ص1         فهرس      41-50

 

المجرى الأنطولوجي ورهان الـ-مختلف

 

عبد الصمد الكباص

 

المجرى الأنطولوجي:

المجرى الأنطولوجي: حيز لسيلان العالم، كثرته المسترسلة، تدفقه المستمر. وذلك باعتباره –أي العالم- احتمالات حدوث لا نهائية منها ما يأخذ بعده الوقائعي حيث يكون وقوعه الزماني هو المسوغ الاحتمالي لتحقق كينونته. وهذا التحقق الذي يؤسس وقائعية العالم يتميز بانهياره وتعديمه وتجاوزه لنفسه كنقط منفصلة عن بعضها البعض، كل واحدة منها تلغي الأخريات ولا تحدث إلا بتعديمها للباقي. ومنها ما يأخذ بعده الماهوي إذ يكون وقوعه الزماني لم يعين بعد، لم يتعرض بعد للتعديم، ولكن تبقى احتمالاته المتعددة منفتحة على المستقبل. وهذا الحيز ليس كيانا منفصلا أو مستقلا عن سيلان العالم بل هو لا يتأسس إلا من خلال هذه الكثرة والتعدد والتشتت والاختلاف. وإذا كنا نقارب في هذه الشذرات المجرى الأنطولوجي باحتمالات الما قبلي والما بعدي فإن هذه الاستعمالات لا تعدو أن تكون إلا احتمالات لا تتخذ تلك الصورة الخطية المترابطة حيث الما قبل يفضي إلى الما بعد. لأن المجرى الأنطولوجي هو تدفق في كل الاتجاهات وكل الأشكال تبقى محتملة بدون وجود أي رابط بينها. إذ أن (هذا الأخير-أي) الرابط لا يشغل إلا من قبل الاحتمال الجسدي الذي يسعى إلى تقديم مجرى أنطولوجي للعالم مهيئا للمثول أمامه ليجعله موضوعا للحصر الأنطولوجي وهو ما سنتناوله مستقبلا من خلال المجرى المرآوي.

وهذا ما يجعلنا نقول بأن أي حديث عن المجرى الأنطولوجي هو عملية اختزالية تسعى إلى حصره وتوضيعه أمام احتمال جسدي ما. لكنها رغم ذلك تبقى عملية منفلتة غير تحييزية، وذلك اعتبارا للجانب المنفلت من أي حديث أو قول والمتعلق باحتمالية المعنى التي سنموقعها لاحقا.

حيث أننا عندما نتحدث عن المجرى الأنطولوجي نسعى إلى تقديم معنى لهذا الدال لكن هذا المعنى يبقى مؤجلا وغائبا لا يمثل قط أمام نفسه. فالمعنى دائما ينقلب إلى لا معنى في حينه عندما يريد أن يدرك نفسه كمعنى. فهو في عملية تأجيل مستمرة. وهكذا يصبح المجرى الأنطولوجي عندما يتداول مرآويا كعلامة لغوية يتم تشغيلها كأداة اختزالية ضمن الحصر الأنطولوجي، يصبح دالا بدون مدلول، بدون معنى، إذن يبقى في انفلات دائم.

المجرى الأنطولوجي بهذا يكون خارج أي إطار يسعى لموقعته ضمن نقطة ثابتة، فهو احتمالات حدوث لا نهائية غير قابلة للضبط ولا للحصر تتأسس بمحض الصدفة والمفاجأة، لا رابط بينها قد يجعلها تتمتع بمنطق سببي أو حتمي. وإذا كان المجرى الأنطولوجي مجرى لأنه يبقى دائم الانفلات عن محاولات التحديد والضبط والموقعة ضمن نقطة ثابتة ومضمونة، فإن تموقع الاحتمال الجسدي كموجود متعدد ضمنه يجعل المجرى الأنطولوجي للعالم يتخذ منحى متنوعا وذلك تبعا لاحتمالات غياب الاحتمال الجسدي أو إمكانات تدخله، من حيث يكون هذا التدخل احتمال حدوث ضمن احتمالات لا نهائية. فتموقع الاحتمال الجسدي كموجود متعدد هو انخراطه ضمن سيلانه وكثرته وتعدده وتدفقه واختلافه المستمر، أي انتمائه للمجرى. وهذا الانتماء لا يتشكل قط كهوية، وإنما كانهيار مركزي للتحقق. أي أن التحقق لا يلبث أن يكون كذلك حتى يتلاشى ويتجاوز من قبل احتمالات أخرى. وهكذا فهو ليس معطى قائما أو حضورا ممتلئا وإنما تعديما. والتعديم هو انتفاء الاستمرارية الممتلئة وتفتتها إلى احتمالات منفصلة مشتتة ومبعثرة. وتبعا لهذا فإن التموقع يكون مشتتا ومتعددا ومنهارا وذلك تبعا للاحتمال الجسدي بما هو موجود متعدد. أولا حيث يكون تموقع المتعدد كذلك متعددا. وثانيا بفعل الانهيار المركزي لتحققه الذي يجعل هذا التموقع في سيلان وكثرة لا تعرف الثبات ولا السكون. وهكذا فإن التنويعات المفترضة المترتبة عن تموقع الاحتمال الجسدي أو غيابه تكون كالتالي:

1 – المجرى الحدثي:

