ص1     الفهرس    31-40

 

الانتقال إلى الديمقراطية

التجربة المغربيةفي الواجهة -2-

محمد عابد الجابري

نص الحوار التليفزيوني المباشر الذي أذاعته القناة الثانية المغربية ضمن البرنامج الشهري "في الواجهة" الذي تعده وتديره الصحفية ملاك مليكة مالك. وقد أذيع مساء يوم 18 أكتوبر 2000  وساهم فيه كل من الأستاذ عبده الفيلالي الأنصاري والصحفي إدريس كسيكس والكاتبة ربيعة ريحان.  (تابع لما نشر في العدد الماضي)

 

إدريس كسيكس:

 الأستاذ الجابري، أود الحديث معكم كملاحظ وكمفكر، وكأحد المساهمين في الحقل الثقافي والسياسي. كتبتم في 1998 في موضوع التناوب التوافقي الحالي واعتبرتموه حينها بمثابة مصالحة رمزية بين الحركة الوطنية والقصر في شخص الملك الراحل الحسن الثاني وعبد الرحمان اليوسفي. الآن جد جديد وأصبح الأداء الحكومي موضع تساؤل، فلم نعد نتحدث عن الماضي وإنما أصبحنا نحاول إرساء قواعد جديدة لما سيأتي. في هذا الإطار سأحاول التطرق إلى بعض الملاحظات. تحدثتم كذلك في إحدى المقالات عن التداخل الحاصل بين المجالين التقليدي والحديث في عملية اتخاذ القرار السياسي بالمغرب، وأنه غالبا ما تكون الكلمة الأخيرة للمجال التقليدي، أي للقصر وللنمط الشفوي. الحاصل الآن مع حكومة التناوب هو أننا كنا ننتظر من عبد الرحمان اليوسفي الدفع باتجاه تحديث طرق اتخاذ القرار ودمقرطته وتقوية دور الوزير الأول وتوسيع دور المؤسسات الحديثة داخل الدولة. وإذا بنا نلاحظ بروز حكومة ظل موازية متمثلة في اللجان والأشخاص، تدير الأشياء بمعيته وتطور خطابا حداثيا من داخل القصر. هل تعتبرون أن القطيعة مع هذا النمط المزدوج في اتخاذ القرار غير واردة، أم أنكم تعتبرون أن المسألة مسألة وقت؟

محمد عابد الجابري:

 أعتقد أن طرح الأمور بهذا الشكل فيه شيء من الاختصار، فالمجال السياسي التقليدي الذي تحدثت عنه هو عبارة عن مشاورات بين الحركة الوطنية والملك، وليس القصر وحده. المجال السياسي التقليدي هو عبارة عن مجال كانت تمارس فيه السياسة في القضايا الكبرى، منذ الحماية. وعندما أنشئت البرلمانات منذ 1963 إلى الآن لم تكن تلك البرلمانات تمثل القوة الحقيقية في البلد، فالقوة الحقيقية بقيت هي هي. لذلك فالقرارات الأساسية كانت تتخذ مع الحركة الوطنية، خارج البرلمان وبدون قطيعة معها. خذ مثلا قضايا الصحراء ومسألة إقامة الديمقراطية أو تعديل الدستور. هذه قضايا كانت تناقش ويتخذ فيها القرار من خلال مشاورات وهذه هي ميزة المغرب. ليست هناك قطيعة ما بين السلطة العليا في البلد وبين المعارضة. حتى عندما يكون زعماء المعارضة في السجن وتثار قضية من القضايا الوطنية كانوا يشاركون في صنع القرار ويستشارون ويبعثون برأيهم. هذه تقاليد مغربية أصيلة ترجع لظروف تاريخية. الآن، وهذا ما قلته في محاضرة 1988، إن الرجال الذين كانوا يعمرون هذا المجال السياسي التقليدي والذين قاموا بهذه المشاورات و"اشتركوا في الطعام" -كما نقول- مع الملك محمد الخامس ومع الحسن الثاني، عددهم الآن يتقلص بحكم العمر والأجل المحتوم. ومن ثم صار مفروضا المرور إلى المجال السياسي الحديث حيث تمارس السياسة والديموقراطية في مؤسسات وليس بين أشخاص.

