ص1      الفهرس   المحور 

 

شعرية النظم: مقاربة منهجية

محمد كنوني

تمهيـد:

من بين أبلغ المفاهيم والنظريات في الشعرية العربية نظرية النظم التي ما انفكت تثبت جدارتها وأصالتها كلما ضرب علم اللغة والنقد الأدبي في التطور بسهم.

ويفيد القول بأن النظم يشكل نظرية في المتن الجرجاني، أنه يتجاوز حدود الاصطلاح الذي كان سائدا منذ القرن الثاني الهجري في بيئة النحاة على وجه الخصوص، ليتحول إلى عمل منهجي مدروس ومنظم بقدر ما يتوخى دراسة البلاغة في ضوء جديد يقوم على دعامة من النحو وأحكامه، يتوخى أيضا توسيع أفق النحو وتطويع أدواته حتى يتقرى مواطن الحسن في اللغة شعرية كانت أو غير شعرية، دون أن يقتصر في ذلك على بيان العلاقة البنيوية بين أجزاء الجملة الواحدة، بل يمتد إلى دراسة العلاقة القائمة بين الجملة والجملة داخل نفس الخطاب. وبوسعنا تمثل هذا المنهج بالعودة إلى دلائل الإعجاز؛ حيث ينص الجرجاني قائلا: "فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه"(1). نستفيد من هذا النص أن النظم في جوهره هو النحو في أحكامه، وليس المقصود بأحكام النحو مجرد مراعاة الإعراب والقواعد التي تقف بالنحو عند حدود الحكم بالصحة والفساد مما يعتبر من لوازم الكلام، ولكن المقصود أيضا هو مراعاة (صورة المعنى) في الكلام، أي مراعاة العلاقة البنيوية أو النظمية التي يمكن من خلالها أن نتبين ما للنظم من مزية أو فضل؛ وذلك بدرجات متباينة في الفهم والتأول. ولو كان المقصود بأحكام النحو الاكتفاء عند الحكم بالقواعد النحوية فحسب "لكان البدوي الذي لم يسمع بالنحو قط ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئا مما يذكرونه لا يتأتى له نظم كلام، وإنا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدم في علم النحو"(2).

من هنا يتعين إذن، أن نظرية النظم تستند إلى النحو كأساس علمي على أن يفهم هذا النحو أنه يتحرك بين حدين متلازمين:

ـ حد معياري يحكم بالصحة والخطأ بناء على قواعد علمية مضبوطة تجد نموذجها المفضل في اللغة بدلالاتها الوضعية التي يتقلص فيها العدول أو يكاد إلى درجة الصفر مثل (زيد منطلق) و(خرج عمرو)…الخ.

ـ حد وصفي ينطلق من الحد الأول ليتجاوزه إلى تعليل المزية التي تجد نموذجها المفضل في اللغة بدلالاتها المجازية المتمثلة في ظواهر من قبيل الاستعارة والكناية والتمثيل والتقديم والتأخير والفصل والوصل إلى غير ذلك مما نجده في لغة الشعر ولغة الإعجاز القرآني. وعن طريق هذا التصور استطاع عبد القاهر ردم الهوة الفاصلة بين النحو والبلاغة بجعلهما أساسا واحدا لقيام الشعرية أو ما يسمى بعلم الأدب، وبهذا ارتكز النقد على منهج لغوي رصين "هو منهج النحو الذي لا يقف عند حدود التحكم بالصحة والفساد، بل يمتد في البحث عن العلاقات التي تقيمها اللغة بين الكلمات، وإلى اجتلاء معانيها، وكشف غامضها، وبذلك اتسع أفق النحو وغنيت مادته، ودخل فيه كل ما يراعى في النظم من تقديم وتأخير وما إليه من أسباب الجودة وعدمها، مما استقر عليه العرف فيما بعد بجعلها من علم المعاني، ومن ثم فإن الأساس عنده هو النحو، على أن يشمل النحو علم المعاني، وأن يتجاوز القواعد النحوية إلى الجودة الفنية"(3).

