ص1    الفهرس   41-50

الجباية والمشروعية السياسية للدولة:

التجربة السعدية نموذجا

الفقيه الإدريسي

ليس من شك في أن البحث في مفهوم "المشروعية السياسية" ضمن النسق السياسي لدولة ما، هو بحث في طبيعة المنظومة الإيديولوجية التي تستمد منها تلك الدولة أسس وجودها ومقومات استمرارها على الصعيد السياسي والمجتمعي. أي بعبارة أخرى، بحث في طبيعة المرتكزات الفكرية والمفاهيم الرمزية التي تشكل قوام تلك المنظومة، التي يستند إليها الحاكم لإثبات أحقيته في الحكم من جهته، وتسويغ شرعية سلطته السياسية من جهة أخرى[i].


والواقع، أنه إذا كان مفهوم "المشروعية" يستقي دلالته الأساسية من البنية الإيديولوجية، التي تساهم مساهمة وظيفية في إنتاج وإعادة إنتاج "الشرعية الاجتماعية" للدولة، وكذا في ترجمة مشروعها السياسي إلى حقائق ملموسة على مستوى الممارسة التاريخية[2]، فإن تلك المشروعية كثيرا ما تفقد مصداقيتها ومبررات وجودها، إذا لم تفلح الدولة، أي دولة، في تجسيد مضامينها وفلسفاتها تجسيدا حركيا على صعيد تطبيقاتها السياسية.

تلك هي القضية التي نروم معالجتها في هذه الدراسة، انطلاقا من قناعة علمية مفادها أن السياسة الجبائية التي نهجها الشرفاء السعديون في منطلق حركتهم شكلت مجالا من أهم المجالات الاقتصادية والاجتماعية الحيوية التي ساهمت في بلورة "مشروعيتهم السياسية" داخل أوساط المجموعات القبلية، وضمنت لهم التأييد والنجاح على عدة مستويات، كما ساهمت تلك السياسة أيضا، في أواخر عهود الدولة، حينما وجهت توجيها مغايرا لذلك التوجه الذي كان معمولا به في بداية الأمر، في تضاؤل "مشروعيتهم السياسية" وتراجع شعبيتهم، تراجعا أدى في نهاية المطاف، إلى تفكك كيانهم السياسي واندحاره إلى غير رجعة. لذلك فإن السؤال المركزي الذي نطرحه ها هنا هو: كيف أثرت الجباية في دعم المشروعية السياسية للدولة السعدية في مرحلة التأسيس والبناء والتوسع وكيف ساهمت، على مستوى آخر، في تآكل تلك المشروعية وتهافت عناصرها في مرحلة التداعي والانهيار؟

1 – الجباية والجهاد كآليتين للمشروعية:

حينما نعود إلى كتب الآداب السلطانية، فإن أول ما يطالعنا بصورة ملحوظة، عند حديثها عن اللبنات الاقتصادية التي تسند "الملك" وتكفل قيامه، هو كلامها عن الجباية، وذلك اعتبارا للأهمية التي تحظى بها في تنامي قوة الدولة وتطورها العسكري والاقتصادي. فالجباية وما يترتب عنها من عائدات مالية دافقة تضفي على الملك صبغة الوجود المادي الحقيقي. فالعصبية، وأي عصبية، حسب ابن خلدون لا يمكنها أن تنتقل من الإطار القبلي الضيق إلى مستوى "السلطنة" إذا هي افتقدت إلى إمكانية الاستئثار بالمجابي التي يعتبر تحصيلها علامة على إذعان القبائل لسلطة نفوذها واعترافا بغلبتها وتفوقها. و"ليس الملك لكل عصبية وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا تكون فوق يده، يد قاهرة"[3].

إن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بخصوص التجربة السياسية للشرفاء السعديين هو: كيف تعامل هؤلاء الشرفاء مع مطلب الجباية؟ وكيف تم توظيفه خدمة لأغراضهم السياسية؟

الإجابة عن هذا السؤال طبعا، تصب بداهة، في إطار نوعية السياسة الجبائية التي سلكها السعديون عند بدء حركتهم، وإسهاماتها في معركة التوحيد السياسي للبلاد، التي كانت تتوزعها آنئذ عدة زعامات جهوية مستقلة، وتحتل عدة أجزاء ترابية منها القوى الإيبيرية التي ما فتئت تتربص الدوائر بوحدة البلاد وسيادتها السياسية.

إن ما يدعو للملاحظة، عند قراءة مختلف المصادر والدراسات التي تعرضت بالإشارة إلى الانطلاقة الأولى للسعديين، هو تركيزها على أمرين اثنين:

أولهما: استراتجية "الجهاد" التي تبناها السعديون، باعتبارها ضرورة مقدسة تفرضها العقيدة الإسلامية ضد "دار الكفر"، دفاعا عن وحدة الكيان السياسي "للأمة المغربية" حيال القوى المسيحية التي ما لبثت تبيت الخطط العدوانية ضد البلاد ومقدساتها الدينية.

ثانيهما: "النسب الشريف" باعتباره أحد المقومات "الإيديولوجية" التي استند إليها السعديون لتبرير أحقيتهم في الحكم، مدشنين بذلك منعطفا جديدا أصبحت بموجبه الأطروحة الخلدونية التي تجعل من العصبية القبلية عصب الملك وقوامه، أطروحة متجاوزة، على هذا المستوى على الأقل، وغير ذات وظيفة إجرائية من جهة التعليل التاريخي والتفسير الاجتماعي[4].