غياب تموقع الاحتمال الجسدي داخل المجرى الأنطولوجي، انتفاؤه كاحتمالات وعي أو إدراك، أو تعبير، أو عقلنة، أو حدس، أو تجربة… غياب هذا التموقع هو الذي يجعلنا نتحدث عن مجرى حدثي للعالم حيث يكون هذا الأخير احتمالات حدوث لا نهائية تتميز بتشتتها وتنافرها في كل الاتجاهات ليس لها منطق يحكم حدوثها. وإنما هي احتمالات تحدث بمحض الصدفة والمفاجأة منها ما تشكل تحققه المحتمل من خلال الانهيار المركزي للتحقق، ومنها ما اتخذ طابعا ماهويا أي أن وقوعه لم يحدث بعد، ولكنه منفتح على المستقبل باحتمالاته اللانهائية. وهكذا فالمجرى الحدثي للعالم لا يخضع في احتمالات حدوثه للنمذجة والنسقية والانسجام، والهوية والمصدر والغاية، والمنطلق والوصول، والعلة والمعلول، والبداية والنهاية، والأمام والوراء، والشكل والمضمون، والتقرير والإيحاء، والمادة والروح، والصحة والمرض، إلى غيرها من التصنيفات النمذجية التي تفيد التموقع، وإنما هو سيلان وتدفق مشتت وكثرة مسترسلة لا قانون له ولا مسوغ. وإذا كان غياب تموقع الاحتمال الجسدي داخل المجرى الأنطولوجي هو الذي يؤسس المجرى الحدثي للعالم، فإن هذا الغياب أو الانتفاء ليس حالة شاملة لكل الاحتمالات الجسدية، فهذه الأخيرة -كما نسجل ذلك في هذه الشذرات- هي احتمالات حدوث مشتتة مكانيا وزمانيا مما يجعل تموقعها المجراوي متعددا ومبعثرا، فتعدد تموقع الاحتمال الجسدي، متعدد كذلك من حيث غياب هذا التموقع أو وقوعه. وهو يعني أن المجرى الحدثي للعالم، هو كذلك بالنسبة لمن لم يتموقع مجراويا، وليس كذلك بالنسبة لمن تموقع. فالمسألة إذن رهينة بتعدد الاحتمالات الجسدية وتشتتها زمنيا ومكانيا. وفي هذا الإطار نشير إلى أن التموقع داخل المجرى الأنطولوجي ليس هو انتماؤه كاحتمالات حدوث، ولكن تدخله كاحتمالات وعي أو حدس أو تجربة أو إدراك أو تعبير… إلى غيرها من الاحتمالات التي تفيد تحييزها لاحتمالات المجرى الأنطولوجي. وهكذا فإن الاحتمال الجسدي كموجود متعدد يمكن أن ينتمي للمجرى الأنطولوجي دون تموقعه داخله فيكون بذلك منتميا للمجرى الحدثي ما دام لم يتعرض لتموقع احتمالات جسدية أخرى محتملة داخل مجراه ليصير موضوع تحييز من قبلها. ونسجل هنا كما سبق أن المجرى الأنطولوجي ليس وحدة ولا يتأسس كموجود واحد، فهو سيلان من احتمالات الحدوث اللانهائية، وكل احتمال حدوث هو الآخر مجرى من حيث هو كذلك احتمالات حدوث لا نهائية. فالاحتمال الجسدي له مجراه بما هو احتمالات متعددة ومشتتة زمانيا ومكانيا يخترقها الاختلاف مما يجعلها منفلتة من عملية التحديد والحصر.

2 – المجرى المشهدي:

وهو المجرى الذي تكون فيه كينونة العالم بمقدار ظهوره، أي أن ظهورية(*) العالم بما هو احتمالات حدوث لا نهائية، هي التي تشكل كينونته. وهذه الظهورية لا تتمتع بوجود متعال، بل هي لا تتأتى إلا من خلال احتمال جسدي تحدث من خلاله عملية الظهور. كما أنها لا تحدث كامتلاء تتطابق فيه مع نفسها، فتصدر كوحدة ذات هوية، لأنها لا تتأسس إلا من خلال تموقع الاحتمالات الجسدية التي هي متعددة، مشتتة، ومبعثرة. وكما قلنا سابقا فتموقع المتعدد يكون هو الآخر تموقعا متعددا. وبهذا فظهورية العالم هي عملية مشتتة، في سيلان وكثرة، وذلك تبعا لتعدد الاحتمال الجسدي الذي يقع من خلاله. والذي هو احتمالات حدوث يخترقها الاختلاف المكاني والزماني.

كما أن ظهور العالم بتشتته وتعدده، يبقى رهينا بالانهيار المركزي للتحقق الذي يلاحقه مثلما يلاحق الاحتمال الجسدي الذي يشكل حيز حدوثه.

ومن هنا فالظهور هو احتمالات تموقع الاحتمال الجسدي داخل المجرى الأنطولوجي، حيث يكون هذا التموقع في حدوثه المحتمل متخذا شكل وعي، أو إدراك أو تعقل، أو إحساس، أو تجربة… إلى غيرها من الاحتمالات التي تقدم تحييزا لبعض احتمالات حدوث العالم. وهكذا فالمجرى المشهدي هو السياق الأنطولوجي الذي يصير فيه للاحتمال الجسدي حيزا داخل العالم ويصير للعالم حيزا داخله.

ولكن المجرى الأنطولوجي الذي هو في سيلان دائم وكثرة مسترسلة، واختلاف وتبعثر لا نهائي، لا يخضع لإجراءات التحديد والحصر والتحييز داخل إطار ما أو نقطة مضمونة ساكنة وثابتة. بل يبقى احتمالات تحدث بمحض الصدفة والمفاجأة، ولهذا فإن هذا التحييز الذي يتم داخل المجرى المشهدي ليس سيطرة تامة على المجرى الأنطولوجي، وإخضاعا مطلقا للتحديد والضبط، وتقنينا لتدفقه، وإنما هي عملية تحييز منهارة لا تتجاوز مستوى المحاولة، ولا تفارق التشتت والتعدد، ويبقى الاختلاف يخترقها ويحطم امتلاءها الأنطولوجي، والانهيار المركزي للتحقق يعرض حدوثها للتعديم. إنها محاولة للتحييز، وليس تحييزا ممتلئا ومطلقا، بل إنها تضاعف السيلان والكثرة والتبعثر وذلك لكونها تتم من خلال احتمالات جسدية منهارة لا تطابق نفسها ولا تعيش امتلاءها. وهكذا فاحتمالات التموقع داخل المجرى الأنطولوجي التي تتأسس من خلال ظهورية العالم بكثرتها اللانهائية لا تعد إلا التصاقات وظيفية تلحق باحتمالات حدوث العالم فتصير هي المسوغ لكينونتها. لكن الفجوة التي تخترق الاحتمالات، فتجعلها في تدفق لا يحتمل أي طابع سببي أو حتمي، وتجعل التعدد واللاثبات والمفاجأة والصدفة هي الاحتمالات التي تتشكل كمسوغ لها، تؤكد أن هذه الالتصاقات لا تتمتع بثبوت  يقيني ولا بوجود صميمي، وإنما هي في انهيار وتجاوز دائمين، والتي يستعمل للدلالة عليهما في العرف العلمي(**) بالنسبية. هذه (الأخيرة) التي تؤكد أن القائم ليس إلا احتمالا ضمن احتمالات أخرى، وأن التحقق ليس أية صفة ضرورية، وإنما هو مؤهل للتجاوز والانهيار.

