ص1        الفهرس    31-40

 

الصوفي في الروائي(*)

 

محمد أدادا

يمثل اللجوء إلى التجربة الصوفية، كممارسة إبداعية أو فلسفة لرؤية الكون، مظهرا من مظاهر حداثة الرواية المغربية الجديدة. هذه الأخيرة تلجأ، في نماذج منها، إلى الاغتراف من الصوفي، مما يطبعها بطابع شعري ملحوظ وجلي، سيشكل موضوع بحثنا في هذه الدراسة. ينطلق افتراضنا بأن الصوفية منبع ثري لتوليد "الشعري" من تلك العلاقة المتواشجة بينهما. فمعظم رجالات الصوفية هم شعراء، مارسوا الكتابة الشعرية واتخذوها وسيلة للتعبير عن فلسفاتهم ورؤاهم المتفردة للوجود والكون. "لذلك تزول غرابة إدخال الشعر ضمن المؤلفات الصوفية وتطريزها به، حتى ليمكن أن يقال إنه كاد الاستشهاد به، أو على الأصح الاستئناس به أن يصبح قاعدة مطردة لا تتخلف"[1]. ولأن الرواية الجديدة تلتجئ إلى الشعري، فإننا نستكشف تلك العلاقة القائمة بينها وبين الصوفي باعتباره أنجع طريقة لإضفاء الشاعرية عليها.

إن معظم الروائيين الجدد، ينجدبون، ولأغراض فنية أو إيديولوجية، إلى التراث الصوفي. فهم يجعلون من محكيهم، كما قال جان إيف تادييي: "جماع أجناس، يحتضن الشعر والسرد والمسرح والرسم والأسطورة/خرافة وحلما وسحرا.. كما تتلاقح فيه كتابات الرحلة، بطابعها الاستكشافي، وبالتالي يمتلك بنية مفتوحة ومتعددة الخطابات"[2]. وبهذا الطابع تصبح الرواية الجديدة مدارا للتجريب ومجالا لاحتضان الرؤية الصوفية. فلقد تحقق لها، بفعل تداخل الرؤية الشعرية والرؤية الصوفية، تداول جمالي كبير، وبدا فيها الميل نحو التأمل وإثارة الحيرة الوجودية. وتصل درجة اختراق الصوفي لبعض الإبداعات الروائية إلى مستوى أعلى، حيث يكاد ينعدم في تلك الروايات حس الرؤية الروائية/الموضوعية، إذ يمكن إسقاط الحبكة منها دونما أثر[3].

يعتبر "الصوفي" إذن وسيلة لتشكيل شعرية poeticité الرواية الجديدة. وعليه سنحاول إبراز بعض مظاهر حضوره، في نماذج روائية مغربية. ولهذه الغاية سنعمد إلى تقسيم إجرائي يميز بين مستوى لغة الرواية ومستوى خطابها[4].

1 – البعد الصوفي في اللغة الروائية:

نقصد بمستوى اللغة الروائية، المظهر اللفظي للنص، أي ما يتجسد عبر البنى اللسانية: تركيبا ومعجما وصوتا.. وبوقوفنا عند بعض النماذج الروائية المغربية الجديدة، يبدو لنا أن هناك سعيا حثيثا لدى مبدعيها لخلق توليفات لغوية ذات نفحة صوفية. هكذا نجد اضطرادا كبيرا للألفاظ والمعجم الصوفيين، حيث تحضر الكلمة الصوفية، بكامل ثقلها الدلالي وكثافتها الرمزية. كما أن بعض الروائيين يقومون بإيراد النصوص الصوفية، كاقتباسات لهدف تعضيد رمزية الرواية وتكثيف رؤيتها الشعرية. هذان العنصران، المعجم الصوفي والتناص الصوفي، هما اللذان يشكلان موضوع اختبارنا في مستوى لغة الرواية.

1-1-المعجم الصوفي:

يحضر المعجم الصوفي في الرواية المغربية الجديدة من خلال التركيز على بعض المفاهيم الصوفية المتداولة. بيد أن المفهوم الصوفي يحضر في الإبداع الجديد بصورة مخالفة للدلالة التقليدية-الدينية. والمفاهيم الصوفية تحضر بحمولة دلالية وجمالية جديدتين، تحتفظ بعمق الرؤية الصوفية وتنفتح على الدلالة المعاصرة. ومن الكلمات المتواترة الحضور في الرواية المغربية الجديدة نجد: الحب والرؤية والكشف والحلول والباطن..

