ص1     الفهرس    31-40

ذكرى عبود الغارب..

عبد المجيد شكير

ستصل إلى المكان عينه بكل سهولة.. تذكر.. الباب خشبي كبير، يتوسطه مزلاج نحاسي.. في الأعلى ستلحظ خماسية حديدية صدئة.. ظلت تصد عيون الحساد حتى صدئت.. أطرق الباب بقوة.. بكل ما أوتيت من قوة.. لا تتعب.. ربما سمك الباب يخنق صوت الطرق.. ستجد عجوزا خرساء طرشاء تتوسط الفناء.. هي دائما ثابتة في الفناء تحت النخلة العتيقة.. لم تكن خرساء من قبل.. قيل إن آخر مرة تكلمت فيها وانقطعت هي لما أكلت بلحا لم ينضج بعد من النخلة التي تجلس تحتها.. ومنذ ذلك الحين ظلت تجلس تحت النخلة تنتظر أن تينع البلحة في جوفها وتنفك عقدة لسانها.. دعك منها، اتركها لنخلتها وبلحها.. ستجد بابا أصغر عليه نقوش فوضوية جدا كعبث طفل متمرد وعصبي.. حين تفتحه ستسمع صريرا مزعجا تهتز إليه كل الأركان بفعل الصدى الذي يضاعف من حجم فوضى الصرير.. أثبت في مكانك.. سيجلجل الصدى أكثر مما تتوقع.. سيخيل إليك أن ماردا سيبزغ من رحم الأرض.. تقدم خطوتين ونصف الخطوة.. ركز بصرك على الركن الأيمن في اليسار.. سيبرق في العتمة صندوق فولاذي مستطيل.. سيشع بلمعانه حتى يضيء الركن الأيمن ليسار الغرفة الصغيرة.. لا قفل عليه ولا خماسية.. افتحه بكل ما أوتيت من قوة.. قبل أن تفتحه، توقع صريرا أكثر إزعاجا من صرير الباب الصغير ذي النقوش العبثية.. افتحه.. لن تجد شيئا عدا رسالة يتيمة نسيها صاحبها رغما عنه.. اختلطت عليه الطرقات والمسافات والوجوه، فدفنها بخبث شديد في الصندوق الفولاذي المستطيل.. رسالة يتيمة مكتوبة بلون أحمر براق على ورق بردي مزركش.. خطوطها ثابتة رصينة.. أخذ صاحبها كل وقته ليدبجها ويبصمها.. وصف شعوره وشوقه.. وكتب كلاما كبيرا يجر إلى متاهات ضيقة.. وضع نقطة كبيرة للنهاية واستدرك فأضاف "ملحقا".. لم يكن ملزما بإضافته.. لا علاقة للمحلق المزيد بجوهر الرسالة.. شيء ما بين اللؤم والبراءة ألح عليه أن يضيف الملحق، وعنوه بـ"ملحق غير ثقافي".. يعرف جيدا كيف يصطاد العناوين، تلك حرفته.. وضع العنوان وسط الصفحة وحضنه بقوسين متوازيين.. ستجد ما يلي:

"ربما كنت تلومني على برودي وحياديتي تجاه المشاحنات السريعة. فما رأيك بعبود الغارب الذي كاد في لحظة أن يهدم ما بيننا من ود عميق، لقد سرق عاملة فلبينية أعطته فوق جسدها الكثير.. أليس هذا عبود الغارب الذي طالما احتضناه أنا وأنت –ببراءتنا الغبية- (لقد ضحيت بيوم من عملي لكي أوصله إلى المطار على الساعة الرابعة صباحا وأهديته أشياء أترفع عن ذكرها) كيف تريدني أن أكون أمام لخبطة كهذه سوى محتارا ويائسا.."

لا تنس أن تنبهني إذا نسيت أو أضفت أو حرفت شيئا.. امنحني العبارة الكاملة، والتعبير التام.. ماذا؟.. آه، صحيح.. لم يكن العنوان كله بين قوسين.. كتب "ملحق" وحدها وسطر تحتها سطرين، وجاورها بـ"ليس بثقافي" بين قوسين.. صحيح، سطران وقوسان، وكلام فصيح.. اغلق الصندوق الفولاذي المستطيل.. واحفظ ما جاء في الرسالة، خاصة ملحقها الذي ليس بثقافي.. اجمع أنفاسك وصلب خطواتك المتعثرة.. وارجع..

****

ورجعت.. كان الوقت انتحار الشمس في زرقة البحار.. بدأت ظلال النخلة التي تعثرت بها في طريقي تتلاشى.. مزيج من السواد والسكون ينذر بالسقوط.. وحدها العجوز متصلبة عند جذع النخلة تنتظر أن تينع البلحة في جوفها وتستعيد الكلام.. أمسكت على الرسالة اليتيمة بكلتا يدي.. وأصبحت أكثر حيرة من ذي قبل.. لا ملامح أكتشفها لعبود الغارب، هذا الوجه الذي عبر وتنازعته الألسن وتحول لدي إلى لغز محير، وجدتني ملزما بفك خيوطه والبحث عن آثاره..

