16- تطبيق الشريعة سيظل نسبيا في الزمن البشري
حد السرقة كمثال...
محمد عابد الجابري
منذ ظهور الإرهاصات الأولى لليقظة العربية الحديثة، في أوائل القرن التاسع عشر، والتي ما لبثت أن هبت رياحها على مجموع العالم الإسلامي مع الأفغاني وعبده في أواخر نفس القرن، وشعار "تطبيق الشريعة الإسلامية" من الشعارات التي تضمنها الجماهير المسلمة البدائل التي تطمح إليها في الحياة الحرة الكريمة. إن جميع أفراد الجماهير المسلمة في أية جهة في العالم تنتظر ذلك اليوم الذي تطبق فيه الشريعة الإسلامية بالصورة التي ترفع الظلم الاجتماعي والسياسي وتحقق الحرية والكرامة للفرد البشري وتفسح المجال للعمل الصالح والخلق الفاضل، ليكون ذلك قاعدة للحياة في المجتمع الإسلامي، لا بل في المجتمع البشري كله.
وإدراكا من وعي الأمة الإسلامية، وأيضا من كثير من مفكري الاسلام، بأن تحقيق الحياة الفاضلة الإسلامية تحقيقا كاملا مطلقا لا يمكن أن يتم إلا في ظروف خارقة للعادة، وفي نهاية الرحلة البشرية على هذه الأرض، ربطت تطبيق الشريعة تطبيقا كاملا وتحقيق العدل تحقيقا عاما، بمجيء "المهدي المنتظر".
وفكرة "المهدي المنتظر"، التي نجد لها أصولا وفروعا في الديانات الأخرى، السماوية وغير السماوية، فكرة ذات دلالة عميقة: إنها ترمز إلى أن تطبيق الشريعة، أي تحقيق المدينة الفاضلة الدينية، سيظل نسبيا في الزمن البشري، زمن نظم الحكم البشرية، وأنه لن يكون كاملا تاما إلا بمجيء "المهدي المنتظر" الذي سيجسم بصورة شاملة ومباشرة إرادة الله على الأرض.
وأعتقد أن هذه الفكرة هي التي وجهت أهل الحل والعقد في الإسلام منذ زمن النبي إلى اليوم، سواء منهم الخلفاء أو الملوك أو الفقهاء أو غيرهم ممن كان لهم نصيب في تطبيق الشريعة، قل أو كثر. أزعم أن الجميع كان يرى أن تطبيق الشريعة الإلهية من طرف البشر على البشر- والبشر محل نقص- لا يمكن أن يكون إلا نسبيا، وهذه النسبية هي التي تعطي للحياة البشرية معنى، لأنه لو تم الكمال لما بقي للحياة ولا للشرائع معنى.
النسبية إذن هي التي طبعت تطبيق الشريعة الإسلامية على ممر العصور، وهذا منذ ظهور الإسلام. ذلك أن القرآن الذي يتضمن مبادئ هذه الشريعة وأحكامها لم ينزل دفعة واحدة، وإنما جاء منجما مقسطا وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة، وبالتالي فتطبيق أحكام الشرع كان نسبيا بهذا المعنى حتى في زمن النبي (ص)، أي أنه كان يتصف بالتدرج. وقد اكتسى التدرج في كثير من الحالات نوعا من المرحلية: ينص الشارع أولا على حكم ثم يأتي حكم آخر يكمله أو يعدله أو ينسخه، وكأن الحكم الأول تمهيد للحكم النهائي.
أما منذ وفاة الرسول (ص) إلى يومنا هذا، فالنسبية هي الطابع الذي يطبع تطبيق الشريعة الإسلامية من طرف الخلفاء والحكام والفقهاء وغيرهم. وبطبيعة الحال، فلقد كان هناك تفاوت في هذه النسبية. فإذا كان تطبيق الشريعة قد ارتفعت نسبته إلى ثمانين أو تسعين في المائة أو أكثر زمن أبي بكر وعمر مثلا، فإنها نزلت بعد ذلك نزولا كبيرا، حتى إذا مر قرن واحد فقط على ظهور الاسلام أحس الناس بأن الشريعة لم تعد تطبق، فارتفعت الأصوات المطالبة بذلك، وفي الحين تبلور وعي لدى المسئولين من ذوي العاطفة الدينية الصحيحة والخلق الفاضل بأن تطبيق الشريعة أصبح يتطلب التدرج، شيئا فشيئا، وكأن الاسلام في بداية ظهوره.
