ص1      الفهرس     41-50

الظاهرة عبر - القومية وأزمة الدولة

في النظام العالمي المعاصر

نزار الفراوي

لقد تشكلت المعالم الرئيسية للدولة الحديثة في إطار دينامية سماها ن.إيلياس Nobert Elias "قانون الاحتكار" Loi du monopole لتوصيف مسلسل استئثار الدول بأدوات وموارد الضبط الاجتماعي، السياسي الاقتصادي، الإيديولوجي.. الخ. للكيانات الوطنية، والتي عبرت عن ذاتها خارجيا عبر الاستفراد بصياغة وتدبير علاقات الجماعة الوطنية مع نظيراتها. وهنا، مكنت عملية ترسيم الحدود القطرية من تحديد الأوعية الترابية للسيادات الوطنية المتعايشة، ليظل البراديغم الإقليمي Le paradigme territorial، مهيمنا على العلاقات الدولية إلى العقود القليلة الماضية. استطاعت الدولة أن تفرض ذاتها كشكل أسمى لتنظيم الاجتماع السياسي، ولإنتاج المعايير والضوابط على المستوى العالمي. واكتسح النموذج "الدولتي" étatique مختلف الجغرافيات، بفعل العلاقات الكولونيالية وما بعد-الكولونيالية، التي نقلت من أوروبا إلى سائر العالم، إلى حد أن مفهوم "حق الشعوب في تقرير مصيرها" أضحى متماهيا مع رديف عملي وحيد، هو "الحق في إقامة دولة"[1]. غير أنه من الواضح، في خضم الواقع العالمي الراهن أن الدولة تفقد باستمرار موارد قوتها، مع انضمام العديد من الفعاليات عبر-القومية، تنازعها في احتكار الفعل الدولي، وتضرب المبادئ التي خولتها لقرون مكانتها الاحتكارية (الإقليمية، السيادة..).

في هذا الإطار، كان للدراسات السلوكية في العلاقات الدولية (Behaviourisme) في ضل المساهمة الجنينية في كسر صورة الدولة كفاعل وحيد وعقلاني على المستوى الدولي. وفي الولايات المتحدة، بداية السبعينات، كان ر.كوهان R.Keohane وج.ني J.Nye، أول من تمرد على البراديغم الدولتي، مقترحين كبديل "براديغم السياسة العالمية" World Politics Paradigm، الذي تبلور في سياق انتعاش الدراسات عبر-القومية Transnational studies، والتي استطاعت رصد صعود فاعلين جدد من خارج الحقل الدولتي؛ ذوي طبيعة مختلفة، لكنهم يتقاسمون امتدادهم عبر-القومي، وحركيتهم المستقلة. وإن لم تكن مسألة "الفاعلين الجدد" غائبة تماما عن انتباه رواد المدرسة الواقعية في تحليل السياسة الدولية، والمعتمدة على المركزية الفاعلية للدولة (مورغنتاو Morgenthau نموذجا..)، إلا أن الإشكال يكمن في تقدير دور هؤلاء الفاعلين في تشكيل معالم النظام الدولي، وبالتالي مكانتهم داخل البناء النظري للتحليل الدولي.

ودون الاستسلام للطروحات "النهايوية" في توصيف الوضعية التراجعية لمكانة الدولة، والتي تعرف رواجا إعلاميا تحت يافطات مثيرة: نهاية الدولة، نهاية السياسة، نهاية السيادة، الإقليم..إلخ، يرى ج.روزنو J.Rosenau أن الحقبة العالمية الراهنة تتميز بتعايش عالمين: عالم الدول وعالم متعدد المراكز Multi-centré تشكله الفعاليات غير الدولتية التي تتعالى استراتيجيتها على التقطيعات الجيو-سياسية والمعايير السيادية القطرية، رافعة شعار الفعالية Efficacité في مواجهة مبدإ الشرعية Legitimité. هكذا يتبلور القول من العلاقات الدولية (التي تحيل إلى الدولة كفاعل مركزي) إلى العلاقات عبر-القومية Relations transnationales. ويغطي هذا المفهوم "كل علاقة تتشكل داخل الفضاء العالمي، متجاوزة الإطار الدولتي الوطني، ومنفلتة –ولو جزئيا- من مراقبة الدولة أو دورها الوسيط Action mediatrice"[2].

وتتبنى س.سترانج S.Strange نفس المنظور، بحيث تشير إلى تبلور إمبراطورية عبر-قومية، على أعقاب تهاوي الحدود الجيو-سياسية، أمام ما تسميه "القوى البنيوية" Puissances structurelles. تتركز هذه القوى في أربع بنيات رئيسية، تمثل مصدر الموارد الموجهة لإشباع الحاجيات الفردية والجماعية داخل المجتمع العالمي:

ـ بنية الأمن

ـ بنية الإنتاج

ـ البنية المالية

ـ بنية المعرفة.

وتشكل كل من هذه البنيات مصدرا لشكل خاص من السلطة العالمية[3]، كما تحيل على فاعلين متعددين، وبالتالي أصناف متعددة من العوامل عبر-القومية:

I – القوى الاقتصادية عبر القومية:

تاريخيا، لعبت الدولة المعاصرة دورا أساسيا في توفير الشروط الملائمة للازدهار الرأسمالي، حيث اضطلعت بمجموعة من الوظائف: إحداث المواقف العامة والبنيات التحتية، وضع القواعد القانونية المنظمة للنشاط الاقتصادي، فرض الضرائب والسيطرة على النظام النقدي..إلخ.

