ص1       الفهرس  61-70

سـؤال الـفـلسفـة!

في أفق لعبة وجودية صميمية

سعيد بوخليط

البحث عن قوالب جديدة للتفكير يستتبع بالضرورة افتراض مجموعة من الخطوات النظرية تتأرجح بين المماهاة والاختلاف والتماثل والتجاوز، التموقع وكذا نحت أبعاد زمانية أخرى تجعل من لحظة الحاضر مجرد مصطلح مفهومي، يتوخى منه إيجاد ركائز مفترضة  للعبة وجودية لا توجد أصلا إلا في عقولنا.

كل شيء يستحق الانتباه، حتى طريقتنا في الأكل لأن الذات محكومة بمنظومة سلوكية ترتبط بحمولة معرفية معينة. وفي نفس الآن، فإنه لا شيء يمكن أن يبتغي لذاته قيمة تحديدية، مادامت الإخفاقات والتلاشيات وكذا الانهيارات تبقى التأسيس الوجودي لزمان ذاتي قدر ما تتوخى منه هو : موتنا.

أي لعبة فكرية يمكنها إذن إيجاد سبل لهذا الاختلاف /التأسيس؟ بمعنى السلب الذي يتشكل داخل منظومة لها قوام الزمان والمكان. وحده الفكر المتسائل يمكنه الكشف عن كل ما يؤثث الوهمي، ذلك الذي يجعل من المظلة الوجودية شجرة لأحلامنا. والسؤال ليس حصيلة معرفية لملاحظات قبلية ولا موعظة نظرية نتدرب عليها مثلما نمارس رياضية يومية، ولا حتى تنميقا مفهوميا واعيا أولا واعيا لأزمة وجودية –مادام أن الإخفاق وحده مؤشرنا إلى جدلية التحقق والانهيار –السؤال هو جسدنا العاري، تحدده كيمياء الولادة والموت. بدون السؤال سيظل الوجود لعبة قذرة تسقط على رؤوسنا فتجعل من أجسادنا بقايا لمقدمات تعلن منذ الوهلة الأولى، على أن الرحلة ستكون هذه المرة يائسة.

تصنف المؤسسة التعليمية كل فكر يلهث وراء موته بالعدمية، وتحدد كل اشتغال نظري لا يجد لذاته قواعد الإرساء بالفلسفة، أي تلك الأعمدة المفاهيمية التي تنصب المشانق في كل مكان حتى تعطي للحياة دورتها الكاملة. العقول الكبيرة تخشى على نفسها تيبس الشرايين، فيحولها ذلك إلى مجرد شحنة انفعالية لممكنات لم تجد بعد لها مسلكا نحو الآخرية الممتلئة التي حولت العدم من زمن ملغى باستمرار إلى موقف يجعل العالم بأكمله بين قوسين في أفق تحقيق الأولانية الأنطولوجية للذات.

 بالنسبة للمؤسسة، الفلسفة قيمة فكرية لاغية لأنها تبحث في الأسس وبالتالي ستصل من خلال ذلك إلى استنبات قيم المغايرة  التي تؤمن بالانهيار. تتأسس حقيقة العالم الأبدية من وجهه نظر المؤسسة على جعل هذا العالم قائما حتى وإن كان على رجل واحدة مادام أن الطريق إلى أنفسنا لا يكون دائما مضمون النتائج.

يجعل الفيلسوف من المقدمات نتائج لحصيلة فكرية تتأسس على مستوى درجة لا تتحمل أي مؤشر. بين هذا وذاك تقوم الفلسفة بواجب إيجاد مراعاة يمكن حتما من خلالها إعطاء السؤال هذه القدرة الهائلة على الامتلاء. من خلال ذلك، كيف يمكن إذن الجمع بين إستراتيجية نظرية قائمة على الاحتمال والتجاوز إلى الممكن ثم إيجاد الفعل الآدمي الذي بإمكانه صياغة معادلة تبدو للكثيرين شذوذا اجتماعيا. التضخم اللغوي لا يعطي بالضرورة فعلا مبدعا. صحيح أن اللغة تتمثل بقوة الحمولة المتعددة للعالم والآخر، وبالتالي تقوم على إستراتيجية الإرجاء التي تجعل من بنية السؤال مسارا تأسيسيا.

