ص1    الفهرس   31-50

حول مسألة نهاية التاريخ:

تأملات في أطروحة فوكوياما

إبراهيم القادري بوتشيش

تعد مقولة "نهاية التاريخ" آخر صيحة عالمية استفاق عليها الفكر الإنساني المعاصر. وقد وردت في كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير (The end of history and the last man) للمفكر الياباني اللامع فرنسيس فوكوياما. كنت قد بادرت إلى مراسلة هذا الأخير مستوضحا إياه عما إذا كان قد غير أو عدل آراءه حول أطروحته العالمية التي فجرها منذ 11 سنة والقائلة بنهاية التاريخ فرد إلي مؤكدا: "لم أغير آرائي حول هذه المسألة، لقد كتبت مقالا خلال السنة الماضية في مجلة ناشيونال إنتريست يتعلق فحواه بدلالة تأكيد الأحداث والتطورات التي يشهدها العالم لصحة أفكاري.. إلخ". (الرسالة الإلكترونية الواردة بالنص الإنجليزي) [1].

كان الهدف من المراسلة الوقوف عما إذا كان قد تراجع عن أطروحته حول نهاية التاريخ أو صوبها، حتى يشكل ذلك منطلقا لهذا البحث ويعطي له مسوغاته. وإذا كان من حق أي مفكر التشبث بأفكاره والدفاع المستميت عنها، فسنحاول في سياق هذه الدراسة مراجعة بعض عناصر هذه الأطروحة، انطلاقا من بنائها الداخلي وظرفية تأسيسها في ظل فراغ إيديولوجي، وما تحمله هي نفسها من شحنة إيديولوجية حدثت مع موجة التغيرات التي تشهدها المنظومة الدولية الجديدة.

فكرة نهاية التاريخ في خطوطها الكبرى كما وردت في الكتاب:

تعد مقولة نهاية التاريخ آخر صيحة عالمية استفاق عليها الفكر الإنساني المعاصر. وإلقاء نظرة على مجمل ما ورد في كتاب نهاية التاريخ وخاتم البشر[2] يكشف عن مجموعة من الأفكار والتصورات التي صاغها فوكوياما يمكن إبراز خطوطها العريضة الآتية:

ـ يرى المؤلف أن سقوط الاتحاد السوفياتي واكتساح الديموقراطية الليبرالية أرجاء العالم، وانهيار الأنظمة الشمولية، وانتصار فكرة الأسواق الحرة، كل ذلك وصد باب التاريخ وأدى إلى نهايته الأبدية التي لن يبرز في أفقها أي مؤشر جديد.

ـ يرتكز في تحليله للديموقراطية على المرجعية التاريخية فيعود إلى أحداث القرن 19م الذي يعتبره قرن الاستقرار والسلام بفضل ما جناه من ثمار الثورة الفرنسية التي ركزت مبادئ الديموقراطية. لكنه ينتقد أحداث القرن العشرين التي أدت في نظره إلى تراجع المبادئ الديموقراطية بسبب الحربين العالميتين وظهور الأنظمة الديكتاتورية واليسارية الشمولية. ثم يعرج على الفترة المعاصرة ليفسر كيفية تحول الدول الديكتاتورية إلى دول ديموقراطية وسقوط الأنظمة الاشتراكية، وتحولها إلى أنظمة تنحو نحو وجهة الاقتصاد الحر بسبب عجزها عن حل مشاكلها الاقتصادية.

في مواضع أخرى من الكتاب، يضع المؤلف الأصبع على فكرة التاريخ الكوني، فيستعرض مختلف النظريات التاريخية لفلاسفة التاريخ والآلية التي تحرك التاريخ العالمي، والمتمثلة في نظره في الآلة العسكرية والتكنولوجية وسعي الإنسان المعاصر للسيطرة على الطبيعة، معتبرا أن التاريخ يسير نحو تاريخ عالمي متجانس بهدف تكوين الدولة العالمية، مستبعدا أن يكون التاريخ الكوني تاريخا دوريا يقضي على المنجزات الحديثة ليرجع للمرحلة السابقة. إلا أن أهم ما يميز فكر فوكوياما في باب التاريخ العالمي يكمن في رؤيته بأن الاتجاه نحو الدولة العالمية المتجانسة يؤدي إلى نشأة مجتمع خال من الطبقات، ويعكس آخر مرحلة مرضية من التاريخ الإنساني، منها سيكون الاتجاه نحو نهاية التاريخ.

ولم يفته الإشارة إلى ما ينجم عن التطور التكنولوجي من دمار للبيئة معبرا عن تشاؤمه الشديد في هذا المجال من المجهودات التي تقوم بها الجمعيات ومنظمات من أنصار البيئة. وحول الاقتصاد الاشتراكي، أبرز أوجه قصوره، خاصة من ناحية اعتماد الدول الاشتراكية على فكرة الخطط الاقتصادية التي لم تعد ملائمة في نظره للتغيرات الاقتصادية السريعة وتبدل الأسعار، ومن ثم يعتبرها معيقة للتطور التكنولوجي، ويقرن الثورة العلمية بالديموقراطية الليبرالية الحرة.

ويطرح في مواضع أخرى وجهات نظر تتعلق بفلسفة التاريخ، خاصة آراء هيغل كما فسرها كوجيف حول الحرية والإنسان، معتبرا أن الحرية تظهر عندما يقدر الإنسان على تجاهل وجوده الطبيعي الحيواني وخلق ذات جديدة لنفسه. وفي هذا الإطار يخصص فصلا لمعالجة السيادة والعبودية، فيرى أن خدمة العبد لسيده أصبحت تستفيد من التطور التكنولوجي، مما جعل العبد حرا بفضل تغلبه على صعوبة الخدمات السائدة قبل العصر التكنولوجي، ومطالبا بالمزيد من الحرية والمساواة.

وفي تحليله للكائن البشري، يرى أن انفعالات الإنسان من خلال رغبته في العرفان والتمايز والحفاظ على النفس والكرامة، يؤدي به إلى الدخول في مجتمع مدني حيث الدستور يقر بحقوق كل إنسان، ويقدم شرحا لمفهوم الشهامة اعتمادا على آراء الفلاسفة الأقدمين، منتقدا النظام الشيوعي الذي جعل الجزء الشهواني من النفس ضد الجزء الحيوي فيها، وذلك بإجبار الناس العاديين على جعل العديد من التافهين أكثر اتفاقا من طبائعهم.