إدريس كسيكس:

  أود أن نعود إلى الحاضر لنطرح السؤال التالي : هل حكومة التناوب الحالية هي في مستوى الدفع باتجاه هذه القطيعة من أجل المؤسسات؟

 محمد عابد الجابري:

 "الحكومة داخلة هي نفسها في "الشواري". ولا يمكن أن تحمل "الشواري" وهي داخله (الشواري بالدارجة المغربية هو قفتان واسعتان مرتبطتان كالميزان توضعان على ظهر الدابة وتملآن بالأمتعة الخ).

إدريس كسيكس :

 من بين تداعيات الوضع الحالي الذي نصفه بالمرحلي والانتقالي:  الحديث عن أزمة قوى اليسار. يأتي هذا في الوقت الذي يخشى فيه الكثيرون أن تتمكن الحركات الإسلامية من ملء الفراغ السياسي الحاصل. لديكم رأي في الموضوع يقول بجمع الكل داخل ما تسمونه "الكتلة التاريخية". ألا تعتبرون أن هذه الصيغة قد تفقد القوى التقدمية قدرتها على التجديد والتحديث والعقلنة، ونحن نتحدث عن المؤسسات، إذا ارتبط مصيرها بحركات لا تتفق مع هذا التوجه اتفاقا تاما.

 

 محمد عابد الجابري :

 لن أكرر ما قلت في موضوع الكتلة التاريخية لأنه مكتوب، إنما سأشرح لكم الأحداث التي أوحت لي بما كتبت. كتبت عن الكتلة التاريخية في مقالة صدرت في مجلة "اليوم السابع" سنة 1988. وكنت من المساهمين في هذه المجلة الفلسطينية بمقالة شهرية. في تلك السنة انتبهت، كمراقب فكري وسياسي، أن الثورة الإيرانية قد مرت عليها عشر سنوات. وكانت هذه الثورة مصحوبة بموجة عارمة سميت بالصحوة الإسلامية. فأنا كمراقب وجدت نفسي ألاحظ أن الثورة الإيرانية والصحوة والإسلامية قد مر عليهما عشر سنوات آنذاك. وفي السنة نفسها 1988 بدأت أشعر أن الأمور قد حوصرت من طرف قوى معينة من داخل العالم العربي ومن خارجه، مما يعني أن مشروع الصحوة الإسلامية الذي كان يبشر به زعماء الحركة كان قد طوق. تذكرت الستينات والخمسينات عندما كان الفكر القومي، والثوري والماركسي والليبرالي، مهيمنا على الساحة يقصي ويلغي من الحساب الحركات الإسلامية، في حين أن الإسلاميين كانوا موجودين وجودا موضوعيا. وأنت تعرف أن الإيديولوجيا تعمم نفسها وتلغي خصمها. وعندما جاءت الصحوة الإسلامية فعلت الشيء نفسه، ارتكبت نفس الخطأ: عممت نفسها وألغت الوجود الموضوعي الذي أفرز الليبرالية واليسار. هنا تذكرت "غرامشي"، الذي كان يعيش في إيطاليا حيث الشمال علماني متقدم والجنوب تسيطر فيه الكنيسة، فارتأى أنه  يجب الاعتراف بالكنيسة كقوة موضوعية، يجب الاعتراف بالوجود الموضوعي للقوى التي تمثلها، فقال بضرورة الكتلة التاريخية التي تجمع القوى كلها بما فيها الكنيسة في إطار أهداف متفق عليها. من هنا قلت : إن كتلة تاريخية مثل هذه ستمكن من تجاوز الخطأ الذي ارتكبه التيار التقدمي في الستينات وكررته الحركة الإسلامية في الثمانينات. ومن ثم وسعت إطار الفكرة في مقالات أخرى. والسؤال الذي طرحته حول ضياع اليسار داخل مثل هذه الكتلة، لا أتفق معك فيه اليسار لن يضيع، لكن بشرط ألا يعتبر نفسه هو كل شيء. والمثل المغربي يقول : "اللي يحسب بوحدو كيشط لو" (من يعد الأشياء بمفرده ويلغي حق الآخرين يفضل معه فائض).

