الرواية في
ضوء الحقل الثقافي العربي
عبد الكريم جمعاوي
إلى أي شيء يذهب بنا
التفكير حين نريد أن نتحدث عن الثقافة؟ هل إلى ذلك التراكم المعرفي عبر الزمن؟ إلى
هذا الرصيد الشامل من التراث؟ إلى تلك القيم والمفاهيم وقد تم تجريدها في قوالبها
وتاريخها ودلالتها النهائية، أي وهي منظومة من الأفكار لها حيزها الزمني؟
إن مثل هذه
المعطيات قد تلتقي في عصر ما وإن دون تراتبية أو اتساق يجمعها، خاصة حين تجد ذهنية
قادرة على ترتيب هذه الصيغ أو مناخا سياسيا اجتماعيا يهيء لها ظروف الازدهار. لكن
الوعي بجدلية الزمن المستمرة نحو التغيير ظل مغيبا إلى وقتنا الحاضر على اعتبار أن
الممارسة الفكرية ظلت فوقية أكثر منها مساءلة للواقع والزمن الحاضرين. وعليه
فالثقافة قد تكون بمثابة إجابات لمجموعة بشرية في زمان ومكان ما، وهذا الأمر يضم
جميع شروط الحياة بدءا من الأمور الصغرى نحو الكبرى.
والثقافة في
التعريف الاجتماعي هي "انعكاس للعمل الاجتماعي الذي يبذله شعب من الشعوب
بكافة فئاته وطوائفه، ومظهر لما يتضمنه هذا العمل الاجتماعي من علاقات متشابكة،
وجهود مبذولة واتجاهات"
[1]. فالدين
والعوامل الاقتصادية والجغرافية والجنس.. هي الأنوية الفعلية لقيام الثقافة في
مجتمع معين. إنها في الحقيقة صفة أساسية من صفات الإنسان، أي إنسان! أميا كان أو
حاصلا على أرقى الدرجات العلمية، مثقفا أو غير مثقف.
فالثقافة
"رؤية عامة إلى الحياة والمجتمع تتجسد في السلوك الفكري والوجداني والأخلاقي
والذوقي للإنسان عامة"[2].
وعليه فإننا نعيش لا محالة في مجتمع زاخر في تصوراته وسلوكه وعاداته وأذواقه
بثقافات متنوعة نابعة من ملابسات اجتماعية شتى.
وعموما فإن
العمل الثقافي هدم وبناء يتجه وجهة استنبات القيم التي تتلاءم ومبادئ المجتمع
الجديد، فهو صراع ينشب في المجال النظري ومجال الأدب والفن وكذا العلم والتعليم
وأيضا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والأخلاقية، إنه صراع النسيج
الكلي للحياة الاجتماعية (مثقفين، مواطنين عاديين ومؤسسات) وهو صراع أيضا هدفه
تغيير المجتمع وتغيير الإنسان.
ومن الوجهة
التاريخية ثمة ازدواجية منذ عصر "النهضة" العربية: الانفتاح على الغرب
من جهة، والدعوة القومية من جهة أخرى. فقد يؤرخ، انطلاقا من غزوة نابليون، لانطلاق
المقارنة مع الآخر، حيث الرغبة الملحة للخروج من التخلف، ثم بعد ذلك، أي بعد أن تم
اكتشاف أشياء أخرى من الحضارة الغربية، وانقسم الطليعيون العرب المحروقون بنار
التخلف إلى قسمين: "الأول يحاول التجديد من ضمن المعطيات التراثية (الأفغاني،
عبده) بدعوته إلى فتح باب الاجتهاد لكي يتسنى للعالم أن يؤول التعاليم الإسلامية
تأويلا جديدا يتلاءم مع روح العصر(...) أما الفريق الثاني فتبنى الاشتراكية
والعلمانية، مثله خير تمثيل في أواخر القرن الكاتب شبلي شميل الذي كان أول من عرف
بنظرية النشوء والارتقاء الداروينية.."[3].
اقتصرت
الفئة المثقفة العربية عموما على الانبهار بالعلوم الغربية، إلا أن هذا لا يقلص من
الدور الإشعاعي الذي قام به الأشخاص الذين هاجروا من البلاد. غير أن مثل هذا الدور
كانت فعاليته محدودة وذلك بسبب التدهور العام في ظل الخلافة العثمانية. ينضاف إلى
ذلك الدور الإيجابي الذي لعبه المستشرقون في التعريف بالتراث العربي.