إن المجرى المشهدي لا يتخلى إذن عن مجراويته، فالكينونة التي تتأسس من خلال الظهور، تبقى عرضة للتعدد والسيلان، انطلاقا من كثرة وسيلان الاحتمالات اللانهائية، وبالتالي للتعدد والكثرة الذي يميز الاحتمال الجسدي الذي يشكل حيز الظهور، والذي يجب أن نتذكر دائما أنه احتمالات حدوث مشتتة.

3 – المجرى المرآوي وإجراءات الحصر الأنطولوجي:

المجرى المرآوي هو المجرى الذي يخضع فيه المجرى المشهدي، بأساسه الظهوري المتعدد والمشتت لعملية الحصر الأنطولوجي وذلك لجعله يمثل أمام الاحتمال الجسدي كوحدة مطابقة لذاتها منظمة ومنسقة في حدوثها يحكمها منطق وقانون ينفي عنها طابع الصدفة والمفاجأة. والحصرالأنطولوجي هو: عملية اختزال تعددية العالم إلى وحدة، إلغاء تشتته وتبعثره وإحلال النسق مكانه، كبت اختلافه وتعويضه بالتطابق، النظر إلى التحقق كأقصى درجات الإمكان، اعتبار القائم المحتمل هو الماهية، إخضاع سيلان العالم وكثرته وتدفقه لقانون ينتظمه، البحث عن الثابت الجوهري مقابل إقصاء العرضي المتغير، وكل ذلك لإظهاره (أي العالم) محدودا ومحصورا ومقننا في احتمالات حدوثه. إذن فالمجرى المرآوي هو الذي يكون فيه العالم موضوع تفكير أو معرفة، يظهر من خلالها ككيان موحد وذلك لتجاوز التشتت والتعدد والاختلاف الذي يكسر الامتلاء الأنطولوجي لمشهدية العالم أي الذي يحل الفجوة تطابق ظهوريته مع ذاتها.

والحصر الأنطولوجي في عمله الاختزالي يعتمد على مجموعة من الإجراءات التي تعمل على تأسيس هذه الوحدة وهذا التطابق، فيظهر العالم من خلالها منظما ممنطقا وموحدا في ذاته، محصورا في إمكاناته.

ومن أهم هذه الإجراءات:

أ – المفهوم:

مفهمة العالم، أو صياغته في مفهوم، عملية لا تتم بعيدا عن إجراءات الحصر الأنطولوجي. إذ المفهوم ليس وسيلة لوصف العالم كما يعتقد، وليس انعكاسا مرآويا للمعطى الموضوعي المستقل عن تجارب الأفراد، وليس أداة للتفسير، وإنما هو إجراء لاختزال تعدد العالم وسيلانه وتشتته وتقديمه كوحدة. فصياغة المفاهيم تعمل على تقديم العالم ككيانات موحدة، وذلك بإلغاء تشتت وتعدد الاحتمالات اللانهائية والتركيز على المشترك بينها أو ما يعتبر ثابتا. وهذا البحث عن المشترك بين الاحتمالات يهدف إلى كبت السيلان والتبعثر وذلك لجعل العالم يمثل أمام احتمال –جسدي ما هو الذي سيؤوله ويحلله ويدرسه ويضع له القوانين والضوابط المحددة لحدوثه. فالمفهوم يضفي طابع الوحدة على ما تشتت من الاحتمالات لتصير قابلة للإمساك. إن المجرى المرآوي الذي يقدم لنا العالم موحدا في ذاته، منظما في حدوثه، يستعمل المفهوم لتجاوز ظهورية العالم المشتتة التي يتأسس عليها المجرى المشهدي. ففي إطار البحث عن المشترك بين الاحتمالات، لا يتم الوقوف على كل الاحتمالات لأنها في سيلان دائم وكثرة مسترسلة، وإنما على عينات فقط، ترفع، فتصبح ممثلة للثابت الجوهري. والمشترك ليس إلا احتمال-حدوث ضمن احتمالات لا نهائية مشتتة، ولا يشكل ثابتا ولا جوهرا يؤسس هذه الوحدة. المفهوم إجراء إقصائي واختزالي: إقصاء للبعد الماهوي أي انفتاح احتمالات الحدوث على المستقبل وذلك مقابل التركيز على البعد الوقائعي أي ما تحقق من الاحتمالات. حتى على المستوى الوقائعي فإن التعامل يكون انتقائيا أي أنه لا يستحضر إلا احتمالات محدودة مقابل إقصاء احتمالات أخرى، وهكذا يصبح المختلف مغيبا، مقابل البحث عن ما يماثل المفهوم ويطابقه. وبهذا يصير المفهوم محددا لما يستحق أن يكون عالما والذي لا يستحق ذلك. فالذي يستحقه هو ما يتطابق مع المفهوم ويماثله، والذي لا يستحق ذلك هو الذي يكشف عن نفسه مختلفا عنه. وهذا البعد الإقصائي للمفهوم يفضي إلى بعده الاختزالي الذي يمثل على مستوى جعل اللامتناهي في تعدده المحتمل والمتشتت زمانيا ومكانيا، والدائم الاختلاف مع نفسه غير المقابل للإمساك مشهديا، جعله متناهيا في تعدده وغير متناه في وحدته بتحويله إلى كيان قابل للامتلاك، هو "المفهوم". وهكذا يصير المجرى المرآوي مجرى لكيانات موحدة في ذاتها تتأسس كهوية، هي المفاهيم (كمفهوم الإنسان، الكتابة، الحياة، الاقتصاد، المجتمع، العقل…) التي تتوفر على إمكانية التعالق فيما بينها لتفضي إلى وحدة أشمل هي مفهوم العالم، الذي يصير فيه اللامحدود محدودا، إما من خلال نقطة مضمونة هي العلة الضامنة لحدوثه أو غاية هي الأفق الذي يحكم وجهته.