وبفضل هذه التدخلات الدولتية، ارتبط النشاط الاقتصادي بالنطاق الإقليمي الذي تمارس عليه الدولة سيادتها، ليتحقق التطابق بين الوحدة السياسية (الدولة) والوحدة الاقتصادية (الاقتصاد الوطني). غير أن الخصخصة المتزايدة للاقتصاديات الوطنية، انطلاقا من الولايات المتحدة وأوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أسسا للفصل بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، مساهمة في صنع قوى اقتصادية خاصة لعبت دور القاطرة في مسلسل العولمة الاقتصادية.

نتج عن هذه الدينامية فقدان الدولة لاحتكارها في مجال تدبير المعاملات الاقتصادية الدولية، وفي الاضطلاع بوظيفة الضبط الاقتصادي للإطار الوطني. وفي هذا السياق، تتيح قراءة في العلاقة بين الدولة والشركات متعددة الجنسيات –كنموذج بارز للفاعلين الجدد في العلاقات الدولية- إمكانية الاقتراب من المظهر الاقتصادي لتراجع المكانة العالمية للدولة.

لقد بلغ عدد هذه المؤسسات سنة 1997 حوالي 40000 مجموعة، تتحكم في أكثر من 170000 فرع خارجي، موزعة على مختلف أنحاء العالم. وتبدو المؤشرات التالية كافية لتأكيد القوة الاقتصادية الهائلة لهذه المؤسسات:

-< بلغ رقم أعمال الفروع الخارجية للشركات متعددة الجنسيات نحو 5000 مليار دولار سنة 1991.

-< يقدر رقم أعمال أكبر 200 مقاولة عبر-قومية، ربع قيمة النشاط الاقتصادي العالمي، في حين أنها لا توظف سوى 8،18 مليون مأجور، أي 75،0% من العمالة الدولية.

-< يفوق رقم أعمال "جنرال موتورز" الناتج الداخلي الخام للدانمارك، فيما يتجاوز رقم أعمال "فورد" الناتج الوطني لجنوب إفريقيا.

إن الفضاء المرجعي لهذه المؤسسات، الذي تعتمده في تسطير استراتيجياتها الخاصة، يتجاوز الوعاء الإقليمي للدولة الوطنية. فالسطح الأرضي في منظورها هو بالدرجة الأولى فضاء جيو-اقتصادي، تحدد على ضوءه التوجهات الإنتاجية، الاستثمارية والتبادلية، وكما عبر عن ذلك إ.راموني I.Ramonet: "المقاولة العالمية اليوم، ليس لها مركز، إنها منتظم دون قلب ودون جسد". فهي شبكة من الوحدات المتكاملة، المنتشرة عبر أنحاء المعمور، والمتفاعلة فيما بينها وفق عقلانية اقتصادية تقوم على المردودية والإنتاجية[4]. تدفع القوة الاقتصادية المتعاظمة لهذه المؤسسات، حكومات مختلف الدول –خصوصا النامية منها- إلى منافسة مفتوحة ومحتدمة حول توفير أنسب ظروف الاستثمار والاستيطان الإنتاجي، الكفيلة باستقطاب رساميلها بعد أن كانت تتخذ في الماضي موقفا دفاعيا حذرا إزاءها، متهمة إياها باستغلال الموارد الطبيعية والبشرية للشعوب.

وقد زكت مجموعة عوامل الموقف التفاوضي الضاغط لهذه القوى إزاء الدول:

ـ انهيار أسعار المواد الأساسية وتفاقم المديونية بالنسبة للبلدان النامية، مما ترتب عنه نزيف مالي كرس خللا مزمنا في الهيكلة الموازناتية، واختناقات مالية جعلت من تمويل الإنفاقات العامة معضلة حقيقية.

ـ سقوط منظومة "الاقتصاد المغلق" المتمركز على الذات، في سياق مسلسل الانهيارات الشاملة التي عصفت بالمعسكر الشرقي.

ـ تحول الشركات متعددة الجنسيات إلى مراكز للإبداع التكنولوجي بحيث أضحى التنافس الدولي حول استقطابها تنافسا كذلك حول الاستفادة من ثمار التثوير التكنولوجي.

كما أنه مع تسارع العولمة الاقتصادية وانتعاش الليبرالية الجديدة، ساد الاقتناع بأن كل مركزية اقتصادية ترادف وضعية إقصاء وتهميش في خضم مسلسل يفرض قواعده الخاصة على كل من يتطلع إلى المساهمة في دينامية إنتاج الثروة العالمية والاستفادة منها، خصوصا وأن الأدبيات الاقتصادية الصادرة عن كتاب ومؤسسات وازنة (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية..) تبنت عقيدة اقتصادية تضع الاستثمار الخاص المباشر في قلب كل سياسة اقتصادية ناجعة. كل هذا يفسر واقع التنافس العالمي حول الفوز بالقرارات الاستثمارية لهذه المؤسسات، عبر الانخراط في مسلسلات تحرير اقتصادي واسع، تتآكل معه قدرة الكيان السياسي على ضبط المجال الاقتصادي الوطني. ويكفي أن الكثير من المرافق العامة أصبحت مفتوحة للرساميل العالمية، وهي التي ظلت –بالنظر إلى طبيعة الخدمات التي تقدمها- "مجالا محفوظا" للدولة، يرتبط بوظائف اجتماعية اندمجت لزمن طويل ضمن مقومات الشرعية الوجودية للنظام السياسي.

