قراءة في
كتاب الإسلام وأسئلة الحاضر
إسماعيل الحسني
الحق أن القارئ لكتاب الإسلام وأسئلة
الحاضر إزاء معالجة تضافر على بنائها نظر الفيلسوف وبيداغوجية الأصولي.. الفيلسوف
الذي عودنا دائما على طرح علاقة الدين بالحاضر طرحا إشكاليا، فلا يسارع إلى الاجتهاد،
انطلاقا من مجرد متمنيات الذات وأحلام الماضي، بل ينطلق أساسا من معطيات
"الوقت" وممكناتها في المستقبل. والأصولي الذي تحقق عنده أن الدين، خاصة
الدين الإسلامي هو دائما "تصديق للعقل والعلم ودعوة إلى الحوار الصادق ودفع
للغلو والإقصاء"[1]. تتحدد
في نظرنا القيمة الثقافية لهذا الكتاب في الفلسفة الأصولية التي يقارب بها صاحبه
أسئلته الثلاث: سؤال النهضة، وسؤال العمل وسؤال الصورة. وقبل أن نخوض في شأنها
يحسن بنا أن نوضح مقصود صاحبه بالثقافة والقيم والمجتمع إذا نسبت إلى الإسلام، وهو
ما بدأ به الفصل الأول والموسوم بـ"المجتمع الإسلامي والثقافة اليوم".
الثقافة كل شامل ينطوي على المعارف والمعتقدات، قدر تضمنه للفن والأخلاق. وتركيب
عام يشمل القانون والعادات قدر احتوائه على كل الكفاءات التي يكتسبها الناس في
المجتمع.
أما نعت الإسلامي في المجتمع فهو الوجود
الحضاري "لجملة الشعوب والأقوام والمكونات الثقافية واللسانية والإقليمية
تلتقي عند انتسابها إلى الدين الإسلامي من جهتي العقيدة والشريعة دون أن تنفي من
كان على غير الملة الإسلامية"[2].
والثقافة الإسلامية أو الثقافة في المجتمع الإسلامي نسيج حضاري، قوامه: الدين
الإسلامي عقيدة وشريعة، أخلاقا وآدابا. ومكوناته مجموع الشعوب التي تلاقح
معها المتدينون بالإسلام وصادفت وجودهم المجتمعي. وعليه لا تنحصر قيم النسيج
الحضاري للمجتمع الإسلامي في المعاني الاعتقادية ولا في الدلالات الأخلاقية، بل
تشمل عصب حياته، أي ما سماه الباحث بـ"العماد الثقافي" الذي ضعف البحث
فيه عند النهضويين الأوائل وأقطاب "الحركات الإسلامية المعاصرة".
لا يزال سؤال
النهضة حاضرا في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ومنه فكر الحركات الإسلامية
المعاصرة. فقد أرجع مفكرو النهضة منذ القرن التاسع عشر انحطاط وتأخر المجتمعات الإسلامية
إلى فساد أشكال الحكم ومؤسسات السياسية. حصل هذا في المشرق مع جمال الدين الأفغاني
ومحمد عبده ورفاعة رافع الطهطاوي ومصطفى فاضل باشا وناصف كمال وعبد الرحمن
الكواكبي[3].
كما حصل الأمر نفسه في المغرب. فعلى سبيل المثال ربط محمد بن عبد الله الصفار بين
التقيد بالشورى وبين الالتزام بـ"الدستور". وفي ذلك يقول: "وإن جار
سلطانهم [أي الأوربيون ] فضلا عن كبير من كبارهم أو خرج عن القانون في أمر ما
يكتبونه في الكازيطة. ويقولون إنه ظالم، وليس على الحق"[4].
إن سؤال
النهضويين، والمتمثل في عنوان أحد كتب شكيب أرسلان الشهيرة: لماذا تقدم المسلمون
وتأخر غيرهم؟ إذا كان راجعا إلى فساد مؤسسات الحكم واستبداد القائمين عليها، فإن
الجواب عنه يلتمس في الشورى والاجتهاد وسلوك السبيل المستقيم للدين على الرغم من
تلويناته الجغرافية والتاريخية[5].