كيف يمكن أن نؤسس اختلافنا داخل بنية فكرية مؤسسة على الواحدية المطلقة؟ هل العقل وحده بإمكانه خلخلة الصياغة النمطية لمجموعة تعتقد أن ذاتها لا يمكن أن تشكل حيزا للفراغ؟ أم أن ظل الجسد في انفلاتاته الدائمة يشكل الإرساء الذي يرسم أفق كينونتنا الناغلة والقابعة بين دواليب منظومات القيمة والأحكام الماقبلية.

الفلسفة لها القدرة على تكثيف اللماذات التي تحول انسيابنا الوجودي إلى تأرجحات زمانية تعانق في كل لحظة اللامتناهي أو الممكن. صحيح، أن جدلية السؤال والجواب قبل أن تحول حياتنا إلى موت لمجموعة من التحققات - تلغي الجسد أولا وأخيرا – ترسم آثارا للتعديم. والعدم هنا ليس موتا فيزيقيا ولكنه الحيز الزماني الذي يمكن أن يأخذه السؤال بعد لحظة اختلال في مفهوم الواقع المتعارف عليه عند ذاك نؤمن بوجود يقوم على الاستيهام والإحالة.

لا يمكن إذن لأية إستراتيجية مفهومية تتوخى بحق الاشتغال على جماجم أتعبها تأريخ النهائي والمطلق، دون هذه المتانة الفكرية التي تجعل من المفهوم هندسة للمتحول والذي قد ينطوي على واقع أخذ منا كل شيء إلا الجسد المؤجل. لعبة المفاهيم هاته لا تفترض ترويضا للمتشتت حتى في أقصى احتمالاته ولكنه في الأساس تموقع للجسد. ينبثق عن ذلك المعادلة التالية: المفهوم صياغة زمانية للجسد، في حين أن الجسد وهو يأخذ بعدا مفهوميا قد يلغي الآخرية من أجل تحقيق الأولية.

لقد أثبتت التجربة الفلسفية ليس فقط قدرة على تفكيك ملامح التراجيديا الفردية في علاقتها بـ : العالم والزمان والموت، بل أكدت على المستوى المعرفي، أن السياق الوجودي يحتم فعلا استنبات مجموعة من الشروط الفكرية بإمكانها التقاط معطى الفراغات الذي يصيغ أولا وأخيرا حقيقة الذات الإنسانية من خلال نزوعها اللانهائي نحو تحقق الموت.

في إطار لعبة التجاوز هاته وتجاوز التجاوز، تبدأ الفلسفة بالجسد وتنتهي بالموت. بين هذا وذاك مسافة زمانية تصاغ فيها الأسئلة والقضايا الكبرى التي تشكل بناءاتها المفاهمية مقدمة حتمية لأي تجربة مجتمعية تتوخى حقا رد الاعتبار للإنسان وجعله محور أي تفكير في المستقبل. ليس المهم إعطاء إجابات حاسمة ولكن القدرة على طرح الأسئلة ووضع شروط للتفكير يمكنها خلق مجموعة من المسارات الجديدة.

قدر الفلسفة هو جعلها من اللحظية معطى تراجيديا، بمعنى أن القائم يستتبع حتما وبالضرورة، انفلاتا للجسد، وبالتالي فكل صياغة أو تأطير وضع نهائي، يعتبر سلبا وانتفاء لهذه الخاصية المبدعة التي تميز الموقف الفلسفي، مادام أن الفلسفة تتجاوز كل الممكنات وتنحت لنفسها سبيلا، أم أن ظل الجسد في انفلاتاته الدائمة يشكل الإرساء الذي يرسم أفق كينونتنا الناغلة والقابعة بين دواليب منظومات القيمة والأحكام الماقبلية. وهو جسد تبدو هويته غير واضحة، لأن معالم الاشتغال والتحرك عنده تتعدد وتتداخل، انطلاقا من منطق تكثفه أساسا الجدلية الكبيرة : السؤال /الموت والمحكومة بقاعدة تقوم على الحدود التالية: حينما نتساءل فإننا نستحضر الموت، ليس كلعبة للصمت ولكن كأفق للتأسيس. سنتجاوز هنا المناخ اللغوي للبيولوجيا والفيزيقا والشعائر والطقوس والقدر والمصير. من أجل تمثل قيمة الفراغات الوجودية باعتبارها إمكانات مضمرة، حيث نطرح على ضوء ذلك التساؤلات التالية : أين  توجد حقيقة العالم في الموجود أو اللا-موجود أو فيهما معا؟ وهل الموجود قائم لأن السؤال جعل من الموت هامشا " للاختلاف"؟ أم لأن اللا-موجود غير قادر على التموضع دون سؤال يدوي بين ثنايا القائم؟.