فمفهوم الحب يتخذ في الفلسفة الصوفية دلالة عميقة، حيث إنه لذة لا لذة قبلها ولا بعدها، بل إن المتصوفة يرون بأن أصل الوجود هو المحبة، ولذا قال الشيخ الأكبر بن عربي في ديوانه ترجمان الأشواق:

"أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه، فالحب ديني وإيماني"[5].

وتتجسد هذه الصورة المثالية للحب في بعض الكتابات الروائية، مثلما نجد لدى الميلودي شغموم في رواية شجرة الخلاطة: "أما أنا فأحب سعيدة.. وسعيدة تحبني... تستطيع أن تحول كل شيء، كل ما يقع لنا إلى حكاية رفيعة مليئة بالحياة والقوة، تتمسك بالبسمة والكلمة الطيبة، كما يتمسك الليل بالنهار والنهار بالضوء والضوء بالحياة والحياة بالأمل والأمل بالمقاومة والمقاومة بالصبر والتحمل.."[6]. إن هذه الصورة التي وظفت بها كلمة الحب، وما تولد وتعالق معها من مفاهيم، تجعلنا إزاء حقيقة المحبة لدى الصوفية. فهم يفهمون الحب باعتباره "فناء الذات أو الأنا وبقاء الأنت، أي تهب كلك من أحببت فلا يبقى شيء.."[7].

إن الحب هنا يتجاوز الحالة الوجدانية ليطال مجال الإدراك. وإذا علمنا أن هذا الاعتراف ورد في سياق هذياني، يمكن أن نؤكد بعده الصوفي، لأن الحقيقة تنكشف لحظة الحلول/الهذيان. كما نجد ذات الصورة لمفهوم الحب في رواية الحجاب لحسن نجمي حيث قال بطلها بنسالم العروسي: "الحب نشوة التلاقي المتسلل/الكتابات والخواطر التي تكشف العالم والأشياء كما لو للمرة الأولى"[8]. وعموما يمكن القول بأن كلمة الحب توظف في الرواية الجديدة بصيغة صوفية، حيث ترتبط كما ذكرنا بالكشف. ولذا تغدو المحبة أداة الإدراك الحقيقة والكشف عن أسرار الكون وخباياه. وإلى جانب مفهوم الحب، الوارد بشكل متواتر بالمعنى الصوفي في الرواية المغربية الجديدة، نجد مفاهيم أخرى كالرؤية والكشف. ففي رواية وجدتك في هذا الأرخبيل لمحمد السرغيني، نجد استثمارا كبيرا للمعجم الصوفي، من خلال لغتها الواصفة، عند تقريب صورة إحدى الشخصيات كقوله: "يحتضن جسده ويحدد مناطق نفوذه فيه. يعثر عليه عن طريق الكشف. يجرفه سيل من التخيلات. يتعرى متهجدا مبتهلا. يتشكل وينتقض. تمتلئ عيناه بسائل شفاف ينتشي على البعد.. يتوحد في مجموعة من الحدوس العابرة"[9]. إننا نلاحظ توظيف المعجم الصوفي، حيث تدل الكلمة الصوفية على طاقتها التأثيرية والتوليدية. وهذا ما يدفع القارئ لدخول غمار التصوف، بل يدفعه إلى التماهي مع الكتابة الصوفية والانخراط في قراءة الرواية باعتبارها نتاجا صوفيا صرفا.