إدريس كسيكس :

 لنرجع إلى المؤسسات. من بين المفارقات التي نعيشها اليوم أن الأحزاب بقدر ما هي مطالبة بالعمل كقاطرة في المجتمع بقدر ما تعاني من ضعف ومن غياب الديمقراطية داخلها ومن التضييق على إمكانية التناوب بين الأجيال، فلديكم مثلا القرار الأخير للمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، والبعض يقول إنه قرار أحادي من طرف السيد عبد الرحمان اليوسفي. هذا القرار يقضي بتجميد المكتب الوطني للشبيبة الاتحادية مع أن صلاحيته السياسية والمعنوية لا تخول له ذلك. والحاصل أن المشرفين على الحزب، والذين هم في نفس الوقت مسئولون حكوميون، البعض منهم ضاق ذرعا من النقد الموجه إليهم من طرف الشبيبة الاتحادية. سؤالي هو : هل تعتبرون هذا المشكل مؤشرا على عدم قدرة الاتحاد على الموازنة بين عملية ممارسة السلطة وعملية استكمال ممارسة الديمقراطية؟

محمد عابد الجابري:

 يجب أن نفرق ما بين المشاكل الداخلية للأحزاب، التي هي قضايا خاصة بكل حزب تعالج داخل الحزب، وتناقش في الهيئات المسؤولة لهذا الحزب، وبين القضايا الوطنية التي تشترك فيها جميع الأحزاب الموجودة. ولذلك فأنا لست مؤهلا لأصدر فتوى فقهية أو سياسية. المشكل الذي طرحته هو مشكل داخلي، والحزب له أجهزته وقوانينه، وأنا شخصيا خارج التنظيم ولا علم لي بهذه الملابسات كلها.

إدريس كسيكس :

سأحاول طرح المشكل بصفة عامة. هل يمكن الحديث، مع تطور العلاقات الحزبية إلى هذا الحد من النزاعات الشخصية، عن دور الأحزاب كنواة عقلانية قادرة على تأطير المجتمع والتأثير في الحياة السياسية العامة؟

محمد عابد الجابري :

 السياسة هي أيضا مجال اللاعقلانية، ويجب أن  نعترف بهذا.

إدريس كسيكس : 

هاأنت تصدر فتوى أستاذ الجابري!

محمد عابد الجابري :

 نعم هذه فتوى. إذا أردت أن تتعامل بعقلانية في السياسة يجب ألا تكذب، أليس كذلك؟! لكن إذا قرأت أفلاطون تجد أنه يقول إن الكذب جائز في السياسة. وإذا قرأت الأدبيات السلطانية العربية تجد فيها أنه يجوز للخليفة أن يكذب على الشعب ولا يجوز للشعب أن يكذب على الخليفة، ويبررون هذا بالقول: إن الخليفة إذا كذب على الشعب فذلك من أجل مصلحة الشعب، ولكن الشعب إذا كذب على الخليفة فأنه يضلله ويدفعه إلى اتخاذ قرارا على أساس مغلوط.

إدريس كسيكس :

إذا كذب الساسة فذلك شيء مفهوم وطبيعي، لكن المشكل هو في كذب المثقفين، الذي يفترض فيهم قول الحقيقة.

محمد عابد الجابري :

 المثقفون يقولون الحقيقة بشكل نسبي. نحن نقول الحقيقة نسبيا، وحسب إدراكنا لها. وكما تعرف، فالسياسة هي فن الممكن. والممكن ليس هو المطلق. هذا في حين أن ميدان الحقيقة هو المطلق. وكل ما هو ممكن فهو محتمل، وكل ما هو محتمل فهو نسبي، وهو ليس من نوع 1+1=2. في السياسة دائما 1+1 تساوي : إما أقل من اثنين وإما أكثر من اثنين.

