الفكر المغربي بين الاتصال والانفصال: مقدمات(*)
لا تخفى أهمية مثل هاته الوقفات التي يتوقف عندها الفكر
ليثبت التحولات الكبرى التي يكون قد عرفها، ولا تخفى دلالاتها. فهي أولا إثبات
لتحولات، لكنها أيضا، وربما أساسا، علامة على تحول ووعي بتحول.
لقد عودتنا
العلوم الإنسانية بصفة عامة، والتاريخ على الخصوص، وتاريخ الأفكار على الأخص،
تحيّن لحظات التحول والانعراج كي تزدهر وتترعرع. ففي مثل هاته اللحظات تراجع الذات
حساباتها وينعكس الفكر على نفسه، ليقف عند ما يكون قد عرفه من تحول، وما عاشه من
انفصال وقطيعة.
إلا أن هناك مفهومين
متباينين، إن لم يكونا متقابلين، عن التحول والانفصال، يندرجان تحت تصورين مختلفين
عن الزمان التاريخي: أحدهما يصدر عما يمكن أن ننعته الهم الكرونولوجي، أما الآخر
فيتولد عما يمكن أن نطلق عليه الحس التاريخي.
فإن كان الهم التأريخي
ينشغل أساسا بتحقيب التاريخ وإثبات الأدوار، فإن الحس التاريخي لا يشغل نفسه
بتقطيع الزمن، ولا ينظر إلى أنماط الزمان من حيث إن أحدها يتلو الآخر ويعقبه،
وإنما من حيث إنها تتعاصر خارج بعضها البعض. بحيث لا يغدو الحاضر هو الآن الذي
يمر، بل ذاك الذي يمتد بعيدا حتى يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي.
إن الهم التأريخي ينشغل
ببناء تاريخ المراحل والقرون، أما الحس التاريخي فهو يسعى إلى إقامة تاريخ العصور
من حيث إن العصر ليس حقبة زمنية، ولا فترة تمتد بين تاريخين. العصر علاقة متفجرة
للماضي بالمستقبل. فعند كل عصر ينكشف عالم من العوالم، أي تنكشف بالنسبة لإنسان
ذلك العالم علاقة جديدة للماضي بالمستقبل.
إن كان تاريخ القرون
إذن تاريخا باردا هامدا، فإن تاريخ العصور تاريخ ساخن تطبعه الانقطاعات وتسوده
التوترات.
كان لا بد من هاته
الوقفة في بداية هذا العرض الوجيز لإبراز أهمية هذا التمييز الذي أصبح يطرح نفسه
علينا اليوم بحدة كبرى، نحن الذين أخذنا نكثر من الحديث عن نهاية القرن وبداية
الآخر. ذلك أن التحولات لا تنتظر القرون. وأكاد أقول لا علاقة لها بالقرون. وإذا
اقتصرنا على الفكر الغربي كنموذج لقلنا إن ما حصل فيه على مستوى الفكر ظهر في أغلب
الأحيان في منتصفات القرون ابتداء من "مقال" ديكارت حتى نظرية غودل
مرورا بأعمال باخ والهندسات اللاأقليدية، ونظرية التطور…
لقد انكشف عالم جديد
قبل حلول القرن الجديد. ودخلت البشرية عصرا جديدا يسميه البعض عصر التقنية ويطلق
عليه الآخر عصر العولمة وينعته آخرون بما بعد الحداثة. ولا يسمح المجال هنا
بالتساؤل عما إذا كانت هذه الأسماء هي للمسمّى نفسه، ويكفينا أن نؤكد أن ما يعنينا
هنا ليس أن نقوم بتبويب الفكر المغربي إلى مراحل، وإنما أن نبين مدى انفتاحه على
عصم جديد بالمعنى الذي أعطيناه لكلمة عصر. فبدل النظر إلى تاريخ فكرنا من خلال
منظور تكويني، ينبغي أن نجعل من التحول الذي نعيشه مركزا، وننطلق منه لنجعل
تاريخنا الفكري ينتظم حوله، وعلى هذا النحو سنتكلم عن ماضينا انطلاقا من لغة
الحاضر، بل انطلاقا من "لسان الحال".
إن السؤال الأساس الذي
تطرحه هاته الندوة حول "الفكر المغربي في مائة عام: معالم وملامح" لا
ينبغي أن يصدر عن هم تأريخي ولا أن ينشغل بإثبات الأدوار التاريخية التي يمكن أن
يكون هذا الفكر قد عرفها في شتى الميادين، ولا برصد مختلف المصنفات التي ظهرت في
كنفه، ولا بالأولى، بتحديد المواقف وتعيين المدارس وإثبات التيارات، وإنما بتبين
ما إذا كان هذا الفكر يعرف الآن علاقة جديدة للماضي بالمستقبل، أي ما إذا كان يطل
على عصر جديد، وما إذا كان ينفتح على ما اعتدنا أن نسميه حداثة، شريطة أن نميز هنا
أيضا بين حداثة وحداثة، وأن ننظر إلى الحداثة نفسها بفكر يطبعه الحس التاريخي لا
بعين يشغلها الولع التأريخي.