ويلاحظ أن فكرة الديموقراطية تأخذ حيزا هاما من اهتمامات المؤلف الذي يرى أن غيابها يسفر عن مشاكل لا حصر لها داخل المجتمع، ويمكن أن تلعب دورها إذا وضعت في الحسبان الخصوصيات الثقافية لشعب أو أمة. ويذهب إلى أن الديموقراطية تتجه نحو وجهة عالمية تتميز بالتجانس، ليخرج بنتيجة قطعية في نظره، وهي أن التاريخ يقود الإنسان بطريق أو بآخر إلى الديموقراطية الحرة.

ويستند فوكوياما في الدفاع عن أطروحة التوجه الكوني نحو الديموقراطية على الثورة الحالية لتكنولوجية الإعلام، فالانفجار التكنولوجي في المجال الإعلامي الذي نجح في غزو أكثر المناطق انزواء في العالم، سيعطي –في نظره- الأفراد مزيدا من القدرات ويسرع من وتيرة الدمقرطة[3].

وبهذه الأفكار التي أبرزنا خطوطها العريضة كما أوردها فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشر، يبرر أطروحته حول نهاية التاريخ الذي لن يطرأ في نظره أي مؤشر جديد يغيره أو يؤدي به إلى مسار جديد. فما مدى مصداقية هذه الأطروحة؟

من إنصاف القول أن فوكوياما كان جريئا في أطروحته، ولم يكن يغرب عن باله أنها ستلاقي جيشا من النقاد[4]. كما يحمد له إبحاره في كتابه السالف الذكر عبر مجموعة من العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفلسفة التاريخ والأنتروبولوجيا، ونجاحه في تجييش مجموعة من القرائن التي تدل على صحة وجهات نظره. وبالمثل اتخذ التاريخ بمراحله الشاسعة مرجعية لمجموعة من التصورات، خاصة في تحليله للحرية والديموقراطية، واستطاع بهذا التحليل التاريخي أن يدلل على أبعاد أطروحته.

وقد دعم مقولته حول نهاية التاريخ بمؤلفات وأبحاث ومقالات أخرى دافع فيها دون هوادة عن أفكاره[5]، فضلا عن مقابلات علمية متعددة أجرتها معه مختلف المجلات[6] نذكر من بينها على سبيل المثال مجلة Construction[7] التي أجرت معه حوارا مطولا أكد فيه تشبثه بنظريته وموقفه من أن اليمين هو القادر الوحيد على تسيير الاقتصاد العالمي، منتقدا بعض النظريات الوسطية كنظرية الطريق الثالث لرئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، بل ذهب بعيدا في حديثه عن نهاية الإنسان الأخير بفعل ثورة الاستنساخ التي جعلت بعض الباحثين يبشرون بعمر إنساني يمتد إلى 200 وحتى 300 سنة[8]؛ ولعل كتابه الأخير: The great discruption : human nature and the reconstruction of social order[9] يعكس هذا التوجه الأخير، فضلا عن آخر مقال صدر له تحت عنوان (الإنسان الأخير في الزجاجة) The last man in a bottle[10].

والواقع أن أي أطروحة معاصرة لم تثر صخبا وضجة إعلامية مسترسلة مثلما أثارته أطروحة فوكوياما. وربما زاد من تضخيم ردة الفعل تجاهها سوء الفهم الذي وقع في حباله بعض المنتقدين لها؛ لذلك لا غرابة أن نجد صاحب الأطروحة يشكو من قلة إدراك المجادلين لأطروحته بقوله: "لقد نتج قسم كبير من الجدال الأول حول نهاية التاريخ عن سؤال دلالي غبي إذ لم يفهم العديد من القراء أنني استعملت كلمة تاريخ بمعناها الهيغلي الماركسي: التطور التدريجي للمؤسسات الإنسانية والسياسية والاقتصادية"[11]. ويوضح المفهوم الذي استعمله للتاريخ بأن هذا الأخير موجه بواسطة قوتين جوهريتين، وهما توسع علوم الطبيعة والتكنولوجيا المعاصرة التي تشكل أساس التحديث الاقتصادي، والنضال من أجل الاعتراف الذي يتطلب في نهاية المطاف نظاما سياسيا يقبل كونية حقوق الإنسان. وعلى عكس الرؤية الماركسية التي ترى أن صيرورة التطور التاريخي تجد نهايتها في الاشتراكية، فإن المفكر الياباني يرى أن هذه النهاية تتجسد في الديموقراطية واقتصاد السوق. ولم يعد ثمة نموذج آخر للتنمية قابل للاستمرار يجعل العالم يتفاءل بنتائج أفضل من اقتصاد السوق، فحتى النموذج الآسيوي التنموي المزعوم، والذي تتبناه دول ما يعرف بنمور آسيا عرف هزة قوية بسبب التعثرات التي شهدها في العقد الأخير بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت به، مما يؤكد هشاشة نظام الحكم المطلق في البلدان الآسيوية، حيث سعى ذلك النظام إلى كسب شرعيته من خلال الإنجازات الاقتصادية الكبرى[12].

ومع ما لنظرية فوكوياما من بريق وسحر وجاذبية قوية على قرائها، ورغم ما تحمله من قيمة فكرية تفتح شهية النقاش، فإننا سنعمل على تشريحها انطلاقا من ظرفية ظهورها، ثم تحليل بنائها الداخلي كنظرية في التاريخ وفي فلسفته.

 فكرة نهاية التاريخ ولدت من رحم "النظام العالمي الجديد"…

إن التحليل العلمي لأي منتوج ثقافي لا يتم بمعزل عن بنية الواقع الذي أفرزه، ومن هذا المنظور، لم تكن فكرة نهاية التاريخ التي طرحها فوكوياما في سوق الثقافة سوى غطاء فكري يجسد انتصار النظام العالمي الجديد الذي بدت ملامحه تتشكل منذ العقدين الأخيرين، ودخل القاموس السياسي لأول مرة حين استعمله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب في خطاب وجهه إلى الشعب الأمريكي عندما قرر إرسال القوات الأمريكية إلى أرض الجزيرة العربية بالخليج إبان الاجتياح العراقي للكويت.

