ص1    الفهرس    21-30

 

مقدمة في البلاغة العربية القديمة

 

عمر أوكان

 

تحاول هذه المقدمة أن ترصد اللحظات الأساسية في البلاغة العربية، والتي ساهمت في تطورها. وهي لحظات تتمثل في المساهمات التي أثرى بها البلاغة العربية الجاحظ وقدامة وابن سنان وعبد القاهر الجرجاني والسكاكي وابن البناء.

 

1ـ بلاغة الإنتاج وبلاغة التفسير:

إذا كانت البلاغة الغربية قد ارتبطت بالخطابة، وإنتاج الخطاب الاستشاري، والاحتفالي، والقضائي، ثم الشعري فيما بعد؛ فإن البلاغة العربية قد ارتبطت بالشعر والقرآن، والقول البليغ عموما. ومن ثمة كانت محاولة لتفسير الخطاب، ولم تهدف إلى إنتاجه، وإن صارت فيما بعد، آلة لإنتاج الخطاب في مجال الإنشائية العربية (علم الإنشاء وأدب الكاتب)، وكذلك انطلاقا من آثار البلاغة المدرسية التي أرسى دعائمها القزويني ومن نحا نحوه، والتي سيطرت على تعليمنا وما تزال تسيطر عليه.

وإذا كانت البلاغة الغربية تتكون من خمسة أقسام هي: الابتكار، والترتيب، والصياغة، والحفظ، والإلقاء، فإن البلاغة العربية لم تعرف مثل هذا التقسيم، بل كانت موحدة في البيان (الجاحظ)، أو البديع (ابن المعتز)، أو النقد (قدامة)، أو الفصاحة (ابن سنان) أو الصناعة (العسكري) أو غير ذلك. ولم يطرأ عليها هذا التقسيم إلا مع السكاكي، بفضل تلخيص الرازي للأسرار والدلائل في النهاية، حيث فصل بين علم المعاني وعلم البيان (أما علم البديع فكان تابعا لهما)، وفصل المتأخرون من شراح التلخيص علم البديع عنهما، فصارت علوم البلاغة تتكون من ثلاثة أقسام هي: المعاني، والبيان، والبديع. وهو التقسيم الذي انتشر عن طريق شروح التلخيص، ولم يعرف خروجا عنه إلا مع السجلماسي وابن البناء، إلا أن هذا الخروج لم يثمر لأن الكتب المدرسية قد حافظت على التقسيم الثلاثي (جواهر البلاغة، علوم البلاغة، البلاغة الواضحة، البلاغة الوافية، الخ).

وتحاول هذه المقدمة أن ترصد اللحظات الأساسية في البلاغة العربية، والتي ساهمت في تطورها. وهي لحظات تتمثل في المساهمات التي أثرى بها البلاغة العربية الجاحظ وقدامة وابن سنان وعبد القاهر الجرجاني والسكاكي وابن البناء.

2 ـ الجاحظ وسيميائية البيان:

يرجع الفضل إلى الجاحظ في تحويل الشعرية العربية في فترتها الشفوية من شعرية الفحولة (الأصمعي، الجمحي) إلى شعرية البيان؛ أي من البحث عن كليات نابعة من خارج الخطاب، إلى إنتاج كليات منبثقة من داخل الخطاب نفسه، باعتباره خطابا يهدف إلى الإفصاح بأفضل أسلوب. ومهمة هذه الشعرية هي البحث عن القواعد التي تتيح الجودة أو الحسن في الكلام؛ أي البحث عن الوظيفة البلاغية فيه، والابتعاد عن الوظيفة الإبلاغية التي ليس لها أي دور في شاعرية القول، لأن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها الناس قاطبة باختلاف طبقاتهم الاجتماعية ودرجاتهم الثقافية. وهذه الوظيفة البلاغية لا يمكن إدراكها إلا من خلال الاهتمام بمختلف العناصر المؤسسة لعلمية التواصل الأدبي، التي هي المؤلف (الحاضر في البيان والتبيين)، والمتلقي (البارز من خلال التبين والاستبيان)، والنص (المتضمن في بلاغة اللسان والقلم)، والمقام. ولكل من هذه العناصر وظيفته الخاصة، فالمؤلف يؤدي وظيفة بيانية (أو تبيينية) التي هي توضيح المعنى للسامع والكشف عنه، أما المتلقي فيؤدي وظيفة تبينية (أو استيبانية) تبرز من خلال التأمل في المعنى لتفهمه واتضاحه، في حين أن الرسالة تؤدي وظيفة بلاغية (تقع البلاغة، لدى الجاحظ وصفا للمتكلم والكلام، مثلها مثل البيان)، أي إنها ترتكز على الخطاب من حيث الجودة والحسن. وهذه الوظيفة الأخيرة لا تكمن في المعنى من حيث هو معنى، ولا في اللفظ من حيث هو لفظ، بل هي تكمن في النسج والسبك والتأليف، لأن الكلام السامي هو ضرب من الصناعة وجنس من التصوير. وتتعدى هذه الوظيفة الخطاب الخطابي والخطاب الشعري، إلى أنظمة رمزية وسيميائية أخرى كالسكوت والاستماع والإشارة والاحتجاج والجواب والابتداء والشعر والسجع والخطب والرسائل، وبالإجمال إلى جميع أنظمة التواصل التي حصرها الجاحظ في النصبة (الحال الناطقة من غير لفظ أو إشارة)، والإشارة (بالأيدي والأعناق والحواجب والمناكب والثوب والسيف وغيرها)، والعقد (الحساب باليد بدل اللفظ والخط)، والخط (كل ما هو تخطيط من رسوم ورقوم ووسوم وخطوط)، واللفظ (الكلام المنطوق والمسموع).

3 ـ قدامة بن جعفر وشعرية البلاغة:

يمثل ابن جعفر الجسر الواصل بين البلاغة والشعرية، وهو اللقاء الذي رفضه أرسطو وآمنت به البلاغة العربية ضمنيا منذ الجاحظ، وبشكل صريح مع قدامة في نقد الشعر، حيث البلاغة مرادفة للشعرية، وهو ما أسميناه بشعرية البلاغة وبلاغة الشعرية، ويحاول قدامة أن يقرب بينهما من جهة، وبين علوم أخرى كالعروض والمنطق والنحو من أجل إنتاج بلاغة معممة تهدف إلى تشريح الخطاب الشعري وتفكيكه من خلال جودة الائتلاف بين اللفظ والمعنى والوزن والقافية أو عيب هذا الائتلاف. وهذا التصنيف هو الذي ولد لنا مجموعة من الاصطلاحات النقدية (أو البلاغية) جاوزت كتاب البديع لابن المعتز، وجعلت قدامة بن جعفر، بحق، في رأينا، مؤسس علم البديع العربي، لأن عمله مؤسس على نظرية تستفيد من "الأورغانون" وليس دفاعا عن عمود الشعر العربي الذي هو تقاليد العرب في أشعارها وكلامها. ويدخل هوس التصنيف، لدى قدامة، في إطار الرغبة في تأسيس علم للأدب شبيه بالمنطق. فإذا كان علم المنطق يعصم الفكر من الوقوع في الخطإ والزلل، فإن علم الأدب كما أراده قدامة يحاول أن يعصم الشعر من الوقوع في الابتذال، بإيضاحه لجوانب الشاعرية في القول، وجوانب اللاشاعرية فيه حتى يمكن التناص مع ما هو شعري ويبتعد عما هو دون ذلك. إلا أن هوس التصنيف هذا قد تحول عن مقصده، بعد قدامة، حيث صار نوعا من التلاعب بالاصطلاحات التي بلغت مع العسكري أربعين نوعا، وصارت لدى التيفاشي سبعين، ووصلت إلى تسعين مع ابن أبي الأصبع المصري، وجمع منها صفي الدين الحلي مائة وأربعين نوعا، وبلغت حصيلتها عند السجلماسي مائة وتسعا وثمانين، مما جعل البلاغة العربية علما بدون موضوع. وأقصد بذلك أنها صارت تهتم بإنتاج الاصطلاحات والتفنن في ابتكارها، أكثر من اهتمامها بدراسة النص الأدبي، وهنا نقف على أزمة البلاغة العربية الكامنة في هوس التصنيف من جهة، والاهتمام بالتلاخيص والشروح الموضوعة على تلخيص المفتاح من جهة أخرى.