والمفهوم، في اشتغاله كإجراء يندرج ضمن الحصر الأنطولوجي، الذي يؤسس مجرى تحصر فيه مشهدية العالم هو المجرى المرآوي، لا يبتعد كثيرا عن إجراء النمذجة الذي يستحضر ثنائية النموذج والنسخة. إذ يعمل هذا الإجراء على قولبة العالم وفق نموذج محدد، هذا النموذج ليس إلا احتمال –حدوث ضمن احتمالات لا نهائية، محكوم بالانهيار المركزي للتحقق ومعرض للتعديم، لكن يرفع إلى مستوى النموذج- الأصل الذي يظهر كوحدة مطابقة لذاتها. واحتمالات- الحدوث الأخرى ليست إلا نسخا له عليها أن تتطابق معه في وحدة وشبه إذ يصبح "النموذج" السند الأصلي الذي يحدد الذي يستحق الانتماء للعالم وهي الاحتمالات التي تكشف عن نفسها كنسخ له وتعمل على تكراره، والذي لا يستحق ذلك وهي الاحتمالات التي لا تتطابق معه، وتحل الفجوة بينهما، هي فجوة اللاتشابه والاختلاف، التي يعتبرها مجرد عوارض لا أهمية لها. وهكذا عن طريق إجراء النمذجة، تختزل تعددية العالم وتشتته إلى وحدة، هي النموذج، أما باقي الاحتمالات فهي ليست إلا نسخا تكرر نماذجها إلى أن يتم اختزال كل النماذج إلى نموذج واحد هو "نموذج العالم" المنسجم المنظم الذي يجب أن يتمثل على مستوى كل احتمالات –الحدوث. وحتى إن وجد هناك نوع من التشتت واللانسجام فهو ليس إلا حالة عارضة ستزول ليحل مكانها النظام والوحدة والتطابق والهوية.

والمفهوم يقوم مقام تأسيس النماذج التي سيقولب العالم على أساسها والتي يجب على النسخ أن تطابقها، هذه النسخ التي هي احتمالات حدوث مشتتة، ومبعثرة لا تتأسس كوحدة، بل إن فجوة الاختلاف واللا تطابق تنخرها. إلا أن إجراءات الحصر الأنطولوجي التي تسعى إلى توحيد العالم على مستوى المجرى المرآوي وتنسيق احتمالات حدوثه، تعمل على جعل هذه الاحتمالات تتوحد بالنموذج.

غير أن الاختلاف في تحديد هذه المفاهيم والنماذج، والتطور الذي تعرفه، علما بأن هذا التطور هو التصاق يخدم الحصر الأنطولوجي إذ أن التغير الذي يصيب المفاهيم يصبح في ضوئه مترابطا حيث السابق يفضي إلى اللاحق واللاحق يرتبط بالسابق في علاقة علية، ودائما خلف هذه المتغيرات هناك الثابت الذي يصاحبها باستمرار مما يجعل الوحدة والنظام هي التي تحكم التغير وليس التشتت والتبعثر، نقول إن الاختلاف في تحديد المفاهيم والنماذج والتطور الذي يلحقها يجعل إمكانية انفلات المجرى المرآوي من احتمالات التعدد والاختلاف والتشتت والانهيار المركزي للتحقق، إمكانية مستحيلة. فهذا الاختلاف في التحديد الذي يبرر باختلاف المرجعيات ليس أمرا آخر غير تشتت الإجراء المفاهيمي وتعدده، مثلما أن تطور هذه المفاهيم ليس تغيرا في إطار وحدة المفهوم وإنما هو تعديم متلاحق لهذا المفهوم، وحدوث احتمالات مفاهيمية جديدة مشتتة، ولا تجمعها أي وحدة أو نظام قد يجعلها استمرارا لما سبقها وعلة ما بعدها. فأي قول يذهب إلى ضرورة اعتبار هذه الوحدة وهذا النظام، إنما هو قول يحاول إلغاء الفجوة التي تخترق الاحتمالات المفاهيمية وذلك قصد كبت التعدد واستبعاده وتعويضه بالتناسق والوحدة والنظام والانسجام.