كل ذات هي العالم، والعلائق المؤسسة لانسياب مسار الأشياء تخلق وهما كبيرا اسمه مبدأ الواقع. بمعنى آخر حينما أدخل في مجموعة من التصادمات "ليست بالضرورة عنيفة " مع الآخرية.

وانطلاقا من مبدأي الاتفاق والاختلاف. فإن الدوائر المتاحة للذات في الهناك، تعطي لمبدأ الواقع فهما وحيزا نسبيا تختلف دلالته من موقع لآخر. بل إن أقصى نتيجة لذلك هو تفكيك رهان الوحدة والفهم واللغة والمرجعية والإدراك ، آليات من بين أخرى تتوخى بالأساس الحصر والضبط والتقنين.

موقع الفلسفة من كل ذلك هو أنها تؤسس لأفق لغوي آخر مغاير، وترسم لمسار جديد، يبحث عن آليات التداخل والترابط الصميمي بين الذات والسؤال والموت. لقد أعلنا سابقا أن فراغات الوجود تبقى ملتبسة داخل التقليد اللغوي الذي يفكر بمنطق التماثل. في حين أنه مع الانهيار والتجاوز، فإنه لا شرط للذات إلا بالسؤال. وبينما يتحول الموت إلى تحقق متعدد ولا نهائي للجسد  مع التقليد السابق كذلك، يتم استحضار الموت باعتباره إما خللا وجوديا أو شرا ميتافيزيقا وإما كمسار أولاني يلتقط به كل جسد جسده بعد مجموعة من الاحتمالات المصاحبة لهذا الجسد والتي تبعده بشكل أو بآخر عن التموضع.

الفلسفة سؤال الذات من أجل الموت. تجربة الوجود، يمكن أن تختزل بأكملها في درجة تماس بين هذه الممكنات وبالتالي إذا فككنا هذه العلاقة من زاوية أخرى فإننا سنضع  أيدينا على الجذر الخاطئ للوجود. ذلك أنه حينما ينتفي سؤال الفلسفة فإن موت الذات يتحول إلى مصير. تماهي الفلسفة بالفراغات يكثف الاحتمالات والممكنات، ويأخذ الوجود حيز العدم الذي تحول بدوره من مجرد قيمة نافية وسالبة إلى تمركز مطلق للجسد.

أين يتموضع هذا الجسد بالفلسفة؟ لاشك أن جل الثقافات الإنسانية تتكلم عن الجسد بنوع من الارتياب إن صح التعبير وتربطه بكل أشكال السوء والرذيلة.

