ص1       السابق

 

10- شعار "تاريخية النص"... ليس هو الحل!

 

محمد عابد الجابري

منذ سنوات وعبارة "تاريخية النص" تتداولها أقلام بعض الكتاب، وهي تنطوي عندهم على اختيار "استراتيجي" لا بد منه لفهم النص الديني، وبالتحديد القرآن الكريم، فهما "حداثيا". هذا بينما لا يُخفي كتاب آخرون ممن ينتمون إلى الاتجاه المقابل، الذي ينعت بالسلفية أو الماضوية، رفضهم، ليس فقط لاستعمال تلك العبارة، بل أيضا تحرجهم من استعمال عبارة "أسباب النزول"، مع أنها عبارة إسلامية أصيلة، خوفا من أن يفهم لفظ "الأسباب" بالمعنى الفلسفي الذي يجعل السبب علة في وجود المسبب، بينما هو عندهم وعند الأشاعرة عموما مجرد مناسبة. وعندما يستمع المرء إلى هؤلاء وأولئك ويتأمل الهواجس التي تحرك الفريقين يخيل إليه أن كلا منهما يجهل ميدان الآخر وبالتالي لا يتعامل معه على أساس يقوم على الفهم والتفهم. والأدهى من ذلك أن الذي يقف موقفا نقديا مما يقرأ ويسمع يمتلكه شعور قوي بأن كل فريق من هذين الفريقين يجهل ليس فقط ميدان خصمه بل يجهل أيضا ميدانه هو نفسه. وهدفنا من هذا المقال أن نبين أن بين هاتين العبارتين ("تاريخية النص" و"أسباب النزول")، من وشائج القربى ما يسمح باستعمالهما معا في نفس المعنى. وبعبارة أخرى : إن استعمال الواحدة منهما دون الأخرى لا يعني بالضرورة القيام باختيار استراتيجي يخدم قضية الحداثة أو يزكي مقابلها الذي قد نعبر عنه بالأصالة أو بالسلفية أو بما أشبه...

لنبدأ بمفهوم "تاريخية النص" لنعود إلى "أسباب النزول" في المقال القادم..

من الواضح أن مصطلح "تاريخية" يحيل إلى التاريخ، ومن الواضح كذلك أن هذا المصطلح ليس عربيا بالأصالة بل هو ترجمة لمصطلح Historicité (بالفرنسية وهو مترجم عن الألمانية). أما معناه الأولي فيفيد النسبة إلى التاريخ: فعندما يوصف به الشيء فإن ذلك يعني أن ذلك الشيء له وجود حقيقي، أي أنه وجد فعلا وجودا تاريخيا يتحدد بالزمان والمكان، وليس مجرد وجود افتراضي أو أسطورى.

هذا عن المعنى الأولي للعبارة، وهو معنى محايد، أعني أنه لا يدل على مدح ولا على قدح. أما عن المعاني الفلسفية والإيديولوجية التي أُلْبِست لهذا المفهوم في العصر الحديث فهي أكثر من تحصى. لقد عرف تاريخ الفكر الأوربي منذ القرن السادس عشر إلى اليوم فلسفات ومذاهب فكرية تتخذ من مفهوم "التاريخية" أحد الأركان الرئيسية في صروحها. وبما أن المجال هنا لا يتسع لشرح أوسع فسنقتصر على الإشارة إلى بعض الجوانب الرئيسية التي تعين القارئ غير المختص على اكتساب تصور غير سطحي عن هذا المفهوم المركزي في الفكر الأوربي الحديث والمعاصر.

لقد طرح مفهوم "التاريخية" أول ما طرح بوصفه يجسم الفرق الأساسي بين الإنسان والطبيعة : الإنسان له تاريخ والطبيعة لا تاريخ لها. وتاريخية الإنسان تعني في هذا المجال أنه وحده بين الكائنات يعي وجوده التاريخي، يعي تاريخيته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى اتخذت النسبة إلى التاريخ في الفكر الأوربي في وقت من الأوقات معنى قدحيا، وذلك عندما يراد أن الموصوف به ينتمي إلى الماضي وأنه لم يعد موجودا، وبالتالي لا قيمة له لا في الحاضر ولا في المستقبل. وعلى العكس من هذا تماما أعطي في مرحلة لاحقة لمفهوم "التاريخية" معنى "الأهمية التاريخية" بلغتنا الرائجة، بمعنى أن الشيء الذي يوصف بها إما أنه يشكل حدا فاصلا بين عهدين، عندما يتعلق الأمر بالكلام في الماضي، أو أنه يدشن عهدا جديدا، وأنه لحظة من لحظات التطور نحو الأكمل والأفضل. وحول هذا المعنى الأخير تستعمل "التاريخية" في فلسفات التاريخ، الفلسفات التي ترسم تصورات عن المستقبل بوصفه قمة التطور الذي جرى عبر التاريخ ويجد لحظة اكتماله في الصيرورة التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل.