وإذا كان الإلمام بهذا المنهج اللغوي من شأنه أن يفضي إلى الحديث عن السياق الجمالي لنظرية النظم بكل مظاهره الشعرية، فإن الدافع إلى ذلك هو السياق المعرفي-النهضوي بكل شروطه التاريخية التي استدعت قيام هذه النظرية بدافع إحساس الجرجاني بضرورة إحياء اللغة بوصفها تشكل محور النشاط الفكري الذي يرتقي في ظله الإنسان من مرتبة الجماد إلى مرتبة الحي الناطق. لذلك كانت الحاجة ماسة إلى منهج كفيل بتحليل لغة المعرفة تحليلا يتم بمقتضاه الكشف عن معاني المعارف التي تكمن وراء المباني(4). والمراد بتلك المعاني الروابط النظمية "التي تعبر عنها. ومن ثم كانت أهميتها وما لها من صدارة على الألفاظ"(5). لهذا قاوم الجرجاني تيار اللفظية وحدد موقفه من البديع متجاوزا ثنائية اللفظ والمعنى إلى القول بالنظم الذي هو (صورة المعنى) في الكلام. ومادام الأمر يتعلق بالصورة التي يتخذها المعنى في الكلام بفعل تأليف اللغة على نحو خاص ومتميز، فإن اللفظ أصبح ممثلا للمعنى أكثر مما يدل عليه تبعا للموقف البنيوي الذي يقضي بأن "الألفاظ خدم المعاني" وأن المعاني هي المالكة سياستها"(6)، وهو موقف يفضي إلى القول بأن العلاقة بين الدال والمدلول لم تعد علاقة ثنائية بين قطبين هما اللفظ والمعنى، وإنما صارت علاقة تمثل قائم على التلاحم الحميمي بينهما ضمن وحدة عضوية دالة هي النظم، لدرجة أن ما نسبغه على الألفاظ من صفات ليس مرده إلى تلك الألفاظ من حيث هي أصوات وأجراس حروف، بل مرجعه إلى المعاني التي تقع في القلب والعقل. وهذا هو المقصود بالتمثل الذي عبر عنه الجرجاني في غير ما موضع من الأسرار والدلائل ولخصه قائلا: "فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا، أو يستجيد نثرا، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده"(7).

في ضوء هذا المثول المعرفي إذن، بلور الجرجاني نظرية النظم التي ينبغي لبيان شعريتها أو ما لها من مثول جمالي مراعاة مبدأين متلازمين هما: مبدأ النظام ومبدأ المزية.

1-1-مبدأ النظام:

لما كان النظم هو الصورة التي بمقتضاها ينبثق المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته فإن أساس قيام تلك الصورة هو مبدأ النظام الذي لا يعني مجرد "ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق"(8). وإنما يعني رصف الكلام وفق علاقة يصبح في ظلها النظم "طريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضه على بعض"(9) بمقتضى عن معنى. ولبيان هذا المبدأ يستثمر الجرجاني مجموعة من المصطلحات التي لا تختلف إلا في نسب ورودها بالقياس إلى بعضها داخل المتن؛ لأنها تنص مجتمعة على توخي صورة المعنى في الكلام، من هذه المصطلحات: النسج والصياغة والبناء والنسق والنضد والتأليف والتركيب والترتيب والاتفاق والاتساق والنقش والصبغ والوشي والتحبير والتفويف، إلى غير ذلك مما يستوجب ضرورة التأنق في الكلام بحذق صناعته من قبل فاعله الذي ينبغي له أن يستعان عليه بالفكر والروية(10). ولأهمية هذه المصطلحات، فإن بعضا منها يرد بشكل متواتر في نفس السياق كما في قوله مثلا: "وكذلك كان عندهم نظيرا للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها ببعض…"(11).