4 ـ ابن سنان الخفاجي وبلاغة الفصاحة:

اهتم ابن سنان بدراسة البنيات اللسانية للشعر، مركزا في تحليله لبنية اللغة الشعرية على البنية الصوتية، باعتبارها البنية المهيمنة داخل الخطاب الشعري، والجاعلة من الشعر شعرا؛ أو بعبارة أوضح الجاعلة من الكلام المنطوق شعرا. وهذه البنية هي التي أكدت على شاعريتها دراسات الشكلانيين الروس، وصمويل ليفين، وجون مولينو، وكوهين، وميشونيك، لوتمان وغيرهم. فالتوازيات الصوتية تلعب دورا أساسيا في خلق الوظيفة الشعرية في اللغة، وربما تجاوزت هذا الجانب إلى إيضاح رؤية العالم والتعبير عن المكنونات النفسية؛ أي إنها تتجاوز المستوى الصوتي إلى المستويين الدلالي والتداولي. ومن هنا فاهتمام ابن سنان الخفاجي (والجاحظ قبله) بتحديد الأصوات ومخارج الحروف وانقسام أصنافها وأقسام مجهورها ومهموسها، وشديدها ورخوها، هو تأكيد على أن الدراسات الشعرية ينبغي أن تتأطر ضمن الدراسة اللسانية باعتبار أن الشعر لغة، أو بالأحرى "فن اللغة". والعلم الذي يهتم بهذا الفن هو الفصاحة التي هي دراسة للفظ فقط دون المعنى؛ اللفظ من حيث هو مفرد، واللفظ من حيث هو مركب. فأما شروط اللفظ من حيث هو مفرد فهي شروط تتوزع بين الجانبين الصوتي والمعجمي (وندخل في المعجم الصرف كما هو في الدراسات التوليدية والوظيفية)، حيث يتأطر ضمن المستوى الصوتي تباعد المخارج، والحسن في السمع وغياب الوحشية والاعتدال في حروف الكلمة من حيث الكم، ويتأطر ضمن المستوى المعجمي تجنب الكلمات العامية والابتعاد عن الكلمات الشاذة معياريا، والتصغير عند التعبير عن الأمور اللطيفة، وعدم استعمال الكلمة للتعبير عن أمر يكره ذكره. وهذه العيوب المخلة بالفصاحة في المفرد نجدها مشتركة مع المركب بحيث إنها إذا تكررت فيه أفسدته، وتنضاف إليها أمور إذا توفرت في المركب أدت إلى توفر الأدبية فيه، وهي تتعلق بمستويات مختلفة:

 

مستوى  صوتي

 مستوى تركيبي

مستوى تداولي

مستوى  دلالي

ـ المناسبة بين الألفاظ

ـ الصحة في التقسيم

ـ صحة المقابلة بين المعاني

ـ تجنب التقديم والتأخير

ـ صحة النسق والنظم

ـ الإيجاز والاختصار

ـ تجنب استعمال الألفاظ المعبرة عن المدح في الذم

ـ تجنب استعمال الألفاظ المعبرة عن الذم في المدح

ـ تجنب استعمال ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم

ـ حسن الاستعارة ـ - تجنب الحشو

ـ حسن الكناية

ـ الوضوح

ـ إيراد الدلالة على المعنى

ـ صحة التشبيه

ـ صحة التفسير

ـ كمال المعنى

ـ المبالغة والغلو

ـ الابتعاد عما يوجب الطعن

ـ التمثيل

ـ التعليل

والحقيقة أن بعض هذه الشروط تدخل في أكثر من مستوى واحد؛ حيث يمكنها أن تحضر في كل هذه المستويات (مع الإشارة إلى هيمنة الجانب الصوتي الذي يحضر في المستوى التركيبي والمستوى الدلالي والمستوى التداولي).