نخشى من العري لأنه ينهض على قيمة التأسيس. الفلسفة بدورها ظلت موضع إقصاء طيلة تاريخها. ذلك أنه لا يمكن لأي متفلسف التحدث إلى الجماعة، دون أن يزعج منظومتها. نواة الفلسفة هو السؤال، حيث يشكل العراء ماهيته. بالسؤال نكتشف أن لاشيء يجمعنا بالوجود إلا الصمت. وحدها اللغة تدحض اليقينات وتحطم التأسيسات وتتجاوز البديهيات. الفلسفة لغة بامتياز، والفيلسوف يخصب اللغة إلى أقصى دلالاتها. لذلك ليس صدفة أن ترتبط اللغة مع الحرية بشكل حميمي، وبالتالي ازدهار الفكر الفلسفي والممارسة الفلسفية داخل المجموعات الإنسانية الحرة. كما أنه كلما ازدادت مساحة حرية الذات الإنسانية، إلا وأصبح تمثلها للمحيط أكثر جرأة وشجاعة. الجسد الحر يداعب الوجود بلغة مفصولة عن السياق التداولي العام. لأن هذه الأخيرة تبقى مرتبطة وملتصقة بمحددات وثوابت تدرك العالم انطلاقا من المعطيات التي يقدمها هذا العالم عن نفسه. وحدودها ومركباتها تظل في غالب الأحيان نسبية وقاصرة عن ملامسة الماهيات الحقيقية. اللغة اليومية تعكس في غالب الأحيان طريقة التفكير السائدة. وأعتقد بأن كل مجموعة إنسانية، غالبا ما توظف لغة تستمد مفاهيمها من تجربة تقوم على الإقصاء والحصر لممكنات الوجود اللانهائية. إن ما يعطي مبررا لواقع ما هو المنظومة التي تتوزعها ثنائية الإيجاب والسلب، القبول والرفض

يتجاوز الجسد مع الفلسفة كل التواءات الوجود، لأن حمولة السؤال بتحطيمها للحظي، يلغي بناءات الآخرية والتي تستثمر مسألتين أساسيتين من أجل تعضيد بنية الوجود: اللغة الواصفة، والمنظومة المجتمعية. وأكثر ما يفترضه ذلك هو البداهة والوضوح والتماثل والتمثل والاتفاق والفهم قيم ومعادلات، نلاحظ بأنها تغيب في شروطها التفكيرية العامة شيء اسمه المحتمل الفلسفي والذي يراهن بدوره على امتلاء الجسد. الآخر يلغي الجسد بقوة لأنه يلاحق كل فراغات الذات، وهي الدوائر التي يمكن من خلالها صياغة الوجود على قاعدة الجسد /الموت.

لا شك أنه في ورطة تفكيك الوجود، غالبا ما نؤسس المكون المعاكس انطلاقا من مفاهيم تأخذ مشروعيتها الدلالية من اللغة الواصفة ومن البنيات النظرية التي تجد جذورها في منظومة الإقصاء والسلب. بمعنى آخر، إننا نتوخى إعطاء الوجود منحاه الأولاني، إلا  أنه بمفاهيم الوحدة والنموذج. نحس وكأننا نعيد الكرة وبالتالي نسقط في نفس الخطاب المتكرر. الحل الإجرائي لذلك هو الاتفاق على تجربة مفهومية جديدة، تشتغل وفق منطق الارتياب والتجاوز. وهكذا فحينما نتحدث عن الجسد أو الموت أو السؤال أو الامتلاء أو الفراغ. إننا ننزعها من إطارها النظري المتداول في التقدير والصياغة. المفاهيم التقليدية والمرتبطة أساسا بالسياقات الاجتماعية القائمة على التنميط والنمذجة، تظل قاصرة إن لم نقل عاجزة عن استنبات الآفاق الفكرية الجديدة التي تلحقنا بالسيرورة الكبيرة للوجود. المفهوم كعائق يعكس، في أبعاده الابستيمولوجية، أزمة فكر وذوات تلتصق بالقائم دون القدرة على استشراف المابعدي. فيتحول التاريخ إلى لحظة مكتملة والذات تصبح تسويقا لنماذج جاهزة مطلقة على مستوى التأسيس.

*الفلسفة / الجسد :

الفيلسوف يُعدم  / ينتحر/  يهمش اجتماعيا أو يسجن، لعبة الجسد هنا تأخذ قيمتها الطبيعية.الموت تمحور حول الجسد والعزلة تكثيف للجسد، وبين الموت والعزلة تنكشف الأسئلة الكبرى التي تلغي كل القيم والمواضعات التي تفترضها مجموعة إنسانية. يأخذ الجسد مع الفلسفة منحيين، قد يكون في لحظة ما، الدائرة الوحيدة للانزواء ومن ثم الدفاع واستباحة الأفكار المألوفة، ومن جهة ثانية فإنه يمثل المصدر الأساسي والجوهري لكل موقف فلسفي. حينما ينفلت جسد الفيلسوف منه، فإنه يتحول إلى مجرد مؤرخ أو مدرس يجتر الأفكار ويكررها وتصبح معه الفلسفة قيمة قبلية.