والملاحظ أن
هناك فنونا جديدة دخلت الميدان الثقافي العربي مثل المسرح والرواية والسينما
والفنون التشكيلية.. وقد كان التعامل معها في البداية تعاملا مقبولا. وفي خضم
الفوضى التاريخية الغربية ووسط محاولة هدم دعامات البنيان القديم ووسط التمزق
العربي سياسيا، كانت الطلائع الثقافية العربية تسير في خط مواز للخط الأول، فردي
وجماعي، التزامي وحر، قومي وأممي، وطني وإنساني[4].
لكن توالي
الأحداث السياسية في العالم العربي مثل المشاركة في الحربين العالميتين والثورات
التحررية، إضافة إلى هزيمة العرب في فلسطين أمام إسرائيل، كل ذلك وضع حدا فاصلا
بين تارخين: سياسي وثقافي.
تمثل الجانب
السياسي في انطلاق سلسلة الانقلابات العسكرية للتعبير عن رفض السياسة ذات المميزات
التقليدية، وأما الثقافي الذي يتمثل في الشعر لدى العرب فقد "تم للمرة الأولى
الكسر النهائي للبيت الشعري وللعمود الذي حمله قرونا (…) إنها المواجهة بينه وبين
نفسه منظورا إليها من كل جانب وكذلك بينه وبين التركيبة القائمة بشروطها البائسة
التي لا تتناسب مع وهم الاستقلال المكتسب"[5].
وكان
الإنتاج الثقافي العربي الحديث قد بلغ قمته التعبيرية بعد الخمسينات، كما لعب دوره
في التقدم الاجتماعي والسياسي على سلم التحرر وإن لم يبلغ الغاية المطلوبة حيث إن
الصورة التي كان عليها العمل الثقافي كانت تتم "في صورة صراع فكري ومعركة
ثقافية. إنه هدم وبناء. نقتلع القيم المعنوية والسلوكية المعوقة لحركة التقدم،
وننمي القيم الأصيلة المعبرة عن الملامح القومية للمجتمع، ونستنبت القيم الجديدة
التي تتلاءم ومبادئ المجتمع الجديد"[6].
وثمة معارك
فكرية واجهت الأنظمة الرجعية العربية من طرف المثقفين، كانت تمس الجوانب السياسية
والاجتماعية والأدبية والفنية، إلا أن قوتها كانت محدودة. وكانت هذه المواجهات من
مدارس فكرية متباينة مثل الإخوان المسلمين والماركسية والوجودية والوضعية
والبيرجسونية والديكارتية والعقلانية عامة.
هذا النوع
من المعارك كان مقتصرا على مجال المثقفين وحدهم، لم يلتحم مع فئات الشعب العريضة،
وكان بعيدا عن همومها، بل إن بعضه التحم بالمجال السياسي والاجتماعي التربوي فأدى
ذلك إلى انقسام مجتمعهم الثقافي. بكلمة واحدة، فإن هذا التشتت كان وما يزال يشكل
سمة من سمات الفكر العربي الحديث، حيث "أدى انهيار القناعات الأولى القومية
والاجتماعية إلى التسيب العام وسيطرة ثقافة التغريب البائس والرث والشكلي التي ليس
لها من الغرب إلا المظهر، ثقافة الإشباع الفردي الرخيص والوهمي للرغبات المكبوتة
المادية والجنسية والروحية"[7]..
وتم استبدال الآداب بترهات فلكلورية سطحية صيغت لترضي السائح الأجنبي قبل أن ترضي
النخبة المحلية المثقفة التي تعيش نوعا من الغربة.
وبذلك فالحديث
عن الثقافة العربية إنما يجب التأكيد فيه على الأزمة داخل هذه الثقافة، وهي أزمة
ليست وليدة اللحظة وإنما تمتد "في عمق التاريخ الحديث، تاريخ الأزمة الواقعية
التي تعيشها المدنية العربية ذاتها بما هو استبعاد الجماعة من ساحة المبادرة
والفعل والمشاركة الحضارية العالمية. فهي بنت الحاضر أولا، وهي بنت الحداثة ثانيا
وهي ثمرة القطيعة بين الحاضر والماضي أو الذات من جهة، وبين الواقع العربي والواقع
العالمي-الحضاري من جهة ثانية"[8].