من هنا يتفرع معنى آخر لمفهوم "التاريخية"، وهو الذي كان له الصدى الأكبر في القرنين الماضيين، مع الماركسية أولا، ثم مع علم الاجتماع المعرفي (سوسيولوجيا المعرفة) ثانيا. والقضية الأساسية المطروحة في هذا المجال هي قضية علاقة الفكر بالواقع، أو المعرفة بالأطر الاجتماعية. وكما هو معروف فالفكرة السائدة في الماركسية الرسمية هي أن الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدد وعيهم، أي نوع نظرتهم للشأن السياسي والاجتماعي. وفي هذا المعنى قال ماركس قولته المشهورة: : "ليس الوعي –أو الفهم- الذي للناس عن أنفسهم هو الذي يحدد وجودهم (الاجتماعي)، بل بالعكس إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد هذا الوعي"، والمقصود هو أن الوضع الطبقي هو الذي يحدد نوع الآراء السياسية والاختيارات الإيديولوجية، أي ما سماه هيجل بـ"الروح الموضوعي". أما "الأشكال العليا للوعي"، وهي أساسا الفن والدين والفلسفة، أي ما عبر عنه هيجل بـ"الروح المطلق" فقد لاحظ ماركس نفسه أنها لا تتحد بالوضع الاجتماعي بهذه الصورة بل هي تمتلك استقلالا يجعلها تعلو على المجتمع وأطره. وفي هذا المعنى كتب يقول: "إن الصعوبة ليست في فهم كيف أن الفن والملحمة الإغريقيين كانا مرتبطين ببعض أشكال التطور الاجتماعي، بل إن الصعوبة هي في فهم لماذا لا يزالان يُوَلِّدان فينا متعة فنية ويحتفظان بقيمتهما من بعض الوجوه ، كمعيار ونموذج لا مثيل لهما". ويمكن بسهولة أن نقول الشيء نفسه عن النص القرآني: "إن الصعوبة ليست في فهم كيف أن القرآن وسيرة النبي كانا مرتبطين ببعض أشكال التطور الاجتماعي، بل إن الصعوبة هي في فهم لماذا لا يزالان يُوَلِّدان فينا متعة فنية (بلاغية) ويحتفظان بقيمتهما من بعض الوجوه ، كمعيار ونموذج لا مثيل لهما"

وإذا عدنا الآن إلى عبارة "تاريخية النص" -والمقصود القرآن- وأردنا أن نحدد معناها على ضوء ما سبق نجد أنها تنطبق عليها جميع المعاني التي ذكرنا:

1- فمن جهة: القرآن نص تاريخي، بمعنى أنه وجد وجودا حقيقيا في زمن ومكان. وهو نفسه يؤكد ارتباطه بالزمان والمكان، فيقول تعالى: " وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الإسراء 106)، هذا فضلا عن إشارته إلى أحداث تاريخية وقعت في عصره مثل " الم، غُلِبَتْ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ..." (الروم 1-3)، والأمثلة كثيرة وهي كلها تؤكد تاريخية القرآن. الشيء الذي لا يسمح بتاتا بنسبة أي نوع من الوجود الأسطوري لهذا الكتاب المقدس. هذا بينما يصعب جدا نزع نوع ما من الوجود الأسطوري لكثير من الأحداث والرجال فيما تحكيه الإسرائيليات مثلا أو الإلياذة والأوديسا لهوميروس.

هذا الوجود التاريخي للنص القرآني تفصله تفصيلا روايات المفسرين وأهل الحديث والفقهاء في ذلك الصنف من الأبحاث والمرويات التي تدرج منذ القديم تحت اسم "علوم القرآن"، نقصد بذلك ما يعبر عنه بـ"أسباب النزول"، والمقصود الحوادث والملابسات والمناسبات والتساؤلات التي جاء الوحي المحمدي ليبينها أو يرد عليها أو يحكم فيها الخ.

2- ومن جهة ثانية القرآن الكريم تاريخي بمعنيين : بمعنى أنه ينتمي إلى الماضي، ولكنه في المقابل تاريخي بمعنى أنه كان حدثا تاريخيا أسس المستقبل فجعل تاريخ العرب، ثم تاريخ العالم، ينقسم إلى ما قبل ظهور الإسلام وما بعد قيامه وفتوحاته.