ويبرز الحس الصوفي لدى السرغيني في نزوع الرواية إلى إعادة صياغة بعض المفاهيم الصوفية من قبيل ما ورد عن الرؤية التي عرفت بأنها اكتساب الخطوة وتعويض التابعية بالمتبوعية، "هي الإحساس بسلطة الذات على الذوات الأخرى إحساسا حين تتكامل جدليته يصبح حالة موطئة.. في هذه الحالة يتنامى مفهوم الإبداع.. الذي هو تنويعات على صيغة جاهزة. حين تستشري تصبح مطلقا يلغي غيره من المطلقات"[10]. إن مفهوم الرؤية قد وظف هنا بالمعنى الصوفي، حيث يعني الإدراك الذي يرتبط بالإبداع. هكذا يمكن أن نعتبر هذه الرواية عملا إبداعيا منبثقا عن الرؤية الصوفية. ومن المظاهر التي يلجأ إليها الروائيون لإبراز التوجه الصوفي في كتاباتهم، نجد توظيف الحروف. فالحرف له طاقة رمزية تنبثق عنه دلالة تمكن من الانتقال من ظاهر الأشياء إلى باطنها. فهو له معنى ظاهر ومعنى باطن، هذا الأخير لا يدرك إلا بالكشف. وقد وردت هذه الطريقة، وبشكل جلي في رواية مسالك الزيتون للميلودي شغموم. إن المقطع الأول لهذه الرواية الموسوم بـ"قوس قزح –مسلك تمهيدي" هو عبارة عن حوار بين مجموعة من الحروف (ميم – جيم – كاف – لام – نون – ألف – راء). هذا الحوار أثمر في نهايته على الطريقة المثلى لإدراك الحقيقة. إذ دل كل حرف على وعي وعبر عن رؤية خاصة للكون. إن هذه الطريقة في الإدراك هي التي جعلت الكاتب يدرك حقيقة الأشياء فقال: "هكذا تعرفت بكل دقة على الطريق المؤدي إلى غرفتك الموجودة في أعلى العمارة وكأنها تحاذي السماء.."[11].

إن ما يزكي اشتغال البعد الصوفي هنا، هو أن الحوار قد جرى في سياق احتساء الخمرة والسكر، وهو ما يجعله منخرطا في ديمومة الزمن الصوفي. فالسكر لدى المتصوفة وسيلة بفعلها يتم اكتشاف الحقيقة النهائية، لذلك يوظف في الإبداع للتعبير عن هذه الدلالة الرمزية.

1-2- التناص مع الخطاب الصوفي:

من أبرز مظاهر توظيف الصوفي في الكتابة الروائية المغربية الجديدة نجد اللجوء إلى التناص. فنصوصها مؤثثة بمختلف المقولات والأذكار الصوفية والآثار المتواترة، ترد كعتبات في بداية النصوص ومطالعها، أو تضمن بين ثناياها أو تذيل خواتمها. إن هذه الاقتباسات والاستشهادات الصوفية تقوم بدور قوي في توليد شعرية الكتاب الروائية الجديدة. وتقدم لنا رواية الحجاب أبرز نموذج لذلك. فقد ورد فيها ما يلي:

ـ نص من مقابسات التوحيدي: "قال بعض أصحابنا:

كل شيء أجوزه في المنام من آثار النفس،

فإني أجوزه في اليقظة

وكل شيء أجوزه في اليقظة

أجوزه في المنام.."[12]

نص لأبي زيد البسطامي:

"إنسلخت من نفسي كما تسلخ

الحية من جلدها، ثم نظرت إلى نفسي

فإذا أنا هو.."[13]

ـ وقوله أيضا:

"... وأنا أيضا في طلب أبي زيد منذ عشرين عاما؟"[14].

يهدف هذا التوظيف المباشر للنص الصوفي، في ثنايا الكتابة الروائية الجديدة، إلى تعميق الرؤية الفلسفية التي تحبل بها الكتابة الجديدة عامة. فلئن كانت الرؤية العقلانية هي التي تنشر ضلالها على مختلف الإبداعات المعالجة لقضايا الواقع، فإن اعتماد الحدس هو النبراس الموجه للكتابة الجديدة. من هنا نلمس كيف أن النصوص الروائية الجديدة تستدعي النص الصوفي ليكون بمثابة سراج موجه لقراءتها.

وهب أن قناعة كتاب الرواية الجديدة تقوم على أن الإبداع الحقيقي هو الذي يستطيع معالجة قضايا الواقع المتشابك برؤية فلسفية مجردة، كتلك التي يقوم عليها التصوف. ويتخذ التناص مع "الصوفي" مظاهر أخرى مختلفة عما رأيناه، فيرد منصهرا في ثنايا النص الروائي. وبهذه الطريقة تتولد توليفات إبداعية ترتهن فيها اللغة الصوفية واللغة المعاصرة، مما يولد نصا مجردا تنضح منه معالم التصوف لغة ورؤية، من قبيل ما نجد في مسالك الزيتون: "...وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه نفسه، فسواه وعدله ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه، فظاهره حق وباطنه حق"[15].