فهي إذن جزء من أزمة الفعل العربي. والخروج منها يتطلب التحلي بحوارية المعارف
المتعددة والمستقلة بذاتها. فقد رأت الرواية النور "في حقل ثقافي تلقيني
مسيطر(…) قوامه سلطة النص الديني المؤول ملحميا، بلغة باختين، وسلطة البلاغة
المؤولة دينيا"[9].
فقد كان النص الديني مرجعا شموليا للعالم له السيطرة المطلقة على جميع
الإيديولوجيات النظرية والعلمية في آن، دون أن يكون هناك حوار بينه وبين جميع هاته
الإيديولوجيات مكتفيا في ذلك بالدفاع عن اللغة والدخول في نقاشات مجردة لا علاقة
لها بالتاريخ. وعليه فإن وضع الرواية العربية يتطلب بالضرورة عدة عناصر، من شأنها
أن تشرح قيام الرواية في ظروف أو شروط لا ترحب بها كما ينبغي. وذلك مثل تجاوز
القطيعة وتحرير الفعل. يقول محمد عابد الجابري: "يوجد بيننا من جمعوا بين
"العالم" الثقافي العربي و"العالم" الثقافي الغربي، فصار
لدينا نوع من الازدواجية، أو تعدد العوالم الثقافية داخل الفكر العربي بوصفه
مضمونا، وتعدد الأجهزة المفكرة في إطار الفكر العربي بوصفه أداة للتفكير"[10].
ثم إن أزمة
الكتابة كما يقول إلياس خوري، هي جزء من الأزمة العامة، وجزء من انهيار النخبة
الحديثة. وإن كانت تحمل خصائصها ومشكلتها الخاصة "فالواقع الجديد، واقع
الصراعات، الحروب، والحروب الأهلية، والدمار الاجتماعي هو نص جديد كليا. لم تعد
النماذج الجاهزة بقادرة على استيعاب حركة الواقع الجديدة، فمع تحولنا إلى مركز
الصراع، يتحول الصراع ويتخذ شكلا. شكل المجتمعات التي تكرسها العلاقات
الاستعمارية، والتي تحاول في انكسارها كسر هذه العلاقات"[11].
وهناك اختلال ثقافي على المستوى العربي فيما بين المثقفين
سواء المتفتحون على الفلسفة الماركسية أم الليبراليون، أم الآخذون بالمعاصرة، أم
أولئك الذين يحملون فكرا "ماضيا" فليس ثمة انسجام بين جميع المثقفين
سواء منهم الذين يفكرون وينتجون فكرا أم الذين يعيدون إنتاجه. وغياب هذا الانسجام
في الثقافة العربية هو الأزمة عينها.
ويذهب
الجابري إلى حصر تجليات هذه الأزمة في ثلاث نقاط هي:
أ – عدم وجود تزامن ثقافي بين جميع الذين يقرؤون وينتجون كلاما يدخل في
الثقافة العربية.
ب – تعدد
العوالم الثقافية (تعدد السلطات المرجعية للمعرفة).
ج – غياب وحدة الأداة المفكرة أي تعدد المفاهيم وتعدد أنواع المنطق داخل
الثقافة العربية[12].
هناك عجز
للمؤسسات الأدبية والفنية على استيعاب الجهود الأدبية والفنية كلها، وقلة مجالات
النشر، واختفاء النقد، وتحوله إلى فنون أخرى كالسينما والمسرح والتلفزيون، وهذا
كان كافيا للتأثير سلبا على المناخ الأدبي.
ينضاف إلى
ذلك تلك الوجهة المطلوب من الأدب الاهتمام بها بدل الاهتمام بالأسلوب الكتابي، أي
توجيهه نحو أسلوب العيش. وهنا تظهر سخرية سلامة موسى من الاهتمام بالأسلوب الكتابي
إذ أن "الأديب التقليدي يعنى مثلا بأسلوب الجاحظ الكتابي فيحتذيه، ولا يعنى
بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينقده ويطلب إصلاحه وهو يكتب عن العرب وتاريخهم
ومجدهم، ولا يكتب عن مصر ونكباتها الحاضرة، وما تعانيه من مظالم اقتصادية أو
سياسية أو اجتماعية"[13].