ولئن بحثنا عن المرتكزات الاقتصادية ولا سيما عن المرتكز الجبائي، في تلك المصادر والدراسات ومدى مساهمته في قيام الحركة السعدية، فإننا لن نجد له حديثا شافيا وضافيا على الرغم من الأهمية البالغة التي يكتسيها على هذه الواجهة. ولعل هذا الوضع هو ما يدعونا إلى تأكيد الملحوظتين التاليتين:

أولهما: أن الجباية كأحد أبرز الأسس الاقتصادية، شكلت الأرضية الأساسية التي أولاها السعديون اهتماما زائدا منذ انطلاق حركاتهم الجهادية ضد المحتلين البرتغاليين وبدء عملياتهم العسكرية ضد الوطاسيين وباقي القيادات الإقليمية المحلية.

ثانيهما: أن اعتماد الجباية الشرعية المرتبطة بوجه خاص بالزكوات والأعشار مثل استراتيجية ناجحة ضمنت للسعديين، وهم في بداية أمرهم، التفافا قبليا واسعا حول دولتهم الناشئة مما أسعفهم كثيرا على اكتساب مشروعية اجتماعية على أوسع نطاق. لأن الاقتصار على الجبايات الشرعية وحدها دون غيرها، أنتج في المخيال الجماعي للمجتمع تصورا يرى إلى الشرفاء وكأنهم "سدنة المشروعية الإسلامية" القائمة على أصول الدين ومبادئه الروحية السامية.

يظهر هذا الواقع بوضوح أكبر، حينما نعود لاستقصاء العلاقة بين الجباية وحقل المشروعية عبر مسار التطور السياسي الذي مرت به الدولة السعدية من بداية التأسيس إلى طور النهاية.

عند تدقيق النظر في كتب الحوليات التي راعت أخبار السعديين في بداية حركتهم نلاحظ أنها تجمع تقريبا على حقيقة مركزية مفادها: أن الجهاد والنسب الشريف كانا بمثابة الدعامتين الأساسيتين اللتين مكنتا الشرفاء السعديين من اكتساب المشروعية السياسية[5] والتأييد الواسع من قبل أرباب الزوايا ومختلف القبائل السوسية. وهذه الحقيقة، بطبيعة الحال، غدت من الأمور التي لا يجادل فيها اثنان، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الظرفية الاجتماعية والسياسية المزرية التي كان يعيشها المغرب إبان القرن الخامس عشر، وأخذنا بالحسبان، بموازاة ذلك، ظاهرة الشرف التي أخذت تكتسح المجتمع المغربي كالتيار الجارف منذ العهد المريني لتزداد جاذبيتها قوة وتعاظما مع الوطاسيين، مؤثرة بذلك على أنظمة العلاقات الاجتماعية والتصورات الذهنية للسكان[6]. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل كان بإمكان السعديين أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من مجد وعظمة بمجرد الإعلان عن حركات الجهاد ضد العدو البرتغالي في قواعد الاحتلال؟

لا شك في أن الجهاد قد ساهم بشكل فعال في إضفاء نوع من المشروعية على التحركات السياسية للسعديين[7]، بيد أن ذلك لم يكن وحده كافيا لكي يتحولوا من مجرد قادة يتزعمون حركات جهادية تؤطرها الحماسة الدينية وتدعمها الاندفاعات الشعبية، إلى قادة سياسيين يرأسون دولة لها مؤسسات سياسية وإدارية منظمة، بل كان لا بد من البحث عن الموارد المالية الضرورية لتغطية النفقات العسكرية التي عادة ما تحتاجها كل حركة سياسية صاعدة تتوق إلى بناء أجهزتها وتوسيع دائرة نفوذها. ذلك ما تؤكده سياسة أبي عبد الله القائم بأمر الله الذي ما أن تلقى البيعة حتى هم إلى جمع الأموال لتجنيد الأجناد والنهوض بأعمال الجهاد. ولعل ذلك هو ما يشير إليه الوزان حينما يقول: "فلما استلم الشريف أموالا باهضة لاستئجار هذا الجند واكتسب الخبرة اللازمة للبلاد، أعلن الدعوة لنفسه واستقل بالحكم.."[8]. وهو نفس الموقف الذي سيعبر عنه اليفراني بجلاء كبير في فترة متأخرة نسبيا حينما سيشدد على إلحاحية المال في قيام سلطة السعديين[9].

إن الربط بين الجباية وتجنيد الأجناد في سياسة الأشراف السعديين، شكل معادلة سياسية من أصعب وأدق المعادلات التي ظلت توجه مصير الدولة في أكثر من مناسبة، لأن إيجاد التوازن بين الموارد الجبائية من جهة، وحجم النفقات التي يتطلبها المجال العسكري من جهة ثانية، هو الذي كان يحدد في نهاية المطاف مفهوم "المشروعية السياسية" للدولة، ويساهم بالتالي في إنتاج علاقات التوافق أو التضاد بينها وبين شرائح المجتمع برمته.

