وقد أشرنا في بداية هذا الجرد، إلى أن ماهية الخطاب الصوفي إنما تتحدد
بزوايا الأضلاع الثلاثة. وكانت "التجربة الصوفية" بمثابة البنية العميقة
التي تتغلغل في أحشائها ذاتية الصوفي الذائبة في شرايين الاحتراق. والصوفيون
أنفسهم قد لوحوا إلى هذه الحالة التي لا يمكن التعبير عنها بحروف العبارات، لضيقها
وحدود نفسها؛ فكانت الإشارات الفضاء الموعود.
فكيف تعبر لغة الكثافة عن مقام اللطافة؟ "وربما عبر
عن المقام من استشرف إليه، وربما عبر عنه من وصل إليه، وذلك ملتبس إلا على ذي
بصيرة" بذلك التقط ابن عطاء الله، بحكمه، الأبعاد الخفية المستترة وراء سديم
العبارة الناقصة. ذلك أن عبارة الصوفية، كما تقول الحكمة العطائية تصدر "إما
لفيضان وجد، أو لقصد هداية مريد، … فالأول حال السالكين، والثانيحال أرباب المكنة
والمتحققين"[37].
وإذن فإن حدود الكتابة الصوفية وماهيتها لها ارتباط جدلي
بالمعرفة الصوفية على الإطلاق. وهذه المعرفة لا تدور ولا تتمحور إلا على
"الحقيقة"، ومن ثم فالتعبير عن هذه الحقيقة يجب أن يكون موازيا ومندمغا
في آن واحد مع الحقيقة الصوفية، والتي لا يمكن التعبير عنها بلغة الظاهر، إنما
الباطن هو الحاضر في هذا الخطاب. وانطلاقا من هذا المعطى –ومعطيات خارجية أخرى-
قامت ثنائية الظاهر/الباطن، ثنائية العبارة/الإشارة، ثنائية الحقيقة/الشريعة،
ثنائية الفهوم/الرسوم..
وإن الذي يهمنا من هذه الثنائيات، ما له علاقة بتركيب
الخطاب الصوفي، ومقوماته التعبيرية. لأن عملنا –لاحقا- سينصب على الخطاب الصوفي-الأدبي
دون غيره.
وإننا لواجدون في أدبيات القوم، وفي إبداعاتهم التعبير
عن هذه الإشكالية الشائكة. ولقد أشرنا –قبل- إلى الإحساس المنبهم، الذي كان يغلي
في صدر أحد رواد التصوف الأوائل (أبو سعيد الخراز).. لكن الصوفي الأوحد، الذي عبر
عن هذه الإشكالية، وبإلحاح واحتجاج، وفي مواقف ومخاطبات، هو محمد بن عبد الجبار
النفري(345):
"وقال لي: أوائل الحكومات أن تعرف بلا عبارة..
وقال لي: العبارة حرف، ولا حكم لحرف.
وقال لي: إن سكنت إلى العبارة، نمت، وإن نمت مت، فلا
بحياة ظفرت، ولا على عبارة حصلت"[38].
وكأن
العبارة الجاهزة، هي قتل للحياة الصوفية، التي يحياها في عالمه المطلق. هكذا عبر
النفري في إحدى "مواقفه". ويتردد صدى هذا الموقف، ليتناسل في مواقف
أخرى. ولا غرابة في هذا، ما دام النفري يحدث –بالفتح- وبلا واسطة. فهل تفي كل
العبارات اللغوية عن هذا الاندغام الكلي بين المرسل والمرسل إليه؟ وللنفري موقف
آخر عنونه بـ"موقف الإشارة"، وهو دائما يتلقى الخطاب المؤشر (وقال لي):
"أوقفني في الإشارة، وقال لي:
هي منك، لا تهدي ولا تهتدي،
وقال لي: فات وصفي الأوصاف، فلا هو كما بلغت، بلى! هي
كما أحاط،
وقال لي: المعرفة التي تخرجك من المنطق عن الوجد، إشارة،
وقال لي: إذ لم تخرج في النطق عن الوجد بي، عرفت الإشارة[39]"
ولغة الإشارة، في مواقف النفري هي اللغة الصامتة التي
تعتمد على "الإيماءات" الدالة البليغة، لأن المقام تضيق عنه الحروف، كما
يقول النفري، أغلب المواقف المتناثرة والخطيرة في آن واحد.