فما يتوجب على الأديب من وجهة نظر سلامة موسى هو أن يكتب للشعب بلغة الشعب وأن
تكون شؤون الشعب موضوعات دراسة اهتمامه، إضافة إلى مجموعة شروط أخرى يفترضها في
الكاتب كأن يكون له مقام المعلم وأن تكون له رسالة، وأن تكون نظرته إنسانية[14].
بل إن الأدب الرفيع عنده إنما هو التنقيب عن معنى الحياة ودلالتها، أي البحث عن
طبيعة الكون، إنه أدب الأفكار.
وسوف نعمد
إلى ذكر مبادئ أساسية ليس قصد التوسع فيها أو تحديد مدلولاتها وأبعادها، ولكن فقط
لتبيان أثرها في استفزاز المبدعين والروائيين منهم بالخصوص، والنظر بالتالي إلى
ردود أفعالهم وإظهار ذلك على مستوى الإبداع:
فقد كانت
الدعوة واضحة إلى التحلي بمبادئ يعتبر الانزياح عنها بمثابة اعوجاج عن طريق
النجاح، وتتمثل هذه النقاط أساسا في مبدأ الالتزام لأنه طريق أي نجاح[15].
ثاني مبدأ
كانت المناداة جارية عليه هو مبدأ الواقعية لأجل تكييف تصور المبدعين والنقاد
للأدب وكذا لوظيفته. ولأجل ذلك جاءت أصوات منادية من مثل محمود أمين العالم[16].
الارتباط
والعضوية، وهو مبدأ آخر أملى على الكتاب المبدعين ضرورة الالتحام العضوي بمخاضات
وهموم العالم العربي وتطلعاته، حيث أن الأدب فيما ينبغي أن يكون عليه إنما هو
السعي إلى الارتباط ببيئته والتعبير عنها إبان مرحلة تاريخية معينة[17].
وما كان على الروائي سوى الانصياع لشعارات دعاة الارتباط والعضوية.
إن المبادئ
السالفة الذكر تحتم العناية الكبرى بالمضمون والموقف الذي على الأديب اتخاذه، ثم
الرسالة التي عليه أن يؤديها على أحسن وجه، خصوصا ونحن نعلم الجو الثقافي العام
الذي تتحرك فيه كل هذه المبادئ (انتشار الفكر الاشتراكي، تصاعد الوعي القومي،
إضفاء الطابع الثوري على الأدب، وذاك الصراع الدائر بين أنصار القديم وبين دعاة
الجديد). ومن هنا كان على سلامة موسى، على سبيل المثال، أن يدعو إلى الإعلاء من
شأن المضمون الفكري والإيديولوجي للعمل الأدبي على حساب الشكل الفني[18].
وبالمقابل
هناك من لا يرى ثمة أزمة في الثقافة العربية، وإنما هي إزاء مسؤوليات كبيرة، ولا
يتطلب منها أكثر من ذلك. ولا يجب علينا أن نجلد الثقافة بالسياسة لأنه كلما
"وصلنا إلى مرحلة الاختناق السياسي شتمنا الثقافة، وشتمنا المسرح والشعر
واللغة"[19].
فسمات التخلف كثيرة وظاهرة على ثقافتنا العربية، إلا أنها لا يجب أن تقف حجر عثرة
أمام استمرارية الثقافة الأصيلة وهي تؤدي مهمتها، حيث لا ثقافة وحيدة هي المهيمنة،
فهناك ثقافة السلطة السائدة.. وهناك الثقافات الشعبية المتنوعة الراسخة والمؤثرة.
لكن ما يشوب الثقافة العربية عموما هو التجزيئية والخرافة والاستلاب.
وكثيرا ما
اتهم الفكر العربي المعاصر بالعجز والجهل والتبعية والانسحاق، فهو لا يتحلى بخصائص
ذاتية ولا يعانق القضايا الكبرى التي من شأنها أن تكون ذات فائدة[20].
إلا أن هذا لا يعني أن المثقف العربي لزم الرضوخ، بل كان رد فعله طبيعيا حيث نجده
في بحث دائم لمعانقة القدرة الفنية المبدعة لديه مع معاناته في حياته اليومية، أو
اتخاذ هذه الأخيرة منطلقا وحافزا للتعبير الإبداعي الخلاق.