وأيضا: "...سبحانك كما عبدتك، سبحانك كم بحثت عنك.. وها قد وجدتك في الزجاجة.. أتسكن الزجاجة والكون كله ملكك"[16].

هكذا تنصهر اللغة الصوفية في أتون اللغة الروائية فيتم إنتاج مثل هذا الكلام، الذي لا يبتعد على الكلام الصوفي في شيء. ولعل رواية وجدتك في هذا الأرخبيل تحبل، من حيث بنيتها اللغوية، بهذا الحس الصوفي. فلغتها محبوكة بصيغ صوفية بارزة من قبيل ما ورد في مقطع "ثوبات المعرفة"، حيث يعترف البطل قائلا: "أذن لي شيوخي الاغتراف من بحرهم الزاخر: الخطوات معدودة ويلبس العارف والمعروف والمعرفة ذلك الدوار اللذيذ الذي كلما اكتشف تكاشف. فأعقب الخطوة الأولى بالثانية والثانية بالثالثة والثالثة بالرابعة والرابعة بالخامسة". أو قوله: "العارف والمعروف والمعرفة ثلوث يتعالق(…) أنا أبحث في المفرد بأداة هي المركب. فقد تعودت أن أواقعه من تركيباته. لذا فأعينوني رحمكم الله على التقمص والالتباس حتى أتخطى مهوى الجنون فأجدكم في النقصان الذي به كمالي"[17].

إنه لا يخفى الأثر الصوفي في كل النصوص التي أوردناها تمثيلا لاختراق التناص الصوفي للكتابة الروائية المغربية الجديدة. وهو أمر لم تتغافل الدراسات النقدية المغربية لهذه الرواية، التنبيه إليه، فانفتاح الأدب على حقل التصوف من شأنه أن يمكن الممارسة الأدبية من امتلاك خصائص أجناسية جديدة ومواصفات فنية ودلالية وجودية ترتكز على أسس جديدة.

2 – البعد الصوفي في الخطاب الروائي:

يتشكل مستوى الخطاب من مختلف المكونات التي يعتبرها السرديون خصائص مميزة للخطاب السردي. ومن المكونات التي يتم التركيز عليها نجد الزمن والشخصية. هذين العنصرين سيكونان مدار مساءلتنا لاستكشاف البعد الصوفي في خطاب الرواية الجديدة.

2-1-الزمن الصوفي:

من أبرز المكونات السردية، التي تبرز اشتغال البعد الصوفي، في الكتابة الروائية المغربية الجديدة، نجد مكون الزمن. ويدلف "الصوفي" إلى البنية الزمنية للرواية، بفعل الأسطرة، حيث يتحرر الكاتب من الزمن الفردي والتاريخي، ويجري إحداث قصته في لحظات مفارقة للحقيقة. لحظات ليست لها أية ديمومة.

إن أبرز ما يميز زمن الرواية الجديدة هو تخلصه من الزمن التاريخي واللحاق، وبطرق رمزية، باللحظات الأولية للوجود، وذلك لأجل معانقة المطلق والسعي إلى اكتشاف الحقيقة. إن العودة إلى الزمن المقدس، الذي لا يقاس بالديمومة هو أحد مظاهر الحضور الصوفي في كتابة الرواية الجديدة. ويجب التنبيه إلى أن ولوج الأزمنة الصوفية يرتبط بالممارسة الصوفية ذاتها. فاكتشاف الزمن المفارق يكون عند لحظات الكشف والحلول، عبر الشطح، الذي يعتبر الوسيلة الوحيدة للوصول لتلك اللحظة. وفي رواية وجدتك في هذا الأرخبيل مظاهر متعددة لهذا الزمن الأسطوري، الذي لا يوجد إلا في متخيل المتصوف. نقتطف منها ما يلي: صادفت نهارا عجوزا بعيون ثاقبة وحجاب دامس، فوضاه أنه زوبعة ثلجية واستقراره في أنه رغوة دافئة، غير أن الليل بطبيعته التراثية لا يصادف ولا يصادف لأنه يقف في موازاة نقيض يستبيح فوضاه ويهدر دم استقراره(...) ممتقع هذا الليل وممتقعة بصماته، ولولا الحلم لتبرص وجه نهاره"[18].