لذلك ليس غريبا، إذا لاحظنا أن شعار "الجهاد" الذي رفعه السعديون عند انطلاق حركتهم بهدف "التجييش الديني"، لم يستنفذ فاعليته التبريرية بمجرد أن تمكن الإشراف من انتزاع الاعتراف بسلطتهم السياسية، بل ظل حاضرا وبقوة في الممارسة السياسية للسلاطين السعديين على امتداد سيرورة حكمهم، إذ وظف في الغالب من الحالات لتبرير الحصول على الأموال وإضفاء طابع الشرعية على النظام الجبائي، الذي كانت موارده المتنوعة المصدر الأساسي لتغطية الحاجيات المالية للدولة. ولعل هذا الوضع هو ما تفصح عنه الرسالة التي وجهها الأمير مولاي زيدان إلى أبي زكرياء يحيى بن عبد المنعم الحاحي حينما أوضح علاقة الارتباط الجدلي بين إعداد الجنود للقيام بالجهاد وتضاعف الخراج، وهو الارتباط الذي كان ينمو باطراد مع تطور الدولة واتساع شعاع دائرتها المخزنية عبر المجال. تقول الرسالة: "ورأى المغرب في تلك الفتن قد فغر أفواهه لالتقامه عدوان عظيمان من الترك وعدو الدين الطاغية فاضطر رحمه الله (يعني أحمد المنصور) إلى الاستكثار من الأجناد لمقاومة الأعداء والدب عن الدين وحماية ثغور المسلمين فدعا تضاعف الأجناد إلى تضاعف العطاء، وتضاعف العطاء إلى تضاعف الخراج، وتضاعف الخراج إلى الإجحاف بالرعية"[10].

نفس التوجه عبر عنه المنصور أيضا في الرسالة التي بعثها إلى اسكيا إسحاق قصد إقناعه للتنازل له عن خراج ممالح تغازى: "هذا وموجبه إليكم سدد الله طريقكم.. أن معدن الملح بتغازى التي من إيالتنا وفي حكم إمامتنا هو كما لا يكاد يخفاكم من جملة المعادن التي يختص بيت مال المسلمين بخراجها المستفاد وللإلمام فيها النظر والاجتهاد، وبحسب هذا فإن رأينا إنشاء الله من الرأي السديد والنظر المبارك الشديد أن نضع عليه خراجا يعود إنشاء الله بمزيد من النفع على المسلمين وبالنصر على أعداء الله المشركين وهو إنا افترضنا مثقالا على كل حمل عن سائر الإبل التي ترده وتؤمه من سائر الجهات وتقصد وقصدنا بما يحصل من ذلك صرفه إنشاء الله في سبيل الغزو والجهاد وفي أرزاق ما لنظرنا العلي من العساكر والأجناد التي جعلناها لنكاية عدو الدين بالمرصاد"[11].

هكذا يبدو إذن كيف ساهم الجهاد كشعار ديني وسياسي في ذات الوقت، في إنتاج مفهوم "المشروعية السياسية" التي سعى الشرفاء السعديون جاهدين للحصول عليها قصد تبرير أحقيتهم في انتزاع السلطة لا سيما بعد أن أظهرت كل القوى السياسية الجهوية آنذاك، كالوطاسيين والهناتيين مثلا، عجزها التام عن التصدي للأطماع الأجنبية المتزايدة وإقرار الأمن بين القبائل، وكيف ساهمت الجباية أيضا، وبالقدر نفسه، حينما ظلت مقتصرة على الزكوات والأعشار في دعم تلك المشروعية وتوسيع نطاقها الاجتماعي القبلي، وذلك نظرا لما يعنيه تطبيق الجباية الشرعية (الزكوات والأعشار) من دلالات دينية على مستوى الذهنية الاجتماعية للسكان الذين عانوا فيما سبق أشد أنواع المعاناة من جراء نهب وفساد الأعراب وأتاواتهم المجحفة.

2 – تطبيق نظام "ضريبة النايبة" وميلاد نمط جديد من المشروعية:

إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو: كيف استطاع السعديون الموازنة بين تجنيد الأجناد وبناء مؤسسات الدولة الجديدة وتوفير الأموال الضرورية لذلك؟

حينما نرجع إلى مصادر العصر السعدي لرصد الكيفية التي استطاع بها السعديون تحقيق تلك الموازنة، نجد أن الوسائل قد اختلفت باختلاف الظرفيات التاريخية والتوجهات السياسية لكل سلطان.

فكما سبق أو أوضحنا، إن الأموال التي حصل عليها كل من أبي عبد الله القائم بأمر الله وابنه أحمد الأعرج كما تذكر أغلب المصادر التاريخية، كانت تأتي في مجملها من الضرائب الشرعية، من الزكوات والأعشار التي كانت تؤديها القبائل بصفة طوعية وتلقائية، إضافة إلى مداخيل التجارة الخارجية والماعونات، والملاحظ أن هذه الموارد المالية كانت على محدوديتها كافية إلى حد ما لسد ثغرة النفقات العسكرية الناجمة عن الحروب مع الوطاسيين والبرتغاليين.

غير أنه على عهد محمد الشيخ ومع اتساع مجال النفوذ السياسي للدولة السعدية وما أصبح يتطلبه ذلك الاتساع من مصاريف مالية باهظة، طرأ تحول حاسم في طبيعة السياسة الجبائية، تحول أثر بصورة ملموسة على حقل "المشروعية السياسية" للدولة، خاصة بعد أن استهدفت التطبيقات العملية لتلك السياسة شريحة الأولياء والصلحاء التي وصل السعديون على أكتافها إلى سدة الحكم.