وليس النفري وحده الذي عانى من ضيق الفسحة التي بين
الحروف، فيخلع عليها المتصوفون قوة التجنيح بالإشارات والرموز. وإذن لا يخلو مصنف
صوفي، هو بمثابة الأصول، من طرح إشكالية الصوفية. ولكن التعبير عن هذا الإحساس،
وبلغة الإبداع، هو أصدق برهانا مما ينطق به الدارسون والمنظرون للخطاب الصوفي. ذلك
أن الإحساس من داخل التجربة الإبداعية-الصوفية، يكون أحد انفعالا من الوصف
الخارجي. لنتأمل هذا التعبير الموجز، والذي انطلق كالنيزك، من "تائية"
ابن الفارض.. وهو الشاعر الذي كانت تتخطفه التجربة الصوفية، فلا يستيقظ منها إلا
بعد زمن غير يسير:
وعنـي بالتلويح يفهم ذائـق غني
عن التصريـح للمتعنـت
بها لم يبح، من لم يبح دمه
وفي العبارة معنـى ما العبارة حدت[40]
وفي
البيت الثاني إشارة إلى مأساة كل صوفي يحاول "البوح" عن سره وسر ليلاه،
فإذا ما تم البوح بالعبارة الكاشفة، فإن القتل لا محالة مدركة فملاقيه. كما حصل
للحلاج، والسهرودي المقتول. وهذا الأخير هو القائل في بيته الذي سار مسرى الأمثال:
بالسر إن باحوا، تباح دماؤهم
وكذا دماء العاشقين تباح[41]
ويقول ابن الفارض أيضا، على سبيل التوضيح، للمسكوت عنه:
أشرت كما تعطي العبارة، والذي
تغطى، فقد أوضحته بلطيفة[42]
وما تخفيه العبارة –أو المسكوت عنه، هو الخالد في أدب
القوم، وما تحت الرموز- كما يقول ابن الفارض- هو محفوف بالذخائر والكنوز:
رموز كنوز عن معاني إشـارة
بمكنون ما تخفي السرائر حفت[43]
هذه فلتات متناثرة في بستان الشطحات الصوفية، وفي جمعها
وتنضيدها يتألف "البيان الصوفي" حول أخطر إشكالية لغوية عرفها الأدب
العربي والآداب الأخرى؛ الشرقية منها وغيرها. وكان ممن اهتم بهذا الموضوع
الكلاباذي، فقد جمع نصوصا "بيانية" غير التي استجمعناها في قراءتنا
الخاصة[44]
ولا ننسى، كما أشرنا سابقا –الدور التنظيري الذي قام به الشيخ الأكبر ابن العربي
في هذا السياق. إضافة إلى ما أثاره ديوانه "ترجمان الأشواق" من غبار،
وإلى ما تركه من حفيظة الفقهاء من أهل الظاهر. وكان ذلك باعثا له على كتابة
"البيان التوضيحي"، وفي مقدمة الديوان، وليس هذا وحسب، وإنما نذر نفسه
لشرح ما علق بالديوان من غموض، يستلزم كشف الغطاء عن "الرقائق واللطائف"
المعبر عنها بألفاظ تلتصق بالحسيات والماديات. وما على القارئ إلا أن يحسن الظن
بشاعرها. وأن يصرف الخاطر عن ظاهرها؛ فحسب الألفاظ الحسية أنها "ترجمان"
للأشواق والمواجيد الروحية:
كل مـا أذكره مما جـرى ذكره، أو
مثله أن تفهمـا
منه أسرار وأنوار جلـت، أو علت
جاء بها رب السما
لفؤادي أو فؤاد من لــه مثل ما
لي من شروط العلـا
صفـة قـدسيـة علويـة أعلمت أن
لصدقي قدمـا
فاصرف الخاطر عن ظاهرها واطلب
الباطن حتى تعلمـا[45]
وقد استطاع بعض الدارسين أن يكشف الستار الحائل بين
القارئ العادي، وبين الخطاب الغزلي/الصوفي، في ديوان ترجمان الأشواق، ليخرج في آخر
المطاف بدليل كاشف عن "طريقة الرمز عند ابن عربي"[46]
المذكور. وهو عمل إحصائي وتصنيفي، وتحليلي في آن واحد. وهكذا نرى أن تجليات الرمز
في الديوان شمل العوالم الثلاثة: عالم الحيوان، وعالم الطير، وعالم الطبيعة[47].
وحتى لا نطيل الحديث عن هذا الصوفي الكبير، والحالة أن
دراسات ألفت حول "الكتابة والتجربة الصوفية" في تراث ابن العربي[48].
نعم حتى لا نطيل، نقتصر على بعض التنظيرات التي فسر بها ابن العربي القاعدة
الثابتة في كل خطاب صوفي، اتخذ من الإشارة البديل والرمز، ليكون الحوار منطقيا مع
لعبة الظاهر/الباطن.. كثنائية قائمة الذات.
والسؤال بعد هذا: هل استطاع ابن العربي أن يخرج بنسق
يحدد الخطاب الصوفي وآلياته؟ إن كتابه الشهير بـ"الفتوحات"، وعبر
الأسفار المتعددة، قد حوت شذرات وإشارات وتحليلات، يمكن للباحث فيها –إحصاءا
واستقصاء- أن يحصر الثوابت المؤسسة لعلم الإشارة، خاصة إذا قرأنا هذه الفلتات
والإشارات والشذرات برؤية العلم الحديث، أو فلسفة اللغة المعاصرة!
ولقيمة البحث في "علم الإشارة" أفرد ابن
العربي في "الفتوحات المكية" (الباب الرابع والخمسون) في "معرفة
الإشارات"، إضافة إلى ما ورد عرضا في باقي الأسفار الأخرى، كحديثه عن الحروف
وأسرارها ودلالاتها، لا من جهة المعنى وحسب بل من جهة شكلها الخارجي، قبل أن تخرج
إلى الوجود التنظيرات الحديثة في ما يخص الفضاء البصري للفظة والكلمة[49].
ومن عادة ابن العربي أنه يستهل كل باب من أبواب الفتوحات
بأبيات من الكلام المنظوم، يكون تلخيصا للخطاب التحليلي الوارد بعد ذلك. وكأن
الأبيات المنظومة هي تقعيد مكثف يستلزم التفسير:
علم الإشارة، تقريب وإبعــاد
وسيـرها فيـك تأويب وإسئـاد[50]
فابحث عليـه فإن الله صيــره لـمن يقوم به، إفـك وإلحــاد
تنبيه عصمة من قال الإله لــه:
كن! فاستوى كائنا، والقوم أشهاد[51]
إن مفتاح الخطاب هنا يؤشر لحالة القرب وحالة البعد، لأن
وظيفة الإشارة، بالنسبة للقوم، وهم العارفون بماهية المفردات، هي تقريب الدلالة،
على جناح الرمز والتلويح. وهي بالنسبة للخارجين عن مدار الاصطلاح الدور الفاصل في
حلبة التواصل، وهذه القراءة تستحضر أيضا اللذة الحاصلة عند الباحث، الذي يستجلي
بفهمه الذوقي ذلك الكائن اللغوي في الصورة الأجمل والأبهى. وإذن فـ"إن
الإشارة عند أهل الطريق –يقول ابن العربي- تؤذن بالبعد، أو حضور الغير"، ويورد
صاحب الفتوحات قولة دالة على القصدية الصوفية من وراء الإشارة، وينسبها لابن
العريف، (وهو يذكر كتابه دون اسمه)[52]:
"الإشارة نداء على رأس البعد، وبوح بعين العلة". فسلطة البيان هنا، إنما
هي ملكة يمتلكها الصوفي أو الصوفيون الذين ألهمهم الله "وفهمهم معاني كتابه وإشارات
خطابه"[53].