5 ـ عبد القاهر الجرجاني ونحو الشعر:

تنسج البلاغة الجرجانية علاقة وطيدة مع الدرس اللغوي الحديث، حيث نعثر فيها على وشائج تربطها بالنحو التوليدي، والنحو الوظيفي، ونظرية أفعال الكلام؛ وذلك انطلاقا من اهتمامها بالدلالة في علاقتها بالتركيب والتداول، وكذلك اهتمامها بالأفعال الإنجازية والاستلزام الحواري، ونظرية المقاصد التداولية. وهذا ما جعلها تحظى باهتمام الدارسين المحدثين وإعجابهم (كمال أبو ديب، أدونيس، محمد العمري، محمد المتوكل، طه عبد الرحمان، نصر حامد أبو زيد، وغيرهم). وترتكز هذه البلاغة النصية (في مقابل البلاغة التواصلية عند الجاحظ) على نظرية النظم التي تجعل الكلام الأدبي مخالفا للكلام العادي انطلاقا من نظمه، بل واختلاف الكلام الأدبي ذاته في درجات الأدبية انطلاقا من هذا النظم نفسه. فالنظم، إذن، هو جوهر الشاعرية في القول الفني. ولا ترجع الشاعرية إلى التلاعبات الصوتية (ابن سنان) أو الوجوه البلاغية (ابن المعتز، قدامة)، بل إن هذه الأخيرة التي يطلق عليها الجرجاني "معنى المعنى" (أو الإيحاء) إنما تتأسس على التأليف والترتيب ضمن سياقها النصي، ولا ترجع إلى اللفظ من حيث هو لفظ منزاح عن الاستعمال الأصلي؛ أي إنها تتأسس انطلاقا من المحور المركبي وليس من المحور الاستبدالي، وهذا ما جعل بلاغة الجرجاني تتحرر من أسر البلاغة الإبدالية (نقل مدلول اللفظ إلى دال آخر) التي انسلت إلى البلاغة العربية بتأثير من أرسطو، واستمرت حتى الآن.

6 ـ السكاكي والبلاغة العامة:

لا نقصد بالبلاغة العامة التوفيق بين الشعرية والبلاغة فقط؛ لأن البلاغة العربية من هذه الجهة هي بلاغة عامة منذ نشأتها. وإنما نقصد، إضافة إلى ذلك، الجمع بين مستويات الخطاب (صوتي، تركيبي، دلالي، تداولي)، وكذلك عدم الفصل بين بلاغة الإقناع (الجاحظ) وبلاغة الإمتاع (الخفاجي). وهو المشروع الذي نجده حاضرا، ومتكاملا مع السكاكي في مفتاح علومه، حيث البلاغة هي "مفتاح العلوم"، ونقطة التقائها، فهي "خطاب الخطابات"، و"علم العلوم". وهذه العلوم المسماة أدبا، التي تعبر عنها البلاغة (بمعناها العام)، تشمل لدى السكاكي المنطق والنحو والصرف والعروض والبلاغة (بمعناها الخاص). وهو ما يتجلى كالتالي:

مفتاح العلوم

 

 

 

        علم الصرف              علم النحو           علما المعاني والبيان

 


                                    

                                               علم المعاني           علم البيان

 


                        