وعلى
المستوى الأدبي، والروائي منه بالخصوص، ما كاد حصار البلاغيين ينتهي على مسار
الكتابة الروائية، حتى ارتفعت أصوات الواقعيين الجدد وإن جاءوا عن طريق الكتابات
الصحفية منطلقاتهم هي الماركسية، تلا ذلك ضغط الثقافة الوجودية طيلة عقد الستينات.
وكان أن بدأ
العالم العربي يعرف بعض التغيرات منذ الحرب العالمية الثانية، مثل تأكيد المدينة
لوجودها الإنتاجي والثقافي وكذا الأحزاب السياسية التي تعكس الواقع ومشكلاته
واحتمالات مستقبله، إضافة إلى تقسيم فلسطين وثورة مصر وهزيمة 1967، ودخول أمريكا
كقوة فاعلة في المنطقة. أمام هذا كله ظهرت الكتابة الروائية العربية متفرقة
الاتجاهات والأساليب. ولم يتميز من بين كل الأقلام التي كانت تمارس الكتابة غير
أقلام كان لها وعي أعمق بالواقع ولم تدفعهم الظروف إلى التخاذل. لكن
"الروائيين لم يتعاملوا مع الظرف وحده على أساس الطرف الداعي للحوار أو
للتفاعل، للاختلاف أو للائتلاف، بل غالبا ما جاءت الثقافة ذاتها ضاغطة عليهم
أيضا"[21].
أمام هذا
الوضع السيء يشعر المثقف العربي بعدم القدرة على التعبير بطريقة اعتيادية عن طاقته
أو محنته أو حتى عن علاقته مع نفسه ومع الآخرين.
لكن
بالمقابل قد يقرر آخرون خرق التزاماتهم إزاء السرد وتقاليده، ويعبرون عن مدى ضغط
الواقع عليهم فيؤكدون من ضمن كتاباتهم عدم اهتمامهم بالقالب السردي ما داموا غير
ملزمين بإعلان أنفسهم روائيين[22]،
واستمرت الرواية العربية في الظهور دون أن يختفي النمط التقليدي، ورغم هذا كله لم
تحقق الرواية أية مكانة لنفسها خارج سياق الاعتراف والسيرة الذاتية والتمرد الحاد،
"لكنها تضيف شيئا جديدا لقضية الوعي بالرواية بصفتها جنسا أدبيا: فعندما
يبتدئ الروائيون بمناقشة أنفسهم وتفحص الواقع نكون قد مضينا شوطا بعيدا لا في نقل
الواقع بل في ملاحظته ومناقشته وفرض رؤية عليه"[23].
إنه الطريق الأمثل للسير بالرواية العربية نحو رحاب الثقة بالذات وتكوينها والوصول
إلى العالمية.
أمام هذا
الأمر الواقع كان على كتاب الرواية الانقطاع عن نمط الكتابة المعهود الذي تطغى
عليه النزعة التاريخية والنزعة الرومانسية الحالمة، أو اختيارهم الصمت، أو تحولهم
إلى كتابة روائية واقعية وملتزمة. والملاحظة أيضا هو ذاك التقارب أو التوافق
الضمني بين نقاد هذه المرحلة وروائييها (عبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ..).
وفي مقابل
ذلك، نجد الأدب الطلائعي يقوم بدور مزدوج: انتقاد القديم والسائد وابتداع الأشكال
والصيغ والأسئلة التي تحفز المخيلة والإرادة لتشييد الجديد. ومثل هذا العمل مشروط
بتوفر الديمقراطية باعتبارها الضمانة التي تدعم الديمقراطية الثقافية لأن هذه الأخيرة
"تلغي التقسيمات المقصية لـ"الهوامش" الاجتماعية عن
"جسد" المجتمع "السليم" وتخلخل مركزية الخطاب الثقافي الرسمي
لصالح الأفكار والرؤى والمساهمات الموجودة لدى كل الفئات والطبقات المهمشة
والمبعدة قسرا عن مجال التفاعل والإبداع"[24].
ولذلك يعمد
محمد برادة إلى تسجيل ملاحظات في تعيين أفق الإنجازات المستقبلية المحتملة فيحددها
في كون:
ـ النماذج
الروائية العربية الناضجة أكدت إمكان قيام رواية عربية في غياب الشروط التي يسرت
ظهور الرواية البورجوازية خلال القرن التاسع عشر.