يبدو من هذا الإرجاع غلبة الاتجاه السياسي في الفكر النهضوي، والذي استمر أيضا في
فكر حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي.
يقدم الأول
نقدا تربويا للعمل الحزبي السياسي المصري، لأن الأحزاب المصرية، كما يقول:
"ليست أكثر من انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء الأمة(...)
هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج، ولا خلاف بينها إلا في الشخصيات"[6].
وانتهى الثاني إلى إقامة قطيعة بين الإسلام "الصحيح" عنده وبين مجتمع
"الجاهلية"، فانتدب نفسه، مع آخرين، إلى الانكباب على تربية "جيل
يحمل على أكتافه مسؤولية التأسيس وإقامة البناء"[7].
ويجعل الثالث من التربية مدخلا: "لأي حركة إسلامية تعمل على تغيير الواقع
بتغيير ما بالأنفس"[8].
يلاحظ المتتبع
لكتابات الحركات الإسلامية المعاصرة منذ ثلاثينات القرن العشرين إلى نهاية
الستينات ومطلع السبعينات منه انتهاء أصحابها إلى منطق في النظر يغلب على فكره
الوعظ الأخلاقي والإرشاد التربوي، ويضعف في تكوينه الاجتهاد في شأن المستحدثات وما
تطرحه من إشكالات في حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بل
قد نجد عند روادهم تعثرا لمفاهيم "الدستور" و"الحياة
النيابية" و"الديمقراطية".. والحق أننا من هذه الزاوية العملية، نجد
اتجاها عفويا إلى السياسة وغلبة شأنها[9]
في فكر "الحركات الإسلامية" لتظل مرة أخرى "المسألة الثقافية قابعة
في زاوية النسيان"[10].
إن المواقف من
فكر هذه الحركات وأصحابه متضاربة. فريق الباحثين من علماء الاجتماع والسياسة
ومؤرخي الأفكار وأقطاب الصحافة والإعلام مختلف في تفسير دلالاته وحصر خلفياته داخل
المجتمع الإسلامي المعاصر. وفريق آخر من رجال السياسة لا يتعامل معه إلا بسوء
النية وفي أحسن الأحوال بسوء الفهم. وفريق ثالث يعترض على ما ينتجه رواد
"الحركات الإسلامية"، ومن بين أعضائه مسلمون يعترفون بالمجتمع المعاصر
وبضرورة اندماج المسلمين في بنياته ومؤسساته. وقد بلغت درجة الاعتراض إلى حد الخوف
من الإسلام، أي ما سماه الباحث بـ"ISLAMOPHOBIA"،
وهي ظاهرة نشأت عن المعارف المتراكمة، الخاطئة والمشوهة، عن الإسلام والمسلمين في
العصر الحاضر. ولا سبيل إلى معالجة هذه الآفة الخطيرة إلا إذا أعاد المرء الاعتبار
للمسألة الثقافية، وذلك بالانطلاق في التفكير والعمل من حقيقتين[11]:
الأولى التمييز
بين الخاصة والعامة:
لا يستقيم التدين
بالإسلام في غياب العلم بضوابط معرفته والتفكير فيه. والعلم بها متفاوت المراتب:
مرتبة عامة تتضمن قسم المعلوم من الدين ضرورة في جوانب الاعتقاد والتشريع، الأخلاق
والآداب، والتي يشترك جميع المسلمين في العلم بها والعمل وفقها. ومرتبة خاصة يختص
بالعلم بها النخبة من علماء الإسلام، وإن كانوا متمايزين في تحصيلها بحسب تغاير
أعصارهم وتفاوت إمكانات أفهامهم واستنباطاتهم.
والثمرة من هذا
التمييز عدم خوض العوام من المسلمين فيما ليسوا مؤهلين له من إعمال القياس ونشدان
التأويل وغير ذلك من ضروب الاستدلال. بل إن أول واجبات الخاصة من أهل العلم كف
العوام عن القول في أمور الشرع، خاصة في الأحوال التي تكون عاجزة عن ذلك، وفي
الأحوال التي تخرج عن دائرة مسؤولياتها. من ذلك في حاضرنا "المبادرة الفوضوية
إلى تطبيق الحكم الواجب في حق المرتد، [ إذ] يكون عنه من الفتن والويلات ما لا
سبيل إلى تداركه"[12].