إن ولوج هذا الزمن المفارق للواقع والمصور بإيحاءات صوفية دالة، يدل على أن الكاتب يمارس –عبر الكتابة- شطحات صوفية يتحقق له فيها الاتصال والوصال مع الزمن الأول. ولعل هذا ما يشير إليه عندما قال: "وعليه، فالتذوق بالذوق يتكامل بولادته المنسوبة إلى السماع وهو إصغاء، وإلى الرؤية وهي رؤيا في بعض أحوالها. لأن هذين التماس يشف حتى لتبدو المرئيات معه مجرد إطار لمرئيات خفية يفحص عنها بالحدس"[19]. إنه لا تخفى الأبعاد الصوفية من خلال المعجم الموظف في هذا التفسير لدخول عوالم وطقوس التصوف. إن الزمن الوارد في رواية السرغيني لشبيه بذلك الزمن الذي تحدث عنه البسطامي عندما قال: "لا صباح ولا مساء، إنما الصباح والمساء لمن تأخذه الصفة وأنا لا صفة لي". بيد أن الصورة المثلى لبلورة الزمن الصوفي في الكتابة الروائية الجديدة، ترتبط بممارسة العشق. ففي هذه الحالة تمتزج التجربة الروحية بالتجربة الحسية، أي يمتزج ما هو صوفي بما هو شبقي، فتنكشف عبر ممارسة طقس جنسي محبوب ومنبوذ في ذات الآن. وفي رواية جنوب الروح صورة مماثلة لذلك، إذ نقرأ: "كان قد عرف هذا الخشوع الدامع مرة واحدة في حياته من قبل، كان ذلك عندما أراد تجريب ما سمعه من الكبار فأخذ رفيقا له في المسيد وراء سياج الصبار. وكشف عن دبره وفعل ذلك الشيء الذي انتهى بخروج ماء دافق من عضوه كاد يموت له من اللذة(...)"[20]. إننا إزاء لحظة زمنية صوفية تمتزج فيها حالة الخشوع ومعاقبة الذات على المعصية: ".. وأخذ يهوي على الجسد المدنس(...) وهو يشرح له ما ينتظره من عقاب الله لقاء ما اقترفه من إثم"[21]، مع حالة اللذة الفيزيقية، التي تعقب الممارسة الجنسية.

2-2-الشخصية الصوفية:

تبرز الشخصية الصوفية في الكتابة الروائية الجديدة بصور متعددة ومتباينة. ومن مظاهر هذا الحضور نجد لجوء الروائيين إلى نماذج الشخصية الصوفية، كأبطال لرواياتهم. ويتخذ النموذج الصوفي لما له من قيمة تاريخية وأخلاقية، يشكل عبرة ونمطا سلوكيا في راهننا. ويبرز هذا الأمر بشكل واضح في رواية مجنون الحكم لبنسالم حميش، حيث تنطق شخصياته بالحكمة الصوفية، من قبيل قول الحاكم بأمر الله: "ليست الحكمة في مسايرة التكرار والأموات، بل في الكشف عن وجه الله وفي الفتن المعبئة التي قانونها الفيض والتوجهات"[22]. إن الأثر الصوفي غير خاف في هذا النص، من خلال اللغة الصوفية التي يحبل بها: الكشف – الفيض – التوهج. كما أن الشخصية الصوفية يمكن أن تتخذ أداة للتعبير عن موقف أو رؤية إيديولوجية، مثلما ورد في ذات النص: "قال خالع النعلين (الصوفي): قال الرسول عليه السلام: إياكم ومجالسة الطغاة، قيل له: ومن الطغاة يا أعدل خلق الله؟ قال: الحاكمون بأمرهم، الخارجون عن حدود الله بالتجبر والتأله، القاتلون للنفس التي حرم الله، هم في الأخيرة زاد جهنم وبئس الميعاد يا لطيف، يا لطيف(…) وسمعت صوته عليه السلام في منامي يوصني، إياك يا ولي الله أن تجعل كلامك على قد واقع الطغاة.."[23]. إن جرأة النطق بمثل هذا الكلام تتيسر إذا ما عهد به إلى شخصية صوفية، تفصح عن نفسها قائلة: "أرحل إلى الجوار البراني أو أسيح.. وحين أجن بجنوني، تحتد بصيرتي وتقوى، وأصير عينا ترى، وأصير بألف شفة أنطق بالتجليات وأتلو ما أراه"[24].