إدريس كسيكس :

 قلت : هل يمكن الحديث عن تطور العلاقات الحزبية إلى هذا الحد من النزاعات الشخصية؟

 

 محمد عابد الجابري :

 أريد أن أنطلق من تجربتي في الاتحاد. عندما كنت شابا أقل سنا منك بقليل شاركت في تأسيس الاتحاد الوطني في 25 يناير 1959. وقد عشت ما لا يحصى من "الدبازات" (الخصومات). عشت مع المهدي والفقيه البصري واليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد، لأنني كنت مسؤولا عن "التحرير" جريدة الحزب. والجريدة كانت هي الحزب، هي "المطبخ". وما تشاهد الآن من خصومات هي لا شيء بالنسبة للتي كانت في الماضي، وكنا نتجاوزها، ولذلك فأنا لا أعطي لخصومات اليوم أهمية كبيرة. هذا حزب عاش أربعين سنة من المعارضة، المعارضة التي كانت صوفية في السياسة. والآن أصبح بعض رجاله أعضاء في البرلمان أو رؤساء جماعات أو وزراء، فمن الطبيعي أن تحدث مشاكل في هذه الأحزاب. لكن في نظري وبالنسبة لحزب الاتحاد الاشتراكي لا خطر. وفي هذا الصدد يعجبني تشبيه بعضهم له بالعجين. كان هناك من المنظمات الوطنية من ينتظر تشتت أطر هذا الحزب ليستقطب منها. ولما لم يحدث شيء مما كانوا ينتظرون : قال أحدهم : من الخطأ انتظار انشقاق الاتحاد، فتركيبته تركيبة عجينية. فعلا الاتحاد كالعجين في اليد، يمكن أن يتبعض بين الأصابع إذا ضغطت عليه، ولكنه لا يتفتت كما تتفتت القطعة من السكر.

مليكة مالك :

 أستاذ الجابري، ونحن نؤسس لهذا البناء الديمقراطي، أظن أن هذا التأسيس هو عمل الجميع لكي يتم البناء. والأحزاب السياسية تلعب دورها ببط ء. والإشكال الذي طرحه الزميل إدريس كسيكس هو أن دور الاتحاد الاشتراكي كقوة ضاغطة، كقوة اقتراحية، ربما قد وهن بحكم تسييره الشأن العام، وبحكم أنه الآن يهيئ لمؤتمره في شهر مارس. ما هو الدور الذي يجب أن يقوم به حزب سياسي للدفع بالمسلسل الديمقراطي رغم أنه يشارك في الحكومة؟

محمد عابد الجابري:

 أنت تطرحين علي سؤالا يتعلق بالاتحاد الاشتراكي الآن، وأنا لا أستطيع أن أجيبك عن ما يحدث في هذا الحزب بعد سنة 1981 سنة، تقديم استقالتي من المكتب السياسي واللجنة المركزية. لذلك فأنا لا أستطيع الحديث إلا عن ما قبل هذه السنة. وبكل إخلاص منذ سنة 1981 إلى الآن "أخذت راحتي" كما نقول، وبالتالي فأنا لا علم لي بما يقع. أما بالنسبة لمكانة الاتحاد الاشتراكي كحزب وكرصيد وكقوة مستقبلية فأنا متأكد من أنه قوة حية أساسية من القوى الحية في المغرب. أما أن أحكم على ما يجري حاليا فليست مطلعا على التفاصيل.

مليكة مالك :

أنا لا أريد أن أضعك في موقف حرج، لكننا عندما نريد أن نحلل وضعا معينا، والجميع يطمح إلى البناء الديمقراطي، فإن الأسئلة تطرح بحدة حول حزب الاتحاد الاشتراكي، خاصة وأن هذا الحزب يقود تجربة هذه النقلة الديمقراطية. ورغم أنك لا تشتغل فيه تنظيميا فأنت اتحادي بقلبك. وبالتالي فالسؤال هو : هل حزب الاتحاد الاشتراكي وهن بوصفه قوة اقتراحية؟

 

محمد عابد الجابري :

 عندما تقولين وهن، فالمقصود أنه ضعف وانتهى؟ وفي هذه الحالة لابد لكي أجيبك من أن أكون مطلعا على ما يجري داخله. اتركي لي الحق في أن أكون قاضيا نزيها لا يحكم إلا بناء على معطيات، وليس على مجرد التخمين. وأنا أفتقد إلى المعطيات الخاصة بهذا الموضوع.