إن إجراءات تعميم وتوسيع نطاق فرض ضريبة النايبة –كما سنوضح- لتشمل كل فئات المجتمع بما في ذلك رجال الزوايا والشرفاء دون التمييز بين سكان الجبال والسهول[12] تدفعنا إلى تسجيل الملاحظات التالية:

إن إقدام محمد الشيخ على تلك الخطة كان في الواقع إعلان عملي عن ذلك التحول الذي بدأت ترتسم معالمه واضحة على مستوى البنى السياسية والعسكرية للدولة، التي أصبحت تبحث بمختلف الوسائل الممكنة لتقوية مركزيتها السياسية بعد القضاء على آخر سلطان وطاسي سنة 1554م، وهو تحول لم يكن بالإمكان أن يتحقق اعتمادا على نظام جبائي يرتكز على الضرائب الشرعية وحدها، ويخول لفئة اجتماعية واسعة النفوذ والانتشار إعفاءات جبائية هامة، وامتيازات تفضيلية متنوعة. لذلك فحينما عمد محمد الشيخ إلى "امتحان أرباب الزوايا والمتصدرين للمشيخة.."[13] فإن تلك العملية لا ينبغي فهمها على أنها خطوة سياسية غير محسوبة، قائمة على نوع من الاندفاعية الذاتية، بل على العكس من ذلك، ينبغي النظر إليها، بوصفها خطوة تندرج ضمن استراتيجية سياسية أراد من خلالها محمد الشيخ أن يبلور نمطا خاصا من "المشروعية" يصبح بمقتضاه السلطان الذي يحتكر بدون منازع:

أ – السلطة العليا في مجال التوجيه الديني والروحي. ومن ثم فحضور الصلحاء ومشايخ الزوايا في هذا المجال لم يعد أمرا مستساغا كما كان عليه الوضع سابقا[14].

ب – كل أشكال وصيغ العنف المادي والرمزي[15].

ج – كل آليات ومصادر الشرعية[16].

إن تطبيق ذلك النهج –أي تعميم ضريبة النايبة- هو دليل على أن الدولة أصبحت أكثر من ذي قبل، حريصة أشد ما يكون الحرص، على تقوية سلطتها السياسية والعسكرية[17]، قصد توحيد المجال الاجتماعي ووضع حد لأوضاع التشرذم والتمزق التي كانت تسببها الصراعات القبلية والاستقلالات الجهوية التي كان يتزعمها الأولياء في بعض المناطق. لذلك فتعميم نظام الضرائب وتوسيع نطاق تحصيلها أفقيا وعموديا، كان يهدف في جوهره إلى احتواء كل التكتلات القبلية لا سيما تلك التي توجد في الأطراف البعيدة عن مركز الدولة احتواء سياسيا واقتصاديا عن طريق إلزامها بأداء الضرائب. فالمجال الجبلي مثلا، كما يقول عبد الله العروي كان دائما "يرفض تأدية أية ضريبة جديدة ويجد في الزوايا سنده الفعال"[18].

إن الإصلاح الذي أدخله محمد الشيخ في المجال الضريبي لم يكن في عمقه اختيارا نابعا من إرادة سياسية ذاتية، وإنما فرضته ضرورات الظرفية التاريخية التي كان يعيشها المغرب، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي في ذلك الإبان، وهي ضرورات ألزمته على تجاوز مفهوم "الشرعية السياسية" التي تراعي الانسجام والتوافق بين الممارسة السياسية للدولة ومرجعيتها الدينية إلى مفهوم آخر للشرعية يستقي مضمونه من المتغيرات والتطورات الواقعية للدولة وما تستدعيه من متطلبات مالية هامة لمواجهة المعضلات والمشاكل التي كانت تحول دون استكمال بناء مؤسسات السلطة وتوسيع امتداداتها المخزنية على مستوى المجال القبلي.

تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن ما قام به محمد الشيخ، لما ألزم الصلحاء وشيوخ الزوايا بأداء ضريبة "النائبة" دون احترام أي "أحد من المرابطين وأولادهم"[19] أو إسقاط المغرم الذي فرضه "على غيرهم من جميع عوام الناس"[20]، لم يكن يسعى من ورائه إلى إدخال إصلاحات حاسمة على التنظيم الضريبي وحسب-التنظيم الذي كان عاجزا عن تحقيق "السيولة المالية" المطلوبة للتصدي من جهة للمجموعات القبلية التي اعتادت الامتناع عن دفع ما عليها من واجبات جبائية منذ العهد الوطاسي، ومن جهة ثانية، لمواجهة الأخطار التركية المتزايدة على الحدود الشرقية[21]- بل كان يهدف، علاوة على هذا وذلك، إلى تقليم أظافر الأولياء ورجال الزوايا وإضعاف شوكتهم الاقتصادية إضعافا ماديا، نظرا لما اصبح لهم من تأثيرات عميقة على مختلف الفئات الاجتماعية سواء على مستوى طرق تفكيرها أو على مستوى أنماط سلوكها وتصوراتها للحياة العامة، وذلك بحكم المواقع الاقتصادية الوازنة التي أصبحوا يحتلونها ضمن علاقات الإنتاج الاجتماعية، نتيجة الحظوة والامتيازات المتنوعة التي كانوا يتمتعون بها وحدهم دون غيرهم من سواد عامة الناس، وهي الحظوة والامتيازات التي تجسدها على سبيل المثال لا الحصر، ظهائر التوقير والاحترام والأنعام التي كانت تخول لهم الإعفاء من مختلف الكلف والوظائف السلطانية من جهة، وتتيح لهم استغلال الإقطاعات الزراعية وحق اقتطاع الزكوات والأعشار من حارثيها من جهة ثانية.

تحصيلا لما سلف، يمكن التأكيد على أن إقدام محمد الشيخ على ذلك العمل يجد تفسيره الحقيقي في خشيته الكبيرة من "مشايخ الفقراء بدخوله الملك من بابهم"[22].