ونظرا لما لهذا المبدأ من أثر نقدي بالغ القيمة في تحديد طبيعة الأسلوب ووظيفته، فصياغته قد اقتضت الوعي بمفهومين مترابطين نرى أن الجرجاني سبق بهما جل ما راكمته الشعرية الشكلانية-البنيوية من تصورات أدى تمثلها إلى تقدير الإرث النقدي-البلاغي عند عبد القاهر وغيره من صفوة نقادنا العرب. وهذان المفهومان هما: مفهوم الاختيار ومفهوم الموقع.

فمفهوم الاختيار ينبني على أساس العلاقة القائمة بين اللغة وفاعل الكلام، هذا الأخير الذي يتحول بمقتضى هذه العلاقة إلى مبدع حاذق مادامت أحوال اللغة ترجع "إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده"(12)، وهو الأمر الذي يعني أن النسق اللفظي صورة لنسق نفسي وراءه عقل انتظمه، وأن بناء الكلام هو بناء فكر ننتقل بموجبه من نظم اللفظ إلى نظم المعنى؛ أي من الألفاظ المرتبة في النطق إلى جذورها وأصولها وهي المعاني المرتبة في النفس على قضية العقل(13)، وفي هذا يقول الجرجاني بما نصه: "وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق"(14). لهذا وغيره، نجد الجرجاني يستعمل مصطلح الكلام عوضا عن اللغة؛ لأن الكلام تعبير دال أو مفيد بناء على كونه اختيارا فرديا يحكم المتكلم بناءه في شكل تصبح في ظله اللغة تعبيرا أو أداء يمثل المعنى تمثيلا يوجب على حد قول الجرجاني: "أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلا، ويظهر فيه مزية"(15). ومن استعمال الجرجاني في هذا النص لمصطلحين دالين هما: الأداء (لتأديته) والاختيار (يختار له اللفظ…) فضلا عن قوله في أسرار البلاغة بأن "الألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب…"(16)؛ من هذا الأداء الناتج عن الاختيار بوصفه خصوصية فردية في التأليف، يمكن أن نتبين موقف الجرجاني الذي يقضي بأن الكلام تأليف فردي (أداء) قائم على الاختيار من بين إمكانات لغوية متاحة، وهو موقف بنيوي خالص انتظرناه قرونا طويلة حتى جاء جاكبسون وبلور في ضوئه مفهومه للوظيفة الشعرية الذي شكل منطلقا أساسيا للشعرية البنيوية عبر حلقة براغ اللسانية. ويترتب على هذا الموقف موقف بنيوي آخر حدد على أساسه ر.بارت مفهومه للكتابة بوصفها حلقة وظيفية وسطى بين الكلام واللغة(17)، وهذا يتمثل عند الجرجاني في الفرق الدائر بين اللغة والكلام. فاللغة تنتمي إلى المجتمع، لأنها ليست ملكا لأحد وإنما مشتركة بين عموم الناس، بينما الكلام ينتمي إلى الفرد، وكونه فرديا يعني أن اللغة بالقياس إليه خرساء ومجردة ولا تصبح ناطقة إلا في إطار الكلام الذي تختلف درجته بين الإبداع أو مجرد الاستعمال من شخص لآخر، لدرجة أنك "تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلما بأعيانها ثم ترى هذا قد فرع السماك وترى ذاك قد لصق بالحضيض…"(18).

ويعني الاختلاف الذي يظل قائما رغم اختيار نفس الألفاظ من قبل شخصين أو أكثر، أن السمو في إبداع تلك الألفاظ أو التدني في استعمالها أمر يتعلق بمواقعها التي تقتفي ضمن سلسلة الكلام آثارا مواقع المعاني المرتبة في النفس. من هنا، اتخذ الموقع بوصفه موضعا أو مكانا مفهوما حدد موقف الجرجاني من اللفظة التي لا يمكن أن تكتسب قيمتها أو شعريتها إلا بفعل موقعها من البنية أو النظام، يقول الجرجاني في هذا الصدد: "وهل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها"(19).