إن القوة الاقتصادية للشركات متعددة الجنسيات تمكنها من تدعيم مركزها العالمي في إطار ما يسمى "ديبلوماسية القطاع الخاص"، وبالتالي الضغط على دول الأصل والاستقبال معا من أجل انتزاع امتيازات فضلى، أو الانحياز لقررات تتماشى مع أهدافها داخل الإطارات متعددة الأطراف. وتوضح التغطية الإعلامية لفعاليات منتدى "دافوس" السنوي، هذا الاستقواء الديبلوماسي الخاص، مجسدا في الحظوة المتنامية التي يستفيد منها كبار المساهمين ومدراء الشركات.

هذا الاختلال في العلاقة بين الدولة والفاعل الاقتصادي عبر القومي، في ظل الانفصام بين منظور وطني يستهدف تثمين الثروة الوطنية وتحقيق العدالة التوزيعية، وبين منظور عالمي جيو-اقتصادي يقوم على الربحية والتوسع، يفسر تراخي السند الاقتصادي للحكومة الوطنية، وبالتالي يفقد مفهوم "الاقتصاد الوطني" الكثير من دلالاته.

إن الرأسمالية الإداروية التي تستلهم الفلسفة الكينزية، وتعتمد تدخل الحكومات لضبط التناقضات وتحقيق الرفاه الاجتماعي، تضمحل مع تراجع القدرات التدخلية للدولة، وانتقال جزء كبير من النسيج الإنتاجي الوطني إلى فاعلين خواص ذوي امتداد عالمي. وهكذا يتعذر في الوضع الراهن إعادة إنتاج الوظيفة الاجتماعية للتدخلات الاقتصادية العمومية، واستخدام السلطة السياسية لحماية المجال الاقتصادي الوطني وتقليص اللامساواة التوزيعية.

".. فبدلا من عالم تتولى فيه السياسات الوطنية قيادة القوة الاقتصادية، يدفع اقتصاد عالمي إلى ظهور عالم تتولى فيه قوى جيو-اقتصادية خارج الوطن فرض السياسات الاقتصادية الوطنية"[5]. وفي هذا السياق تمثل حركية التدفقات المالية عبر القومية التعبير الأخطر عن هشاشة الحدود القطرية في تمظهراتها الاقتصادية، فقد كانت حركات الأموال المنفلتة عن الضبط السياسي وراء الأزمات العنيفة التي ضربت الاقتصاد العالمي خلال العقد التسعيني الفارط: أوروبا عام 1992، المكسيك 94/95، آسيا 1997[6]. وفي الحالة المكسيكية مثلا، كانت البلاد على حافة إفلاس اقتصاد محقق لولا تدخل إسعافي دولي قدر بـ50 مليار دولار، منها 20 مليار قدمتها الحكومة الأمريكية. لقد أضحى القرار الاقتصادي "متوترا" و"تعدديا"، بالنظر إلى صعود قوى اقتصادية غير دولتية تنسف وظائف التدخل الاقتصادي العمومي، على مستوى ضبط المجال الاقتصادي الوطني أولا، وتوجيه العلاقات الاقتصادية الدولية ثانيا.

II – التدفق العالمي للمعلومات

في الماضي، كان بإمكان الأنظمة الحاكمة أن تجعل من الحدود الإقليمية عوارض في وجه تدفق الأفكار والمعلومات غير المرغوب فيها، مما ييسر لها الاضطلاع ببناء –وصيانة- الرموز والمقومات الثقافية والإيديولوجية للجماعة الوطنية.

هذا الوضع أصبح ماضيا منتهيا بالنسبة لراهن العلاقات التواصلية بين مختلف وحدات المجتمع البشري، فقد أفضت الثورة الاتصالاتية إلى تعزيز القدرة الاختراقية لتدفقات المعلومات في وجه مختلف القيود والضوابط الرسمية.

".. فهذه الأقمار الصناعية تربط العالم الآن في بنية تحتية إلكترونية تنقل الأخبار والمال والبيانات إلى أي مكان في العالم بسرعة الضوء. وهذه الأقمار لا تنقل إرسال التلفزيون والراديو والهاتف حول العالم فحسب، بل إنها غيرت جذريا، بفعلها هذا، للأسوإ أو للأحسن، ميزان قوى الإعلام أيضا، وأبعدته عن الدولة في اتجاه الفرد"[7]. لقد كان التحكم في حركية المعلومات أداة لممارسة السلطة السياسية، ذلك لأن "المعلومة" ليست محايدة، إنها سبيل للتعبئة والتعبئة المضادة، بغض النظر عن عامل "القصدية المسبقة للمرسل". من هنا كانت الأجهزة الرسمية تمارس صلاحياتها كاملة في عملية "التوسط" في نقل التدفقات إلى سوق الاستهلاك العمومي الوطني، بعد إنجاز عملية التصفية والانتقاء، الأمر الذي كان بارزا في ممارسات الأنظمة الشمولية، المنضوي أغلبها في المعسكر الشرقي المنهار.

إلا أن مسلسل الدمقرطة، والتحرير الذي عرفه مجال التواصل في مختلف قطاعاته، محولا إياه إلى نشاط اقتصادي خاص، وانفجار الثورة التكنولوجية المعلوماتية، جعل من المنتوج الإعلامي سلعة رمزية يصعب حصرها، تعمق "مسامية" الحدود القطرية، وتضع الدولة في مواجهة تحديات حقيقية للسيادات الوطنية.