بيد أن هذا النظام الجديد لم يكن سوى تتويج لمجموعة من التغيرات التي شهدتها خارطة العالم السياسي التي دخلت في إيقاع تطورات سريعة منذ الثمانينات، فمنذ سنة 1985 قدم الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف مشروعه الطموح المعروف بسياسة البروسترويكا، وهو مشروع إصلاحي جاء كرد فعل ضد ما أفرزته سياسة التسلط والبيروقراطية والنظام الشمولي السائد في العهد الشيوعي الذي هيمن ردحا من الزمن في الاتحاد السوفيتي، وما تمخض عن ذلك النظام من مشاكل متفاقمة شملت كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

لقد كانت الحركة الغورباتشوفية منعطفا بارزا لم يكشف عن مثالب النظام الشيوعي وأزمة اليسارية الشمولية كما طبقت في الاتحاد السوفياتي فحسب، بل كان أول معول يوظف لهدم ذلك النظام من الداخل، ويسعى لحفر قبر بعض الأنظمة التابعة له في أوروبا الشرقية التي لم تجد حرجا في إعلان تمردها على الأنظمة الكلية، والاندماج في الاقتصاد الحر[13].

والمتتبع للمتغيرات التي شهدها العالم منذ التسعينات، يلاحظ أن الرياح صارت آنذاك تعاكس الفكر الاشتراكي، فإلى جانب انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا وتفكك الاتحاد السوفيتي، جاء سقوط جدار برلين سنة 1989، وإجبار روسيا –بوضعيتها المترهلة ووزنها الدولي المتآكل- على توقيع العديد من الاتفاقيات مع الولايات المتحدة، قاصمة الظهر لدولة طوت آخر صفحة من صفحات العظمة، فتقلص دورها العالمي، وضعفت قدراتها العسكرية[14]، وتمخض عن ذلك كله نتائج سلبية في تاريخ الأنظمة الشيوعية، نذكر من بينها إعلان حل منظمة الكوميكون التي أعلنت إفلاسها في مشاريعها التجارية[15]، ليتبعها بعد ذلك حل حلف وارسو في براغ بتاريخ فاتح يوليوز 1991، وهو أقوى حلف كانت تتخوف منه الولايات المتحدة في زمن الهيبة الشيوعية.

يضاف إلى جملة الانتكاسات التي عرفها النظام الشيوعي، الهزائم المرة التي لحقته في أفغانستان حيث تم استئصال شأفة الخطر الأحمر بفعل تحالف القوى الإسلامية هناك بدعم أمريكي واضح؛ ناهيك عن تداعي أنظمة أخرى بإفريقيا وآسيا كانت تدور في فلك المارد الأحمر السوفيتي.

لقد عصفت هذه المتغيرات بالاتحاد السوفيتي كقوة عظمى تشارك في الحفاظ على التوازن الدولي، وأدت إلى ضمور نفوذه، مقابل بروز القوة الأمريكية كقطب أوحد، ليتمخض عن ذلك كله ظهور نظام دولي جديد بزعامة الولايات المتحدة. إن هذا الانتصار الأمريكي لم يكن انتصارا زحزح الاتحاد السوفيتي عن مواقعه العسكرية المتفوقة، بقدر ما كان انتصارا إيديولوجيا تحقق بعد جولات طويلة من الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، ورجحانا قويا للفلسفة الليبرالية الديمقراطية على حساب الفكر الشيوعي الاشتراكي الذي عرف أفولا كنتيجة حتمية لانتصار السياسة والاقتصاد الأمريكي[16]، مما أدى إلى أزمته. وفي خضم نشوة الانتصار والتفوق، راح النظام الدولي الجديد يروج لمجموعة من المقولات الفكرية التي تدعمه وتعضده فكريا وإيديولوجيا، ومن بينها مقولة نهاية التاريخ التي تشكل حجر الزاوية في كتاب فوكوياما.

حسبنا دليلا على ذلك أنه لم يلمع نجم مؤرخ ومفكر في الأوساط الثقافية والسياسية مثل ما لمع نجم هذا المؤرخ الياباني الشاب الذي رفعته وسائل الإعلام الرأسمالية إلى مستوى أهرامات المفكرين ورواد فلسفة التاريخ، وجعلت كتابه يعرف شهرة واسعة بعد أن عرفت كيف تروج له، وتستقطب حوله الاهتمام بفعل الدعاية المكثفة التي كان وراءها النفوذ السياسي وسلطة المال.

إن هذه التغيرات العالمية ذات الإيقاع السريع المتجه نحو تكريس النظام العالمي الجديد تفسر إلى حد كبير أن هذا الكتاب/القنبلة تحول من مجرد محاضرة ألقاها فوكوياما في جامعة شيكاغو الأمريكية إلى كتاب طبقت شهرته الآفاق. ولا أعتقد أن هذا الشاب الياباني الأصل، الأمريكي الجنسية، الذي كان يشتغل في العلوم السياسية بمؤسسة راندا بكاليفورنيا ومديرا مساعدا لمصلحة التخطيط الأمريكية وعضوا باحثا في مركز الأبحاث Rand Corporation التابع لجامعة شيكاغو[17]، كان يحلم بكل هذه الشهرة التي بناها بوسائل الإعلام الأمريكية، وجعلته يحول محاضرته التي ألقاها في جامعة شيكاغو ونشرتها مجلة The National interest سنة 1989 إلى كتاب أكثر ما يقال عنه أنه  يقال عنه أنه إعادة لفكرة هيغل، ودفاع عن نظرة الدولة الرأسمالية[18]، وإعلام غربي متطور يهدف إلى الترويج للنظام العالمي الجديد.