أما علماء الرسوم، فيظلون غرباء وبعيدين عن الحرم القدسي
المرسوم والمكنون، وذلك –يقول ابن العربي- لجهلهم بمواقع خطاب الحق"[54].
ويؤكد صاحب الفتوحات أن علم الإشارة بالنسبة للصوفي لا
يعلم ولا يكتسب، بل يوهب فتغرس في نفس الصوفي بذور المعاني لتسقى "بماء
الغيب"، فتهيج في حقول نفسه وتورق أغصانا –للفهم- يانعة. ويتحول المريد
الصادق –في هذه المرحلة- "وكأنه الواضع لذلك الاصطلاح، ويشاركهم في الكلام
بها معهم، ولا يدري كيف حصل له"[55].
وهل يعني هذا –في تصور ابن العربي- أن مقاربة الإشارات الصوفية، يدخل في باب العلم
اللدني غير المكتسب بأدوات العلم المحدودة؟
وحتى إذا توفرت "الواسطة"، فإن فهم الدلالة
الصوفية يبقى باردا لا حرارة فيه. "والدخيل من غير الطائفة لا يجد ذلك إلا
بموقف"[56].
ويختم ابن العربي هذا الباب بفصل الخطاب من حقيقة الخطاب وخطاب الحقيقة، فيقول:
"فهذا معنى الإشارة عند القوم، ولا يتكلمون بها إلا عند حضور الغير.."[57].
وخلاصة الرأي، في مذهب ابن العربي، هو أن الدلالة بين
المرسل والمرسل إليه أنما تحصل لمن يتذوق، بالتجربة والممارسة الصوفيتين، خطاب
القوم، وقد لا يجد –في ذلك- صعوبة تحول بينه وبين القصد المعرفي، كما يجدها
"الغير" و"الدخيل" على عالم القوم؛ ومن ثم فإن التحليل
الإيديولوجي للخطاب يبقى واردا، وأن كل تفسير فني –تقني- لآليات ذلك الخطاب الخاص،
إنما هو من قبيل العارض الخارجي، والذي يخدم بالضرورة القصد الإشاري المختفي وراء
الحجب المستورة، بالرمز وما يجري مجراه.
وهذه إشكالية، في علم العبارة، أيضا تعود مجددا، في
أدبنا العربي الحديث..، وبلبوس نقدي يستصحب المعطى القديم –الإيديولوجي- لينطلق،
وبأجنحة الأساطير والرموز.. ويظل السؤال، واردا..، في كل عصر، وفي كل أوان: ما هي
الدواعي –المستترة- وراء التعبير بالرمز؟ وما موقع سلطة البيان، وسلطة المجتمع من
إعراب الإشارة؟. لنتصفح أوراق "القواعد" التي حبرها المتصوف المغربي
أحمد زروق(846-896)، فإننا واجدون فيها الكلام الموجز البليغ، كإجابات عن
تساؤلات –صوفية- يمكن أن تجيش في نفس المريد، أو الشيخ، أو في كل باحث دارس لهذا الخطاب
الصوفي. وفي الكتاب "قواعد" متفرقة عن اللغة المتداولة بين المتصوفة،
كما في الكتاب "قواعد" تنم عن إحساس نقدي بارز، في التحليل والتفسير.
فما داعية الرمز، بعد كل هذا؟
يجيبنا الشيخ زروق، على الفور، وبلغة البرقيات الموجزة:
"داعية الرمز، قلة الصبر عن التعبير لقوة نفسانية، لا يمكن معها السكوت، أو
قصد هداية ذي فتح معنى ما رمز، حتى يكون شاهدا له أو مراعاة حق الحكمة في الوضع،
لأهل الفن دون غيرهم، أو دمج كبير المعنى، في قليل اللفظ، لتحمله وملاحظته أو
إلقائه في النفوس، أو الغيرة عليه، أو اتقاء حاسد، أو جاحد لمعانيه ومبانيه"[58].
ويمكن تلخيص هذه القاعدة واختزالها في ما يلي:
1 – العجز عن التعبير
2 – الضرورة الفنية
3 – الغيرة النابعة من إيديولوجية الخطاب الصوفي.
وفي قاعدة أخرى – من قواعد الإمام زروق، يشترط شروطا ثلاثة
لمقاربة كل خطاب صوفي مشحون بالإشارة المفضية إلى عالم الاحتمال والتأويل. تقول
القاعدة رقم(207)، وهي تشير، في آخرها، إلى ما يمكن أن ترسمه القراءة الخاطئة
للأثر الصوفي، من دروب الضلال: "فلزم الحذر من شوارد الغلط، لا تجنب الجملة
ومعاداة العلم.. ولا يتم ذلك إلا بثلاث: قريحة صادقة، وفطرة سليمة، وأخذ ما بان
وجهه وتسليم ما عداه.. وإلا هلك الناظر فيه، باعتراض على أهله، وأخذ الشيء على غير
وجهه.."[59].
ومن المعلوم أن "قواعد" زروق الصوفية، إنما
تمثل الرؤية الوسطية في الحكم على الخطاب الصوفي. وزروق بصفة عامة يمسك بيده
اليمنى –في سوق القوم- ميزان الاعتدال[60].