ـ لقد خلقت شبكة الأنترنيت فضاء تواصليا جديدا، ذا امتداد عبر-قومي ومتعدد الأبعاد: اقتصادي، اجتماعي، سياسي، ثقافي..إلخ. فباعتماده لمعايير وشفرات استعمال موحدة، تتيح الشبكة لمختلف الحواسيب المنضوية في نظامها أن تتواصل وتتبادل المعطيات، بمرونة وعلى مستوى العالم أجمع (بلغ عدد  المنخرطين سنة 1998 حوالي 70 مليون شخص). ويطرح هذا الوسيط العملاق على السلطات الحكومية في الدول معضلة الضبط والمراقبة بالخصوص في الكيانات السياسية المغلقة. فالتطورات التي شهدتها عملية استعمال الأنترنيت من لدن العموم، تؤشر على الخطورة الواضحة التي يشكلها على الأنساق الثقافية والسياسية الخصوصية، وعلى استقرار الاجتماع السياسي أحيانا، بالنظر إلى الإمكانات الهائلة التي توفرها الشبكة من حيث القدرة على تمرير الرسائل والرموز والمعلومات، وإنجاز المعاملات.

وتزداد الخطورة حين يتخذ استعمال الأنترنيت طابعا مجموعاتيا منظما يحيل إلى فعاليات عبر-قومية مرتبطة بدينامية بروز تنظيمات مدنية عالمية تقترح ولاءات، وأحيانا بدائل "للمواطنة المأزومة"، مستثمرة للشبكة كقطب لاستراتيجياتها الإشعاعية والإعلامية، أو مرتبطة بتنظيمات الجريمة المنظمة والإرهاب..إلخ.

ويعبر ن.نيكروبونت N.Negroponte بسخرية عن واقع عجز الحكومات عن ضبط التدفقات الجارية عبر الأنترنيت: "إن أمام الحكومات حل واحد، وهو أن تمنع الهاتف"[8].

إن الأدوات التواصلية، بما تحققه من شيوع للمعرفة والمعلومة، تساهم في توسيع دائرة المهتمين –وبالتالي المعنيين- بشؤون ومشاكل كانت إلى زمن قريب محصورة مجاليا في الحدود الإقليمية القطرية. ويعكس هذا الوضع الجديد بروز الرأي العام عبر-القومي كمعامل رئيس في صنع التوجهات وتوجيه الأحداث وبلورة أنظمة القيم على المستويين القطري والعالمي.

لقد انتخب فردناند ماركوس لولاية رئاسية أولى في الفيليبين، وتولى السلطة دون مشاكل كبرى، لكن في انتخابات 1986، تمكن مستهلكو الأخبار عبر العالم، بواسطة الشبكات التلفزية والإذاعية من متابعة عمليات التزوير التي شابت الاقتراع، وأجبرت حدة الإدانة التي عبر عنها الرأي العام الدولي، الرئيس ماركوس على مغادرة الحكم والبلاد.

إن الثورة التي شهدتها عمليات التغطية الإعلامية، في اتجاه تعزيز عاملي "القرب" و"الفورية" في التعاطي مع الوقائع، بفضل الوسائل عالية التقنية، تساهم في تعميق حساسية مواطني العالم إزاء المآسي الإنسانية أينما كان محلها، وبالتالي الضغط من أجل إقرار مبادئ جديدة تعصف بالمقومات التقليدية للقانون الدولي والعلاقات الدولية. ويعد تبلور "حق التدخل الإنساني" معياريا، وتحريك بعض الملفات الراكدة (الأكراد نموذجا) مثالا مبرهنا على هذا التأثير.

في هذا السياق أصبحت السياسات الخارجية الوطنية، خصوصا في الديموقراطيات الكبرى، مطالبة بالتعاطي مع إحراجات مصدرها مواطنون ينفعلون بالمواد الإعلامية المختلفة. إذ سرعان ما خلقت المشاهد البشعة للأطفال الجياع وهم يرضعون من الأثداء الجافة لأمهاتهم إجماعا شعبيا على ضرورة إرسال القوات الأمريكية في عملية "إعادة الأمل" للشعب الصومالي. بالمقابل، وبعد بضعة أشهر، فإن مشهدا آخر لجثة ممزقة وملطخة بالدماء لجندي أمريكي يجري سحبها في شوارع مقديشيو، وعلى نفس القنوات التلفزية، قد عجل بسحب القوات الأمريكية[9]، بل يمكن القول إن "القانون غير المكتوب" الذي يقضي بأن تكون التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج سريعة وغير دموية، على الأقل بالنسبة لأرواح الجنود، في إطار ما يصطلح عليه "بعقيدة 0 قتيل" Zéro mort، ترتب في جانب منه كنتيجة لضغوط الوسائط المعلوماتية، التي بإمكانها أن تصنع من المواطنين جبهة مقاومة للاختيارات الخارجية للحكومة الوطنية.

ومن خلال دورها في تنشيط الحركة الفردية المستقلة (كـ.دوتش K.Deutsh) تدفع ثورة المعلومات إلى السطح بفاعل جديد تتعزز معالم ثقله باستمرار، ويتمثل في "المجتمع المدني العالمي"، الذي يعكس اتجاها نحو توسيع نطاق المواطنة لتتخذ طابعا عالميا يزاحم الاستراتيجيات الدولتية المنضبطة لمرجعية قطرية أنانية: المصلحة الوطنية، ويتصدى لمختلف الخروقات الحقوقية، وأنواع الإقصاء الاقتصادي، بوازع يوتوبيا مجتمع عالمي أكثر إنسانية وعدالة. فمما لا ريب فيه أن "المعلومة" شكلت المنطلق الضروري لتوثيق الصلات وتنسيق المواقف، إما في إطار تنظيمات جمعوية أو مؤسساتية دائمة أو بمناسبة التعبير عن مواقف لحظية.