ب – المنطق:

افتراض وجود منطق للتفكير في العالم، له مبادئه الضابطة التي يجب أن تشكل منطلق كل تفكير، والتي رفعت إلى مستوى كوني فاعتبرت مبادئ للعقل، ولكل عقل، وأصبحت مصدرا للفصل في عقلانية كل تفكير ومصداقيته، ودون ذكر بعده الاختزالي الذي يعمل على حصر وكبت تدفق وتشتت وتعدد إمكانات الفكر بجعل ثوابت مشتركة تؤسس وحدته، فإن هذا الافتراض من خلال مبادئه يعمل على حصر إمكانات العالم أمام الاحتمال-الجسدي وإبعاد الاحتمالات المفاجئة والصدفوية. ورغم تطور الممارسة المنطقية وتعددها فإن الهوية، وعدم التناقض، والثالث المرفوع، بقيت تمارس مفعولها عبر عدة ممارسات وذلك بإرغام العالم على أن يكشف عن نفسه كتجل لهذه المبادئ وذلك لتجاوز ظهوريته المشتتة على مستوى المجرى المشهدي وتعويضه بالمجرى المرآوي الذي يحاول إظهار العالم كوحدة. فكيف يتم ذلك؟

ب/أ – الهوية:

هذا المبدأ يقوم على التصاق التطابق الذي يلصق باحتمالات-حدوث العالم، والتي يجب –من منظوره- أن تكون مطابقة لذاتها. وهذا التطابق هو الذي يخول لها أن تكون هي نفسها وليس غيرها. فمبدأ الهوية يجعل لكل احتمال حدوث مجموعة من الخصائص تنفي اختلافه في ذاته، وتجعله يظهر كوحدة منسجمة ومتماسكة. وهكذا فهو تبعا لهذا المبدأ يرغم على ألا يكون إلا ذاته. وبدون التأكيد على وهمية التصاق التطابق، الذي يحاول أن يمد احتمالات حدوث العالم بامتلائها الأنطولوجي دون أن يتوفر هو ذاته على امتلائه إذ هو لا يجد احتمالات حدوثه إلا كلغة، أي كصفة لغوية تطلق على الاحتمالات أو كجذر صوتي لا مقابل مجراوي له، أو لا يتمتع بوجود صميمي داخل احتمالات المجرى الأنطولوجي، بل إن التطابق هو ذاته لا يطابق نفسه، دون التأكيد على كل هذا، والوقوف عنده كثيرا، فإن البعد الاختزالي لالتصاق التطابق الذي من خلاله يشتغل مبدأ الهوية يبدو جليا من خلال حصر إمكانات الاحتمال الذي لا يمكن أن يكون إلا ذاته ملغيا بذلك اختلافه في ذاته.

كما أن هذا الالتصاق –أي التصاق التطابق- يجعل المحتمل امتدادا للقائم والمتحقق، والحاضر ممثلا للغائب. ويجعل المتغير عرضا لثابت يتموضع خلفه ويجعل الابن وارثا للأب، ويجعل للجسد بما هو تدفق لاحتمالات متعددة اسما واحدا يتداول به. لكن، أين تتموقع الهوية؟

إن إجراءات الحصر الأنطولوجي التي تسعى إلى تأسيس مجرى مرآوي تعمل على فرض الاعتراف لكل "كائن" بما يؤسس هويته. بمعنى أن الكائن لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا وجدت هويته، وهي بهذا تضع الهوية في موقع لا ينفصل عن "الكائن" بل إن الكائن هو كائن بهويته، وتطابقه مع ذاته، إنها صميمية الكائن. وفرض اعتراف من هذا القبيل بطبيعة الحال، ينحو في اتجاه رسم الحدود والفواصل التي تسمح بإمكانية تصنيف العالم إلى كيانات موحدة في ذاتها. كما أن التموقع الذي تمنحه إجراءات الحصر للهوية يترك الكائن رهينا بهويته، أي رهينا بوحدته، هذه الوحدة التي تشكل التحصيل الإمكاني الوحيد لكينونة الكائن. وهو الارتهان الذي يجعل للكائن كينونة وليس كينونات، وبالتالي يجعله كائنا وليس احتمالات حدوث. وهذا البعد الاختزالي الذي يتضمنه مبدأ الهوية والمتمثل في الإجراء التصنيفي الذي بمقتضاه يتحول العالم إلى كيانات موحدة في ذاتها واضحة الفواصل والحدود التي تقوم بينها، يتم على أساس المسافة التعالقية. وهي المسافة التي يتم تعيينها بين هذه الكيانات المحددة بواسطة مبدأ الهوية بحيث يكون لكل كيان خصائص "جوهرية" أو صورية، تجعله هو وليس كيانا آخر. لكن تعيين هذه المسافة يتم على أساس أنها الحيز الذي يقوم بالعملية الاختزالية الكبرى التي تسعى إلى تجاوز وإلغاء هذه الكيانات بواسطة إجراء العلاقة الذي سيشغل حيز هذه المسافة لتصبح كل الكيانات التي قدمها مبدأ الهوية مترابطة فيما بينها مؤسسا وحدة أكبر وأعم وأشمل هي وحدة العالم. إذن فالمسافة التعالقية هي المسافة التي يعمل مبدأ الهوية على خلقها بين الكيانات التي تعينها من أجل تفادي التداخل فيما بينها، هذا التداخل الذي يخل بالنظام والانسجام والتماسك. وتكون وظيفة هذه المسافة هي خلق الحيز الملائم الذي سيشغله إجراء العلاقة الذي سيقوم بدور الربط والتنظيم والتنسيق بين هذه الكيانات. وذلك لاختزال تشتتها إلى كيان واحد يشمل كل هذه الكيانات ويضمن وحدتها ونظامها.