والثانية الاجتهاد
بين الشرط العلمي والضامن المجتمعي:
لا يفتى في
المستحدثات وما تطرحه من إشكالات على مجتمع المسلمين قبل ممارسة الاجتهاد. نعني
بالممارسة هنا بذل الجهد الفكري والعملي في تعقل الشريعة أولا، وفي فهم الواقع
المستجد الذي يتوجه عليه خطابها ثانيا. وأهم ما يجب على المجتهد الانتباه إليه في
هذا الصدد هو مراعاته "حكم الوقت". دون ذلك يفتقر إلى النظرة الشمولية
للشريعة من جانب أول، وتنقصه القراءة الدقيقة للواقع المجتمعي من جانب ثان. يتمكن
المجتهد، انطلاقا من شروط ومعطيات "الوقت"، من إدراك الصلات التي تربط
المستحدثات بالأحكام الشرعية المنصوصة، فيقدم اجتهادا جدليا للأولى في ضوء
الثانية، وللثانية أيضا في ضوء الأولى. ولما كانت طبيعة هذا الاجتهاد استفراغا
فكريا، كما تحتمل نتائجه الصواب تحتمل أيضا الخطأ، كانت الأمة بمجموعها الضامن
الحقيقي للصواب في أحكامه. لا نعني مجموع العوام فيها، بل إجماع الخواص من
علمائها.
إن المجتهدين
مختلفون في استخلاص واستنباط الأهداف التي يقصدها الشارع من الخلق فيما يصدره من
أوامر ونواهي من جهة، وفي تنزيلها عند الإفتاء في النوازل المستجدة على الأنظار من
جهة ثانية. إن الحفاظ على الدين الإسلامي هو المحور الذي تدور على خدمته كل أهداف
الشرع. نعم هذا لا شك فيه، لكن لا يماري المرء أيضا ما يتخذه الاجتهاد في هذا
المقصد الأولي من الصور الجديدة في العصر الحاضر، كالخلاف في فهم "تطبيق
الشريعة" وفي "الحوار" وفي دلالة "الشورى" وفي تصور معنى
ما يتكلم عنه البعض بـ"الدولة الإسلامية" أو "دولة الإسلام الكفيلة
بحماية الدين وحفظه، وبالتالي في إدراك المقصد الأول وفهمه"[13].
هل من مقاصد
الشريعة في تقديم المصلحة الحاضرة، أن يقيم كل فرد مسلم من نفسه قاضيا ومنفذا
ومشرعا مجتهدا وممضيا للأحكام الشرعية؟ هل تقوم للدين الإسلامي بما يماثل هذا
الأسلوب قائمة في حياة المجتمع الإنساني المعاصر؟ لا يسع المرء، إلا أن يطرح مع
الباحث هذه التساؤلات وهو يسمع أخبار الاغتيالات والقتل بدعوى خدمة الإسلام ونصرته
وحفظه. ألا أنه أسلوب لا يصح، لا من العامة ولا من الخاصة. لا يصح من العامة لأنهم
تكلموا فيما هم غير مسؤولين عنه.
ولا يصح أيضا من
الخاصة لأنه أسلوب لا يسلم من وجوه الاعتراض. وقد عرض لبعضها الباحث في قوله:
"ما يكون لـ"خاصة" من أهل ملة الإسلام أن يقيموا أنفسهم
"دعاة" و"قضاة" و"منفذين" لما حكموا هم أنفسهم
بلزومه في غير مراجعة ولا اعتراف بوجوب النظر إلى "الاجتهاد" المخالف
بعين الاعتبار. تلك سمة عصور الظلام وعهود الانحطاط وعلامة شيوع الفتنة وذيوع الجهل
وانتشاره"[14].