                       علم الحد والاستدلال                علم الشعر

                   أو علم خواص تركيب الكلام           ودفع المطاعن

وكما هو ملاحظ من خلال هذا الرسم، فهذه الدراسة تراعي تناول الكلمة (المفرد)، والجملة (التأليف)، والسياق (مطابقة المقال للمقام). وإذا كانت بلاغة السكاكي قد انتقدت كثيرا باعتبارها قد مالت بالبلاغة العربية إلى التحجر عن طريق جانبها التعليمي الذي اغتال الجانب المنتج في البلاغة العربية، فإننا من جهتنا نعتبر عمل السكاكي عملا رائدا في تاريخ البلاغة العربية، خصوصا من خلال اهتمامه بالجانب التداولي للغة الأدبية. والذي ساعده على إدراكه هو الدمج بين البلاغة والمنطق والصرف والنحو والعروض واللغة (هذه الأخيرة التي يعترف السكاكي بأهميتها دون أن يحضرها في كتابه؛ ويقصد بها المعجم، أي المخزون اللغوي)، مما أدى إلى إنتاج هذه البلاغة العامة، التي يسميها أدبا، والتي هي بلاغة تداولية في أسها. إلا أن مشروع السكاكي الثري قد أصابه الفقر، ونزل به الضيم، ومسخ على يد القزويني الذي أوقف تطوره من خلال الاختصار الذي قام به في التلخيص؛ حيث حول هذه البلاغة العامة إلى بلاغة مختزلة تقتصر على تلخيص الجانب المختص بعلمي المعاني والبيان (ويدخل البديع لدى السكاكي ضمنهما ولا يعتبره قسما ثالثا)، دون سواهما من الأقسام الأخرى التي طواها النسيان (الصرف – النحو – الاستدلال – العروض)، وهو الاختزال نفسه الذي أصاب البلاغة الغربية وعبرت عنه أعمال دومارسي وفونتانيي ولامي، التي اختزلت البلاغة الغربية في نظرية الوجوه والزخارف، ولم يكتب لها أن تحيا من جديد إلا مع الدراسات الأولى للبلاغة الغربية بفضل أعمال ريتشاردز (فلسفة البلاغة)، وبيرلمان (البلاغة الجديدة)، وبارت (البلاغة القديمة). ولا يجب أن يفهم من كلامنا أن عملية التلخيص هي التي اختزلت البلاغة العربية؛ لأنه لو فهم ذلك فإن البلاغة العربية يجب أن تكون بلاغة مختزلة مع فخر الدين الرازي الذي اختصر الدلائل والأسرار في نهاية الإيجاز. وإنما الاختزال كامن في إهمال الجوانب الأخرى التي أغفل القزويني تلخيصها، وكذلك في اهتمامه بإنتاج بلاغة مدرسية تعليمية تجلت في مركزية "تلخيص المفتاح" في خريطة البلاغة العربية بعد السكاكي؛ حيث انصبت الدراسات عليه (وأهملت ما سواه) إما شرحا (شروح التلخيص للتفتزاني، وابن يعقوب، والسبكي، وغيرهم)، أو تلخيصا (تلاخيص التلخيص العديدة مثل لطيف المعاني، وتحفة المعاني، والمسالك، وأنبوب البلاغة)، أو نظما (مثل الألفية الوردية، الألفية في المعاني والبيان، مفتاح التلخيص أو عقود الجمان في المعاني والبيان، الجوهر المكنون، الخ) أو شروحا لهذه النظوم.

7 ـ ابن البناء المراكشي والبلاغة الجديدة:

يرجع الفضل إلى الشعرية المغربية في الخروج من أسر الاختصارات والشروحات التي سنها القزويني وأرسى دعائمها؛ حيث إن المنزع البديع والروض المريع خير ممثل للخروج عن التقسيم الذي وضعه السكاكي، وقدسه القزويني والمتأخرون بعده. فالسجلماسي حصر البلاغة في عشرة أبواب أطر ضمنها وجوهه البلاغية التي وصلت إلى مائة وتسع وثمانين نوعا، أما ابن البناء فحصر الوجوه البلاغية في بابين تندرج تحتهما أقسام عديدة:

                  صناعة البديع

 

         

                         أقسام اللفظ من جهة                            أقسام اللفظ من جه

              
                                 مواجهة المعنى                         دلالة المعنى

 

 


الخروج        تشبيه         تبديل    تفصيل     الإيجاز والاختصار  الإكثار  التكرير