ومن المظاهر التي يتخذها الحضور الصوفي للشخصية في الكتابة الروائية نجد ما ينتاب الشخصية من حالات، تشبه حالات المتصوفة عند الجدب والشطح. ولعل حالة بطل رواية مجنون الحكم لا تبتعد كثيرا عن هذا. فقد انتابته حالة صوفية في أحد مجالسه، التي وصفها السارد قائلا: "خيم على المكان صمت رهيب، وأطفأت رعشات الدعاة في زاويتهم الشمعة القريبة منهم. وكان الحاكم، تحت تأثير النبيذ ودهن البنفسج، ينعم بالعرق المتصبب على جسمه وبالدم الفائر في شرايينه. وفجأة انتصب واقفا وشرع يتحمس في الكلام كأنه يخطب أو يملي سجلات"[25]. هذا الوصف الخاص للمجلس يوحي بالأجواء الصوفية، خاصة وأنه مجلس خمرة. فالسكر –لدى المتصوفة- هو الذي يساعد على الكشف، وتلك الحالة هي التي جعلت الحاكم بأمر الله يمارس "شطحات"، كتلك التي تنتاب المتصوفة. فعندما يصل المتصوف إلى هذه الحالة تنمحي لديه حالة التعقل والمنطق، ويدخل عوالم الخيال الجامح والإبداع الرائع. إنه السياق الذي قال فيه الحاكم: "إني لمحو الهم المقيم في البصر، هممت بالنيل وهم بي، هممت بالطير وهم بي.. ولإحياء الصلات والرحم، ركبت الزورق المبحر في النور(...) إني آت بوجه متوهج من الخفايا وآخر المعاقل. إني آت من أسواق الوجود وأمكنة الدنيا، لأخبر الصباح وأخبركم. فافتحوا لي صدوركم يا دعاتي وعانقوني"[26]. أبعد من هذا نجد أن الحاكم يسعى إلى تقمص الشخصية الصوفية، في أوجها، فيعمد إلى تأليه ذاته راغبا في التوحد مع الذات الإلهية، لذا قال لندمائه: "من ألهني منكم ووافقه التوفيق، خلعت عليه خلعا سنية، وحملته على فرس مسرج في موكبي، وباركته في السر ورحبت(...) لكم أبغي يا دعاتي أن أحلق كالإله فوق تفاصيل حياة الناس وأعلوا على صغائرهم(...) أدعوا الناس إلي، إلى أن يوحدوني وينسجوا حولي خيوط شرودهم في غياهب الغيب والميعاد"[27]. ويقر السارد بهذا المظهر الصوفي لشخصية الحاكم فوصف حالته بأنها "تشبه الهذيان الموقع بالرعشة"[28].

وفي رواية جنوب الروح لمحمد الأشعري، نجد الطابع الصوفي جليا من خلال طبيعة الشخصيات ومواصفاتها. فهذه الأخيرة تتبدى متقمصة للمواصفات الصوفية، وهذا ما يدل عليه قول السارد عن إحداها التي انخرطت في عوالم صوفية وافتقدت كل صلاتها بعالم الواقع: "وكل ما رسخ في ذاكرته تلك النشوة التي تجعل جسده مثل سحابة(...) فأسكرته النشوة وقفز عاليا حتى رأى خضرة القبة، ورأى السيل العارم للزائرين بأقمصتهم وعمامتهم البيضاء.."[29]. هذا الفقيه سيبدو أكثر تصوفا في موقع آخر، إذ سيصفه السارد في لحظة حلول صوفي قائلا: "كبر الفقيه عدة مرات وأخذته نشوة من تفتقت لهم الأسرار، وأشرقت لهم الأنوار، تم هزته شهقات طالعة من أعماق روحه.."[30].