إن قدرة الوسائط التواصلية على عولمة النطاق التداولي للمعلومة، تفسر حالة "الاستجابة الانفعالية الجماعية" بمختلف الأحداث والطوارئ التي تهم عموم المجتمع البشري، والانخراط الشعبي عبر-القومي في مظاهر التعبير عن آراء "مواطني العالم"، الوضع الذي تجسد خلال السنوات الأخيرة بتواتر المظاهرات والتجمعات، التي جعلت من الرأي العام الدولي عاملا ضاغطا في الأنسنة والسلم والتضامن العالمي: لنستحضر في هذا الإطار دور الشارع الأوروبي في الدفع باتجاه التدخل لوقف الهمجية الصربية ضد مسلمي البوسنة، وبالخصوص في إحداث محكمة جرائم الحرب بيوغسلافيا سابقا، وتشكل جماعات متعددة الجنسيات لمناهضة توجهات المؤسسات الاقتصادية، خصوصا في مناسبات معينة مثل اجتماعات منظمة التجارة العالمية (جولة سياتل نموذجا)، أو الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي.

إن انبلاج "مجتمع المعلومات والتواصل" ينضج تراتبية جديدة في السلطة والمكانة العالميتين. ولا أدل على ذلك من اللائحة التي نشرتها أسبوعية فرنسية لـ50 شخصية الأكثر تأثيرا في العالم، حيث غاب عنها رجال الحكم والسياسة (بما فيهم زعماء الدول العظمى)، بل إن صدارتها عادت إلى إمبراطور المعلومات بيل غيتس Bill Gates صاحب "ميكروسوفت"[10].

III – تنظيمات العنف والجريمة عبر القومية:

يعتبر احتكار "العنف المشروع" إحدى ركائز سيادة الدولة (م.فيبر M.Weber)، باعتباره سبيل الاضطلاع بالوظيفة الدفاعية والأمنية الضابطة للنظام السياسي، والتي تشكل بندا مهما ضمن مكونات "العقد الاجتماعي".

غير أن التطورات المعاصرة تشهد على دينامية متقدمة في "خصخصة العنف" Privatisation de la violence، الذي أضحى مجالا لنشاط جماعات وقوى غير دولتية، ومن هنا راهنية "مشكلة الإرهاب"، كإحدى التحديات الكبرى لعالم ما بعد الحرب الباردة.

وبغض النظر عن الحمولة التعددية التأويلية لمفهوم الإرهاب، يرى أ.شميت A.Schmid وأ.يونغمان A.Jongman أن تحقق الفعل الإرهابي يقتضي توافر مجموعة من الشروط:

ـ استعمال –أو التهديد باستعمال- القوة.

ـ المباغتة واستهداف خلق مناخ من الارتباك

ـ استقصاد أهداف ذات طابع رمزي.

ـ العمل على "أعلمة" Mediatisaton العملية الإرهابية

ـ السعي إلى تحقيق مكتسبات سياسية[11].

إن الفاعل الإرهابي، وهو يكسر احتكار الدولة للقوة المادية، ينضاف إلى العوامل الأخرى ليعمق أزمة المصداقية في علاقة النظام السياسي بالمواطن، بالنظر إلى تراكم مظاهر العجز عن تحقيق الأمن الجماعي والفردي للجماعة الوطنية، فقد تزايدت حركية العنف الخاص، متخذة طابعا عبر-قوميا، ومكرسة قابلية الحدود المتزايدة للاختراق، بعد أن كانت تدفقات العنف عائدة غالبيتها لمصادر دولتية (الجيوش النظامية والأجهزة الأمنية الرسمية) أو شبه دولتية (حركات التمرد المسلح مثلا..).

وتستفيد جماعات العنف من مجموعة عوامل لتعزيز مكانتها الدولية:

ـ منجزات الثورة التقنية في مجال التواصل وأدوات تخطيط وتنفيذ عمليات العنف، بحيث، كما يقول ب.رستون:"لا أحد يفهم استخدام تقنية المعلومات أفضل مما يفهمها الإرهابيون".

ـ عدم توفر تنظيمات العنف الخاص على وعاء ترابي محدود، وسرية بنياتها التنظيمية، مما يوفر لها مرونة حركية كبيرة ويعطل بالمقابل سبل حصرها مجاليا، خصوصا بالنسبة للمجموعات ذات الفروع المنتشرة عبر أنحاء عديدة في العالم.

ـ تزايد حساسية الرأي العام إزاء حوادث العنف المتواتر، التي أصبحت سلعة إعلامية تنافسية، حتى ولو كانت الحصيلة البشرية أو المادية ضعيفة. وكما سبق أن صرحت بذلك م.تاتشر: "إن وسائل الإعلام تعطي الإرهابيين أوكسجين الدعاية".

فالفاعل الإرهابي يستطيع تحويل عملية فردية، غالبا محدودة الآثار المادية، إلى نتائج ماكرو سياسية مهمة: إجبار الحكومة على التفاوض -وأحيانا التنازل- بما هو اعتراف بندية الطرف الآخر (الممارس للعنف).

وعمليا، يكون الخطر الإرهابي أكثر ثقلا في الدول الديموقراطية بالنظر إلى مجموعة من الاعتبارات، مرتبطة باتساع فضاء الحريات العامة (التنقل، الاجتماع..)، والقرب من تكنولوجيا التدمير، وحرية الإعلام..إلخ.