وحسبنا منه –هنا- هذه الوقفة النقدية كإضاءة في ليل الإشارات الصوفية، وهي صادرة
عن شخصية زاوجت بين التصوف المعتدل، وبين الفقه المتنور. وبهذه الخصلة الوسطية عد
زروق "محتسبا" بين علماء الظاهر وعلماء الباطن.
وبإجابة الشيخ أحمد زروق عن "داعية الرمز" في
الخطاب الصوفي. تكون قد اقتربنا شيئا فشيئا من الحرم القدسي والتي ترسمه فضاء
"الإشارة". وتكون "نيازك الرموز" إحدى الشهب اللامعة، في كون
العبارة الصوفية، مما يطرح سؤالا وجيها هو:
أين يتموضع الرمز في محيط الإشارة؟
وأين الخاص –منهما- وأين العام؟ بلغة المنطق والأصول!
وهل الإشارة، بالمفهوم الصوفي، متوازية مع ما ترسمه
السيميائيات الحديثة؟
وبنفس الصيغة يطرح السؤال عن "الرمز" كمعطى
دلالي!
إن هي إلا أسئلة، لها شرعية التناسل، لكن المقام هنا، لا
يقتضي الجواب المفصل، لاختلاف السياق من جهة، ومراعاة للمقام من جهة ثانية.
ولقد تعرفنا على بعض "المفاهيم" الصوفية، في
ما يتعلق بمصطلح "الإشارة" وموقعه من حالة القرب والبعد، في إرسال
الخطاب. لكن تضايف "الإشارة" مع "الرمز" يطرح إشكالا أسلوبيا
بما تحمله الكلمة من دلالة في التعبير، أو في علم العبارة الأدبي. لعل الرمز عند
ابن العربي يحمل دلالة أخرى:
ألا إن الرموز دليل صـــدق على المعنى المغيب في الفــؤاد[61]
ويتحدث، في الفتوحات عن (الرمز واللغز) فيقول: "..
إن الرموز والألغاز ليست مرادة لأنفسها، وإنما هي مرادة لما رمزت له ولما ألغز
فيها...".. "ولهذا العلم رجال، كبير قدرهم، من أسرارهم سر الأزل،
والأبد، والخيال، والبرزخ"[62]
وحسب القراءة الحديثة لمتن البيت السالف، فإن لفظ "دليل" يشير إلى طبيعة
تناصية مع لفظ "الإشارة"، بل ومع مفردات فنية أخرى. "فالرمز مثلا،
شبهي عند هيجل على النقيض من الدليل الذي ليس شبهيا.."[63].
وهناك فروق دقيقة تحدد موضع تلك المفردات، يعرضها رولان بارث، قائلا: "..
ومعنى هذا، إذا توخينا الإيجاز والتحدث بمصطلحات دلائلية.. أن كلمات المجال، لا
تستمد معانيها إلا من خلال تعارض بعضها مع البعض.. ومعنى هذا أيضا، أنه إذا ما
حوفظ على هذه التعارضات. لا يعتور المعني إبهام، خصوصا، وأن الإشارة، والقرينة،
والرمز والدليل، مواصفات تؤدي وظيفتين مختلفتين، قد تتعارضان هما نفسهما تعارضا
شاملا.. سنتفق ما "قالوه" على إن الإشارة والقرينة زوج أطراف مجرد من كل
تمثل نفسي، في حين أن هذا التمثل يوجد في الزوج النقيض، أي الرمز والدليل، على أن
الإشارة، تكون فضلا عن ذلك، مباشرة وجودية، في مقابل القرينة التي ليست مباشرة ولا
وجودية.."[64]
أن "بارث" يلح على أن تتضايف تلك "الأزواج"، وفي تضايفهما ما
يوحي بالخيط "المرادف" الموحد بين الدلالتين.
وهناك اختلافات واضحة في تحديد المفهوم الدلالي لبعض
"المفردات" المشار إليها. وهو اختلاف تمليه طبيعة المذهب اللساني، أو
الأنثربولوجي، أو غيرهما، ولكن الكل، داخل هذا المذهب أو ذاك، متفق على أن الرمز
أعلى مقاما من "الإشارة"، لكون المحدثين لا يحملون "لفظ
الإشارة"، ما هو مصطلح عليه لدى الصوفية. فـ"الرمز يشمل كل أنواع المجاز
المرسل والتشبيه والاستعارة، بما فيها من علاقات دلالية معقدة، بين الأشياء بعضها
وبعض.. أما الإشارة، فليس فيها سوى دلالة واحدة لا تقبل التنويع، ولا يمكن أن
تختلف من شخص لآخر، ما دام المجتمع قد تواضع على دلالتها"[65].