لذلك ألا يحق لنا القول، في هذا السياق، إن سياسة تعميم ضريبة النائبة، رغم ما تضمنته من حسنات وإيجابيات اقتصادية، قد أثرت بشكل بالغ على نظام "المشروعية السياسية"، التي تسمح دوما للدولة بإمكانية إعادة إنتاج "شرعية" وجودها على الصعيد الاجتماعي سيما بعد أن أصبح حلفاء الأمس من الأولياء ومشايخ الزوايا أول من يبادر إلى إعلان الثورة والخروج عن الطاعة حينما استشعروا خطورة تلك الإجراءات الجبائية وانعكاساتها الوخيمة على مواردهم الاقتصادية!

حينما نعود إلى كتب التراجم وغيرها من المصادر التاريخية لترصد ردود الأفعال التي عبر عنها الأولياء ورجال الزوايا اتجاه سياسية تعميم ضريبة النائبة، نجد أن المثير للنظر في تلك الردود، هو أنها كانت عنيفة في قوة اندفاعها، شبه عامة على مستوى مناطق انتشارها:

ـ فبمراكش سجل ابن عسكر أن الشيخ عبد الله الكوش رفض أداء ضريبة النائبة والقبول بالواقع الجديد، وهو ما دفع السلطان محمد الشيخ المهدي إلى إخلاء زاويته وترحيله إلى فاس[23].

ـ في شمال المغرب الذي كان أغلب أوليائه تابعين للطائفة الزروقية، تشير بعض كتب التراجم إلى أن مظاهر الغضب والغليان قد عمت أوساط الزوايا والمراكز الدينية بعد أن ألزمهم الشريف محمد الشيخ على أداء النائبة، وقد كانت تلك المواقف مدعاة لإشهاره السيف في وجههم متهما إياهم "بإخفاء ودائع بني مرين"[24]، وقد تعرض نتيجة هذه العملية عدد كبير من الأولياء لمختلف أنواع التعذيب والتنكيل[25] وصلت أحيانا إلى حد السجن والقتل[26].

ـ في مرتفعات الأطلس اندلعت ثورات القبائل البربرية بقيادة زعامات مشيخية محلية، ابتداء من سنة 1551م[27]، وكانت ثورة قبائل آيت أمالو أبرز وأعنف هذه الثورات[28] إلا أن تدخل محمد الشيخ المهدي عسكريا أدى إلى إفشالها مبكرا بقتل رموزها بصفة جماعية[29].

والظاهر أن هذه الثورات والحركات الاحتجاجية التي قادها الأولياء داخل بعض الجهات من المغرب، لم تزد السلطان محمد الشيخ إلا إصرارا على مواصلة سياسته الجبائية بصرامة منقطعة النظير، على الرغم من اتساع المعارضة الصوفية وتأججها داخل البوادي، لأن "المشروعية" التي كان الوسط الصوفي، ممثلا في الطائفة الجزولية فيما قبل، هو الذي يؤسس إطارها السلوكي ويصوغ نظامها الرمزي على صعيد العلاقات الاجتماعية بين الدولة والمجتمع القبلي، أصبح الشريف السعدي في هذه الفترة يستمدها من "ذاتيته السياسية الخاصة" بوصفه سلطانا شريفا فوق الجميع. ولعل هذا التحول في مفهوم "المشروعية" هو ما عبر عنه الشيخ أبو الرواين حينما اعترف بصيغة يطبعها نوع من التأسيس المضمر بضيق أفق الأولياء لما منحوا البيعة للشريف. فقد جاء عند صاحب ابتهاج القلوب: "لما ظهر الأمير محمد الشيخ بقرب مراكش بإحراق الزوايا وإضرار أهلها، وبقي هناك لا يبلغ فاسا، جيء إلىالشيخ أبي الرواين فقيل له هذا الذي أعطيته الملك انظر ماذا يفعل من ظلم وجور ونحو ذلك، فأدخل رأسه معه ثم أخرجه فقال وافق أهل الله كلهم على ما فعلنا"[30].

غير أنه على الرغم مما أظهره محمد الشيخ من تشدد وعنف كبيرين في مواجهة رجال الزوايا فإنه لم يفلح في وضع حد لثوراتهم وتمرادتهم الاجتماعية التي اتسع نطاقها وتأجج لهيبها قبيل وبعيد وفاته مباشرة. ولعل هذا الوضع –فيما نعتقد- هو الذي دعا ابنه الغالب بالله إلى إعادة النظر في تلك السياسة، بعد أن أكدت عدة وقائع سياسية واجتماعية فشل نتائجها، وكذلك بعد أن لاحظ أن الأولياء أول من لبى نداء الجهاد عندما همت الجيوش التركية بقيادة باشا الجزائر حسن بن خير الدين بربروسا في جمادى الأولى سنة 965هـ/1558م، بمهاجمة الأراضي المغربية في محاولة منها للسيطرة على فاس[31].

لذلك فإن ما يسترعي الانتباه في سياسة التقارب والمصالحة التي أقامها الغالب بالله مع الأولياء هو استنادها إلى الدور الجهادي الذي اضطلع به هؤلاء في ساحة المواجهة ضد الجيوش التركية[32]، والقوى الإيبيرية في الشواطئ المتوسطية. لأن تفسير علاقات التقارب والمصالحة بالمعطى الجبائي ليس له ما يبرره على مستوى النصوص التاريخية. فالواضح أن الغالب بالله لم يقدم على أية تنازلات تذكر في هذا الميدان، إذ بقي يحذو حذو أبيه فيما يرجع إلى تطبيق نظام النائبة[33]، ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج هو ما حدث من جفاء وتوتر في العلاقات بينه وبين فئة الأولياء من جديد حينما أظهر الغالب بالله تواطؤا واضحا مع الإسبان في حادثين بارزين:

أولهما: التخلي لهم عن حجر بادس سنة 1564م.