والمسافة التعالقية هي التي تعمل بها مفاهيم روج لها كثيرا في مقدمتها مفهوم البنية. إذ أن هذا المفهوم يفترض أن هناك مجموعة من العناصر المختلفة فيما بينها لا تكمن قيمتها في ذاتها وإنما في نمط العلاقات التي تربطها بالعناصر الأخرى. هذه العلاقات التي تحكمها قوانين مضبوطة. وهكذا فالبنية لا تعترف بتشتت العناصر تشتتا طفرويا، يجعل كل عنصر في اختلاف دائم مع نفسه من حيث هو احتمالات حدوث متعددة بل إنها تعترف بكل عنصر كهوية مطابقة لذاتها، تجعله مختلفا عن العناصر الأخرى. وهذه المسافة التي تحاول تعيينها البنية بين عناصرها من خلال اختلاف كل منها عن الأخرى، لا تعدو أن تكون معينة كمسافة إلا لكي تشكل الحيز الذي ستشغله العلاقات التي تربط هذه العناصر. فإذا كان المهم في البنية هي العلاقات الشكلية التي تربط عناصرها وأن أهمية العنصر لا تكمن في ذاته بل في المسافة الاختلافية التي تفصله عن العناصر الأخرى، فإن هذه المسافة هي مسافة تعالقية يتم تعيينها لا لكي تضاعف التشتت بل لإلغائه، ولكبت التعدد والمفاجأة والصدفة والطفرة، وتعويضها بالترابط والنظام والنسق والانسجام الذي سيشكل ذاك الكيان الموحد الذي سيدعى فيما بعد بالبنية. والمسافة التعالقية التي يعمل مبدأ الهوية وباقي إجراءات الحصر الأنطولوجي على تعيينها من أجل شغلها من طرف إجراء آخر من إجراءات الحصر، تشتغل كتعويض، أو بالأحرى، كإلغاء للمسافة الطفروية التي يقوم عليها المجرى الأنطولوجي وهي مسافة تتجاوز البعد الحدي الذي تقوم عليه المسافة التعالقية التي تعين لحماية الحدود الفاصلة بين الكيانات وتحصين هويتها من التهجين. وتتجاوز كذلك البعد التعالقي الذي يجعل هذه الكيانات تنتظم ضمن نظام عام، بل هي مسافة تحدث بمحض الصدفة والمفاجأة ليس لها بعد تصنيفي أو حمائي ضد تهجين هوية ما، بل هي مسافة الاختلاف واللاتشابه التي تضاعف تعدد الاحتمالات ولا تنفي احتمالات التداخل والانفصال الطفروية التي تتنطع عن كل تحديد أو مراقبة. إنها المسافة التي تخترق سيلان احتمالات المجرى الأنطولوجي من حيث أن كل احتمال حدوث هو احتمالات متعددة ومشتتة لا تنفلت من قبضة الانهيار المركزي للتحقق الذي يؤسس تناهيها الخاص.

الهوية إذن تقوم على أساس تعيين المسافة التعالقية لإلغاء المسافة الطفروية وذلك قصد ضمان نوع من الوحدة والتماسك والتطابق بين الاحتمالات، وإذا كان مبدأ الهوية يفرض خضوع الكائن لتطابقه مع نفسه، حيث يفترض أن الكائن يحدث كوحدة فإن ذلك يتم بتضافر مع إجراء النمذجة الذي يستحضر ثنائية النموذج والنسخة التي موقعناها سالفا. فالخصائص التي تعين بها هوية كائن ما توجد في الكائن-النموذج وعلى نسخة أن تكرر هذه الخصائص لكي تكون هذه النسخ مجرد وجوه لنفس الكائن النموذج. لكن هذه الخصائص ليست، كما تدعي إجراءات الحصر الأنطولوجي، ذات وجود صميم داخل "الكائن"، بل هي لا تحدث إلا كصفة لغوية تعين من موقع انزياحي عن الكائن، ويسلم بأنها توجد فعلا داخله. فليس في الكائن ما يجعله كائنا غير عملية التسمية التي تعمل على إطلاق علامة لغوية واحدة على احتمالات يحكمها الانهيار المركزي للتحقق، وذلك لخلق الاعتقاد بوحدتها وواحديتها. الهوية ليست أكثر من صفة لغوية مثلما أن التساؤل عما إذا كان كائن ما، يطابق نفسه أو لا، يفتقد لمشروعيته، لأن التطابق لا يكشف عن نفسه قط كتطابق إلا على مستوى التلفظ به كعلاقة لغوية يصدق عليها ما سبق أن قلناه عن البعد اللغوي للمفهوم. وبما أن الهوية بأبعادها الاختزالية والتصنيفية التي تقوم على تعيين المسافة التعالقية قصد تجاوز تعددية الاحتمالات وتشتتها وصدفويتها، لا تتوفر على صميميتها ومطابقتها لذاتها بل هي مجرد تسمية، فإنها تبقى رهينة تعدد الاحتمالات الجسدية التي تقوم بعملية إعطاء هوية ما لاحتمال-حدوث ما. وهكذا فإن أي احتمال-حدوث لا يتوفر على هوية واحدة تتكرر معه باستمرار، بل كل احتمال جسدي يمنحه الهوية التي يريد. مما يجعل الاحتمال منفتحا على هويات لا نهائية تبعا للموقع الانزياحي الذي تطلق منه هذه الهويات، والذي يجعل كل هوية من هذه الهويات معرضة للتعديم أي لانتفاء استمراريتها الممتلئة.

ب/ب – عدم التناقض والثالث المرفوع:

"ومعناه أن الشيء لا يكون هو ذاته ونقيضه معا، أو أن يجمع السلب والإيجاب معا. وهو صورة أخرى من قانون الذاتية البديهي، لأنه يعبر عن ثبات الحقيقة ووحدتها وعدم تناقضها وإن كان ذلك يتم بصورة السلب فالشيء لا يمكن أن يكون موجودا ومعدوما في آن واحد.. ويمكن أن نعبر عن هذا القانون بالصيغة التالية: لا يمكن أن يكون أ هو ب ولاب في الوقت نفسه"1.