لئن كان مفهوم الإرهاب مرتبطا بغائية سياسية، فإن "الجريمة المنظمة" تحيل في الغالب إلى مرامي اقتصادية، وينطبق هذا الوضع على منظمات "المافيا"، التي يعرفها ت.كريتان T.Cretin بأنها "..منظمة إجرامية تهدف إلى الربح المادي..، تعتمد الإفساد، الضغط أو العنف للوصول إلى أهدافها الاقتصادية.. وتباشر أنشطتها على المستوى الدولي".

وإن كانت للمنظمات المافيوزية امتدادات تاريخية وانغراسات سوسيوثقافية محلية (في الصين، تايوان، إيطاليا مثلا)، فإنها واكبت مسلسل العولمة لتوسع أنشطتها، بحيث تغطي مختلف مناطق العالم التي تحتضن مصالح أو موارد تهمها.

لقد أتاح لها ذوبان جليد الحرب الباردة، بما خلفه من فراغات نفوذ سياسية، إيجاد متنفسات إقليمية من شأنها أن تستوعب قواعد خلفية للتنظيم والتخطيط.. كما أن عولمة الاتصالات وتداخل الاقتصادي بالسياسي أكسبها مرونة وقدرة متنامية على اختراق الحدود والمؤسسات، وتعزيز التنسيق عبر-القومي بين مختلف "العائلات المافيوزية"، الشيء الذي يفسر تحذير كتابة الدولة الأمريكية سنة 1994، من إمكانية انخراط هذه المنظمات في دينامية وحدوية قد تفضي إلى تشكيل "مافيا عبر-قومية موحدة".

تعتبر التنظيمات الإجرامية العالمية قوى اقتصادية كبرى، بحيث قدر رقم أعمالها السنوي حسب القسم النقدي لصندوق النقد الدولي، بحوالي 1000 مليار دولار. وكناية عن تعاظم قدراتها على ضرب أهدافها، جاء في تقرير للجنة البرلمانية الإيطالية للتحقيق حول المافيا (1996): "العلاقات بين مؤسسات الدولة والمافيا أخذت منذ عدة سنوات شكل علاقات بين سيادتين قائمتين: إحداهما لا تواجه الأخرى طالما ظلت كل منهما في حدودها".

لقد أصبح اقتصاد الجريمة الذي تنشطه هذه المجموعات (تجارة الرقيق الأبيض، المخدرات، التهريب..) مكونا هيكليا للاقتصاد العالمي، فسنويا، تضخ حوالي 500 مليون دولار من تجارة المخدرات في النظام المالي الدولي عن طريق تبييض الأموال. وتبدى بوضوح إخفاق الأنظمة الأمنية الوطنية في القضاء على عملية "إعادة تدوير" Recyclage المال المافيوزي في الاقتصاد المشروع، التي يتم الجزء الأكبر منها عبر عمليات الإيداع مجهولة الاسم بالمؤسسات البنكية في ما يسمى بدول "الجنات البنكية" Paradis bancaires، مثل الباهاماس، بيرمودا.. حيث القيود المسطرية على الإيداع المالي.

والواقع أن الجريمة المنظمة بمختلف أصنافها أضحت ضمن الهواجس الكبرى للدول والمؤسسات الدولية، الشيء الذي اقتضى إرساء أطر اتفاقية دولية (مثل اتفاقية فيينا 1988 المنظمة للتعاون القضائي والأمني في متابعة عمليات تبييض الأموال) وتنظيم مؤتمرات دولية (المؤتمر العالمي حول الجريمة المنظمة 1994)، لا تزال بعيدة عن تحقيق نتائج ميدانية[12].

IV – عولمة التدفقات البشرية:

تحيل حركات الهجرة الدولية إلى الدور المتزايد للفرد Individu في الساحة العالمية، كفاعل يوسع هامش استقلاليته عن المدار الدولتي، بعد أن ظل مجرد موضوع للعلاقات الدولية والقانون الدولي، حتى مع تطور العديد من المبادئ والقواعد المرتبطة مباشرة بالشخصية الفردية (خصوصا في مجال حقوق الإنسان..)، ما دامت هذه المبادئ والقواعد في حقيقتها ضوابط منبثقة عن تفاعلات الحقل الديبلوماسي السياسي، وبالتالي السلطة الضابطة للدولة.

إن حضور الهجرة، كإشكالية دولية، حديث نسبيا، الشيء الذي يفسر غيابها عن الكتابات التقليدية في العلاقات الدولية، وانحصار الاشتغال بها في فروع علمية أخرى (الديموغرافيا، القانون..). الوضع الذي تغير بعد انخفاض حدة الرهانات الاستراتيجية المرتبطة بصراعات الحرب الباردة، وتبلور الهواجس المشتركة لزمن العولمة والاعتماد المتبادل، لتصبح التدفقات البشرية في قلب اهتمام المجهودات التحليلية لرهانات الواقع الدولي المعاصر.

إلى حدود السبعينات، كانت جغرافيات الهجرة الدولية مهيكلة بأطر سياسية واتفاقية وضعتها كل من حكومات المنشإ والاستقبال (مثلا بين أوروبا الغربية وبعض مستعمراتها السابقة، أو بين دول الخليج والدول العربية المصدرة للعمالة..) وبفضل أنظمة التخصيص contingentement التي أرستها هذه الأطر، احتفظت الدول بقدرتها على الضبط الكمي والنوعي للحركات البشرية.