 نقد فكرة نهاية التاريخ انطلاقا من بنائها الداخلي:

ثمة ملاحظات يمكن أن توجه إلى أطروحة فوكوياما في تكوينها الداخلي كمنظومة فكرية، نذكرها على شكل انتقادات عبر نقاط نعتقد أنها تشكل الحلقات الضعيفة في تلك الأطروحة ونوجزها في الآتي:

1-النهاية المستنسخة: إن مقولة نهاية التاريخ ليست مقولة جديدة، بل هي اجترار لمقولات دينية وفلسفية قديمة وحديثة. فهذه المقولة تعد من المسائل الحتمية المتجدرة في المعتقد الديني الذي ربط الزمان بالخلق الأول وبمصير نهاية الإنسان المحتومة؛ ولا غرو فقد وردت في كل الديانات السماوية كما هو الحال في اليهودية والمسيحية والإسلام، مجسدة بفكرة الفناء والانتقال إلى الدار الأخرى. والزمن التاريخي المحدد بالبداية والنهاية في الفكر القرآني من الأمور المعروفة التي لا تحتاج إلى إسهاب أو تفصيل[19]، حتى أن إحدى السور القرآنية سميت بسورة الدهر. وفكرة النهاية واضحة في دلالة مفهوم الساعة التي لا ريب فيها، والمتجسدة في قوله عز وجل "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"[20]، بيد أن الإسلام أكسب مفهوم "النهاية" إلى جانب الطابع الديني، طابعا دنيويا اجتماعيا، ذلك أن فكرة نهاية التاريخ في الإسلام منظورا إليها من ناحية الصراع الاجتماعي وعلاقة المجتمع بالسلطة جاءت تعبيرا واضحا عن تصور "ثوري" جسده القرآن الكريم بالمعنى الاجتماعي في قوله تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"[21]، فالرؤية القرآنية حصرت الصراع الاجتماعي والسياسي بين المترفين والمستضعفين وحسمت مسألة التنافس في التاريخ البشري بانتصار المستضعفين من حزب الله ضد المفسدين من حزب الشيطان ومن ثم تأتي نهاية تاريخ الإنسانية نهاية عادلة بانتصار قوى الخير على قوى الشر. كما نجد في النظريات الشيعية، خاصة النظرية المهدوية القائلة بنزول الإمام وملئه الأرض عدلا كما ملئت جورا قبل الفناء الأخير، ما يعكس هذه النظرة العادلة والمنطقية حول نهاية التاريخ.

وفي الفلسفات القديمة نجد زرادشت يصور نهاية التاريخ في نقطة الالتقاء التي يتصارع فيها الخير والشر أيضا، فينتصر الأول على الثاني. كما أن مقولة التيموس مأخوذة من سقراط وأفلاطون[22]، وبالمثل فإن مقولة الإنسان الأخير مقتبسة من نيتشه. والقول ببداية التاريخ والدولة الليبرالية مقولات هيجلية، دون أن ننسى محاولات المفكر الألماني ماركس في تعديل المقولات الهيغيلية، والقول هو أيضا بنهاية التاريخ بعد صراع طويل بين البورجوازية والبيروليتاريا، وحتمية انتصار هذه الأخيرة ونهاية الدولة التي لا يصبح لها آنذاك أي مبرر للوجود بعد انتفاء التناقضات السوسيو-اقتصادية.

كما أن بعض المدارس التاريخية أثارت خلال القرن الماضي مشكلات فلسفة التاريخ ومقولات التقدم والتخلف في صيرورته وإمكانية التنبؤ بنهايات محتملة، ويكفي ذكر نموذج سبنجلر الذي تنبأ في كتابه سقوط الغرب بنهاية العالم الغربي حضاريا على الأقل.

وفي الستينات من القرن العشرين تضخمت خطابات ومقولات نهاية التاريخ بعد تصاعد مزاعم نهاية الإيديولوجيات مع عالم الاجتماع كارل لبست K. Lipest[23].

والحاصل إن ما قام به فوكوياما لا يعدو أن يكون طرحا إحيائيا أو بعثا لفكرة النهاية، وإعادة صياغة للأفكار القديمة والحديثة التي نبشت في ملفها؛ ولا غرو فقد ظل مرتحلا بين فكرة الإنسان الأخير عند زرادشت ونتشه، والاعتراف عند هيغل، والحتمية التاريخية عند ماركس. وبكلمات أخرى فإنه لم يتجاوز الربط بين ما صاغه الفلاسفة الذين سبقوه، والفترة المعاصرة، دون إضافات جديدة حتى بالنسبة لفلسفة التاريخ، وكأنه قام بدورة حلزونية ليرجع بالفكر الإنساني إلى نقطة الانطلاق التي توقف عندها فلاسفة الفترة الحديثة، أو أنه أراد –دون أن يعي- تجاوز الفكر الديني وكذا الفكر الماركسي وما أنجزته الثورة البلشفية والمبادئ التي صاغتها، والثورات التحررية في بلدان العالم الثالث التي نحتت بصمات واضحة في الفكر الديموقراطي والحرية والمساواة؛ بل إن النبرة العدائية للنظام الاشتراكي تبدو واضحة في معالجته لمختلف الثورات الاشتراكية التي يفتري عليها أنها أفسدت النظرية الهيغيلية، هذا مع انحياز تام وتحمس وتمجيد للنظام الرأسمالي، الأمر الذي يخلع عنه صفة الموضوعية إذا اعتبرناه مؤرخا.

وفكرة النهاية في حد ذاتها تتسم بالغموض، إذ لا يشعر الفاحص لتأملات فوكوياما ما إذا كانت هذه النهاية أبدية أم نهاية تتلوها بداية، وهو ما اعتبره بعض الباحثين حلقة ضعيفة في تفكيره إذ كيف نقبل بنهاية ونحن لم نعرف بعد البداية الحقيقية[24]. وإذا كان قد اقتبسها من هيغل فقد فاته أن الأخير أعلن فكرة النهاية تاريخيا مقابل البداية فلسفيا، وأن فكرة النهاية تنتمي للتاريخ دون أن تعلن طلاقا مع الفلسفة[25].

2-يلاحظ أن فوكوياما قام بقراءة خاطئة لبعض     الوقائع التاريخية، فلم يحالفه الصواب في تحليله لبعض القضايا التاريخية التي تشكل حجر الزاوية في كتابه، وهو ما يتجلى في عدى مستويات نذكر منها:

ـ وهم نهاية الدولة كمرجعية هيجلية: فحتى بالنسبة لنظرية هيغل حول نهاية التاريخ، والتي جعلها مرجعية أساسية في أطروحته، أثبت التطور التاريخي خطأ نظريته القائلة بنهاية التاريخ عند مرحلة الدولة الليبرالية، وحسبنا بروز تيارات فكرية في أوروبا بعد ظهور نظرية هيغل خلفت آثارا واضحة في صيرورة التاريخ الإنساني خلال القرنين 19 و20، ممثلة في التيارات الاشتراكية والفاشية والنازية والوجودية والسريالية، فضلا عن التيارات القومية والدينية والإيديولوجية المتطرفة التي لعبت أدوارا أساسية في المجتمعات الحديثة، ولا تزال تلعبها في عز النظام الدولي الجديد. وإذا كانت المرجعية التي تبناها خاطئة، فإن نتيجة التحليل تكون بالضرورة خاطئة.