والقرار الأصولي الذي يعضد اعتراض الباحث تنبيهه إلى خاصية "السعة
والضيق" التي تكون فهم علماء المسلمين لمصالح حفظ الدين والنسل والمال
والعقل.
إذا بسطنا مقاصد
الشريعة العامة من جهة "الضيق" كانت محصورة في الأمور المانعة من اختلاط
الأنساب بالنسبة لحفظ النسل[15]،
وفي كل ما يحفظ العقل كمناط للتكليف بالأحكام الشرعية بالنسبة لتعليل الحفاظ على
مقصد العقل، وفي عدم تضييع المال في غير وجوه الحلال بالنسبة لتعليل الحفاظ على
المال. أما إذا قدرنا المقاصد من جهة "السعة" يكون المراد بحفظ النسل
الحفاظ على كل ما من شأنه التمكين للعيش الكريم والرعاية المادية والمعنوية للأسرة
المسلمة في حاضر دنياها ومستقبلها. كما يكون حفظ العقل هو إعمال إمكاناته الفكرية
وتوظيف إبداعاته في معالجة القضايا التي يحبل بها الوجود الدنيوي. أما حفظ مصلحة
المال فبجعله "مسخرا لخدمة الاقتصاد الوطني للدولة التي يكون الانتماء إليهامن
شروط الوجود الإنساني المعاصر ومستلزماته"[16].
بزوغ شروط عالمية
جديدة ومتغيرات دولية بعد انهيار المعسكر الشرقي، عمق التحولات الطارئة على
البلدان الإسلامية بموقعها الاستراتيجي المعاصر وبتفجرها السكاني المكثف والمهاجر
إلى الغرب: معطيات تدفع بسؤال عملي إلى واجهة الأنظار. وقد صاغه الباحث في قوله:
"كيف يكون للإسلام، في الوقت الراهن، أن يقوم بدور الإسهام الإيجابي في بناء
الحضارة الإنسانية الشمولية في الأزمنة المعاصرة؟"[17].
كان الفصل الثالث والمرسوم" بالإسلام والمشروع الحضاري العربي" مناسبة
للجواب عنه.
الخطوة الأولية ضرورة سلوك قيم
"الحوار والفهم" ونبذ كل أشكال "القطيعة والجهل" التي يجابه
بها المخالفون في الاعتقاد والرأي والمذهب. والحق أن ما يبرر ألوان التصرف ضد
الإسلام، وضروب الإقصاء ضد أهله هو لجوء بعض "الحركات الإسلامية المعاصرة"
إلى أساليب أقل ما يقال عنها أنها مناقضة للأوليات والحقائق الضرورية للتدين في
حثه على الحوار والتعايش والفهم والتفهم للغير. إن القاسم المشترك لمعظم
"الحركات الإسلامية المعاصرة" هو انتهاج الفعل السياسي الذي يهدف الوصول
إلى السلطة أو الاستيلاء على الحكم. قد يكون ذلك بديهيا ما دام صاحب هذا الفعل
السياسي جانحا إلى السلم، ملتزما بقواعد الديمقراطية وخاضعا لمؤسسات الدولة
الدستورية من مجالس تمثيلية وتنظيمات حديثة تحفظها قوانين الدولة الحديثة
والمعاصرة.
لكن هذه البداهة
تحفها كثير من صور الشكوك ولا يحصى من معاني الاعتراض، إذا لم يحترم "الساسة
الإسلاميون"، قوانين الديمقراطية في الحكم والمعارضة، وقوانين الدولة في
الحياة المعاصرة، وحقوق الناس في الكرامة والإنسانية، وضوابط التفكير في فهم
الشريعة والمجتمع. القول الواحد من أقوال "الحركات الإسلامية"، بل قول "الحركات
الإسلامية"، كاتجاه في الفعل السياسي من الاتجاهات الموجودة في المجتمع
الإسلامي، لا يملك حق "الإجماع" للتحدث باسم جماعة المسلمين، لأنه ليس
بمنأى عن الإدانة والاستنكار والرفض من لدن اتجاهات أخرى.
وعليه إن هذه
الحركات لا تملك، كما قال الباحث: "الحق في الوصول إلى الحكم، ولا الشرعية في
الاستيلاء على السلطة"[18].