أشارت العجوز أن أجلس إلى جانبها.. فعلت دون تردد وكلي استعداد لحوار عابر عبر الإشارات.. قطبت في وجهي ونطقت بكل ثبات:

ـ إذا صدقت ما في الرسالة ستتيه كثيرا..

انعقد لساني دهشة، وصرت كما لو أني أنا من أكل البلحة التي لم تنضج بعد.. أصحيح أن تكون عقدة لسانها انفكت في اللحظة التي عبرت فيها؟!..

استقامت العجوز في جلستها، وأرسلت بصرها بقوة ثاقبة تخترق الأرض، وتابعت كلامها غير عابئة باندهاشي، وهي تخط شيئا ما على التراب بعود قش هزيل:

ـ كان يا ما كان.. في زمن بعيد أقرب إلينا من حبل الوريد.. كانت شمسنا على وشك إظلام تام.. ولم نكن قد رشدنا بعد.. يختلط كلامنا الجميل بنوايانا المقيتة.. نستقبل بلسان معسول ونفكر بقلب أسود.. في هذه الأثناء كان عبود الغارب قد سقط بيننا فجأة.. ريح طائشة تضامنت مع سوء طالعه ورمته في مرابعنا.. التحف الحر وانتعل الجبال.. بلع ريقه وصمته، وفجر ضحكة مدوية بانفعالاته الغيورة.. كان يحب ببراءة، ويكره بصراحة.. واعتقد فعلا أن من أحبهم لفوه في دفء أحضانهم التي اعتبرها كاتب الرسالة براءة غبية.. لا وجود لبراءة غبية أو ذكية.. هل تعرف هذا؟.. البراءة تلقائية دون حدود، أما الغباء أو الذكاء فهما نشاط ذهني لا تلقائية فيه.. أعلمت لماذا قلت لك لا تصدق ما جاء في الرسالة؟!.. وحتى ما اعتبره كاتب الرسالة تضحية بيوم عمل من أجل أخذ عبود الغارب إلى المطار فهي لؤم وخسة.. لقد اختار عبود الغارب من أحبهم عن قرب ليكونوا آخر من يودعهم.. أما هو فيعتبر زيارة أحدهم عيدا ويتعطل عن العمل أكثر من يوم، ولا يعتبر ذلك تضحية.. تجده طول الوقت محرجا معتذرا عن كل ما يمكن أن يصدر عنه من تقصير.. يأخذهم من وإلى المطار في حبور شديد..

ـ أتعرفين، يا عمة فعلا، عبود الغارب وأسراره، أم أنها أشياء تطلع إليك من التراب؟!..

ـ …

لم تجب وحدجتني بنظرة شزر عنيفة كادت تقتلعني من مكاني.. لم أتوقع انفعالها.. داريت نظرتها وسايرتها في الحديث:

ـ ما سر الأشياء التي أهداه إياها وترفع عن ذكرها؟..

ـ لم يحدثني عبود الغارب إلا عن كمبيوتر لا يصلح لشيء، ينتمي لقرون ماضية، قبله من باب المجاملة.. وأذكر أنه حدثني عن علبة صغيرة من بخور العود من النوع الممتاز والرائحة الزكية.. وكيس تمر وزعه على جيرانه قبل أن يغادر مرابعنا..

وكانت العجوز في هذه اللحظة قد أمسكت بلحة أشارت بها إلي، قربتها من فمها حتى اعتقدت أنها ستقضمها، ثم سرعان ما تراجعت عن الأمر.. ربما تذكرت أن البلحة ستعقد لسانها من جديد.. هل كان لسانها عاجزا عن الكلام فعلا؟!..

****

ـ أنا لا علاقة مباشرة لي بعبود الغارب.. لم يسبق لي أن رأيته أو التقيته، لقد وجدته شكلا متنازعا بين الألسن، حدثوني عنه فاشتقت أن ألقاه.. كل ما أعرف عنه أنه مر ذات يوم من فخ العنكبوت، قيل مزق خيوطه، وقيل فر منه.. ولكنه مر وترك ملامحه في هذه الصحراء.. علاقتي به أني وطأت المكان الذي شغله قبلي خطأ ولعنة.. تناهى إلى سمعي صخب تمرده، فسألت من تراه مر، فقيل لي: عبود الغارب، آخر عشاق الحياة!!.. فأحسستني، لحظتها، وجعا آخر سقط في الفخ، وحل بذات المكان المملوء بالليل والموت ورائحة تمرده.. أعرف أنه الآن في مكان آخر، وربما زمان آخر.. في مدينة الرقص والأغنيات والليل المرتعش، يثأر لنفسه من الزمن المكتظ بالقلق ووجع العناكب والصراصير الشرسة.. لهذا عشقته.. عشقت عبود الغارب.. وتتبعت آثاره لعلي أعثر على ملامح هذا الطيف المتمرد الذي مر من هنا..