ـ وهم الانقطاع في صيرورة التاريخ: إن المنطلق الذي انطلقت منه مقولة نهاية التاريخ مقولة لا تستند على واقع علمي، بل تنطلق من فكرة خاطئة أساسا، مفادها إمكانية حدوث الانقطاع في صيرورة التاريخ، علما بأن التاريخ يسير دوما في حركة تصاعدية لا تعرف الانقطاع أو الدائرية، ولا يمكن أن تتوقف بإرادة ذاتية من شخص معين كان باحثا أو مهندسا أو سوسيولوجيا أو محترفا لأي مجال من مجالات البحث العلمي، علما أن من أبجديات التعريفات المتواترة للتاريخ أنه علم تطور الإنسان داخل مجتمع ما، يعيش تبدلات وتغيرات نتيجة الصراعات اللامنتهية وحاجات البشر التي لا تنقطع، ولم يكن إشباعها إشباعا نهائيا منذ أن بدأ الخلق إلى أن تقوم الساعة. ولا شك أن سعي الإنسان لتحدي الطبيعة وتحدي التحدي بتعبير أرنولد توينبي ما تزال وستظل مقولة تمارس تأثيرها على البشر وعلى حركة التاريخ، خاصة من ناحية التحدي العلمي. ومهمة المؤرخ تكمن في ملاحقة هذه التغييرات وكتابتها انطلاقا من المرجعية الوثائقية، وهي مرجعية تتغير باستمرار بفضل ما يتم الكشف عنه من وثائق جديدة تعطي مناهج متعددة يغتني بها علم التاريخ، وتعجل بظهور مقولات جديدة، لكنها ليست مقولات نهائية، بل هي مقولات تتغير باستمرار ما دام التاريخ يتغير ويسير بإيقاع قوي، فلا معنى إذن لوضع نقطة نهاية لتاريخ تعد كل نقطة فيه بداية مرحلة جديدة، ما دام الجدل يشكل صيرورة مستمرة تعبر عن نهاية حقبة لتعلن عن ميلاد حقبة أخرى، مصداقا للرؤية القرآنية "وتلك الأيام نداولها بين الناس"[26]. ومما يؤكد عدم مصداقية هذا الاتجاه أن أيا من المؤرخين الأمريكيين الذين درسوا التاريخ الأمريكي الحديث والمعاصر، وسبروا غوره لم يصلوا إلى هذه النتيجة غير العلمية.

صحيح أن ثمة علامات تنحت نفسها وتشكل منعطفات حاسمة في مسيرة الزمن، بدءا من هبوط آدم من الجنة ووقوع الطوفان ومبعث الأنبياء، مرورا باكتشاف أمريكا وظهور آلة البخار، وصولا إلى الثورة الفرنسية والحربين العالميتين وظهور الانترنيت، وكلها محطات هامة غيرت من وتيرة تاريخ البشرية، وشكلت نقطة نهاية عصر وبداية عصر آخر، لكنها لم تشكل نقطة انقطاع في التاريخ. وبكلمات أخرى، فإن هذه المحطات الحاسمة لا تجسد نقط بداية أو نهاية بقدر ما هي أحداث كبرى وقضايا ثقافية تساهم في فرز نظرية للمعرفة[27]. والتاريخ بهذا المعنى لا يتوقف في كليته أو شموليته، وإنما تتحول بعض الظواهر الجزئية فيه، وهي الظواهر التي عممها فوكوياما، متخيلا أنها تؤدي إلى النهاية، متناسيا أن التاريخ حركة كلية ديناميكية متدفقة ومتجددة، تندرج فيها حركة الكون والأرض والإنسان والمجال بجميع حيثياته وأبعاده، منذ بدأ الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والحاصل أن الجبرية التي يتحدث عنها فوكوياما والحالة الإلزامية التي يسعى لفرضها على مسار الإنسانية بهذه الميكانيكية العمياء، لم يحن أوانها بعد، لأنها اتخذت أبعادا وتأويلات بعيدة عن المرجعية التاريخية الدقيقة.

 تناقض ثنائية التاريخ الكوني والمركزية الأوروبية: إذا كان فوكوياما قد أكد على أن ثبات الديموقراطية الليبرالية هو الطريق الوحيد الذي يجب سلوكه لدخول التاريخ الكوني، معتبرا أن كل المراحل السابقة على الديموقراطية الليبرالية مراحل ما قبل التاريخ، وبأن بوصول المجتمعات البشرية إلى هذه المرحلة من التاريخ الكوني ينتهي التاريخ، فإنه يناقض نفسه بوضوح في ارتكاز تحليله على البعد المركزي الأوروبي، وهو البعد الذي طالما انتقده بشدة إدوارد سعيد. وهذه واحدة من المآخذ التي تؤاخذ كذلك على أطروحته حول نهاية التاريخ. فعلى الرغم من أن فلاسفة عصر الأنوار ومؤرخو الحضارات ورواد التاريخ الجديد الذين جاءوا من بعدهم قد تحدثوا عن التاريخ الكوني وشمولية التطور البشري، فقط ظل هذا التاريخ في عالميته وتطور سيرورته يخضع للزمن الأوروبي، بينما أزمنة المجتمعات الأخرى مجرد دوائر تحيط بالمركز، وليس لها أي تأثير في مجريات تطور الإنسانية. فالتاريخ الأوروبي في نظر فوكوياما هو التاريخ الجوهري المستمر، بينما تواريخ العالم الآخر مجرد تواريخ سطحية عارضة يمكن القفز عليها، ومن ثم فإن نهاية التاريخ تتجسد في إخضاع الأوروبي-الغربي المنتصر لغير الأوروبي كتاريخ متخلف. ومن هذا المنطلق اتخذ فوكوياما من التاريخ موقعا متشائما في وجه المجتمعات غير الأوروبية، فعندما يقف المفكر الأوروبي في موقع مرجعي غير الذي انطلق منه صاحب أطروحة نهاية التاريخ، فإنه يرى الواقع المعاصر لا من حيث نهايته للتاريخ، بل هو استمرار لتاريخ لم ينته بعد بالمعنى الذي يجري وراءه فوكوياما، لأن الإنسان الثالثي –نسبة للعالم الثالث- ما تزال تكبله مشكلات عديدة تحول دون وجوده على خط السير نحو الليبرالية الديموقراطية[28].