إن هذا المقطع يبرز البعد الاختزالي لهذا المبدأ الكلاسيكي والفعال داخل المنطق التقليدي، والذي يخدم إجراء الهوية بما هو إجراء يسعى إلى تعيين المسافة التعالقية بين الكيانات الموحدة المطابقة لذاتها. فعدم التناقض هو الآخر يعمل على تعيين المسافة التعالقية بين الاحتمال ونقيضه بين الإيجاب والسلب. وذلك بعد أن يجعل احتمالات-حدوث المجرى الأنطولوجي رهينة ثنائية الإثبات والنفي. وهو بذلك يحصر تعدد الاحتمال من حيث هو كثرة وليس حدوثا يتميز باستمرارية ممتلئة، وإنما هو سيلان متعدد من التحققات التي تتعرض للتعديم. وهكذا فبمقتضى هذا المبدأ يتم طرد النقيض إلى خارج الاحتمالات ليعين له موقعه والمسافة التعالقية التي يجب أن تحل بين الاثنين. وذلك لإبعاد التشتت وإلغاء المسافة الطفروية التي تخترق الاحتمال وتجعله هو الآخر كثلة منهارة من الاحتمالات، أو سيلان لا يملك نفسه كتحقق حتى ينهار ويتلاشى. والموقع الذي يجب أن يحتله النقيض هو "الهناك" مقابل "الهنا" الذي يحتله الاحتمال. لكن هذا "الهنا" من منظور هذا المبدأ ليس تائها أو غير محدد بل هو معين سلفا وذلك حفاظا على الهوية من التهجين، وحتى في حالة تقارب "الهناك" و"الهنا" أي تقارب النقيضين وتركيبهما، فإن هذا التركيب يأتي ليخلق احتمالا يجب أن يطابق ذاته مثلما يجب أن يحدد نقيضه والموقع الذي يجب أن يحتله أي "الهناك". إذن فحتى عملية تركيب النقيضين هي عملية تتم في إطار الهوية، وتحدث لتوليد هوية ما، عليها أن تنظم علاقاتها بنقيضها عبر المسافة التعالقية التي ستضمن تماسكها وترابطها وبين النقيضين يبقى الاحتمال المختلف، ثالثا مرفوعا. "فالشيء إما أن يكون كذا أو لا كذا… ولا وسط بينهما"2. ورفع الاحتمال الثالث يعني إبعاد الكثرة التي ستهجن هوية الاحتمال، والحفاظ على الطابع الثنائي للعالم. هذا الطابع الذي يتيح إمكانية لم التفرع المزدوج للاحتمالات بجعلها ترتبط فيما بينها وتعيد صياغة هذا الارتباط إذا ما اختل بين الاحتمال ونقيضه عن طريق الإجراء العلائقي الذي سيخلق ذلك الكيان الواحد الموحد الذي يضم كيانات أخرى موحدة في ذاته لكنها لا تملك أية إمكانية للتنصل من هذه الوحدة الكبرى، لأن هذا التنصل يعني مضاعفة التشتت وتجدير المسافة الطفروية التي تحاول إجراءات الحصر الأنطولوجي إلغاءها. فالتفريع المزدوج الناتج عن مبدإ عدم التناقض والثالث المرفوع يقر بالاحتمالين: الإثبات والنفي ويحدد لكل واحد منهما موقعه الذي يجب احتلاله والمسافة التي يجب أن تفصل بين الموقعين، عوض مواجهة التشتت والتعدد والسيلان الذي يتضمنه الاحتمال من جراء الانهيار المركزي لتحققاته. مما يجعله، ليس كثلة أو امتلاءا محددا موقعه ونقيضه والعلاقة التي ستربطهما، ولكنه تدفق من الاحتمالات تحدث بمحض الصدفة وليست محصورة في انتشارها بين مواقع "الهنا" و"الهناك"، السلب والإيجاب، بل هي احتمالات-حدوث طفروية. وهكذا يظهر أن مبدأ التناقض والثالث المرفوع هو إجراء لإبعاد المختلف وحماية الهوية من التهجين، وذلك للحفاظ على وحدة العالم وصيانتها من الكثرة وفجوات الاختلاف التي تتجاوز احتمالات السلب والإيجاب، "الهنا والهناك".

ج – العلة:

إن ارتباط احتمال-حدوث ما باحتمالات أخرى، يفيد أن أحد هذه الاحتمالات يجد صداه في احتمال آخر يصنف حسب مواقعية الانتشار كاحتمال بعدي، أو يشكل هو ذاته صدًّا لاحتمال قبلي. وهذا التصادي هو ما يؤطر إجراءات ميتافيزيقية مثل التأثير والتأثر… التي تلغي التشتت. وإذا كان هذا التصادي يحاول إرساء شبكة اتصالية بين الاحتمالات يصبح من جرائها الما بعدي نتيجة الما قبلي يردد أصداءه في علاقة سببية تجعل عملية إرجاع الاحتمالات المتعددة والمنتشرة انتشارا طفرويا إلى أصل موحد هو منبع هذا الصدى، فإن مبدأ العلية شكل مرجع هذا التصادي وسنده الميتافيزيقي. هذا المبدأ الذي يقوم على أساس وضع لكل احتمال حدوث علة سابقة تبرر وجوده. والبحث عن هذه العلة لا يستحضر الاحتمال الما بعدي بل يتوخى الما قبلي أي ذاك الذي يجعل إمكانية وجود كل احتمال-حدوث إمكانية منتظرة من منظور موقع هذا الما قبلي. وهو موقع ما قبلي لأنه يعتبر كنقطة بداية مضمونة هي التي حددت هذا الحدوث وشكل تحققه. والمسلمة التي توجه كل هذه التصورات بطبيعة الحال هي ضرورة وجود علة لكل احتمال-حدوث، ينقل أصداءها، أو يكررها كليا أو جزئيا على اساس مركزية التصادي التيتفرض أن تكون الاحتمالات الما بعدية مرددة لأصداء الاحتمالات الما قبلية. ولكن لماذا يجب أن نبحث عن علة لكل ما يحدث؟ ما الذي يفرض الرضوخ لهذه المسلمة ويمنع إمكانية حدوث احتمالات بدون علة؟

إن هذا التصور، أي تصور وجود علة لكل احتمال-حدوث، ينطلق من مسلمة أعم هي التي تؤطره. هذه المسلمة تتمثل في اعتبار العالم بما هو احتمالات حدوث، يمتلك مسوغا هو الذي يعطيه بعده المنطقي وينفي عنه طابع الصدفة. إذ أن العلة تفيد أن هناك استرسالا سببيا يجمع كل احتمالات حدوثه ويجعل كل واحد مرتبطا بالآخر في علاقة تصادي مشكلا إما علته أو نتيجته. وهذا التسليم إنما يتم في إطار إبعاد الصدفة والمفاجأة لإحلال النظام والضرورة. هذه الضرورة التي هي نتيجة لهذا النسق الذي يحكم العلم ويجعله حتمي الوقوع وليس مجرد طفرة لا مبرر لها، ليست بسبب ولا بنتيجة، وإنما سلسلة من الاحتمالات الطفروية والمفاجئة. وهذا النسق أو المسوغ هو الذي يدعى قانونا يسير وفقه العالم في احتمالات حدوثه.