مليكه مالك :

وإذا عممنا السؤال على جميع القوى التي تريد الدفع بمسلسل الديمقراطية؟

محمد عابد الجابري :

 في هذه الحالة أرى أن "الكتلة الديموقراطية" (التي تتشكل من الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديموقراطي الشعبي) ككل لها خصوصيات تجمع بين أحزابها. فهذه الأحزاب لها وجود حقيقي في المجتمع. نحن نعرف أن الأحزاب الأخرى حديثة العهد وتكونت بطريقة معينة. فإذا كانت لدينا شرعية ملكية تاريخية، وهذه مسألة لا تناقش، فإن لدينا أيضا شرعية وطنية تاريخية لا تناقش وتتمثل في أحزاب الكتلة. وهذه الشرعية الوطنية قوة يجب أن تستعمل، وهي لم تستنفد بعد طاقتها. والدليل على ذلك هو أن الملك المرحوم الحسن الثاني عندما طلب من البنك الدولي أن يقدم له تقريرا عن حالة المغرب، وعندما اطلع على ذلك التقرير الذي نعرفه جميعا، خاطب الشعب وقال: إن المغرب مهدد بسكتة قلبية. فكان من واجبه ومسئوليته كملك أن ينقذ الموقف، فاستدعى عبد الرحمان اليوسفي وكلفه بتشكيل الحكومة. وهذا دليل على وجود تلك القوة السياسية. وهو وجود يؤهلها لهذا العمل. لكن هذا لا يعني أن الكتلة قامت بكل ما يمكن أن تقوم به. ولا يعني أنها استطاعت أن تستوعب جميع القوات الحية، خاصة الشباب.

مليكة مالك :

أستاذ الجابري، إن ترسيخ الديمقراطية لا يمكن أن يتم بدون تكوين مواطنين ديمقراطيين، فلا تسامح بدون مواطن متسامح، ولا حقوق وواجبات بدون مواطنة. والسياسة التعليمية تبرز كإحدى الأدوات الفاعلة في مسلسل الدمقرطة. أستاذ الجابري، أنت أحد أعمدة الفكر الفلسفي في العالم العربي، ولا أحد يجهل مساهمتك إلى جانب الأساتذة، أحمد السطاتي ومصطفى العمري في تأليف كتاب "دروس في الفلسفة" الذي شكل مرجعية تعليمية للعديد من الأجيال. أنت الرجل العصامي كونت نفسد بنفسك. كيف تقرأ "ميثاق التربية والتكوين" (حول إصلاح التعليم بالمغرب)؟ هل من شأن هذا الميثاق أن يخلق مواطنين مقدامين، جريئين يملكون فعلا حسا نقديا؟ وما هي المكانة التي يجب أن يحتلها تدريس الفلسفة في المدرسة المغربية مستقبلا؟

محمد عابد الجابري :

 أنا شخصيا لا أستسيغ كلمة "الميثاق" في هذا المجال، لأن التعليم في المغرب لا يعاني من الانشقاق في الهوية حتى يحتاج إلى ميثاق. المشكل الحقيقي الذي كان وراء هذا "الميثاق" هو مشكلة أداء بعض الرسوم وليس مشكلة هوية. ذلك أنه كان هناك تفكير، ولا يزال، في أنه يجب أن يؤدي التلاميذ رسوما نظرا لثقل تكاليف التعليم على ميزانية الدولة. هذا هو المنطلق. وكما هو معروف فقد نوقشت الفكرة في البرلمان، ولا أحد استطاع أن يتحمل مسئولية إقرار رسوم في التعليم. بالنسبة لي شخصيا، لم يستدعني أحد للمساهمة في إعداد هذا الذي سمي "الميثاق"، لا المكلفين باللجنة ولا حزبي. وقد أراحوني. وحتى لو حصل استدعائي لكنت اعتذرت، فأنا لم أعد أستطيع تحمل متاعب الاجتماعات. ولكن، والحق يقال، كان الأستاذ إدريس خليل الذي كان وزيرا للتعليم الثانوي والعالي قبل حكومة التناوب، قد هيأ مشروعا لإصلاح التعليم، وقد بعث إلي بنسخة منه في رسالة شخصية وطلب مني رأيي في المشروع. قرأت المشروع، فوجدته يحتوي على تعديلات بنيوية وهيكلية ليس من الضروري معارضتها، فالتجربة هي التي ستحكم عليها. المشروع فيه إيجابيات… فكان ردي هو أنه ينبغي البدء بتطبيق الإيجابيات، وبعد ثلاث سنوات أو خمس سنوات سيرى الناس النتائج الإيجابية للمشروع، وعند ذلك سيكونون مستعدين للأداء. هذه خلاصة الرأي الذي أبديته. وهي نفسها التي تبناها "الميثاق". أنا لا أقول إن الميثاق تبنى فكرتي، ولكن أقول : إن ما ورد فيه بخصوص هذه المسألة يلتقي مع ما كنت قد اقترحت.