أفلا يرجع هذا الاختلاف إلى التقسيم الاجتهادي لأنواع
الدلالة، لا عند القدماء ولا عند المحدثين؟ فالقدماء قد اتفقوا على أن الدلالة
تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي تتنوع إلى ثلاثة أنواع "عقلية، وطبيعية،
ووضعية"[66]
ويكاد يقابل هذا التقسيم، ما ذهب إليه بعض المحدثين في تقسيمه "للعلامة"
"إلى شاهد Index وأيقونة Icon ورمز Symbole الذي شاع في السيمياء
الحديثة"[67]
وإن الباحث ليجد صعوبة، وهو يحاول تطبيع "الخطاب الصوفي" مع التقسيمات
التي تتفرع عنها الدلالة[68]
باعتباره "خطابا" قد يتضايف، أو يتقاطع مع هذه أو تلك من أنواع
الدلالات. وباعتباره أيضا قد ينشق عنها ليؤسس دلالة روحية "تضيق عنها الوضعية
والعقلية والطبيعة. ولم يبق إلا عالم التأويل كجسر إشاري يستجمع أبعاد الوعي
الصوفي، بذاته الفانية في المطلق، إلى أن يتحد معه، عبر درجات الرقي الروحي، ومن
ثم فإن لغة التواصل –بالعبارة دون الإشارة- لا يمكن لها، بتاتا، استيعاب الذبذبات
الزمنية التي تؤرخ للخطاب "الشطح" في ديمومتها الخالدة ونحن إذا ماشينا
"هيجل" في وصفه لحالة الغبطة الروحية، نكون قد أصبنا الاختيار لأنه
كفيلسوف مثالي، كاد أن يقترب من الخطابات الرمزية في محاولة منه لسبر أغوارها
الدفينة في قاع الوجود. هيجل يرى أن الخطاب الرمزي-الصوفي، يسعى إلى استشفاف إلهي
في الأشياء المخلوقة طرا، وإذ يستشفه فيها، فعلا، يتخلى عن أناه الخاص ليعقل في
الوقت ذاته محايثة الإلهي في نفسه، التي
تكون، على هذا النحو، قد انعتقت واتسع رحابها. وهذا ما يعود عليه بالداخلية
الصوفية والسعادة الحرة والغبطة البهيجة، التي هي من قسمة (الشرقي) حين يعزف عن
خصوصيته، ليستغرق في الأزلي والمطلق، وليطلب ويعاين ما هو موجود: حضور
الإلهي.."[69].
لكن علم الإشارة –صوفيا-، وإن كان غامض المعطيات والمفاهيم
(لكونه ذوقيا حدوسيا)، هو الوحيد الذي يحدد "ماهية" الخطاب الصوفي، لا
غيره، لأن التعبير الإشاري، هنا، يحتفظ بسموه وتعاليمه، خلافا لمفاهيم الإشارة
التي مررنا بها خفافا.. وقد تحتضن الإشارة/الرمز، كعلاقة العام بالخاص، رغم ما
يبديه البعض من تعارض بين الطرفين[70]
فالمفردات الفنية، في علم اللسانيات، مثلا، أو في علم البلاغة، أو في علم الأصول،
إنما ترتبط بمطلق الدلالة لمطلق الخطاب، كما أن اللغة –في الخطاب العام- هي لغة
تواصل لا لغة وجود، كما هي في الكتابة الصوفية، حيث أن اللغة الإشارية في الخطاب
الصوفي، هي اختزال للحظات التماهي بين الوجودين: المطلق في أبعاده، والنسبي في
تطلعاته[71].
وانطلاقا من ثنائية جدلية في خلفية التحكم، والإقصاء،
والإلغاء "فلا تفصم الذات العارفة والمالكة لزمام الخطاب اللغة عن الوجود
فقط، ولكن تفصم اللغة ذاتها: إنها تقسمها إلى ظاهر وباطن، وكما سبق أن ألغت الوجود
لتبقي على اللغة، فإنها ستلغي الظاهر لتبقي على الباطن وحده، وهو ما تعتبره حقيقة.
هذا الإلغاء هو ما يسمى بالضبط: التأويل، إنه اختزال ظاهر الخطاب لصالح باطن ما،
وهكذا، أن التأويل، حينما يتحول إلى سلطة، يهدم وحدة اللغة والعالم، إنه يقع في
مأزق هو: تمزيق الكينونة.."[72].
استوقفتنا –في ما مضى- آراء وتصورات حول الخطاب والخطاب
الصوفي. ولم نحاول قط، العروج على المنحنى الأدبي لذلك الخطاب. وإن كان هذا من
ذاك. لكن شعرية الخطاب أقوى كثافة وأدق إشارة من الكتابة الصوفية التي لا تخضع
لجنس أدبي معين. وإن كان المتصوفة، يضربون في كبد التخييل، حتى ولو كان المتن
خارجا عن الأجناس. وقد أرجأنا الحديث عن الخطاب وشعريته وعبر ضروبه الصوفية، إلى
أبواب وفصول لاحقة.
كما أننا، اعتمدنا العرض النظري المكثف –وهو يحتاج إلى
تفسير أشمل- دون أن يستوقفنا الجانب التطبيقي، قصد تفكيك الآليات الأدبية
والشعرية، تاركين ذلك إلى مقام آخر، وفق الخطة المرسومة لهذا البحث.
وقبل الانتقال إلى قضية أخرى من قضايا هذه الأطروحة لا بد
من الإشارة إلى تراكم القراءات في محيط "علم الإشارة" الصوفي. وكأن
سلطان التأويل هو المسيطر على تلك القراءات والشروح. وبذلك أضاف الصوفية –للخطاب الصوفي-
خطابا آخر، هو بين التأويل، والتفسير، والقراءة. ومن اللازم أن يتربع النص القرآني
على عرش التأويل، انطلاقا من ثنائية الظاهر والباطن، وباعتبار أن القرآن له ظاهر
للفقهاء وعلماء الرسوم، كما له باطن اختص به العرفانيون. وفي هذا الصدد حكي عن
جعفر بن محمد (الصادق) أنه قال: كتاب الله على أربعة أشياء:
ـ فالعبارة للعوام
ـ والإشارة للخواص
ـ واللطائف للأولياء
ـ والحقائق للأنبياء..[73]
والاعتقاد سائد عند الشيعة –وهم أقطاب علم الباطن-، بأن
الخطاب القرآني، قد اختص بفهمه وبعلم تأويله أفراد مخصوصون من أهل البيت، هكذا
تناسلت إشكالية التأويل للخطاب القرآني. يقول صاحب "الهفت والأظلة"[74]
"ووجدنا التأويل عن أهل البيت موافقا للتنزيل، لأن أهل البيت استنبطوا من
العلم ما حارت فيه عقول الناس، وعجزت أفهامهم، وضعفت عقولهم عن احتماله.."[75].