ثانيهما: عدم الالتزام بتعهداته (مساعدتهم في ثورتهم ضد الملك الإسباني فيليب II المستبد) اتجاه مسلمي غرناطة سنة 1568م.

على أن التوجهات الجبائية التي ميزت الفترة الفاصلة ما بين عهد عبد الله الغالب وعهد أحمد المنصور لم يقع فيها من التحولات ما يستحق الذكر في إطار علاقات التأثير المتبادل بين الجباية وحقل "المشروعية السياسية" للدولة، إذ ظلت نفس الخاصيات والثوابت التقليدية السابقة تحكم واقع تلك العلاقة، وإن كان هناك من الأحداث ما هو أجدر بالإشارة في هذا الخصوص، يبقى هو حدث الصراع حول السلطة الذي انفجر بين الأمير عبد الملك وابن أخيه أحمد المتوكل. وهو الصراع الذي كلف فئات المجتمع المغربي ثمنا غاليا على مستوى الأداءات الجبائية لأن فراغ بيت المال وتبديد موارده المالية في الحروب والمطاردات العسكرية العديدة التي استغرقت ثلاث سنوات بين المتوكل وعميه عبد الملك وأحمد المنصور ساهم في تضاؤل وانكماش إشعاع مشروعية الدولة على مستوى علاقتها مع عامة الناس، بحيث لم تعد لها نفس الهيبة والسطوة التي كانت لها أيام الغالب وأبيه محمد الشيخ المهدي. وذلك بسبب تفكك وحدة مجالها السياسي والاجتماعي، نتيجة انقسام الخارطة القبلية إلى مجموعات من المعارضين والمؤيدين لهذا السلطان أو ذاك. الأمر الذي أفرز في نهاية المطاف أزمة في "شرعية السلطة" ذاتها، لا سيما بعد أن أصبح كل من المتوكل وعمه عبد الملك يبرران أحقيتهما في الحكم اعتمادا على مسوغات سياسية اختلفت باختلاف المعايير التي استند إليها كل واحد منهما لتعليل مشروعية مطلبه السياسي. والواقع أن مرجع ذلك النزاع إنما يعود في أصوله الحقيقة إلى غياب ضوابط سياسية تنظم ولاية العهد في التاريخ السياسي للدولة السعدية[34].

3 – الصرامة الضريبية وبدايات تراجع المشروعية السياسية للدولة

إذا كان المغرب السعدي قد عرف أوج تطوره وقوته على عهد المنصور سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، فإن ذلك التطور لم يتحقق في الواقع إلا بفضل المداخيل المالية الوافرة التي كانت تتدفق على خزينة الدولة من مختلف القطاعات الاقتصادية، سواء أكانت إنتاجية أم استثمارية. وإذا كانت الحوليات التاريخية قد أفاضت في ذكر أنواع تلك المداخيل ومساهمتها البالغة فيما أضحى يسمى في الأدبيات التاريخية المغربية "بعصر المنصور الذهبي"، فإنها أحجمت عن ذكر الأخبار والوقائع الجبائية التي من شأنها أن تمكن الدارس من صياغة صورة دالة عن مدى تأثير السياسة الجبائية على مجال مشروعية الدولة سياسيا واجتماعيا.

لكن ومهما يكن، فإن المثير للملاحظة في التوجه الجبائي للمنصور هو تشدده المفرط في جمع واستخلاص الضرائب من القبائل[35]، دون اعتبار لقدراتها على الدفع ودون احتساب لدرجات التفاوت في طاقاتها الإنتاجية. ولعل هذا الأمر، هو ما كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى تصاعد موجات العصيان والغضب الاجتماعي في صفوف المجموعات القبلية، لدرجة أن تلك الموجات أصبحت تشكل بحكم تواترها وتعدد مناطق انتشارها ظاهرة سوسيو-سياسية بارزة، انعكست أصداؤها في عدة مصادر معاصرة. والواقع أنه إذا كان هنالك من تفسير لذلك التشدد والتعسف الذي طبع سياسة المنصور الجبائية، فإنه يبقى مرتبطا ارتباطا وثيقا بنوعية الموارد التي كانت تتغذى منها المالية السعدية في هذه المرحلة. فقد كانت المداخيل الإجمالية للدولة تعتمد بوجه أساسي على الأموال المتحصلة عن طريق الجبايات أكثر من اعتمادها على المداخيل الاستثمارية المتأتية من مختلف المجالات الاقتصادية الأخرى صناعية كانت أم تجارية[36].

والراجح أن خصوصية هذا الواقع المالي، وما كانت تطرحه من تعقيدات غاية في الخطورة، هي التي كانت تحتم نهج أسلوب الصرامة والشدة عند عمليات التحصيل الجبائي قصد الحصول على أكثر ما يمكن من المبالغ المالية التي كانت الحاجة إليها في تزايد مستمر. لذلك فاتساع رقعة المعارضة القبلية في البوادي للنظام الجبائي الذي طبقه أحمد المنصور لا يعبر وفق هذا السياق إلا عن قضية مركزية: هي قضية تزايد وطأة الضرائب غير الشرعية وتكاثر أنواعها، ولعل ما يبرر هذا الواقع هو قرار إلغاء المنصور لضريبة النائبة، القرار الذي لم يكن يستهدف في العمق أي شيء آخر غير التخفيف من عبء ضريبة غدت حسب تصور السواد الأعظم من الناس ضريبة غير شرعية "ثقل لمخالفتها الشرع على الآذان سماعها وخرجت عن حد السنة أوضاعها…"[37].