الاتصال الأول بالعالم يتأتى عن طريق الجسد، لحظات الولادة والموت ترسم المسار الأنطولوجي. لكن ما هو المقياس الذي يعطينا إمكانية الفصل بين الممكن الفلسفي وغيره؟ نظرا لأن كل البشر قد يخضعون لنفس السلطة البيولوجية. اختلاف الفعل الفلسفي ومغايرته للأفعال الفيزيقية الأخرى، يتأتى بالأساس من طبيعة الحيز الذي يأخذه الجسد، ليس ككتلة مادية لها مجموعة من الخصائص المادية. ولكننا نقصد هنا، طبيعة التوظيف الجديد للمسار الأنطولوجي من أجل تحويل قيم الهناك أي الآخرية بكل تلاوينها إلى وجود أولاني للذات. إنها ليست قضية وعي وجودي، أو مجرد شعور يتأرجح بين مجموعة من الأحاسيس. وجود الذات يتجاوز كل ذلك، فهي قضية موقف ومصير بل وقطيعة كبرى مع وجود الولادة البيولوجية. وحده الفيلسوف يتماهى بالجسد إلى أقصى تجلياته، إيمانا منه بأن مصير الفكر الحر يجد حمولته المبدعة في الجسد المختلف مع ذاته والقابع في زمان الفراغات. لا فلسفة بدون جسد وبالأخص المنفلت منه.

*الفلسفة / السؤال :

حينما نتجاوز السؤال كقيمة إبستيمولوجية، فإننا نصل إلى حلقة من الصعب الحسم في إحداثياتها المكانية وشروطها الزمانية. يتعلق الأمر بطبيعة المساحة التي يمكن أن تأخذها علاقة الجسد بالسؤال ثم ارتباط الفلسفة بهذه التماثلات. يتأسس الجسد بالسؤال في حمولته المطلقة وفي نفس الآن، فإن الجسد يستحضر وقائعيته الناغلة من خلال متواليات السؤال. الوصول إذن إلى العلاقة التالية: [ السؤال جسد غائب، والجسد سؤال تم تحيينه ]. بقدر ما تدفعنا إلى الكشف عن حدود وممكنات وكذا آليات هذا الاشتغال الأنطولوجي الفذ، والذي سيجد حتما في الفلسفة مدارا أوليا، فإنه يلغي في أحيان كثيرة  مسألة مقصودةلحظة القبض على الوجود بما هو موجود.

السؤال وجود مؤجل. والفلسفة لها القدرة المعرفية والنظرية على تحويل هذا المؤجل المفارق إلى إمكانية نافية، ضدا على البداهة والإثبات والوضوح. كقيم فكرية تجد مشروعيتها في المجتمع القائم على مفاهيم اللغة الواصفة، تجد الفلسفة ذاتها في وضعية الباحث الدائم وباستمرار عن الجسد، لأنه الإمكانية الوحيدة للسؤال. ليس فقط وجودنا غير مدرك وما يؤكد ذلك هو التاريخ، ولكنه بالضرورة يقوم على مجموعة من الإكراهات تتوخى لذاتها شكل مسوغات ومبررات، تفترض لديمومتها تحول الجسد  إلى مجرد آخرية. وجود أولاني للجسد. يجعل من الزمان الذاتي تأسيسا وخاصة "تنويعا" لماهية الموت.

تعالق الفلسفة بالسؤال يقود إلى تعديم للتعددية الفالتة من الذات، امتياز للجسد وخلق جديد للغة، وتحول للعالم من سقفه اللغوي  العالم كائن لغوي بامتيازإلى تجربة مباشرة للتحقق.

الفلسفة / الموت:

في التقليد القديم وارتباطا بالمنظومات المفهومية المطلقة والواحدية، لا يمكن التحدث عن الموت دون استحضار تجربة عبثية العالم ولاجدواه. الموت نهاية حتمية، قدر بيولوجي يضع الذات في حرج من أمرها : كيف يمكن تحويل العالم إلى مجال للاشتهاء؟ وفي نفس الوقت الإسراع به نحو اندثاره. جدلية التحقق والانفلات، مع الفهم الميتافيزيقي لها، تعطي للموت أفقا سلطويا بالمفهوم المادي والرمزي. حتمية الموت داخل المسار الوجودي، تجعل منها قضية يصعب في كثير من الأحيان وضع الأصبع على حدودها.