وقد يلتقي التفسير الصوفي للخطاب القرآني –في المنطلق على
أقل تقدير- مع تيار الشيعة الباطنية، كما تؤكده الآثار المنسوبة، في هذا الميدان،
إلى بعض أئمة الشيعة الباطنية، في السياق التاريخي لحفريات المعرفة الإسلامية.
والذي نعتمده هنا ما كان منطلقا لقراءات الصوفية لأقدس نص عرفته البشرية. كما أن
هذه الانطلاقة قد تشعبت في أرجاء النصوص الأخرى، فالتفسير/التأويل، للخطاب
القرآني، قد وجد الأرض الخصبة في تراث المعرفة "العرفانية". ومن باب
الإشارة فقط فإن الإمام القشيري، صاحب "الرسالة"، قد أحاط الخطاب
القرآني "بلطائف إشاراته"[76]
فاتحا المجال –لمن بعده- في إخصاب تربة الخطاب، لتورق الشجرة القرآنية بثمار
التأويل العرفاني. ولا ننسى ما قام به ابن العربي، سواء في أغلب مصنفاته الصوفية،
أو في التفسير المنسوب إليه[77]
ولقد استوقفني تفسير صوفي –كان المرجعية الكبرى للفترة الإسماعيلية- يدعى
"عرائس البيان"، وجميع النقول عنه تنسبه إلى "الورتجيبي"؟ وقد
أشار إلى هذا الإشكال، في العزو، الباحث المقتدر الفقيه محمد المنوني[78].
وسوف نقف على هذه النقول في الفصل المخصص للخطاب الصوفي في الأدب المغربي ومرجعيته
التراثية. ولا نطيل الكلام عن التفسير/التأويل، للخطاب القرآني، فحسبنا
"الإلمامة" برؤوس الحروف. وحسبنا –كذلك- التأكيد على أن ظاهرة التفسير
الرمزي قد امتدت لتشمل التراب المغربي، وكانت محاولة "ابن عجيبة" في آخر
المطاف.
وإذن، فالانطلاق من الخطاب القرآني، في رحلة التأويل
والقراءة، كان فاتحة لها غاياتها، كما لها مقاصدها. كما أنها محاولة لإضفاء الشرعية
العرفانية على الخطابات الأخرى. مما يشكل المكونات الأساسية للخطاب الصوفي عامة.
والأدبي منه خاصة. ولم يكتف أرباب التأويل من تناول هذا الخطاب وقراءته وتأويله،
بل إنهم أسسوا "قواعد" حتى لتحليل الخطاب النحوي، كما في "نحو
القلوب" للقشيري. وهو يقول في "باب الإعراب والبناء": "لما
كان الإعراب بالحركات الثلاث: الرفع والنصب والجر، والجزم. كان مدار أهل الإشارة
برفع هممهم إلى الله تعالى ونصب أبدانهم في طاعة الله تعالى، وخفض نفوسهم تواضعا
لله تعالى"[79]
لا يمكن بحال القيام بحصر –ولو موجز- يستوحي الظاهرة الإشارية في القراءة، والشرح،
والتأويل. لأنها أحدثت تراكما ملحوظا، قد تشكل علامة بارزة في تطور الخطاب النقدي،
وانتقاله من ساحة النقد والبلاغة، إلى ساحة الإشارة الصوفية. وامتدت المحاولات
لتشمل، كما سبق القول، الأثر الصوفي على الإطلاق بدءا من كلام الجنيد[80]،
إلى أبيات الششتري، ثم إلى الحكم العطائية[81]
بله المطولات من شعراء الفحول، كابن الفارض وغيره. وقد ألمحنا إلى الدواعي التي
حدت بابن العربي إلى أن ينشر على ديوانه "ترجمان الأشواق" ظلالا من
التأويل وهناك محاولات مغربية شاركت خلال العصر الإسماعيلي، بجهود في هذا المجال.
خاصة فيما يتعلق بقراءة الصلاة المشيشية، قراءة تأويلية، أو في ما يخص آثار
البوصيري.. واستمرت الظاهرة إلى العهود المتأخرة، لتشمل "التائية"
الحراقية وغيرها[82].
والجدير بالذكر، أن القوم، قد تعدوا حدود "الأثر
الصوفي"، متجاوزين بذلك حدود الخطاب، بإسقاط مفاهيم على الشوارد من الأمثال،
وعلى الحكم والأشعار، من كلام العرب عامة وسيستوقفنا اليوسي في محاضراته، وهو يعقد
فصلا بعنوان "تذوق الصوفية معاني الأبيات والإشارات وتأويلها حسب
المقامات"[83]
وهذا باب يحتاج إلى تعليق ضاف.
وهكذا نكون قد فككنا بعض الآليات في حقيقة
"الخطاب" وخطاب "الحقيقة"، دون أن ندعي أننا ألممنا، بما فيه
الكفاية. لأنه موضوع يحتاج إلى "بحث" مستفيض. تتدخل في تحليلاته حاسة
البحث المقارن، بين ما يرمي إليه "علم الإشارة الصوفي" وبين ما حققته
الإنجازات المعاصرة في تحليل الخطاب. وعبر المذاهب المتداخلة والمتعارضة في آن
واحد. وكانت الغايات والمقاصد، من هذا المدخل، هو التأكيد على الشروط التي يجب أن
تتوفر في كل خطاب صوفي، بعامة، والخطاب الأدبي –منه- بصفة خاصة. إضافة إلى طرح
المفاهيم المحددة لمفردات البحث ومحاورهg
[1] - اللسان، 1/361.