ربيعة ريحان :

مادامت قد أثيرت مسألة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، أريد أن أقول، الأستاذ الجابري، إن موقفكم ثابت ومبدئي بخصوص مسألة التعريب ولا مجال فيه لا للتراجع ولا للمراجعة. تقولون أيضا إن التعريب ضرورة وشرط وجود حضاري. ونحن في حاجة إلى تعريب في التربية والتكوين والبحث العلمي. لكن تجربتنا في التعريب اتسمت بطابع التذبذب والتراجع، إن لم نقل بالهدر المادي والمعنوي. طبعا هذا أدى إلى نوع من الإحباط وإلى توقع الفشل لكل تجربة تعريبية مرتقبة. في رأيكم ما سبب هذا التراوح، ألا تعتقدون أنه آن الأوان لنخبتنا السياسية والفكرية لأن تتخذ القرار الواضح والعقلاني والمتواصل بخصوص مسألة التعريب في مفهومها الشمولي، يعيد لها المصداقية النظرية والتطبيقية.

محمد عابد الجابري:

  من جملة المسائل التي يمكن انتقادها في "الميثاق" أنه يسكت عن الماضي تماما. فعندما يتكلم عن التعميم أو التعريب لا يعرض قط للتجارب السابقة ولا ينتقدها ولا يستخلص العبرة منها. مع أنه كان من الأفضل أن يمارس نوعا من التحليل والمراجعة.

بخصوص مسألة التعريب سبق لي أن طرحتها من زاوية وظيفية في آخر مقال كتبته حول التعليم. وقد اطلعت عليه بدوق شك. إن طرح مسألة التعريب من الناحية الوظيفية، معناه غض الطرف عن مسألة الهوية وعن المبادئ الوطنية، فهذا جانب إيديولوجي في النهاية. أن أول سؤال يواجهنا من الناحية الوظيفية هو لمن نوجه تعليمنا؟ للمغاربة؟ إذن يجب أن يعرب، فنحن لا نستطيع أن نجعل منهم أناسا لغتهم الفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية. المغاربة لهم لغتهم هي العربية، وبها يجب أن يكون توصيل المعلومات. لكن من أجل تحقيق التقدم وللتواصل مع العالم ومن أجل تحقيق الانفتاح الخ، من المفروض علينا، بحكم موقعنا الجغرافي، أن نعلم الفرنسية والإسبانية والإنجليزية. الفرنسية والإسبانية بحكم التاريخ والجوار والثقافة. لكن اليوم في فرنسا نفسها من أراد أن يعلم أبناءه بشكل جيد عليه أن يعلمهم الإنجليزية. اللغة الإنجليزية اليوم أصبحت ضرورية. بالنسبة للتعريب في الجامعة، لا أحد في العالم اليوم يدرس العلوم بكاملها بلغة بلده ماعدا أمريكا وإنجلترا. لأن الإنجليزية إذا لم تستعمل في التلقين تستعمل في المراجع. العلم اليوم هو باللغة الإنجليزية مثلما كان في وقت من الأوقات باللغة العربية.

 والمشكل الذي نعاني منه هو أن الطالب عندما يكون في البكالوريا فهو يعرف العربية بنفس القدر الذي يعرف به الفرنسية. ولكن عندما يذهب إلى كليات الطب والعلوم فهو يدرس جميع المواد باللغة الفرنسية وينسى تماما العربية، والذي يذهب إلى كليات الآداب والحقوق يدرس كل شئ بالعربية وينسى الفرنسية. اللغات التي درسها في الثانوي تضيع… ولذلك لابد من تدريس مواد معينة في كليات الآداب بالفرنسية أو بالإسبانية أو بالإنجليزية حسب اختيار الطالب ولابد من تدريس مواد معينة في كليات العلوم والطب باللغة العربية. وهناك مواد يمكن أن تدرس بالعربية مثل مادة "الطلب الاجتماعي" في كليات الطب، وأيضا قسم كبير من التشريح يمكن أن يدرس باللغة العربية. وفي كليات العلوم يمكن تدريس مادة تاريخ العلوم بالعربية وعلوما أخرى بالعربية. فمن الناحية الوظيفية نحن مضطرون للتعريب لكي نتواصل مع شعبنا، ولكي نتقدم وننفتح على العالم ونمارس البحث العلمي لابد من لغة أو لغات أجنبية.