وإذا كان س.ليفن قد اعتبر العامل الحاسم في تحديد الموقع هو إمكان الاستبدال الذي يعني أن الموقع مكان يمكن أن نضع فيه بديلا آخر(20)، فهذا بالضبط ما سبق إليه الجرجاني الذي يرى أن اللفظة خارج النظام تظل مجردة ولا تصير ناطقة ودالة إلا بحكم موقعها من النظام حتى أنك لو عمدت إلى تغيير موقعها ضمن نفس النظام، فإنها تصبح ثقيلة وموحشة بعدما كانت رائقة ومؤنسة، وفي هذا يقول الجرجاني: "فقد اتضح اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك في موضع، ثم تراها بعينها تتثقله عليك وتوحشك في موضع آخر…"(21).

بهذا التصور الذي ينبني على أساس مفهومين مترابطين هما: الاختيار والموقع، حدد الجرجاني مبدأ النظام الذي لا يقتصر على العلاقات الأفقية بين أجزاء الجملة الواحدة، وإنما يتمثل العلاقات العمودية بين أجزاء الخطاب كما عبر عن ذلك في غير ما نص من الأسرار والدلائل، من آيات ذلك قوله مثلا: "ولكن البيت إذا قطع عن القطعة كان كالكعاب تفرد عن الأتراب، فيظهر فيها ذل الاغتراب، والجوهرة الثمينة في العقد أبهى في العين، وأملا بالزين، منها إذا أفردت عن النظائر، وبدت فذة للناظر"(22). وعن طريق مبدأ النظام يتحقق مبدأ المزية؛ لأن شعرية الألفاظ أو مزيتها إنما تنبثق مما يدل عليه النظام أو ما يترتب عليه من أثر.

1-2-مبدأ المزية:

مثلما ينبني مبدأ النظام على أساس العلاقة بين اللغة وفاعل الكلام يتم مبدأ المزية وفق العلاقة القائمة بين الكلام كإنجاز نصي والمتلقي كطرف فاعل يمتلك من الإدراك ما يؤهله لتقدير صور المعنى عبر التدرج في قيم المدلول الشعورية، وهو الأمر الذي يستدعي ضرورة تجاوز الوظيفة الإبلاغية للغة؛ هذه الوظيفة التي يكتفي في ظلها القارئ في الوصول" إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده…"(23) إلى اعتبار اللغة بوظيفتها الشعرية التي تتفاوت فيها درجة العدول من نص لآخر، حيث لا يمكنك الوصول" إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل…"(24).

من هنا، نتبين أن مفهوم المزية يلتقي بمفهوم الشعرية في جانب أساسي، وهو أنه إذا كان مجال الشعرية على حد تعبير ت.تودوروف هو الأدب بوصفه بنية مجردة تفترض على مستوى الإنجاز الأسلوبي الوعي بمجموعة من الخصائص الداخلية التي يتفرد بها كل نص على حدة(25)، فإن مجال المزية هو النظم بوصفه آلية مجردة تقضي بضرورة توخي معاني النحو في معاني الكلم، إلا أن إدراك هذه الآلية لا يتم إلا على صعيد النصوص نفسها للوقوف على أوجه التشابه والاختلاف بين النماذج والأنماط الخطابية(26). لهذا نص الجرجاني على ضرورة تعيين مبدأ، المزية في النص، لأن النصوص إنما تتفاوت قيمتها الشعرية وتتفاضل بالقياس إلى بعضها بناء على هذا المبدأ، يقول: "وأنه كما يفضل هناك النظم النظم، والتأليف التأليف، والنسج النسج، والصياغة الصياغة. ثم يعظم الفضل، وتكثر المزية، حتى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضا، ويتقدم منه الشيء الشيء، ثم يزداد من فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة"(27).