من شيء إلى  شيء      شيء بشيء     شيء بشيء     شيء بشيء

وتكمن أهمية هذه البلاغة البناوية في الخروج عن التقسيم الذي سنته البلاغة المدرسية، وكذلك في عدم حصر البديع في المحسنات (اللفظية أو المعنوية)، بل الرجوع به إلى دلالته الأولى عند العرب، حيث البديع هو البلاغة عموما. ومن هنا فالبديع مثله مثل البلاغة، صناعة ترجع إلى صناعة القول ودلالته على المعنى المقصود؛ ولذلك ارتبطت بالمقاصد وأساليب الخطاب، واهتمت بإعطاء القوانين الكلية (الكليات الأدبية) للشعر التي تنضبط بها الجزئيات المندرجة تحتها. وبذلك يكون عمل ابن البناء ثمرة إنتاجات سابقة؛ تجلت في تلاخيص أرسطو التي وضعها الفارابي وابن سينا وابن رشد. إلا أن هذه المحاولة البنائية لم يكتب لها أن تكسر أغلال التقليد الذي وقعت في أسره البلاغة العربية، والذي أكدته المؤلفات المدرسية، فيما بعد، مع علي الجارم والمراغي والهاشمي، وعبد العزيز عتيق، وغيرهم. هكذا كانت محاولة ابن البناء صيحة في واد، وضاعت بين الزحام والاجترار، وهي بذلك آخر قراءة للبلاغة العربية، في وقت سد فيه باب التأويل، وفتح باب المحاكاة والتقليد، ولم يكتب لهذه البلاغة الجديدة أن تظهر مرة أخرى إلا مع الالتقاء بالبلاغة الغربية الجديدة (بارت، تودوروف، جونيت، مجموعة لييج، ريكور، بيرلمان، بليت، وغيرهم)؛ مما أدى إلى إعادة قراءة البلاغة العربية، وتمثل ذلك في أعمال حمادي صمود، ومحمد مفتاح، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد العمري، وغيرهمn

المصادر والمراجع:

 

ـ عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بمصر، 1991.

ـ الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1989.

ـ عبد الله بن المعتز، البديع، تحقيق اغناطيوس كواتشقوتي، لندن، 1935.

ـ أسامة بن منقذ، البديع في نقد الشعر، تحقيق أحمد أحمد بدوي وحامد عبد الحميد، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، 1960.

ـ ابن أبي الأصبع المصري، بديع القرآني، تحقيق حفني محمد شرف، نهضة مصر، القاهرة، بدون تاريخ.

ـ علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، دار المعارف، القاهرة، بيروت، 1979.

ـ محمود السيد شيخون، البلاغة الوافية، مكتبة الكليات الأزهرية، 1980.

ـ سيد أحمد الدسوقي شمعه ومحمد محمد عشليش ومصطفى عبد الغني، البلاغة الوافية، مكتبة الرشاد، فاس والبيضاء، دار الكتب العربية، الرباط، بدون تاريخ.

ـ أبو عثمان الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ.

ابن أبي الأصبع المصري، تحرير التحبير، تحقيق حفني محمد شرف، بدون ناشر، بدون تاريخ.

ـ محمد العمري، تحليل الخطاب الشعري: البنية الصوتية في الشعر، الدار العالمية للكتاب، البيضاء، 1990.

ـ الخطيب القزويني، التلخيص في علوم البلاغة، تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية،بيروت، 1997.

ـ عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1984.

ـ ابن البناء المراكشي، الروض المريع في صناعة البديع، تحقيق رضوان بنشقرون، دار النشر المغربية، البيضاء، 1985.

ـ ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، بدون تاريخ.

ـ بهاء الدين السبكي، عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، ضمن شروح التلخيص، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.

ـ عبد العزيز العتيق، علم المعاني، البيان، البديع، دار النهضة العربية، بيروت، بدون تاريخ.

ـ أحمد مصطفى المرغي، علوم البلاغة، دار القلم، بيروت، 1984.

ـ أبو حاتم السجستاني، فحولة الشعراء، تحقيق محمد عبد القادر أحمد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1991.

ـ رولان بارت، قراءة جديدة للبلاغة القديمة، ترجمة عمر أوكان، أفريقيا الشرق، البيضاء، 1994.

ـ أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1984.

ـ مجموع مهمات المتون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994.

ـ أبو يعقوب السكاكي، مفتاح العلوم، تحقيق نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.

ـ أبو محمد السجلماسي، المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، 1980.

ـ محمد العمري، الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية: نحو كتابة تاريخ جديد للبلاغة العربية، منشورات دراسات سال، النجاح الجديدة، البيضاء، 1991.

ـ قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1979.

ـ فخر الدين الرازي، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، تحقيق بكري شيخ أمين، دار العلم للملايين، بيروت، 1985.