ـ نهاية مبتورة للتاريخ: إذا انطلقنا من الملاحظة السابقة التي أوردناها حول توافر مقولة نهاية التاريخ على زمنين أو تاريخين: زمن أوروبا والغرب، وزمن المجتمعات النامية أو البعيدة عن طريق الليبرالية الديموقراطية، فمن حق الباحث المتفحص أن يتساءل: متى ينتهي تاريخ الدول الأخرى التي لم تتبن الليبرالية منهجا في الاقتصاد والسياسة؟ هل ستظل في مراحل ما قبل التاريخ كما يشير إلى ذلك فوكوياما في معرض حديثه عن نهاية عصر الإيديولوجيات الكبرى، أو لا يشكل ذلك تناقضا مع فكرة نهاية التاريخ التي يفترض أن تكون كل المشاكل الاقتصادية والسياسية والعرقية قد حلت معها؟

على عكس هذا الاتجاه، فإننا نجد أن الهوة بين الشمال والجنوب والدول الغنية والفقيرة قد زادت اتساعا، وبرزت القوميات العرقية بحدة في البوسنة وكوسوفو وجنوب الفلبين وغيرها من أرجاء العالم، وأصبح التطرف الديني وانتشار الإرهاب بكل أنواعه يؤكد أن التاريخ لم ينته بقدر ما بدأ. ولم تعد تقنعنا ردود المفكر الياباني وتبريراته بأن أزمة كوسوفا الحالية مهما بلغت مأساويتها الإنسانية، لا تعد حدثا ذا بعد عالمي قادر على أن يعدل المؤسسات الأساسية بالمرة[29].

ـ خلل في التحليل التاريخي: تشكو نظرية فوكوياما من فقر واضح في التحليل الخاص بدور الاستعمار في تطور المجتمعات الإنسانية ودور الإمبريالية الرأسمالية في التمهيد لانتصار الليبرالية واتجاه بوصلة التاريخ نحو النهاية، وبذلك أغفل عن عمد أو بدون وعي في تحليله التاريخي أن النظام العالمي الجديد الذي بشر به على الصعيد الفكري يضرب بجذوره في عمق التاريخ الإمبريالي الذي كان في سبيل تسويق فائض إنتاجه لا يتورع عن استعباد الشعوب وإبادتها. وهكذا بإغفال فوكوياما لهذا العنصر كمكون أساسي للتاريخ الحديث والمعاصر، يكون قد أخطأ في المنهج الذي انطلق منه، والمنهج الخاطئ أصلا، لا يمكن إلا أن يفرز نتيجة خاطئة.

ومن الملاحظ كذلك أنه أقصى العنصر الاقتصادي والقاعدة المادية في تحليل وقائع التاريخ، لينحاز مقابل ذلك إلى مقولة الحاجة إلى الاعتراف التي صاغها هيجل ضمن منظوره للديموقراطية الليبرالية كزواج ببين العقل والحرية وضمان للتعددية[30]، ومعنى ذلك أنه أغفل التحليل الملموس للواقع الملموس والعناصر الفاعلة في التطور التاريخي، مما أسفر عن فراغ في حصيلة التحليل.

وبالمثل، يلاحظ أن فوكوياما لم يستثمر المعلومات التاريخية المتوافرة عن بعض المجتمعات ذات الخصوصية التاريخية مثل المجتمعات الإسلامية. فباستثناء إشارات شاحبة حول إيران فإن كتابه لا يتضمن سوى معطيات هزيلة من تاريخ المجتمعات الإسلامية ودورها في مستقبل الصراع العالمي وبناء المجتمع الدولي الجديد، وهو ما سبق أن أكدته دراسات فكرية سابقة، أو أثاره ولو بكيفية سلبية مفكرون معاصرون من أمثال صمويل هانتجتون.

ـ معالجة تفتقر إلى مبادئ علم الاقتصاد: من المسائل التي تثير الانتباه أن فوكوياما يعالج في كتابه قضايا اقتصادية حساسة مثل العمل والشركات والأرباح والبورصات والسوق العالمية والتضخم والاستغلال، ويطلق في ذلك أحكاما نهائية ويقينية توحي بأن صاحبها متمرس في النظريات الاقتصادية، في حين تثبت آراؤه أنه غير متعمق في مبادئ علم الاقتصاد، علما بأن القضايا التي يناقشها في امتدادها الزماني والمكاني تتطلب بعدا معرفيا اقتصاديا كبيرا، وتستلزم فرق بحث متخصصة في الحقول المعرفية الأخرى التي يطرحها، فضلا عن امتلاك إحصائيات دقيقة متطورة لإثبات صحة ما يذهب إليه. ولعل هذا ما جعله يتعرض لانتقادات شديدة في الأوساط الثقافية التي أجمعت على افتقاره لهذه العلوم، وربما كان ذلك وراء تأليفه لكتاب Trust[31] الذي لم يسلم بدوره من تلك الهنات. أما بالنسبة لموضوع التاريخ وهو الموضوع الأساسي في أطروحته، فإنه لم يلامس منه إلا القشور، لذلك حق لأحد الباحثين وصف العمل الذي قدمه في كتابه نهاية التاريخ بأنه خوض في فلسفة التاريخ أكثر منه بحث في مشكلات التاريخ ذاتها[32].