ولما كان الناس ليسوا على درجة واحدة من المعرفة والإحساس لإدراك مواطن الجمال في النصوص استبعد الجرجاني المتلقي الغافل ورأى أن هذا الأمر لا يتأتى إلا للمتلقي الحاذق الذي يمتلك من الذوق والإحساس الروحاني ما يمكنه من إدراك المزية في النظم والتدرج عبر أهداب المدلول الشعرية؛ وذلك "لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها، وتصور لهم شأنها، أمور خفية، ومعان روحانية، أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها، وتحدث له علما بها، حتى يكون مهيأ لإدراكها، وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، وممن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شيء منها وشيء…"(28). والسبب الذي يكمن وراء اشتراط المتلقي الحاذق في عملية الإدراك الجمالي، هو أن تعيين المزية يفترض ضرورة وجود هذا النوع من المتلقي القادر على تحديد الجهة التي تنبثق منها المزية وتعليل ذلك بما ينسجم وأسرار النظم في النص؛ إذ "لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل، وهو باب من العلم، إذا أنت فتحته أطلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيت له أثرا في الدين عظيما، وفائدة جسيمة.."(29).

هكذا إذن، شكل النظم محورا غزيرا من محاور الشعرية العربية، بقدر ما يقضي بتجديد فعل القراءة كلما ظن المرء أنه شرع في تمثل بعض ملامحه، يقضي أيضا بأن "العودة إلى الجرجاني هي عودة إلى نص لم يفقد جدته، نص يثير التساؤلات والمشاكل أكثر مما يقدم أجوبة قاطعة، نص يفتح باب الاجتهاد ويتركه كذلك"(30). ويفيد هذا القول أن المفكر الألمعي عبد القاهر الجرجاني حمل عبء الفكر الشقي الذي كان يسعى باستمرار دائم إلى ممارسة صراعه مع الواقع عبر اللغة التي حققت في صورة النظم ما كان يفتقده الواقع من وحدة على الصعيد السوسيو-سياسي. وبهذا ساهم الجرجاني في إحياء اللغة العربية بوصفها لغة الإعجاز القرآني الذي لا يمكن لأحد أن يدرك شيئا منها إذا فقد القدرة على معرفة أسرار نظمهn

 

هوامش

(1)  الإمام عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ت.محمد رشيد رضا، 1960، ص67.

(2)  نفسه، ص266.

(3)  عبد القادر حسين، (عبد القاهر الجرجاني ونظرية النظم)، مجلة الفكر العربي، ع46/يونيو 1967، ص149.

(4)  محمد محمد أبو موسى، مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني، مكتبة وهبه، القاهرة، 1998، ص53.

(5)  محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر، القاهرة، (د.ت)، ص325.

(6)  الإمام عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم البيان، ت.محمد رشيد رضا، دار المطبوعات العربية (د.ت)، ص5.

(7)  فسه، ص 3.

(8)  الإمام عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص48.

(9)  نفسه، ص40.

(10)  نفسه، ص55.

(11)  نفسه، ص48.

(12)  عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص5.

(13)  محمد محمد أبو موسى، مرجع سابق، ص62-63.

(14)  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص48.

(15)  نفسه، ص44.

(16)  عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة…، ص1.

(17)  انظر كل من:                                       -R.Barthes, Le Degré zéro de l’écriture. Ed. Seuil, Paris, 1972, p14

 -R.Jakobson, Essais de linguistique générale, Ed.Minuit, Paris, 1963, p220.

(18)  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص48.

(19)  نفسه، ص45.

(20)  س.ر.ليفن، البنيات اللسانية في الشعر، ت.محمد الولي-التوزاني خالد، مطبعة فضالة 1989، ص27.

(21)  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص46.

(22)  عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، 179.

(23)  دلائل الإعجاز، ص174.

(24)  نفسه، ص174.

(25)  Todorov : Qu’est ce que le structuralisme poétique2. Ed. Seuil, Paris, 1968, pp19-20.

(26)  طارق النعمان، اللفظ والمعنى بين الإيديولوجية والتأسيس المعرفي للعلم، دار سينا للنشر، القاهرة، 1994، ص 256.

(27)  دلائل الإعجاز، ص40.

(28)  نفسه، ص344.

(29)  نفسه، ص43.

(30)  محمد الولي، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1990، ص66.