ربيعة ريحان :

 إذن، نحن نتحدث عن تعريب منفتح ومحاور. قلتم بالحرف الواحد في حوار سابق "اللغة هي الوعاء الذي تنصهر فيه الهوية ووحدة الوطن والمواطنة ووحدة المشاعر والفكر، ووحدة التطلعات، بدون هذا لن تكون هناك هوية ممتلئة وغنية، مقومات تراثنا الثقافي غنية أيضا وهامة، ونحن نأمل أن يستمر هذا التعدد لإغناء ثقافتنا الوطنية. في غياب مشروع مجتمعي وفاقي ديمقراطي وحاسم تحل في إطاره تشابكات قضايانا العامة يفتح المجال لنقاشات فكرية وسياسية، بعضها مؤسس وممنهج نظريا، وبعضها يخدم فقط أهواء عرقية أو قبلية. في هذا الصدد تتصدر المسألة الأمازيغية واجهه النقاش. كيف تنظرون إلى ذلك؟ ما هي آفاق حل هذه المسألة في رأيكم؟

محمد عابد الجابري :

 الواقع أننا أحيانا نتسامح على صعيد اللغة، فنقع في مشاكل بسبب التساهل في استعمال الكلمات. تحدثت عن ما أسميته بـ "المسألة الأمازيغية"، فهل هناك حقا مسألة أمازيغية؟ هل هناك مشكلة، وما هي؟ أنا أمازيغي، ولم أتعلم العربية إلا في الثانية عشرة من عمري، ومازلت أتكلم أمازيغية بلدتي بطلاقة. إذا ذهبت إلى الجبل، أو إلى الصحراء عند الأمازيغيين وسألتهم عن مطالبهم فإنهم سيقولون لك مثلا: "إن القائد ظلمنا"، أو "نحن محتاجون  إلى الماء والكهرباء والشغل" الخ. يقولون ذلك بالأمازيغية أو بالعربية. لا فرق. ولكن لا يخطر ببال أحد منهم أن يتحدث عن "المسألة الأمازيغية". يجب أن نتفق حول ماهية "المسألة الأمازيغية". عندنا أربع لهجات أمازيغية أساسية تتفرع عنها ثلاث لهجات أخرى. أنا أريد أن أعرف ما هي هذه "المسألة الأمازيغية". هل هي في تعدد اللهجات الأمازيغية؟ وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدث عن مسألة توحيد هذه اللهجات في واحدة، هذا مجرد افتراض.‍‍ هذا من جهة ومن جهة أخرى ليس هناك أي شعور من طرف الأمازيغيين لا بالتهميش ولا بالإقصاء من طرف من هم ليسوا أمازيغيين، فهم يشكلون الأغلبية، منهم من تعرب كليا ومنهم من تعرب جزئيا. وهناك ظاهرة لابد من ملاحظتها فالأمازيغي من الجنوب مثلا لا يتزوج من الأمازيغين في الشمال أو الوسط بل يتزوج ويتاجر ويتعامل مع جيرانه العرب أو المستعربين في المدن، كفاس ومكناس والرباط الخ.

ربيعة ريحان:

هل من الممكن لمعلم أن يذهب إلى الجبل حيث تسود الأمازيغية التي لا يعرفها إطلاقا؟

محمد عابد الجابري :

هذه ليست "مسألة أمازيغية". هذه مسألة تخص إدارة التعليم، وتعيين المعلم المناسب في المكان المناسب. في عصر الموحدين كان القاضي الذي يعين في المناطق التي تتكلم الأمازيغية يشترط فيه أن يعرف هذه اللغة حتى يفهم ما يقوله المتداعيان بدون حاجة إلى مترجم.