ـ استطاعة
بعض الروائيين جعل الرواية مرصدا لاستجلاء إواليات المجتمع خلال مرحلة معينة.
ـ مع بداية
الستينات بدأ يتبلور مفهوم جديد للأدب ولوظيفته وعلائقه بالواقع والأيديولوجية،
وهذا التغيير في مفهوم الأدب يحرره من علاقة التبعية للسياسي، ويعيد للنصوص قيمتها
الذاتية التي تجعلها مميزة عن باقي الخطابات[25].
وبالفعل قد
تطرح قضية الموقف إزاء ممارسة تقارب القرن بسلبياتها وإيجابياتها، من مختلف وجهات
النظر. لكن الأساسي هو الاعتراف بأننا نعيش "الهزيمة" الشاملة لكل
الأصعدة، ومن هنا تطرح قضية كيفية التعامل والعمل في الواقع وانطلاقا من أي وعي؟
فالكاتب
يقوم بنشاط أكثر حساسية من الآخرين وهو أكثر قابلية للانفعال والتوتر، كما يتميز
بالقدرة على ضبط هذا الانفعال والسيطرة عليه وإلا مرض مرضا عصبيا أو نفسيا وعلى
هذه الصورة يتحول انفعاله إلى حس عميق. إنه دائم المراجعة لقيمه وما يدور في إطاره
الاجتماعي. وبذلك فالكاتب الكبير لا يكتفي بتصوير مجتمع من المجتمعات في حالة سكون
لأن مثل هذه الرؤية لا تقدم جديدا. يقول عبد المحسن طه بدر: "كما يعد موقف
أديبنا العربي من الثقافة الأجنبية المتفوقة مسؤولا عن عجزه عن الإحساس العميق
بواقعه، فهو لا يتقدم من هذه الثقافة من موقف من يريد استخدام خبرتها ومناهجها
كعوامل لإخصاب تجربته، تمنحه قدرة أكبر على تحليل واقعه، ولكنه يتقدم منها من موقف
الخاضع والمستسلم الذي يرغب في تبنيها تبنيا كاملا"[26].
وبذلك فالمعول عليه هو الدفع بعجلة الواقع، في أبعاده المتعددة، نحو الأفضل وليس
الاكتفاء بالانبهار لما وصل إليه الآخر.
وسيرا مع
الزمن، فإذا كانت حقبة الستينيات من القرن الماضي قد شهدت آمالا عظيمة وإخفاقات
فاجعة، وشهدت تغيرات عميقة المدى في العلاقات الاجتماعية غير مسبوقة في التاريخ
الحديث للمنطقة العربية، فإن عقد السبعينات "عرفت فيه البلاد العربية سيادة
"القيم" الاستهلاكية المتصاعدة، وانحصار الإيديولوجيات والممارسات
"الاشتراكية" على السواء ونزيف القول، وانفجارات العنف الطائفي بين
الحين والحين، وإعادة توكيد الأصولية الإسلامية، والتضخم المستشري في كلا
الميدانين المالي والروحي، وتدهور الموارد المادية والمعنوية على السواء وغير ذلك
من هزات سياسية واجتماعية واسعة النطاق"[27].
غير أن انهيار ذاك "الواقع" القومي والاجتماعي بهزيمة 1967 أدى إلى
استحداث هذه الاتجاهات التي حلت محل المنحى الواقعي القديم.
بكلمة واحدة، أصبحنا
نعيش مرحلة مخاض فني، وذلك بعد أن تغيرت التجارب الاجتماعية على نحو مذهل. فتبين
للأدباء أن فلسفة الأدب الحديث، سواء في إطاره الثوري أم القومي، لم تعد تستجيب
لمتطلبات الواقع العربي من الناحية الفنية، فانبروا يتأملون الواقع الجديد بكل
تعقيداته وتشابكاته وظواهره الظاهرة والخفية، مستبطنين أثناء ذلك حياتهم الإبداعية
في تجاذب مع ما تحبل به الساحة الثقافية العالمية، وتراكمات التراث الأدبي العربي
بهدف ارتياد آفاق غير مسبوقة، وتأصيل الفن الروائي العربي، وقد كان للواقع النقدي
دور في ذلك تحفيزا أو تمردا.