لذلك فالاصطدام الذي تتحدث عنه بعض المصادر بين أحمد المنصور وبعض الفئات الاجتماعية بشأن المسألة الجبائية هو اصطدام ناتج في الجوهر ليس عن ظاهرة الإجحاف والقهر التي كانت تميز نظام التحصيل الجبائي فحسب، بل هو اصطدام ناتج أيضا، عن تباين واختلاف المواقف والتصورات التي كانت تنظر بها الدولة من جهة والرعية من جهة أخرى إلى طبيعة الضرائب ذاتها ومقاييس مشروعيتها. فإذا كانت الدولة ترى أن البحث عن الموارد المالية بمختلف الأشكال المتاحة ضرورة استراتيجية، وإن كانت تلك الأشكال تتعارض من حيث المبدأ والطبيعة مع ما يقرره الشرع الإسلامي، حتى تستطيع الوفاء بكل التزاماتها ومسؤولياتها سواء على مستوى "تجييش" الجيش وتسليحه أو على مستوى إقرار الأمن الداخلي ومواجهة الأخطار الخارجية المحدقة بسيادة البلاد، فإن ذلك كان يدفعها باستمرار إلى ضرورة تكييف النمط الجبائي تكييفا يتلاءم مع متطلبات الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في حين كانت الرعية التي كان الأولياء وشيوخ الزوايا يؤطرون وعيها الاجتماعي والديني، ويقودون تحركاتها السياسة في أغلب الأحيان، تنظر إلى مجموع الضرائب التي تفرضها الدولة في المجال الجبائي باستثناء الزكوات والأعشار، طبعا، بوصفها ضرائب محرمة وممقوتة شرعا، وتعتبر، علاوة على ذلك، أن دفعها إلى الجباة أمر يتعارض مع روح الشريعة الإسلامية، لذلك فالامتناع عن أداء هذا النمط من الضرائب كان يعني في منظور أغلب فئات المجتمع إقرار بضرورة اعتماد نظام جبائي يستقي مصادره المالية من المرجعية التشريعية الإسلامية، وليس من خلال الاحتكام إلى منطق المستجدات والمتغيرات التي يفرضها الواقع التاريخي الجديد.

ولعل التباين والتضارب في وجهات النظر بين الدولة "كجهاز جابي" والمجتمع "كإطار للأداء الجبائي" هو ما كان يؤدي باستمرار إلى حدوث الجفاء والتنافر بينهما. فالثورات التي قادها بعض زعماء الزوايا والأولياء على عهد المنصور تجد تفسيرها في جزء كبير من وقائعها الاجتماعية الكلية في واقع الحيف الجبائي الذي عانت منه القبائل أقسى أشكال المعاناة. فحينما يشير المجهول البرتغالي مثلا إلى أن سكان الأطلس الكبير شرسون، لا يطيعون ملكهم، يوجدون في بعض الأماكن في حالة توتر شبه دائمة"[38]، وكذلك حينما يؤكد المؤرخ المجهول، بأن عهد المنصور كان عهدا "فسدت في أيامه البوادي وربح أهل المدن والجيش"[39]، فإن هاتين الشاهدتين تبقيا كافيتين للتدليل على فداحة الجور والقهر الذي طال سكان البوادي والقبائل في الأطراف من جراء ثقل الضرائب والمغارم المتنوعة[40]. لذلك فلا عجب، إذا لاحظنا، والحالة هاته، أن الأستاذ محمد مزين يذهب إلى القول في هذا السياق، بأن الثورات والانتفاضات الاجتماعية القبلية ضد الحكم المركزي التي عرفها شمال المغرب إبان فترة أحمد المنصور كانت تعبر في أساسها عن دلالة الصراع المستمر بين المدينة (فاس) والبادية (القبائل المجاورة لها)[41]، وهو صراع، إن كان قد ارتبط في سيرورته السوسيو-تاريخية بأسباب متنوعة، فإنه يبقى متصلا في الأغلب الأعم، بالموقف الذي كان ينظر به سكان البادية إلى المدينة باعتبارها مقرا "للسلطة الجابية" التي تلتهم أموال الناس التهاما وبدون رحمة. لذلك ألا يمكن اعتبار الثورات التي شهدها مغرب أحمد المنصور الذي اشتهر حكمه "بالقساوة"[42]، ثورات قبلية ضد سياسة جبائية متعسفة لم يستفد منها سوى أهل المدن والحواضر؟

ـ عند العودة مثلا إلى ثورة ابن قرقوش الذي لبس شارة الملك واتخذ الآلة وتسمى في كتبه بأمير المؤمنين"[43]، فإن ما يسترعي الانتباه في مضمونها السياسي والمساندة القبلية الواسعة التي حظيت بها هو كونها جاءت على الأرجح استجابة للرغبة الملحة لسكان المناطق الهبطية وجبال غمارة في الخروج عن طاعة الدولة بعد أن لم يعودوا يطيقون صبرا الإجحافات الضريبية المتعددة التي نالتهم بدون هوادة[44].