[2] - وردت الكلمة في
القرآن الكريم على وزن فعال مرتين: في سورة "ص" الآية 20 وفي سورة النبأ
الآية 37. أنظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص235، وضعه محمد فؤاد
عبد الباقي، دار التراث الإسلامي، بيروت.
[3] - اللسان، 1/361.
[4] - معجم النقد العربي القديم، أحمد
مطلوب، 1/460، دار الشؤون الثقافية العامة، بعداد، 1989.
[5] - الروض المريع في صناعة البديع،
الفصل الثاني: أقسام الكلام، ص81، تحقيق رضوان بنشقرون.
[6] - المنزع البديع في تجنيس أساليب
البديع، السجلماسي، ص442، تحقيق وتقديم علال الغازي.
[7] - المعجم الفلسفي، ح.خ
(الخطابة)، ج1، ص351.
[8] - اللسان، 1/361.
[9] - بنية العقل العربي، ص25.
[10] - الينابيع، السجستاني، تقديم
وتحقيق مصطفى غالب، ص93 وما بعدها.
[11] - عن كتاب نصوص فلسفية، ص48
والرسالة من تحقيق وتقديم د.علي حسن عبد القادر.
[12] - بنية العقل العربي، ص279.
[13] - ابن العربي (باللام والألف)، وإن كان
تجريد الاسم منها هو الذي يفرق بين ابن العربي المعافري (الفقيه)، وبين المتصوف
الشيخ الأكبر، الحاتمي. ولقد ورد اسم هذا الأخير بالألف واللام، في مصادر قديمة،
كالفتوحات وغيرها. بل إن ابن العربي نفسه كتب أبياتا شعرية وردت في الديوان:
فمذهبـبي شرع النـبي
الهاشـمي العربــي
فهكذا البستهـــ ـا من كل
شيخ منجـب
أقول هذا وأنــــا محمد ابن
العربـــي
ص57، بولاق، 1271هـ.
[14] - تفسير القرآن الكريم، ص2/349، دار
الأندلس.
[15] - كتاب الإسراء ضمن رسائل ابن
العربي، ص56.
[16] - رسائل ابن العربي، كتاب الأعلام،
ص5.
[17] - فصوص الحكم، 1/92، دراسة
وتحقيق أبو العلا عفيفي.
[18] - رسائل ابن العربي، كتاب الأسرا
إلى مقام الأسرى، ص68.
[19] - بنية العقل العربي، الجابري،
ص279.
[20] - معجم المصطلحات المعاصرة،
سعيد علوش، ص82.
[21] - معجم المصطلحات المعاصرة،
ص84.
[22] - وينظر في كتاب الماركسية وفلسفة
اللغة، ترجمة محمد البكري، الفصل التاسع، دار توبقال، 1986.
[23] - أدب التستاوي، ج3، الفصل الرابع
(مرقونة) ونشر هذا القسم في مجلة الموقف، ع10، 1989.
[24] - سنتناول هذه القضية الحقا.
[25] - أدب التستاوتي، ج3، الفصل الرابع،
بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا، مرقون، أحمد الطريبق.
[26] - رسائل الخراز، تحقيق الدكتور
قاسم السامرائي، ص27.
[27] - الإحالة نفسها.
[28] - رسائل الخراز، ص47.
[29] - عوارف المعارف، ص523. وينظر
في كتاب "سميه" ضياء الدين السهرودي عن آداب المريدين"، تحقيق فهمي
محمد شلتوت، منشورات دار الوطن العربي، القاهرة، ص490-563.
[30] - الرسالة القشيرية، ص/200.
ويذكر في هذا السياق ما أورده الكلا باذي في كتابه التعرف فقد ذكر أبياتا
تنسب إلى أبي العباس أحمد بن عطاء الله هي:
إذا أهل العبارة جادلونــا
أجبناهم بأعلام الإشـارة
نشير بها فنجعلها غموضـا تقصر عنه ترجمة العبـارة
ونشهدها فتشهدنا سـرورا له
في كل جارحـة إشارة
التعرف لمذاهب أهل التصوف، ص88.
[31] - كشف الحجاب للهجويري، ص613،
دراسة وترجمة وتعليق د.ليعاد عبد الهادي قنديل، دار النهضة، بيروت.
[32] - رسائل ابن العربي، كتاب اصطلاحات
الصوفية، ص1، دار إحياء التراث العربي.
[33] - العقلية الصوفية ونفسانية التصوف،
ص158، علي زيعور، دار الطليعة، بيروت.
[34] - انظر تاريخ التصوف الإسلامي
لقاسم غني، ترجمة صاقق نشأت. وانظر معجم مصطلحات الصوفية، د.عبد المنعم
المفتي، دار المسيرة.
[35] - ينظر على سبيل المثال، الرمز
الشعري عند الصوفية لعاطف جودت نصر، وكتاب الكتابة والتجربة الصوفية،
نموذج ابن عربي، لمنصف عبد الحق. وهناك مراجع أخرى أحلت عليها في بحثي عن أدب
التستاوتي.
[36] - مبحثان علميان للدكتور محمد مفتاح عن
الكتابة الصوفية. ينظر الأول في مجلة كلية الآداب، ع2/1977. وينظر الثاني
في كتابه عن دينامية النص، ص129.
[37] - انظر متن الحكم في كتاب ابن عطاء
الله ونشأة الطريقة الشاذلية، تحقيق وترجمة د.بولس نويا، ص159، دار المشرق.
[38] - كتاب المواقف، ص90، منشور
بالوفسيط، مطبعة المثنى، بغداد.
[39] - نصوص صوفية غير منشورة، ص234،
من تقديم وتحقيق الأب بولس نويا، دار المشرق، بيروت.
[40] - ديوان ابن الفارض، دار صادر،
ينظر ص92/97.