ـ نظرية إسقاطية وقراءة موجهة للتاريخ: إن أطروحة فوكوياما هي أطروحة إسقاطية تنطلق من انتماء واضح للنموذج الأمريكي المسيطر على العالم، ذلك أن تأليف الكتاب ورواجه تزامن مع القطبية الأمريكية وتفردها بزعامة العالم، وسعيها إلى الاستفادة القصوى من تهاوي الأنظمة الاشتراكية، واستغلال ذلك للمزيد من تعميق أزمة الفكر الاشتراكي وتحويله إلى فكر جامد أو ميت لا يقدر على تجديد نفسه[33]. وبذلك وضع فوكوياما نفسه في موقع قبلي مسبق يحاول الدفاع عنه والبحث عن كل المسلكيات التي تؤكد صحة توجهات النظام الدولي الجديد؛ فهو ينظر إلى منطق الأشياء انطلاقا من مرجعية معينة تتمثل في تحليل الأحداث والتغيرات التي عرفها المجتمع المعاصر من خلال الانتماء إلى النموذج الأمريكي المهيمن، فتصبح الليبرالية الديموقراطية –تبعا لهذا الاتجاه- لا تناقش انطلاقا من بنيتها وعناصرها الداخلية سلبا وإيجابا، بل تتحول في نظر صاحب نهاية التاريخ إلى نموذج ناجح لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مع إغماض العين عن سلبيات هذا النموذج وتناقضاته الداخلية التي أفرزت مجموعة من الأزمات العالمية، خاصة أزمة العرقيات، وضحايا المجاعات والحصار باسم الشرعية الدولية التي أقامها هذا النظام نفسه. ناهيك عن نظرة فوكوياما إلى النظام الدولي الجديد على أساس مادي بمعزل عن الأساس الروحي الذي أصبح يغرق هو الآخر في أوحال أزمة خانقة، علما بأن التقدم المادي لأي نظام هو مسلك خادع على حد تعبير مؤرخ الحضارات أرنولد توينبي؛ وهكذا تكون قراءة فوكوياما للنظام الدولي الجديد قراءة موجهة، وتحليقاته في فضاء النظام الجديد تحليقات عرجاء وتخريجات إسقاطية مبنية على مواقف قبلية موجهة.

ـ أطروحة فكرية في خدمة السياسة الأمريكية: تنطلق أطروحة فوكوياما من إيديولوجية تبناها النظام الدولي في ظروف جديدة حتمت عليه الدخول في ترتيبات جديدة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ودخول العالم منعطفا جديدا. ومعلوم أن كل نظام جديد يمثل منظومة فكرية متكاملة لا بد أن يستند على رؤية معرفية وغطاء فكري يبرراه ويروجان لديمومته، وهذا ما يفسر بروز مجموعة من النظريات التي صاحبت هذا التحول، من أكثرها شيوعا نظرية صموئيل هانتجتون القائلة بصدام الحضارات، ونظرية ما بعد الحداثة ونظرية تسارع التاريخ، وكلها نظريات روجت لفكرة الليبرالية الديموقراطية وحتمية سيادتها في النظام الدولي الجديد. ولم تخرج نظرية فوكوياما عن هذا المسار، إذا اتخذت على عاتقها مسؤولية الترويج لفكرة الإجماع العالمي حول مسألة الديموقراطية والالتفاف حول النظام الليبرالي كحل نهائي تنشده الإنسانية، وبذلك انتهت الحرب الباردة ومسألة الصراع الإيديولوجي لينتهي معها التاريخ. وهكذا يصبح فوكوياما مجرد أداة يستخدمها النظام الدولي الجديد وبوق دعاية لهذا النظام في مرحلته التأسيسية، وتتحول نظريته من نظرية فلسفية إلى خطاب سياسي إيديولوجي يبشر بأبدية الرأسمالية في ثوبها الجديد، وانتفاء إمكانية مناهضتها بسبب قوة المنتصر وديمومته وهزمه النهائي لنقيضه، وبالتالي فإن نهاية التاريخ تعني بالضرورة نهاية السياسة كما تعني نهاية الإيديولوجية، لأن التناقض لم يصبح حقيقة قائمة[34].

ـ نقطة الضعف المعترف بها في الأطروحة: رغم إصرار فوكوياما على صحة أفكاره ودفاعه المتواصل عنها، لم يجد مناصا من الاعتراف بما أجمع عليه النقاد حول نقطة ضعف أطروحته، وهي أن التاريخ لن ينتهي ما دامت العلوم الطبيعية المعاصرة لم تبلغ غايتها ونهايتها بعد، وأنه لا يمكن وضع حد للعلم، والعلم هو وحده الذي يقوم الصيرورة التاريخية. وبالتالي فإن التاريخ لن ينتهي في مجتمع لا يزال ينتج العلوم، بل إنه –باعتراف فوكوياما نفسه- تشكل اللحظة الراهنة زمنا متميزا تعرف خلاله البشرية صحوة تكنولوجية وتجديدا هائلا في شتى علوم الحياة، مما يشي ببداية تاريخ جديد سيستمر بعطاءات إنسانية جديدة وإبداعات بشرية خلاقة بدل أن يكون نهاية حتمية مزعومة[35].

وختاما ماذا عن الكتاب نفسه الذي يحمل في ثناياه فكرة نهاية التاريخ؟

ـ كوكتيل يفتقر لطعم موحد: هكذا يمكن وصف كتاب فوكوياما الذي ضمنه مقولته الشهيرة حول نهاية التاريخ، فموضوعات الكتاب تتقاسمها مجموعة من الفضاءات المعرفية المختلطة، المفتقرة إلى التنظيم وإلى انعدام خيط رابط يجمع بينها، وعناوين غريبة قد تقفز بالقارئ أحيانا إلى جزر من الخيال، وإلى عالم غير عالم الكرة الأرضية. أما الفصول فتحمل قضايا معقدة لا تمت بصلة إلى موضوع الأطروحة وهو نهاية التاريخ، ولا ترتبط بدراسات تاريخية بمعنى الكلمة. إنها موضوعات كوكتيلية تتداخل فيها الفلسفة والاقتصاد والسياسة والمجتمع والبيئة والتربية والحقوق والديموغرافيا، دونما حاجة علمية إلى هذا التداخل. كما أنها تتيه بالقارئ في أزمان سحيقة تتسع رقعتها لتشمل الزمن القديم والوسيط لتصل به إلى عصر العولمة، دون تدقيق في الأمور التي تستحق التدقيق. وداخل هذا الكوكتيل المتلألئ، يحاول القارئ أن يمسك بموضوع الأطروحة ليجده سمكة في الماء يصعب قبضها بإحكام. إننا أمام مشهد يبدو أن صاحبه تعمد رسمه بهذه الصورة تجنبا لإبراز عثراته أو تمويها على القارئ بأنه مثقف موسوعي، يمتلك من نبوغ الفكر وعبقرية التحليل ما يجعله أهلا لحل الإشكاليات الدولية بقدرة قادر.