كانت العجوز تتطلع إلي باهتمام شديد وأنا أتحدث عن عبود الغارب، ثم أطرقت أكثر مما توقعت حتى اعتقدت أن لسانها انعقد مرة أخرى.. بعد طول إطراق خرجت من صمتها.. عدلت جلستها، وخاطبتني بنبرة مغايرة.. جاءني صوتها كما لو كنت في حلم، أو أن عرافة تجلس أمامي تجلي غيبا كان مستورا..

ـ عبود الغارب كان فظا شرسا بلغته ومواقفه من واقع آلمه وآلمنا أيضا.. بحث عن شكل يشبهه فلم يجده.. حاول أن يكون في هذا الفخ ففشل.. ضاق به المكان حتى خنقه.. وتقلصت الوجوه فلم تسعه.. كلمة واحدة ظلت تتردد بين الأودية والجبال والحفر والرمال هي لا.. وعبارة كان يحلو له أن ينحتها كلما دخل في صمته: "بلد تمطر فتنبت صخورا ناتئة"، وكانت تلك جملته الأخيرة التي نطقها قبل أن يغادر مرابعنا دون رجعة..

ـ هكذا قالت لي الجدران التي احتضنته، والناس الذين عاشروه.. وهذه العبارة وجدتها في أكثر من مكان.. بلعت العجوز ريقها، وقد بدا أن الحكي قد أرهقها، وذكرى عبود الغارب قد آلمتها.. نظرت إلي بريبة، واستأنفت:

ـ أراك يا بني على خطى عبود الغارب، أو أنك توشك أن تركب طريقه.. لكن ترددك كبير..

اخلع عنك ترددك أو اترك سيرة عبود الغارب إلى الأبد.. قد تفصلك عنه سنون ضوئية.. لا تصدق ما جاء في الرسالة.. فأرضنا لا تنبت الصخور الناتئة فحسب، إنها تمطر الأقاويل أيضا.. وعلى العموم، إذا ما كتب لك لقاء عبود الغارب، فاخبره أنه ضعيف في التاريخ والجغرافيا حتى لا يعرف هذه الأرض، كان يجب أن يمر من مكان آخر غير هذا المكان.. والأمكنة كثيرة!!

أشاحت العجوز بوجهها عني، ورمت بلحة في جوفها.. ففهمت أنها أقدمت على صمت طويل إلى حين أن تنضج البلحة من جديد..

****

رجعت أدراجي حيث الباب الصغير ذو النقوش الفوضوية.. فتحته.. سمعت صريرا مزعجا اهتزت له كل الأركان.. ثبت في مكاني.. خيل لي أن ماردا سيبزغ من رحم الأرض.. تقدمت خطوتين ونصف الخطوة.. ركزت بصري على الركن الأيمن في اليسار.. برق في العتمة صندوق فولاذي مستطيل.. أشع بلمعانه حتى أضاء الركن الأيمن ليسار الغرفة الصغيرة.. لا قفل عليه ولا خماسية.. فتحته بكل ما أوتيت من قوة.. قبل أن أفتحه توقعت صريرا أكثر إزعاجا من صرير الباب الصغير ذي النقوش العبثية.. فتحته.. لم أجد شيئا.. وضعت فيه رسالة يتيمة كانت في يدي خطأ.. وضعتها بعناية شديدة حتى لا يشك صاحبها أن أحدا غيره اطلع عليها.. وإمعانا في الاحتياط، قررت نسيان ما جاء فيها.. عبرت الفناء من جديد.. كانت العجوز صامتة شاحبة كأي امرأة تعرف كيف تعزف وجعها على وتر مفقود.. عبرت الباب الخشبي الكبير.. تأملته.. كان يتوسطه مزلاج نحاسي.. في الأعلى خماسية حديدية صدئة.. ظلت تصد عيون الحسد حتى صدئت.. مسحت ذهني من كل شيء وغادرت.. في منتصف الطريق راودني إحساس أني رأيت شيئا منقوشا على الباب الخشبي الكبير.. كأني قرأت اسم عبود الغارب عليه.. أو كأني رأيت عبارته المشهورة "بلد تمطر.." .. أو كأني رأيتهما معا.. قررت أن أعود إلى الباب وأتأكد.. لم يكن هناك باب ولا عجوز ولا نخلة.. لم أجد غير مكان مملوء بالليل والموت ووجع العناكب والصراصير الشرسة..