لا تملك ذلك ما دامت منتهجة لمنهجية "القطيعة" مع المجتمع المعاصر،
والجهل بنظام التفكير فيه في ارتباط مع الشريعة ومقاصدها. ولا تملك ذلك أيضا ما
دامت غير مؤسسة لنظامها الفكري والخلقي على قيم الإبداع والحوار. الدليل الذي يقدمه
باحثنا الجليل أن الاجتهاد في حفظ مقاصد الشريعة، والذي لا يصدر بطبيعة الحال إلا
لمن تمكن من الاستنباط وقدر عليه، كما يحتمل الإصابة، يحتمل الخطأ. ومن ثم وجب
الوعي بالاختلاف.
بدون الوعي
بالاختلاف لا يكون حوار منتج بين هذه الحركات وبين غيرها من اتجاهات المجتمع،
وبدونه أيضا لا يكون الفهم السليم لواقع المجتمع والشريعة. فبدلا عن القطيعة يكون
الحوار. وبدلا عن الجهل والتجاهل يكون الفهم والتفهم. ولا يكون الحوار والفهم
والتفهم منتجا في الاجتهاد إلا ببذل المزيد من الجهد في إعمال قواعد الشريعة وأصول
فقهها، وفي طليعتها قاعدة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح. ما أحوجنا أثناء
التفكير في علاقتنا بالغير المخالف لنا في الاعتقاد والمذهب والأذواق إلى اجتناب
الخسارة الراجحة الوقوع قبل التشوف إلى تحقيق المصلحة المحتملة الوصول.
وتطبيقا لهذه
القاعدة تبدو مواقف الاعتراض والنفور من العالم المحيط بنا غير متسقة مع هذه القاعدة.
والشاهد على ذلك أن اعتزال ما يروج عند غيرنا من أفكار وأنماط حياة وإغلاق الأبواب
المحيطة بنا يثمر وينشأ من الخسائر الراجحة الوقوع أضعاف ما ينتج من المصالح
الممكنة أو المحتملة الحصول. مفاسد "الإفقار النظري من وجه أول" ومفاسد
"العزلة السياسية والتضعضع الاقتصادي من وجه ثان"[19].
"كيف يتصور
الدين الإسلامي؟"، وذلك هو موضوع الفصل الرابع والأخير والموسوم
بـ"الإسلام في الوعي الثقافي الغربي".
بقدر ما يتضمن ما
كتب عن الشعوب الإسلامية خلال القرن التاسع عشر عموما، وعلى امتداد العقود الثلاثة
أو الأربعة الأولى من القرن العشرين ثوابت إيديولوجية، يتضمن أيضا جهودا معرفية لا
يمكن للباحث التنكر لفوائدها[20]،
ولا عدم التنويه بقيمة تماسكها العلمي وقوة أدواتها المنهجية. والحق أن الاعتراف
بهذه الجهود وإنصاف أصحابها لا يغني المرء عن واجب التنبيه إلى عدم قدرتهم على
مجابهة الثوابت الإيديولوجية المكونة لما يسميه الباحث بـ"البنية
الثقافية" التي يتصور من خلالها الآخر البلاد العربية الإسلامية. فلا يرى في
أهلها إلا "تعصبهم الديني" و"همجيتهم الحضارية". هل يجنح
الباحث المسلم إزاء هذه الصورة إلى مواقف الجهل والتجاهل والقطيعة للآخر؟
ليس الأمر كذلك
بالنسبة للأستاذ سعيد بنسعيد العلوي، لأن المطلوب دائما وأبدا هو العمل الهادئ
والذكي والصادق على محو مكونات هذه الصورة في ذهنية الأوربي والإنسان الغربي بصفة
عامة. لا ينبغي أن تثنيه ثوابت الإيديولوجيا عن سلوك أساليب المراجعة الحوارية لما
يتصوره الغرب عن العرب والمسلمين. تندرج الدراسات التي يقدمها باحثنا في هذا
السياق، نقصد دراساته للرحلات الأوروبية والمغربية[21]
على وجه الخصوص.