[41] - انظر عيون الأنباء في طبقات
الأطباء 3/278. وقد تتبعنا أثر هذه "الحائية"، في معارضات لها وعلى
هديها الفني، ونفسها الصوفي. فقد عارضها شعراء من سبتة والأندلس، كما عارضها،
باللغة العربية، الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي..، إلى أن جاء الشاعر المغربي
"الحراق" فاغترف من معينها، متبركا وغارقا.
[42] - ديوان ابن الفارض، ص92/97 من
تائيته الشهيرة.
[43] - ديوان ابن الفارض، ص92/97 من
تائيته الشهيرة.
[44] - التعرف لأهل التصوف، ص104 وما
بعدها، تقديم وتحقيق محمود أمين النواوي، دار الكتب العلمية لبنان.
[45] - ترجمان الأشواق، ص11.
[46] - الكتاب التذكاري، ص69،
والدراسة بقلم نجيب محمود.
[47] - الكتاب التذكاري، ص69،
والدراسة بقلم نجيب محمود.
[48] - الكتابة والتجربة الصوفية،
منصف عبد الحق، منشورات عكاظ، القسم الأول والثاني والثالث.
[49] - من بين الأبحاث في هذا الموضوع انظر
"رمزية الألف عند ابن عربي" لهالة فؤاد ضمن كتاب المجال والتمثيل في
العصور الوسطى، ص145، دار قرطبة، ط2، 1993.
[50] - التأويب هنا هو التأخير ببطء،
والإسئاد هو التقدم بسرعة. انظر هامش الصفحة من "الفتوحات" 262.
[51] - الفتوحات، السفر الرابع، ص262، تقديم
وتحقيق د.عثمان يحيى.
[52] - الفتوحات، ص4، ص263.
[53] - الفتوحات، س 4، ص263.
[54] - الفتوحات، س4، ص263.
[55] - الفتوحات، السفر الثالث،
ص276/277.
[56] - الفتوحات، السفر الثالث،
ص276/277.
[57] - الإحالة نفسها.
[58] - قواعد التصوف، القاعدة 196،
ص122، مكتبة الكليات الأزهرية، ط2/1976، القاهرة.
[59] - قواعد التصوف، ص129.
[60] - انظر كتاب زورق والزورقية،
لعلي فهمي خشيم. دار مكتبة الفكر، ليبيا، 1975.
[61] - الفتوحات، السفر الثالث،
ص196/197.
[62] - الفتوحات، السفر الثالث،
ص196/197.
[63] - مبادئ في علم الدلالة، تعريب
محمد البكري، ص64، ط.دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد.
[64] - الإحالة نفسها.
[65] - مجلة عالم الفكر، مج. 16، ع3،
1985.
[66] - علم الدلالة عند العرب، عادل
فاخوري، ص13، دار الطليعة، بيروت.
[67] - علم الدلالة عند العرب، عادل فاخوري،
ص13. دار الطليعة، بيروت.
[68] - انظر مدخل إلى السميوطيقا،
1/31، إشراف سيزا قاسم، نصر حامد أبو زيد.
[69] - الفن الرمزي، هيجل، ت.جورج
طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ص101.
[70] - الرمز الشعري عند الصوفية،
ص110-111، وانظر الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، ص170.
[71] - الكتابة والتجربة الصوفية،
ص133.
[72] - الكتابة والتجربة الصوفية،
ص133. والإشارة، كما عند علماء البيان، هي أن يكون اللفظ القليل مشيرا إلى معان
كثيرة، بإيماء إليها ولمحة تدل عليها، وذلك كقوله تعالى: "إذ يغشى السدرة ما
يغشى"، كتاب الصناعتين، العسكري، ت.علي البيجاوي، ص385. وانظر
كتاب: حسن التوسل إلى صناعة الترسل، للحلبي، ت. أكرم عنان يوسف، وزارة
الثقافة والإعلام، بغداد، 1980.
[73] - التفسير الصوفي للقرآن عند
الصادق، ص123. علي زيعور، دار الأندلس.
[74] - كتاب الهفت والأظلة، رواه
المفضل بن عمر الجعفي تلميذ الإمام جعفر بن محمد الصادق، حققه وقدم له عارف تامر
وآخرون، دار المشرق، بيروت، 1969.
[75] - المصدر نفسه، ص29.
[76] - لطائف الإشارات، للقشيري،
ت.إبراهيم البسوني، في ستة أجزاء، دار الكتاب العربي، القاهرة.
[77] - تفسير القرآن الكريم في
مجلدين، دار الأندلس.
[78] - وهو لأبي محمد رزبهان الشيرازي
(616هـ/1029) وهو مخطوط في الخزانة الحسنية، ونسب الكتاب في آخره للورتجيبي. انظر فهرست
المخطوطات الحسنية للأستاذ المنوني (مرقون).
[79] - نحو القلوب الصغير، ص127، قدم
له وحققه وعلق عليه أحمد علي الدين الجندي، الدار العربية للكتاب تونس، 1977.
[80] - انظر كتاب قوانين حكم الإشراق إلى
كافة الصوفية بجميع الآفاق لمحمد أبي المواهب الشاذلي، 800هـ، ص69. وهو يحل
معنى اللغز الكامن في أبيات تنسب إلى الجنيد (توضأ بماء الغيب)، مكتبة الأهلية
الأزهرية، القاهرة.
[81] - هناك شروح متعددة لحكم ابن عطاء
الله. أشهرها لابن عباد النفزي الرندي، وشرح الشيخ زروق. وشرح ابن عجيبة.
[82] - انظر شرح أبي محمد المكي السودي
القرشي على تائية الحراق، الطبعة الحجرية.
[83] - المحاضرات، 2/416، من تحقيق
الأستاذين محمد حجي، وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي، 1982.