التفكير الفلسفي يحل الإشكال من خلال إعادة تشكيل العلاقة الأنطولوجية بين الجسد والسؤال. ذلك أن المنفلت والذي يأخذ صفة موت في التفكير اللا-فلسفي، يرتبط بشكل أو بآخر بل في صميميته بمجموع السياقات التي تختلف عن ذاتها وتعطي لمفهوم الهوية قيمة تعددية. إذن سؤال الجسد بمنطق ارتيابي فلسفي، وبتجاوزه الدائم للحظي المؤسس –على وهمية ذلك  لكل إمكاناته يكشف عن الموت لكن كإبداع وخلق. الموت ليست نهاية ولا عدما ولا قطيعة مع الوجود. إنه سياق للذات تعطي من خلاله لتجربتي المكان والزمان حمولة مفهومية تقطع مع التصور الفيزيائي جاعلة من الآخرية المتعددة في الهناك مجرد مسوغ نسبي للوجود الخطأ. الموت يعطي للتعدد مطلق دلالته، وذلك بموضعته للذات في مسار وجودي أولاني. الانفلاتات السابقة هي في الأصل وازع انطولوجي للتحقق، إلا انه يحدث الإخفاق. موت الفلسفة يقوي كثيرا من أطروحة الموت البيولوجي، وبالعكس من ذلك فإن سؤال الفلسفة يجعل من الموت ديناميكية للوجود.

الفلسفة / الفلسفة:

حينما نتحدث عن علاقة الفلسفة بذاتها، فإننا نفترض مسألتين أساسيتين: إحداهما تعطي إمكانية منفتحة بشكل مطلق، على ماهية الفلسفة التي يمكن أن تعود إلى السؤال والجسد والموت أي الثالوث المفاهيمي الذي بإمكانه موضعة الذات كحقيقة أولانية، يتعلق الأمر بالفلسفة كتاريخ، وتجربة عينية تلتصق بانفتاحات الجسد في تعالقاته المتعددة. من الناحية المعرفية يشتغل الفيلسوف داخل هذا الموقع وهو لا يعبر إلا عن براءة السؤال. الفلسفة/لتاريخ، تشتغل على مساحة الوجود بأرضية مفاهيمية تتماسك وفق منطق للتعديم على المستوى الأنطولوجي. وبالتالي فإن آلة المفهوم تأخذ في هذا السياق، أقصى درجات الإبداعية والإنتاجية. عملية لا تتم بشكل عشوائي، وتبعا لانسياب عبثي. بل الأمر في حقيقة الأمر يسعى إلى التماثل بشكل واع أو بغير وعي مع مسارات الذات في البحث عن الأولوية. المفاهيم هنا لا تحل في ذاتها بشكل مطلق. هناك دائما رخاوة في السيلان والانسياب. والمفهوم لا يقتضي في تعريفه مجموع حمولته النظرية. إنه يشتغل داخل الفلسفة بانفتاحية كاملة.

المسألة الأخرى ترتبط أساسا بمسار ثان للفلسفة أي حينما تتحول إلى عملية تأريخية، حيث تتحدث الفلسفة عن ذاتها بمنطق الاكتمال. الشرط المعرفي لذلك يأخذ وجهين، تحولها المؤسسة من جهة إلى شعبة وقسم للتدريس. فتفقد الفلسفة الأفق الفكري، الذي يجعل منها علما كونيا للذات والوجود. ويتحول الفيلسوف مع هذا السياق الجديد إلى ملقن للمعارف أكثر منه "محارب" عتيد.  ومن جهة ثانية فإن الفلسفة وهي تؤرخ لمفاهيمها، تغيب في لحظات كثيرة منطق الاختلاف واللا-ثماتل، والذي يراهن بدوره على الماهيات المحتملة سبيل الذات الوحيد للانكشاف على الوجود/ الجسد.