ليس المهم في
الرحلات الإعلام أو الإخبار عن البلدان، في عاداتها وتقاليدها..، والمناطق التي لم
يسبق لصاحب الرحلات زيارتها، بل المهم فيها بالدرجة الأولى الإنباء "عن عقلية
أو ذهنية الرحالة بطل الرحلة"[22].
ولا تتأتى الإفادة مما يكتبه الآخر عن البلاد العربية والإسلامية إلا إذا ظفر
الباحث العربي والمسلم "بالبنية الثقافية" لهذه العقلية أو الذهنية،
وفصلها عن سائر المجهودات المعرفية التي تستفاد من مشاهدات الرحالة الغربي"[23]
الدقيقة التي تغني المعرفة بمجتمعه. فعلى سبيل المثال يتحكم في تشكيل صورة المجتمع
المغربي في الاستشراق الفرنسي ثلاث أفكار:
الأولى السطحية في
فهم تركيبة المجتمع في المغرب فلم ير المستشرقون في الملك المغربي إلا سلطته
الرمزية التي تجد سندها في نسبه الشريف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناسوا
سائر مقومات سيادته[24].
والثانية التمييز بين "إسلام الحواضر" وهو الإسلام الرسمي: العربي في
تكوينه، النقلي في شرعيته، وبين "إسلام البوادي": البربري في بنيته،
والطقوسي في وثنيته. والثالثة، وهي مبنية على الثانية، التمييز بين القبائل
"العربية" الموالية للدولة المغربية المسلمة، وبين القبائل
"البربرية" لأن لها أعرافها الخاصة وتقاليدها المتميزة التي تحتكم إليها
في أحكامها القضائية والجنائية. وعلى أساس هذا التمييز نهض التبرير الاستعماري
لسياسة "الظهير البربري".
والحاصل من هذه
الدراسة توجه في النظر يؤسس الجواب عن أسئلة النهضة والعمل والصورة على قيم
الاجتهاد في شروطه العلمية الدقيقة من جانب أول، وعلى قيم الديمقراطية وتنظيماتها
الحديثة التي ترعاها الدولة المعاصرة في المجتمع من جانب ثان. فإلى هذه القيم يجب
الاحتكام عند التفكير في المستحدثات وما تطرحه من إشكالات في المجتمع الإسلامي
المعاصر، سواء تعلق الأمر بالصورة التي تكونها بعض أطراف المجتمع عن بعضها الآخر،
أو اتصل الأمر بالصورة التي يرسمها الآخر المخالف عن مجتمعنا، والتي لا تزال تفعل
فعلها في النفوس إلى يوم الناس هذا. وشرعية التوجه الفكري في هذا الكتاب لا تغني
في تقديرنا عن ربط نجاعة قيمه الثقافية بمسألة التنمية في المجتمع، خاصة التنمية
في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية. وتلك مسألة أخرىg
مراجع القراءة:
سعيد بنسعيد
العلوي:
1 - الإسلام
وأسئلة الحاضر، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 2000.
2 – أوروبا في
مرآة الرحلة صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب،
الرباط، رقم 12، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1995.
3 – (صورة
المغرب في الاستشراق الفرنسي المعاصر)، بيروت، مجلة الاجتهاد، العدد 25، السنة
السادسة، 1994.
عبد الرحمن
الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، القاهرة، الهيئة المصرية للطباعة
والنشر، 1970.
إسماعيل
الحسني، (الأخلاقيات والتجارة في الفكر المغربي الحديث)، مجلة المناهل، الرباط، العدد
61، 2000.
علي أومليل، الإصلاحية
العربية والدولة الوطنية، البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1985.
سوزان ميلار، صدفة
اللقاء مع الجديد رحلة الصفار إلى فرنسا، الرباط، منشورات كلية الآداب، 1995.
[1] - العلوي
(سعيد بنسعيد)، الإسلام وأسئلة الحاضر، الدار البيضاء، مطبعة النجاح
الجديدة، 2000.