3- ومن جهة ثالثة القرآن نص تاريخي بمعنى أنه مرتبط بظروفه التاريخية، وهو يشهد على ذلك من خلال جداله مع خصومه، الملأ من قريش ومجادليه من أهل الكتاب، ومن خلال ما يعرف بالناسخ والمنسوخ وبأسباب النزول الخ، كل ذلك يشهد ويؤكد أنه مرتبط بظروف تاريخية معينة هي ما يسمى في الاصطلاح الإسلامي بـ"معهود العرب". وقد يصح القول أيضا إن تلك الظروف هي بمعنى ما من المعاني نتيجة له، لأن منهجه الجدالي أو السجالي يقوم على الفعل ورد الفعل، وكثير من الوقائع التاريخية التي سجلها القرآن في فترة نزوله كانت عبارة عن ردود فعل من خصومه.

4- والإشكال الذي يطرحه هذا النوع من الطرح، أعني القول بـ"تاريخية النص القرآني"، هو تلك المشكلة المعقدة المعروفة في تاريخ الفلسفة بمشكلة "علاقة الفكر بالواقع"، وفي علم الاجتماع بمشكلة "علاقة المعرفة بالمجتمع وأطره". ووراء هاتين المشكلتين تثوي مشكلة فلسفية أكثر تعقيدا –على الأقل في زمانها- هي مشكلة الأبدي والزمني، مشكلة المطلق والنسبي. وقد لا نبعد إذا قلنا إن الذين يطرحون مسألة "تاريخية النص" من الكتاب المعاصرين إنما يقصدون بذلك ربط القرآن، كنص معرفي، بكل من الواقع، والمجتمع، والزمني، والنسبي. وهذا موقف تقول به مدارس فكرية عديدة ليس بالنسبة القرآن وحده بل بالنسبة لكل نص، مقدسا عند أهله أو غير مقدس. ومع ذلك يبقى أن الدين والفن والفلسفة قطاعات معرفية تخترق الزمنية وتنفصل عن ظروف المكان لتشكل نماذج ملموسة لما هو أبدي مطلق.

يقول لوكاتش أحد الماركسيين المستقلين المجتهدين: "إن هذه الأشكال العليا من الوعي (الفن والدين والفلسفة)، على الرغم من علاقتها بمحيطها الطبيعي والاجتماعي وارتباطها به، فإنها إذ تمارس تأثيرها حسب خصائصها الذاتية وقوانينها الخاصة -بجرد ما تتشكل وتتبلور- تحتفظ باستقلال أكبر كثيرا من ذلك الذي تحتفظ به أشكال الفكر السياسي الاجتماعي... إن أشكال "الروح المطلق" (أي الفن والدين والفلسفة) يمكن أن تبقى قائمة ومحتفظة بقيمتها ومعاصرتها (للأجيال المقبلة)، بل محافظة أيضا بقيمتها كنموذج. وما يؤسس هذه "لأشكال العليا من الوعي" أنها هو جملة من الترابطات تحمل في ذاتها، وإزاء التغيرات المتواصلة التي تعتري الأشكال الاجتماعية الخالصة، مظهرا من "الأبدية" مبررا على مستوى الذات، لأنها قادرة على أن تبقى قائمة حية بعد التغيرات العديدة والعميقة أحيانا التي تعتري الأشكال الاجتماعية ، مما يعني أن زعزعتها تتطلب تغيرات اجتماعية أكثر عمقا من تلك، تغيرات تفصل بينها عصور بكاملها" (باختصار عن لوكاتش: التاريخ والوعي الطبقي، الترجمة الفرنسية ص 270-271) .

المطلوب في نظري ليس رفع شعار "تاريخية النص"، فالشعارات التي من هذا النوع لا تغير من الواقع شيئا. المطلوب هو "تغيرات اجتماعية أكثر عمقا... تغيرات تفصل بينها عصور بكاملها"..! إن شعارات الحداثة هي نتيجة لتغيرات عميقة كانت وراء قيام الحداثة نفسها. إن الحداثة نتيجة وليست سببا. إنها نتيجة التحديث الذي يجري في المجتمع من داخله بفعل قواه الداخلية الخاصة، البشرية والمادية. إن شعار "تاريخية النص" ليس شعارا فاعلا بل هو مجرد وصف تحوَّل إلى مفهوم يجر معه هو الآخر تاريخيته بالمعنى الأولي للكلمة، أعني انتماءه إلى تاريخ الفكر الأوربي.

تبقى مسألة كون النص القرآني وحيا من عند الله، وأنه كلام الله. وهذه مسألة لا يلغيها ولا ينال منها لا شعار "تاريخية النص" ولا مفهوم "أسباب النزول"، حتى بالمعنى الفلسفي للسببية، كما سنبين في المقال المقبل.