غير أن المشهد عرف تحولا جذريا بعد منتصف السبعينات، عقب إقدام جل دول الاستقبال بأوربا الغربية على "إغلاق الحدود" كسبيل للتخفيف من آثار الصدمة البترولية الأولى والأزمة الاقتصادية. لقد أتاح واقع "الإغلاق الرسمي" للفرد "المرشح للهجرة" تجريب قدرته على الحركة عبر-القومية المستقلة، خارج المراقبة الدولتية في إطار الهجرة السرية (أو عبر الاستفادة من الأنظمة القانونية لدول المقصد في مجال الزواج، حق التجمع العائلي..).

إن التزايد المهول في حجم التدفقات السرية، بالرغم من غياب إحصاءات دقيقة (ما بين 4 و6 ملايين بالولايات المتحدة، وحوالي 3 ملايين بأوروبا الغربية.)، يثبت أن الفرد أكثر إنصاتا وانفعالا بالعوامل البنيوية للدفع Reppoussement (خارج البلد الأصلي) والجذب Attirance (في اتجاه دولة الاستقبال). فالتواطؤ الموضوعي بين أوضاع الفقر والبطالة في البلد الأصلي من جهة، ووجود قطاع اقتصادي مواز، محتاج إلى العمالة الرخيصة الوافدة، يتدخل بشكل حاسم في تحديد قرار المغادرة Décision de quitter، خصوصا وأن انتعاش قنوات التهريب البشري –أو تجارة البؤس البشري- يوفر فرصا لتفعيل هذا القرار. ومما يضاعف من صعوبة ضبط هذه الحركات، أنه وإن كان من الممكن التفاوض واختراق تدفقات ذات طابع مؤسساتي قد يتحقق حصرها مجاليا: مقاولة، منظمة غير حكومية..إلخ، فإنه من غير المتيسر الحصول على مخاطب مهيكل، مادامت تدفقات الهجرة منفلت جلها من الإشراف السياسي ومندرجة في إطار المبادرة الفردية المستقلة[13]، ولو كانت غالبا تعبيرا عن مآزق جماعية (الفقر، القمع..).

أما من منظور شمولي للعلاقات الدولية، فإن الهجرة الدولية تنضاف إلى الملفات التي تكرس الخط الانقسامي العنيد بين الشمال والجنوب، بحيث تتضارب المقاربات وتتعمق التناقضات إزاء القضايا العالمية.

ففي الدول المستقبلة بالعالم المصنع، ثمة إجماع على سياسة حصر التدفقات الوافدة من البلدان النامية، بدعوى الكلفة الباهضة للوجود الأجنبي:

ـ اقتصاديا: بانضمام ضغوط إضافية على سوق العمل الذي يعرف منذ عقود فائضا في العمالة، وعلى أنظمة الحماية الاجتماعية.

ـ اجتماعيا: بتهديد التوازنات الديموغرافية والإثنية، وأنظمة القيم الوطنية.

ـ سياسيا: بتغذية التيارات اليمينية المتشددة التي تزرع عداء الأجانب Xénophobie، كما عكست ذلك بعض الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها كثير من دول أوروبا الغربية (فرنسا، إيطاليا، وآخرها النمسا بعد صعود حزب هايدر المتطرف كشريك في الحكومة..).

بل إن الاستراتيجيين، وفي مقدمتهم خبراء الحلف الأطلسي، ينظرون إلى احتمال إنتاج الجنوب لتدفقات جماعية كثيفة Flux massifs كتهديد أمني حقيقي لدول الشمال، خصوصا في الحوض المتوسطي، منطقة التناقضات بامتياز[14].

من الجانب الآخر، تعتبر بلدان الجنوب الهجرة الدولية أداة لتقويم الاختلالات الاقتصادية التي تعانيها في علاقاتها مع الشمال المصنع وإعادة توزيع الثروة العالمية. فالهجرة الدولية بالنسبة إليها مورد مالي يجب تثمينه، حيث تحتل التحويلات المالية للمهاجرين بالنسبة للعديد منها (المغرب، مصر، باكستان..) صدارة الموارد الاقتصادية الوطنية، ويكفي دلالة على ذلك أن قيمة هذه التحويلات تفوق مجموع المساعدات العمومية من أجل التنمية (ODA). من هنا، فإن الدول المصدرة للهجرة تنظر إلى الإجراءات الاحترازية من قبل الشمال كإضرار بمصالحها الحيوية وإمعان في تكريس الفوارق التنموية العالمية، فضلا عن كونها تعبر عن توجه معاكس لعملية التحرير الاقتصادي (حرية تنقل الرساميل والسلع والخدمات) التي أرستها اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة، والتجمعات الجهوية للتبادل الحر (المنطقة الأورومتوسطية، النافثا..).

على نطاق أدنى، فإن تبلور علاقات تقليدية ثنائية للهجرة بين دول معينة ينقل المشكلة بشكل تراكمي إلى دائرة العلاقات السياسية بين كل من دولة المنشإ ودولة الاستقبال. فكثيرا ما تدخل هذه العلاقات دائرة التوتر، كلما تعرضت "الدياسبورا الوطنية" للبلد الأصلي إلى مضايقات أو انتهاكات حقوقية، تمييزية.. على قدر من الجسامة. كما أن دول الاستقبال استعملت في سوابق عديدة الهجرة الوافدة كورقة للضغط على الدول المصدرة لانتزاع مكتسبات معينة (مثلا استقبال أعداد من مواطني دولة الأصل مقابل الاستفادة من امتيازات اقتصادية) أو في إطار تدابير انتقامية (إقدام الكويت على طرد الفلسطينيين، والسعوديين على طرد اليمنيين، ردا على وقوف اليمن ومنظمة التحرير بجانب العراق إبان أزمة الخليج الثانية).