وهناك مظهر آخر لصوفية هذه الشخصية، في رواية جنوب الروح، تبرزه طريقة ممارستها لشعائرها الدينية. يقول عنها السارد: "توضأ في الماء البارد لوادي أسني ثم وضع بلغته في جرابه وصعد حافيا يردد، من حين لآخر، بترجيع عذب وإحساس عميق بالصغر أمام جلال الكون، نشيد الجلالة، كأنه يؤذن لانفجار صاعق سيأخذ كل شيء في صخبه، فلا يظل هناك بعد ولا قرب، بل مجرد سديم كثيف من اللذات الفانية"[31].

بيد أن أبرز مظهر لحضور الشخصية الصوفية في الرواية نجده في وجدتك في هذا الأرخبيل، حيث تدل كل ممارسات شخصياتها وطريقة كلامها على هذا المنحى. ورد في إحدى اللوحات المعنونة بـ:"صلاة":

ـ لإفراطه تفريطي

ولقوتي ضعفي وقوته

ظلاما لنفسي تجبلني ونورا له

له الحركة والشفافية يحركني ويكفيني أن أغتبط بالتقاء الساكنين

في المحصول الخالص خلاصه وخلاصي في الولاء

الفاضل لي وهو فضيلته ورذيلتي.."[32].

إننا إزاء نموذج للشخصية التي تهدف إلى تقمص الذات الإلهية. هذا المظهر يتجلى بوضوح أكبر في مقطع سردي بعنوان: "ممارسة"، حيث تعبر الشخصية عن رغبة كبيرة في هجرة عالم الواقع والتوحد مع الذات الإلهية. يقول:

"أكره احتفالية الطقوس والشعائر

وأصبو إلى التفرد بالمحبوب

أكره القداس السجالي  الحركة استرقاق والاسترقاق اندماج"[33].

إن الرواية الجديدة تفصح عن نماذج لشخصيات تتقمص التصوف للتعبير عن رؤيتها للكون. فمن خلال أقوالها تتضح الحالة النفسية والوجدانية، إذ توجد في حالات مكابدة الفراق والبعد والرغبة اللاعجة في الوصال والقرب والاندماج والتجاوب والتفاعل بين العقل واللاعقل والنقص والكمال والحضور والغياب. وعموما يمكن القول بأن الصوفي مورد أساسي لتوليد الشعري في الكتابة الروائية الجديدة. ولعل النموذج المغربي زاخر بالنصوص النموذجية. مثل هذه النصوص لا يمكن تناولها إلا بمنطق الباطن وحقائقه وأبعادهg

 



[1] - محمد مفتاح (1987)، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، ص134.

[2]  - Jean-Eve Tadié (1978), Le récit poétique, PUF, p6.

[3]  - Henri Bonnet (1980), Roman et poésie, A.G NIZET, p13.

[4] - محمد أدادا، (الشعري في الروائي)، علامات، ع12، ص113.

[5] - يوسف اليوسف، (الصوفية والنقد الأدبي)، الناقد، ع8، 1989، ص13.

[6] - الميلودي شغموم، شجرة الخلاطة، 1995، مطبعة فضالة، ص54.

[7] - أدونيس (1982)، الثابت والمتحول – تأصيل الأول، دار العودة، ص94.

[8] - حسن نجمي، الحجاب، 1996، منشورات الرابطة، ص93-94.

[9] - محمد السرغيني، وجدتك في هذا الأرخبيل، 1992، منشورات الجواهر، ص28.

[10] - نفسه، ص127.

[11] - الميلودي شغموم، مسالك الزيتون، 1990، منشورات السفير، ص10.

[12] - حسن نجمي، ص15.

[13] - نفسه، ص16.

[14] - نفسه، ص96.

[15] - الميلودي شغموم، مسالك الزيتون، ص10.

[16] - نفسه، ص10.

[17] - السرغيني، ص180.

[18] - نفسه، ص35-36.

[19] - نفسه، ص37.

[20] - الأشعري، ص60.

[21] - نفسه، ص60.

[22] - بنسالم حميش، مجنون الحكم، 1998، مطبعة المعارف الجديدة، ص90.

[23] - نفسه، ص81-82.

[24] - نفسه، ص83.

[25] - نفسه، ص68.

[26] - نفسه، ص68-69.

[27] - نفسه، ص94.

[28] - نفسه، ص96.

[29] - الأشعري، ص58.

[30] - نفسه، ص70.

[31] - نفسه، ص95.

[32] - السرغيني، ص148.

[33] - نفسه، ص155.