ذلك ما عبر عنه الخليفة "الخامس" الصالح: عمر بن عبد العزيز. لقد قال له ابنه عبد الملك يوما: "ما لك لا تنفذ الأمور، فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق"، وبعبارة عصرنا قال له : لماذا لا تعمد إلى تطبيق الشريعة تطبيقا كاملا وليكن ما يكون! أجاب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قائلا: "لا تعجل يا بني. فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة".
هذا جانب.
هناك جانب آخر، وهو أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يعني فقط إقامة الحدود كقطع يد السارق مثلا. إن هناك مبادئ وأحكاما أخرى يجب أن تطبق مثل مبدأ "الشورى" في الحياة السياسية، ومبدأ "كاد الفقر أن يكون كفرا" في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ومبدأ "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" في الحياة الفكرية، ومبدأ "الناس كأسنان المشط " في مختلف مرافق الحياة الخ. وأعتقد أن تطبيق هذه المبادئ يجب أن يسبق تطبيق بعض الحدود الشرعية، خاصة حد السرقة، لأن انتفاء الأسباب الموضوعية التي تدفع إلى السرقة شرط ضروري لجعل المسؤولية تنصرف إلى الدوافع الذاتية وحدها، أما إذا كانت الأسباب الموضوعية التي تدفع إلى السرقة قائمة فإن "الميولات الإجرامية" تجد في ذلك ما يحركها وبالتالي فالمسؤولية تصبح مشتركة ما بين الأسباب الموضوعية والدوافع الذاتية. ومعلوم أن الحدود ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لردع وزجر النوازع الذاتية الفردية الهدامة، أي التي تمس مصلحة الجماعة، مصلحة الأمة.
ليس هذا وحسب، بل إن تنفيذ الحدود كقطع يد السارق ينظمه ويحكمه حديث نبوي يقول: "ادرءوا الحدود بالشبهات" هذا الحديث الذي صار مبدأ أساسيا في التشريع الإسلامي. وهناك حديث نبوي أوضح وأقوى، هذا نصه: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". وإدراكا من الفقهاء لمغزى هذا الحديث توسعوا في نطاق الشبهة المسقطة للحدود حتى إنهم قالوا: "إن مجرد ادعاء الشبهة في مظنتها من مرتكبي الجريمة الموجبة للحد يسقط الحد دون حاجة إلى إثباتها".
ولا يقف الأمر عند هذه النقطة، بل إن فقهاءنا، والأيمة الكبار منهم خاصة، كانت لهم جولات اجتهادية في مسألة الحدود، نقتصر منها هنا على ذكر بعض ما يخص حد السرقة:
لقد اشترطوا أن يكون المسروق قد بلغ نصابا معينا حتى تقطع يد السارق. وحددوا هذا النصاب حسب قيمة ما قطعت به يد السارق زمن النبي(ص). وقالوا إذا سرقت جماعة مالا يبلغ حد النصاب لكل منهم لا تقطع يد أي منهم عملا بمبدأ "لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب الشرع فيه قطع يد واحدة". واشترطوا في المال المسروق أن يكون محروزا محفوظا من طرف مالكه بحيث يعسر أخذه. واستندوا في ذلك إلى حديث نبوي يقول: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل"، أي أن من أخذ من الثمار وهي على الشجرة في بستان غيره، أو من غنم يرعاها صاحبها في جبل، أي في محل مفتوح غير مغلق، لا تقطع يده، لأن الحرز والحفظ هنا غير متوفر. واختلفوا في الأوعية، واتفقوا على أن باب البيت وغلقه حرز. كما اتفقوا على أن من سرق من بيت في دار غير مشتركة السكنى أنه لا تقطع يده حتى يخرج من الدار، واختلفوا في الدار المشتركة فقال بعضهم تقطع يد السارق إذا كان من سكانها بشرط أن يخرج من البيت، وقال آخرون لا تقطع يده إلا إذا غادر الدار. وفي رأي الإمام مالك لا تقطع يد من أخذ ما على الصبي من حلي أو غيره لأن الصبي لا يقوى على حفظ وحرز ما عليه.