[2] - العماد
الثقافي: منظومة متكاملة من القيم الجمالية والدينية والمعرفية، يراجع للتوسع سعيد
بنسعيد العلوي، أوربا في مرآة الرحلة صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية
المعاصرة، منشورات كلية الآداب، الرباط، رقم 12، البيضاء، مطبعة النجاح
الجديدة، الطبعة الأولى، 1995، ص12.
[3] - يقول
الكواكبي عبد الرحمن: "يمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي
ودواؤه بالشورى الدستورية"، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد،
القاهرة، الهيئة المصرية للطباعة والنشر، 1970، ص131.
[4] - سوزان
ميلار، صدفة اللقاء مع الجديد رحلة الصفار إلى فرنسا 1845-1846، تعريب خالد
بن الصغير، الرباط، منشورات كلية الآداب، 1995، ص168.
[5] - يعزو
السلفي المغربي محمد بن الحسن الحجوي تأخر المسلمين إلى الجهل بأمور التجارة
العصرية. ويرى أن أهل أوربا وأمريكا "تقدموا لأنهم قدمهم العلم بالتجارة
وأخركم الجهل بها"، يراجع دراستنا، (الأخلاقيات والتجارة في الفكر المغربي
الحديث)، الرباط، المغرب، مجلة المناهل، العدد 61، السنة 2000، ص143.
[6] - رسائل
البنا، ص220.
[7] - مناهج
التربية الإسلامية، 2/59، وأيضا معالم في الطريق، ص22.
[8] - أولويات
الحركات الإسلامية، ص23.
[9] - يراجع في
شأن تفسير ذلك، دراسة الباحث المغربي علي أومليل، خاصة الفصل الأخير منها، الإصلاحية
العربية والدولة الوطنية، البيضاء، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،
1985، ص191.
[10] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص31.
[11] - لخصنا
الحقائق الست التي عرضها الباحث من خلال الفصل الثاني: الإسلام والمسلمون في
عالم اليوم، في هاتين الحقيقتين.
[12] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص59.
[13] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص69.
[14] - المرجع
نفسه، ص60. وينظر أيضا، ص74 و79.
[15] - قررت ذلك
كثير من النصوص الشرعية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "تخبروا لنطفكم"
وغيرها من النصوص التي تفيد تحريم الزنى ووجوب التحري في اختيار الزوجة الصالحة..
[16] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص89.
[17] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص78. لا يخفي الباحث انخراطه من خلال هذا السؤال في عمل يروم
بناء "مشروع حضاري عربي قوامه الإسلام، ووجهته المستقبل"، المرجع نفسه،
ص91.
[18] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص101.
[19] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص111. وينظر الأمثلة في ص 109 أيضا.
[20] - تكفي
الإشارة هنا إلى مجهودات المستشرقين في التعريف بالحضارة الإسلامية ونشر الكثير من
مخطوطاتها وحفظها من الضياع والإهمال، فضلا عن مجهوداتهم في التعريف بكثير من حركات
التحرر الوطني في البلاد العربية والإسلامية عن طريق فضح فكر المستعمرين والكشف عن
تناقضاتهم.
[21] - من
أبرزها (صورة المغرب في الاستشراق الفرنسي المعاصر)، بيروت، مجلة الاجتهاد،
العدد 25، السنة 6، 1994، ص99-130 وأيضا كتابه: أوربا في مرآة الرحلة صورة الآخر
في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية،
الرباط، رقم 12.
[22] - الإسلام
وأسئلة الحاضر، ص121.
[23] - يعرض
الباحث لحال الرحالة الفرنسي شارل دوفوكو، ويستنتج من كتاباته وهمين معرفين لم
يتخلص منهما: الأول كون الدين الإسلامي في الممارسة المغربية قشرة سطحية سرعان ما
تختفي بفعل تأثير العادات والطقوس السابقة على دخول الإسلام للمغرب. والثاني عدم
إدراكه التام لطبيعة الشرعية المؤسسة لنظام الحكم في المغرب.. المرجع السابق،
ص124.
[24] - يراجع
فقرة الدولة والإسلام في المغرب من المرجع السابق، ص134-139.