ولتوضيح المسألة اسمحوا
لي أن أميز هنا أيضا بين مفهومين عن الحداثة، أو لنقل بين موقفين: موقف كرونولوجي
ينظر إلى الحداثة كحقبة تاريخية، ثم موقف، لا أقول بنيويا، وإنما أفضل أن أنعته
بالموقف الاستراتيجي، وهو الذي يعتبر أن موقف الحداثة، قد وجد نفسه ولا بد أن يجد
نفسه على الدوام، في مواجهة مواقف مضادة.
لا يتعلق الأمر إذن
بالمقابلة بين البنية والتاريخ بقدر ما يتعلق بالتقابل بين الهدنة والتوتر. ذلك أن
الموقف الأول يتميز أكثر ما يتميز بهمه التأريخي، وبرودته الوضعية، وسمته
التقريرية التي تنظر إلى الحداثة كمجموعة من المميزات التي تطبع حقبة تاريخية
معينة، حيث يتم إيجاد مكان لها داخل يومية تتقدمها حقبة "ما قبل"
وتتبعها حقبة "ما بعد"، وربما لا ينبغي أن ننعت هذا المفهوم حتى
بالموقف، إذ أنه لا يعدو أن يكون تحقيبا للتاريخ وتطبيعا للزمن.
أما المفهوم الآخر فهو
يعتبر الحداثة عصرا وليس مجرد حقبة. أي أنه ينظر إليها من حيث إنها شكل من العلاقة
المتوترة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختيار واع، ونمط من التفكير والإحساس،
وطريقة في السلوك والاستجابة تدل على انتماء معين، وتظهر كمهمة ينبغي الاضطلاع
بها.
الحداثة، بهذا المعنى
الثاني، مسؤولية تاريخية وموقف نضالي، ووعي بالحركة المتقطعة للزمن. إنها اللحظة
التي يصبح فيها الانفصال من صميم الوجود، ويغدو نسيج الكائن ولحمته، بحيث لا يعود
الكائن مترابط العناصر سواء أكان ذلك على مستوى المعرفة أو المجتمع. فتظهر
الانشطارات داخل ما اعتبر مواقع الانسجام ويتبين "أن كل صلب لا بد أن
يتبخر".
إن الحداثة هنا لا
تقابل ما قبلها ولا ما بعدها، وإنما تقابل ما ليس إياها، أي تقابل التقليد. إنها
ليست حقبة تاريخية وإنما نمط وجود وعلاقة متفجرة للماضي بالمستقبل، وهي ليست
إثباتا للتحولات الكبرى في مختلف المجالات وإنما وعيا بأن الكائن تحول.
هذا التحول هو اليوم من
القوة بحيث يمنعنا من الحديث عن قومية فكرية أو ثقافية سوى في خروجها عن ذاتها
وتفاعلها مع ما يخالفها، ووضعها في فضاء ثقافي جديد ربما لم يكن له وجود قبل
اليوم، هذا الفضاء هو ما أصبح يدعى عالما.
فحتى وقت غير بعيد كانت
عوالم. وإن كان هناك عالم فلم يكن إلا طبيعيا. أما اليوم، فإننا على أبواب ميلاد
عصر جديد، فانكشاف عالم جديد، أو على الأصح، انكشاف العالم. لقد كنا نحاول، فيما
مضى، تحديد ذواتنا فرديا وقوميا بين العوالم. أما اليوم فإن التساؤل عن التحديد
والحدود أصبح يتم في عالم بلا حدود. الأمر الذي أخذ يفرض علينا مراجعة، وربما
إعادة نظر في كثير من الثوابت الفلسفية التي كنا نركن إليها.
ذلك أن فكرنا قد ظل،
حتى وقت غير بعيد، مطبوعا بمنطق اتصالي. فارتبط طرحنا لقضايانا الكبرى مثل
الخصوصية والتراث واللغة والهوية بالبحث عن الاستمرارات والتأثيرات، وتقصي
الاستقرار والدوام: دوام الخصائص التي تميزنا، والسمات التي تطبعنا، وثبات اللغة
التي نتكلمها، والفكرة التي نعتقد حقيقتها، والقيم التي نسكن إليها، والمعمار الذي
نحتمي به. وقد كان هذا الطرح لكل هاته القضايا، مع ما يقوم عليه من منطق اتصالي،
يسري على مفهومنا عن الآخر الذي تكرس بفعل عوامل تاريخية معروفة.
غير أن التحول الذي
أشرنا إلى بوادره أخذ يطرح منطق الاتصال هذا موضع تساؤل ليفسح للتفردات فرصة
الظهور ويعطيها نصيبها في الوجود، وليجعل من الخصوصية حركة لا متناهية للضم
والتباعد، ومن الآخر مجالا مفتوحا للانفصال اللامتناهي عنه، والالتقاء اللامتناهي
معه. الأمر الذي تشهد عليه الآن كل المساعي النظرية والعملية لإعادة ترتيب العلاقات
المتبادلة مع كل ما يمكن أن يكون آخر "نا"n