ربيعة ريحان :

من ضمن مشاكلنا التعليمية هناك تهميش مادة الفلسفة. فمنذ بداية الثمانينيات تم تهميش الفلسفة في التعليم الثانوي والعالي بهدف إسكات صوت المعارضة في صفوف الطلاب. وكما قلتم سابقا في أحد الحوارات، وأكدتم ذلك، فإن قرار التهميش كانت وراءه أمور تنتمي إلى عالم التجارة واستغلال النفوذ في الكتاب المدرسي، واتخذ العداء للفلسفة ذريعة لإخفاء الدوافع الحقيقية، هل يمكن تقديم توضيحات في هذا الشأن؟ وهل نزعة التطرف السائدة الآن في الساحة الطلابية أحد أسبابها غياب الفلسفة التي تعلم العقلانية في التفكير والحوار والتحليل؟

محمد عابد الجابري :

 فيما يتعلق بجانب "التجارة" لن أعلق عليه، لأن المعني بالأمر يعرف ما جرى. والمسألة تقادمت، وكل شيء معروف ولا حاجة لبعث مثل هذه الأمور. أما فيما يتعلق بالفلسفة والعقلانية، فيجب توضيح ما يلي. ما هي الفلسفة في الثانوي؟ هي مادة تضم علم الاجتماع وعلم النفس والمنطق ومناهج العلوم والأخلاق وبعض القضايا الميتافيزيقية. وهذه عبارة عن قطاعات معرفية ضرورية، ليس فقط لفهم النصوص وفكر الآخر، بل أيضا لبناء ذهنية الفرد لكي يتعود على التحليل الموضوعي والمنطقي. فعندما نقول الفلسفة، فإننا نقصد ما ذكرت، إضافة إلى قضايا إسلامية مستلهمة من علم التوحيد، أي علم الكلام، وهي القضايا التي تتميز بقبول الرأي الآخر، إضافة إلى اكتساب نوع من المرونة والنسبية في رؤية العالم والأشياء والنظر إلى الشيء الواحد من زوايا متعددة. إنها قواعد للحوار في نهاية الأمر. ولذلك فالتطرف ظهر بقوة في كليات العلوم وفي الكليات التي فيها القولبة الذهنية.

ربيعة ريحان :

 على مستوى إعلامنا وتواصلنا الذي يمكن أن يخدم الجانب التربوي، نلاحظ طغيان اللغة الفرنسية بشكل كبير في قنواتنا وإعلامنا. ألا يمكن اعتبار ذلك عنفا وإكراها رمزيا وثقافيا لنزعة فرانكوفونية؟

محمد عابد الجابري:

النزعة الفرانكفونية بوصفها نزعة وطنية فرنسية للهيمنة أو للتوسع ليست مطروحة في المغرب، كما أنها لا تشكل خطرا حقيقيا. فالمغاربة وطنيون باللغة الفرنسية أو العربية، وفي الثلاثينات كان قادة الحركة الوطنية من الصنفين معا: بعضهم تخرج من باريس وبعضهم من القرويين.

مليكة مالك :

أستاذ الجابري، أرجو أن تجيبني عن هذا السؤال باقتضاب شديد. لأن وقت البرنامج قد انتهى. كتاباتك عن العقل السياسي العربي تدعو إلى ضرورة القطيعة مع قانون "التملق مفيد للجاه والجاه مفيد للمال" الذي حكم دولة ابن رشد وابن خلدون. ما يقع اليوم، ونحن نؤسس للتجربة الديمقراطية، من إنزال سلطة المال في الانتخابات، يجعلنا نتساءل حول شروط هذه القطيعة التي تدعو إليها. هل من الممكن ولوج الانتخابات المقبلة بمعايير النزاهة؟

محمد عابد الجابري:

 مادمت تريدين جوابا مقتضبا وواضحا أقول لك : "نهار كيبغي المخزن إطلع الشجر في الطريق كيطلع النخل طويل واقف". فإذا أرادوا أن تكون الانتخابات نزيهة فستكون نزيهة. أهم شيء في المغرب هو أن الامتثال موجود في الإدارة وفي مجموع الجهاز الإداري.

انتهى (عن جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، وكانت قد استفرغته من شريط التسيحل ونشرته)