وعمل الأئمة أصحاب المذاهب كلهم والفقهاء التابعون لهم بمبدأ "ادرءوا الحدود بالشبهات"، فقالوا: شبهة الملك القوية تدرأ الحد، وقضوا بأن العبد إذا سرق مال سيده لا تقطع يده، وأن أحد الزوجين يسرق مال الآخر لا تقطع يده، وأن الأب الذي يسرق من مال ابنه لا تقطع يده في رأي الإمام مالك، وقال الشافعي لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل، أي أن من سرق مال أبيه أو جده أو جد جده... الخ أو مال ابنه وحفيده وابن حفيده... الخ لا تقطع يده. وعمم أبو حنيفة ذلك على ذي الرحم المحرمة فأدخل الأم والأخت الخ، أي أن كل من يحرم الزواج بينهما لقرابة النسب لا تقطع يد أحدهما إذا سرق من مال الآخر. واختلفوا فيمن يسرق من بيت المال، وفي من يسرق من المغانم فقال بعضهم لا قطع. واتفقوا على أنه إذا سرق السارق شيئا ما فقطعت يده ثم سرقه ثانية لا يقطع فيه. واشترطوا جميعا في إثبات السرقة شهادة عدلين، أو اعتراف السارق إذا كان حرا، أما إذا كان عبدا فقد اختلفوا هل يعتبر اعترافه أم لا (لأن العبد لا يملك حريته: حرية أن يعترف أو لا يعترف).
وبطبيعة الحال فإن سقوط الحد، أي عدم قطع اليد لقيام شبهة ما، لا يعني تبرئة المتهم بصورة آلية. إن سقوط الحد، سواء في السرقة أو في الزنى أو في شرب الخمر والقذف يعني سقوط نوع العقوبة الخاصة المنصوص عليها (قطع اليد، الجلد... الخ) وهذا يسمونه حق الله. يبقى بعد ذلك الحق العام الذي قد يستوجب عقوبات أخرى كالسجن مثلا في حال عدم ثبوت براءة المتهم، وذلك للتأديب والتعزير. وهذا يعني أن جميع الأحكام التي أصدرها الفقهاء قديما وتصدرها محاكم الدول الإسلامية حديثا هي أحكام إسلامية طبقت فيها الشريعة على سبيل التأديب والتعزير... أي تطبيقا نسبيا. أما التطبيق الكامل بإقامة الحد المنصوص عليه فأعتقد أن العمل بمبدأ "ادرءوا الحدود بالشبهات" سيحمل كل قاض نظيف نزيه على التوقف طويلا قبل اتخاذ القرار. وقد يضطر إلى الاكتفاء بالتعزير بالسجن، خصوصا في ميدان السرقة ما دام المجتمع الإسلامي العادل غير قائم بالشكل الذي يجعل الإنسان لا يضطر إلى السرقة تحت ضغط الحاجة. ومعروف أن عمر بن الخطاب أوقف الحد في السرقة عام المجاعة.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن شبهات عصرنا كثيرة ومتفرعة بسبب تعقد الحياة المعاصرة وتنوع الحوافز فيها، أمكن القول إن الاكتفاء بالعقوبة التعزيرية كالسجن والغرامة قد يصبح ضرورة. أما إذا أضفنا إلى ذلك الشبهات الراجعة إلى "السياسة" فإن الحدود حينئذ سيلتبس أمر تنفيذها بالأغراض والدوافع السياسية، وتلك شبهة... وأية شبهة!