[1] - محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس: في الثقافة المصرية، دار
الأمان، الرباط، ط2، 1988، ص17.
[2] - محمود
أمين العالم: الثقافة والثورة، دار الأدب، بيروت، ط1، 1970، ص163.
[3] - عصام
محفوظ: الرواية العربية الطليعية، دار ابن خلدون، ط1، 1982، ص8-9. أنظر
أيضا نفس الرأي عند إحسان عباس (الاتجاهات الفلسفية في الأدب العربي المعاصر)، مجلة
الآداب، ع3، 1962، ص12 وص81. وانظر كذلك نبيل سليمان وبوعلي ياسين في كتابهما:
الأدب والإيديولوجية في سوريا. دار ابن خلدون، ط1، 1974، ص..-96.
[4] - عصام
محفوظ: الرواية العربية الطليعية، م.م، ص13.
[5] - عصام
محفوظ: الرواية العربية الطليعية، م.م، ص15.
[6] - محمود
أمين العالم: الثقافة والثورة، م.م، ص164.
[7] - برهان
غليون: الوعي الذاتي. منشورات عيون، الدار البيضاء، ط1، 1987، ص13.
[8] - برهان
غليون: الوعي الذاتي، م.م، ص96.
[9] - فيصل
دراج: (وضع الرواية العربية في حقل ثقافي غير روائي)، مجلة الطريق، عدد 2،
ص57، 1998، ص97.
[10] - محمد
عابد الجابري (أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر)، مجلة فصول، الجزء
الأول، المجلد الرابع، العدد 3، 1984، ص204.
[11] - إلياس
خوري: الذاكرة المفقودة، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 1982، ص42.
[12] - محمد
عابد الجابري (أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر)، م.م، ص206.
[13] - سلامة
موسى، الأدب للشعب، 1955، ص6.
[14] - انظر
سلامة موسى، الأدب للشعب، ص9. وانظر أيضا كتاب جلال العشري ثقافتنا: بين
الأصالة والمعاصرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، الصفحات، 19-20-21.
وأيضا كتابات محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، وبوعلي ياسين ونبيل سليمان في الأدب
في سوريا.
[15] - انظر في
هذا الصدد كلام محمود أمين العالم: الثقافة والثورة، م.م، ص54. وسلامة
موسى، الأدب للشعب، م.م، ص79. وكذا كتاب محمود أمين العالم وعبد العظيم
أنيس في: في الثقافة المصرية، م.م، ص28.
[16] - انظر الثقافة
والثورة، الصفحتان: 96-213 على سبيل المثال.
[17] - انظر
سلامة موسى: الأدب للشعب، م.م، ص33.
[18] - انظر سلامة موسى المرجع أعلاه، الصفحات: 16-22-23-70-98. وكتاب محمود أمين
العالم: الثقافة والثورة، الصفحات: 259-328-329. وكذا كمال أحمد زكي: دراسات
في النقد الأدبي، ص150.
[19] - نصري الصايغ: (أزمة الثقافة العربية المعاصرة) مجلة المعرفة، ص20،
عدد 232، 1981، ص199.
[20] - وقد عبر
عن هذا الرأي، أيضا، كل من أدونيس في مجلة الآداب عدد: 8-9، 1967، وكذا
محيي الدين إسماعيل في مجلة الآداب، عدد 3، 1968.
[21] - محسن
جاسم الموسوي: الرواية العربية، النشأة والتحول، الهيئة المصرية العامة
للكتاب، 1988، ص108.
[22] - انظر على
سبيل المثال أحمد المديني في روايته: وردة للوقت المغربي، دار الكلمة
للنشر، ط2، 1983، ص80.
[23] - محسن
جاسم الموسوي: الرواية العربية، م.م، ص109.
[24] - محمد
برادة: أسئلة الرواية، أسئلة النقد، شركة الرابطة، البيضاء، ط1، 1996، ص70.
[25] - انظر
محمد برادة: أسئلة الرواية أسئلة النقد، م.م، الصفحات، من 74 إلى 77.
[26] - عبد
المحسن طه بدر: حول الأديب والواقع، دار المعارف، ط2، 1981، ص13.
[27] - إدوار الخراط: الحساسية الجديدة (مقالات في الظاهرة القصصية)، دار
الآداب، ط1، 1993، ص10.