وكما أن الاعتقاد بوجود علل لاحتمالات حدوث العالم هو في أساسه عملية إيجاد نقطة مضمونة تختزل ما تشتت وما تعدد من المجرى المشهدي تلك النقطة التي تعد المنطق المضمون لحدوث العالم، الموحد لتعدده وسيلانه، وهو ما تترجمه مفاهيم أخرى لها نفس البعد الاختزالي كمفهوم الأصل حيث يتم اختزال المتشتت والمتعدد ورده لأصل واحد ينشر صداه داخل كل ما تفرع عنه، فإن الاعتقاد بوجود قانون للعالم هو كذلك اعتقاد بوجود ما ينتظم هذا العالم في ذاته فيجعله محصورا في حدوثه وممنطقا مربوطة علله بنتائجه، محددة أنماط العلاقات التي تربط ثنائيته، موحدا في أجزائه ومنسقا في ظواهره، مطابقا لنفسه، محصورا في مثوله أمام احتمال-جسدي ما إجمالا هو اعتقاد بما يوحد اختلافه وتعدده، حيث أن كل ما هو محتمل حدوثه لا يتم هكذا عبثا وصدفة، وإنما يتم بإملاء من قانون أسمى منظما لكل ما يحدث، يتشكل تارة كقاعدة، وأخرى كنسق أو بنية… ولكن، لماذا إبعاد الصدفة والمفاجأة؟

إن الاعتقاد بوجود قانون وأصل ونظام لاحتمالات حدوث العالم هو اعتقاد يتشكل بعده كبحث عن وحدة داخل العالم، أو تمثله موحدا، ولهذا تبعد الصدفة والمفاجأة. لأن الحدوث الصدفوي والمفاجئ لاحتمالات حدوث العالم يعني انتفاء أي رابط يجمع بين هذه الاحتمالات، وانتفاء الرابط يعني التشتت والتبعثر. إذ يكون كل احتمال-حدوث منفصلا عن باقي الاحتمالات الأخرى ولا يوجد أي رابط سببي بينهما. وهكذا ينفي عن العالم امتلاءه الأنطولوجي أي مطابقته لنفسه وحلوله فيها. إذ يصير احتمالات حدوث لا نهائية مشتتة مبعثرة ومتعددة يخترقها الاختلاف ويحكمها الانهيار المركزي للتحقق. وهذا يعني انتفاء الوحدة عن العالم. لهذا أعتقد بوجود قانون وعلة ولم يعتقد بطابعه الصدفوي. لأن القول بالصدفة يهدد الوحدة والتطابق ويعرض العالم لخطر التشتت. وهكذا فرفض الصدفة هو رفض للاختلاف والتعدد..

د – العلاقة:

يبقى إجراء العلاقة كأخطر إجراءات الحصر الأنطولوجي التي تستخدمها ميتافيزيقيا الوحدة لاختزال التعدد وإبعاد التشتت. فالبحث عن إيجاد نظام لظواهر العالم واحتمالات حدوثه، يتم في إطار هذا الإجراء الذي يحتل الموقع الأساسي داخل أي تفكير كيف ما كان نوعه. فمعرفة العالم ليست في نهاية المطاف إلا عملية بحث عن علاقات في الحالة الأولى، خلق هذه العلاقات في الحالة الثانية، ثم تصنيفها في الحالة الثالثة. إن هذا الإجراء هو الأساس الذي يتيح لكل تفكير أن يقوم. وهو كذلك السند المحوري لفكرة الاتصال بين الأشياء والأحداث التي تقدم العالم في ترابط وتناسق وانتظام وتعمل على إلغاء التعدد والاختلاف. وهي التي تسمح بوجود قانون للعالم وأنظمة وهويات وبنيات.. وكلها كيانات تجعل العالم محصورا وموحدا أمام احتمال جسدي.

إن عملية الحصر الأنطولوجي التي تستهدف سيلان المجرى وتدفقه ليست عملية تامة. بل هي مجرد محاولة يائسة لضبط المجرى والإمساك به. لكنه-أي المجرى الأنطولوجي- يند عن الضبط والإمساك والتقنين والتحديد. فهو تدفق وكثرة مسترسلة من الاحتمالات المشتتة التي تحدث بمحض الصدفة والمفاجأة. وكل عملية من هذا القبيل لن تكون إلا احتمال-حدوث ضمن احتمالات لا متناهية، تضاعف تعدده.. مثلما أن أي حديث عن المجرى الأنطولوجي مهما ادعى لنفسه امتلاكه للحقيقة، فإنه يظل مجرد كلام منهار، يدمر نفسه بنفسه.

إن رهان ال-مختلف هو رهان المجرى الأنطولوجي.

 

 



(*)  ظهورية العالم أي اتصافه بالظهور.

(**) ليس هناك حدود فاصلة ودقيقة بين العلم واللاعلم.

1 – هادي فضل الله، مدخل إلى علم المنطق، (المنطق التقليدي)، دار الطليعة، بيروت، ط1، ص89-90.

2 – نفسه، ص90.