بيد أن المتأمل للنتائج التي خرج بها صاحب الكتاب، لا يجد فيها أي جديد، فكل ما ذكره هو تكرار ممل لما طرح في سوق الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية منذ أمد بعيد، واجترار لما قتل بحثا ودراسة من طرف المؤرخين والفلاسفة.

قصارى القول إن نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ بقدر ما هي قضية فكرية جريئة ومثيرة للجدل والنقاش، فإنها لا تستند على مقومات علمية دقيقة لابتعاد صاحبها عن القاعدة الثابتة التي تشكل منطلق المؤرخ، وهي النزاهة والموضوعية. أما وقد سقط في شباك التحيز حين وضع فكرته في خدمة السياسة الأمريكية الرأسمالية، وصاغ أفكاره بروح انبهارية تحت نشوة انتصار النظام الدولي الجديد، فإن هذا التوجه المهندس سلفا، جره إلى السباحة في عالم تخيل فيه أن التاريخ قد انتهى وأغلق أبوابه بعد انتهاء الحرب الباردة، متناسيا أن بوادر تكتلات سياسية أخرى بدأت تطفو ملامحها مع كل من روسيا والصين والهند، كما أن أوروبا نفسها بدأت تعلن عدم انصياعها لنظام العولمة الجديد، دون أن ننسى أن القوى التحررية الإسلامية بدأت في الانتفاض والتفكير في تكتلات إقليمية وجهوية، وتطمح ليكون لها موقع قدم في خارطة القوى المؤثرة رغم هيمنة الغرب. ومن ثم فإن ظهور أطروحة نهاية التاريخ في عصر ما، ليس سوى علامة على مخاض الفكر الذي يدشن تأمله في حقبة جديدة تصبح البداية وليست النهاية..

 



[1] - رسالة إلكترونية مؤرخة بـ 12/11/2000.

[2] - نهاية التاريخ وخاتم البشر، الترجمة العربية لحسين أمين. أما العنوان الأصلي للكتاب هو:

 The end of history and the last man, 1992, New York, Free Press.

[3] - نفس المرجع والصفحة.

[4] - تعرضت أطروحة فوكوياما لمجموعة من الانتقادات من بينها ما اثبتناه في هذه الدراسة. لمعرفة المواقف المنتقدة لنظريته، انظر صفحة الويب:  www.chez.com/bibelec/publications/histoire/fukuyama.htm

[5] - عن هذه الكتب والمقالات، انظر صفحة الويب:www.iso.gmu.edu/~ffukuyam/publications.htm

[6] - من بين هذه المجلات نجد مجلة Debats التي خصصت ملفا في عددها الخامس لقضية فوكوياما، وكذلك مجلة Expansion وجريدة لوموند الديبلوماسي.

[7] - في عددها 38، بتاريخ 21/9/1999.

[8] - انظر صفحة الويب: www.construire.ch/sommaire/9938/38entret.htm

[9] - عن هذا الكتاب انظر صفحة الويب: www.isuma.net/v01/dobell2-tr/dobell2tr.htm

[10] - انظر صفحة الويب الواردة في الهامش رقم 8.

[11] - عن مقال مترجم من جريدة لوموند الفرنسية، ترجمها الصديق بوعلام، ونشرها في جريدة العلم الصادرة بتاريخ 21 يونيو 1999، عدد 17930، ص4.

[12] - نفس المرجع والصفحة.

[13] - عزت أحمد السيد، (هل بدأ عصر الهيمنة الأمريكية؟)، مجلة الوحدة، عدد 8-9 نونبر 1992، ص97.

[14] - نذكر هنا على الخصوص مؤتمر القمة الأمريكية السوفياتية الذي انعقد بموسكو في الفترة ما بين 30 يوليوز 1991 و8 غشت 1991.

[15] - بتاريخ 5 ماي 1991.

[16] - مختار مطيع، المشاكل السياسية الكبرى المعاصرة، منشورات إيريس، ط1، البيضاء 1993، ص260.

[17] - مسعود ظاهر، (مراجعات نقدية لمقولات فوكوياما)، مجلة البحرين الثقافية، ع16، س4، ابريل 1998.

[18] - نفسه، ص38.

[19] - انظر التفاصيل عند كاصد ياسر الزيدي، (الدلالة الإيحائية لطائفة من ألفاظ الزمان في القرآن الكريم)، مجلة الدراسات اللغوية، مجلد 2، عدد 1، أبريل-يونيه 2000، ص20 وما بعدها.

[20] - سورة الأعراف، آية 34.

[21] - سورة القصص، الآية رقم 5.

[22] - مسعود ظاهر، م.س، ص44.

[23] - محمد شكري سلام، (أطروحة نهاية التاريخ بين الفلسفة والإيديولوجية)، مجلة فكر ونقد، السنة الرابعة، عدد 34، ديسمبر 2000، ص22.

[24] - نفسه، ص23، 25.

[25] - نفسه، ص24.

[26] - سورة آل عمران، الآية رقم 140.

[27] - كولنجورد، فكرة التاريخ، ترحمة محمد خليل ومحمد عبد الوهاب خلاف، القاهرة، 1968، ص33.

[28] - محمد وقيدي، م.س، ص22.

[29] - فوكوياما، مقال صدر له في جريدة لومند المشار إليها سلفا.

[30] - محمد شكري سلام، م. س، ص23.

[31] - عنوانه الكامل هو: Trust : the social virtues and the creation of prospeity, 1995, New York, Free Press، وقد ترجم إلى 26 لغة. انظر صفحة الويب:www.iso.edu/~ffukuyam/# 

[32] - مسعود ظاهر، حول نهاية التاريخ، ص42.

[33] - نفسه، ص45.

[34] - فيصل الدراج: (النظام الدولي الجديد وإيديولوجيا نهاية التاريخ)، مجلة الطريق، يوليوز-غشت 1995، محمد وقيدي، (التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد)، مجلة فكر ونقد، ، مارس 1998.

[35] - مقال فوكوياما، المنشور في جريدة لوموند السالفة الذكر.