يتضح إذن أن اختيارات فردية بسيطة بالانتقال، بصفة قانونية أو غير قانونية، للإقامة في دولة أخرى، تجعل من الفرد معاملا حيويا في إشكالات دولية بالغة الأهمية كانت إلى زمن قريب رهينة لحلبة التفاعل السياسي، الديبلوماسي: الأمن الدولي، التنمية، حقوق الإنسان.. إلخ.

خلاصة:

يطرح انتعاش الظواهر عبر القومية، التي عرضنا نماذجها البارزة، على العلاقات الدولية إشكالية جوهرية متعلقة بطبيعة الموضوع الذي يشتغل عليه هذا الفرع، فانضمام فاعلين جدد، ذوي طبيعة مختلفة إلى مسرع الفعل الدولي، يساهم في تمطيط اهتمامات المحلل الدولي، بحيث يمكن القول راهنا بأن كل ظاهرة تتجاوز أبعادها النطاق القطري تندرج أوتوماتيكيا ضمن مواضيع العلاقات الدولية[15].

ويقتضي هذا التغير تعبئة الإمكانات المعرفية التي توفرها مختلف العلوم والمعارف، بغرض اقتراب أنجع من واقع عالمي أكثر تعقيدا، كما يفرض إعادة النظر في المفاهيم والمبادئ التقليدية التي انبنت عليها العلاقات الدولية، والتي تمحورت كلها حول الدور الاحتكاري للدولة في الساحة العالمية.

من دون شك، هناك مسلسل مستمر لتآكل الموارد والمقومات التي خولت للدولة هذا الدور. غير أنه، على عكس بعض الطروحات المبشرة بنهاية الدولة، فإن الكثير من الكتاب –خصوصا الفرنكوفونيين منهم- لا يوافقون على المبالغة في دور العوامل عبر-القومية، ويعتبرونها مجرد أوهام أمريكية حول "نهاية الإيديولوجيا" واضمحلال الظاهرة السياسية. فالسلطة الخاصة لا تزال بعيدة عن تشكيل بديل للإطار السيادي الدولتي. واكتساب استقلالية حركية من قبل هذه العوامل، ليس بالضرورة تعبيرا عن فقدان الدولة لسلطتها الدولية. إن الدولة تتعاطى مع التحديات عبر القومية عبر سلوكين: تفكيك الكيان السياسي-الإداري إلى أجزائه المنفصلة المتميزة وظيفيا، وتعمل هذه الأجزاء (مؤسسات إدارية، هيئات تشريعية، قضائية، أمنية..) على نسج شبكات علائقية مع نظيراتها في الدول الأخرى، بغرض تدبير سياسي تعاوني للإشكالات المطروحة على المستوى العالمي.

ـ تدويل المشاكل عبر-القومية عن طريق تعزيز المأسسة الدولية وبالتالي إرساء ودعم منظمات دولية قادرة على تعبئة التعاون بين-الحكومي لمواجهتها، أو عبر استثمار التشابهات والتحديات المشتركة لتسريع دينامية بناءات اندماجية جهوية، تمكن من تعبئة طاقات الدول المنخرطة بغرض تعاط أنجع وأشمل إزاء هذه المشاكل (الاتحاد الأوروبي، النافثا..).

والواقع أنه بالرغم من واقع الأزمة، تظل الدولة المصدر الأساس للأنظمة والقيم على المستوى العالمي، والتعبير الأسمى عن دينامية الاجتماع السياسي. لذلك لا غرو أن نشهد تواتر المواقف الشعبية والرسمية والفكرية التي تدافع عن انبعاث جديد للكيان السياسي كمؤسسة وكوظيفة، في سياق التحديات الجارفة التي تطرحها العولمة على المجتمع البشري المعاصر.



[1]  - Pierre De Senarclens : La politique internationale, coll. Cursus, A.Colin, 1992, p116.

[2]  - B.Badie et M.G. Smouts, Le retournement du monde, Presses de la F.N.S.P, 1992, p70.

[3]  - Michel Girard, «Les conceptions de l’ordre dans les relations internationales», in (Ordre et désordre dans le monde), Cahiers français, n°263. Documentation Française, oct - déc. 1993, p1.

[4]  - Ignacio Ramonet, Géopolitique du chaos, Galilée, 1997, p51.

[5] - لستر ثرو: مستقبل الرأسمالية، ترجمة عزيز سباهي، دار المدى، 1998، ص147-148.

[6] - حازم الببلاوي: النظام الاقتصادي العالمي، عالم المعرفة، ع257، ماي 2000، ص156.

[7] - ولتر ب. رستون، أفول السيادة، ترجمة عزت نصار وجورج خوري، دار النسر، 1995، ص150.

[8]  - Josepha Laroche : Politique Internationale, L.G.D.J, 1998, p99.

[9] - كلود مويسي: (أساطير قرية المعلومات الكونية)، ترجمة فؤاد بوابة، الثقافة العالمية، ص22.

[10]  - Ignacio Ramonet, op.cit., p71.

[11]  - Josepha Laroche, op.cit., p88.

[12]  - Ibid, p95.

[13]  - B.Badie et C.W.De Wenden, (Migrations et relations internationales), in Le défi migratoire, coll. Le temps mondial, Presses de la F.N.S.P. 1994, p13.

[14]  - Pierre Le Louche, Le nouveau monde, de l’ordre de Yalta au désordre des Nations, Grasset, 1992, p277.

[15] - M.C.Smouts : « les mutations d’une discipline », in M.C. Smouts (Dir) : Les nouvelles relations internationales, Presses de sciences po. 1998, p1..