ـ نفس الأمر يمكن ملاحظته أيضا في ثورة الناصر، الذي وإن كان هدفه السياسي من وراء إشعالها يتمثل في الاستقلال عن السلطةالمركزية[45]، بعد أن اتخذ من تازة عاصمة له، فإنها كانت في نفس الوقت فرصة ثمينة للقبائل التي التفت حوله، للتعبير عن ميلها إلى الانفصال عن الإيالة الشريفة، كرد فعل منها على ما لحقها من عسف جبائي تنوعت أشكاله وتباينت طرقه[46]. ولا أدل على هذا الموقف من انضمام سكان البوادي إلى هذه الثورة بصورة حاشدة، وهو الانضمام الذي لا يمكن أن يبرر في حصيلة التحليل، إلا بالتذمر والضجر الذي عم الأوساط القبلية عموما من جراء تزايد ثقل الأعباء الضريبية بصفة لم يعهد لها مثيل من قبل.

يظهر واضحا إذن، أن القوة الاقتصادية والنجاح السياسي اللذين طالما تحدثت عنهما المصادر المغربية على عهد المنصور لم يتحققا في واقع الأمر إلا اعتمادا على سياسة جبائية كلفت الدولة متاعب ومصاعب جمة في إطار علاقاتها مع الرعايا، وهو الأمر الذي أثر بشكل بالغ على "مشروعيتها السياسية" ونال كثيرا من مصداقيتها الاجتماعية. ذلك ما يكشف عنه بوضوح ميل عدد كبير من الأولياء وأصحاب الزوايا الذين كانوا فيما مضى يمثلون مصدرا من المصادر الأساسية التي تضفي صبغة المشروعية على نظام الدولة وسياستها الاقتصادية والاجتماعية، ميلهم إلى مساندة الثوار[47] بل وأحيانا إلى قيادة بعض الحركات القبلية التمردية ضد الحكم المركزي[48] كما حدث مثلا في سوس مع علي بن موسى السملالي "الذي تشوف إلى مس أوامر العرش بمعارضة أو انتقاد، أو كان ينفث ما يلا يوافق استبداد المنصور المشهور واعتسافه"[49].

هكذا إذن، يبرز بصفة أكثر جلاءا إلى أي مدى ساهمت مشكلة الجباية في تراجع "المشروعية السياسية" للدولة وخفوت إشعاعها إبان فترة حكم المنصور، بعد أن أصبح استمرار هيبتها منوطا بقوتها العسكرية وقدرتها على التحكم إداريا وأمنيا في ضبط شؤون القبائل في المحيط القروي. يقول الأفراني ملخصا سياسة المنصور في الميدان المالي جملة: "وكان المنصور على ما هو عليه من ضخامة الملك وسعة الخراج، يوظف على الرعية أموالا طائلة يلزمهم بأدائها، وزاد الأمر على ما كان عليه الحال في عهد أبيه.. وكانت الرعية تشتكي منه بذلك، ونالها إجحاف منه ومن عماله. وكان غير متوقف في الدماء ولا هياب للوقيعة في ذلك"[50].

وإذا لم يكن هناك من شك، في أن المصاريف الضخمة التي كانت تنفقها الدولة في المجالين العسكري والعمراني[51]، كانت من الأمور التي لم تترك لها فرصا إضافية للتفكير بجدية في مصالح الرعية وفي مختلف المشاكل الناتجة عن سياستها الجبائية المرهقة، فإن ما عرفه المغرب من صراعات دامية بعد وفاة المصنور بين أبنائه حول ولاية العهد وما ترتب عنها من إنفاقات مالية باهضة، أدت في حصيلتها النهائية، إلى إرهاق السكان بمطالب جبائية فاقت من حيث عدم شرعيتها كل الحدود –منظورا إليها بمقاييس العصر نفسه- إذ كثرت المصادرات وتعددت المغارم وتنوعت الوظائف والتسخيرات[52] وغيرها من الضرائب والكلف السلطانية مما هو أبعد كل البعد عن النظام الجبائي الشرعي، وحتى عن ذلك النمط الجبائي المعتدل الذي كان معمولا به على عهد سلاطين الدولة السعدية الأوائل.

وإذا علمنا أن نهج المرونة والرفق بالرعية في مجال الممارسة الجبائية تطبيقا وتحصيلا وأداء، كان من بين أهم العوامل التي ساهمت في الفترات السابقة في إنتاج نوع من علاقات التوافق والتقارب النسب بين سلطة الدولة وباقي مكونات المجتمع القبلي[53]، فإن اختفاء ذلك النهج تدريجيا وإلى غير رجعة، على مستوى العلاقات الجبائية زمن حكم أبناء المنصور وأنجالهم من بعد، ليحل محله أسلوب القوة والابتزاز كاستراتيجية بديلة للحصول على الموارد المالي قصد تمويل الآلة العسكرية بعد فراغ بيت المال في ظل وضعية تآكل المركزية السياسية للدولة وتقهقر كل المؤسسات الأمنية والإدارية التابعة لها، فإن تلك الملابسات والحيثيات ساهمت متظافرة في إفراغ مفهوم المشروعية من كل مقوماته السياسية ودلالاته الاجتماعية التي كان يتضمنها سابقا، مجسدة بذلك أيما تجسيد الأزمة العميقة التي تجاوزت كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية، لتمس "شرعية السلطة ذاتها" لا سيما بعد انقسام المغرب إلى مملكتين متصارعتين بمراكش والأخرى بفاس.

خلاصات:

لما كانت المشكلة الجبائية إحدى أهم المعضلات الهيكلية التي باعدت بين المخزن السعدي والرعية، وساهمت في ظل وضعية الأزمات المتلاحقة خلال النصف الأول من القرن السابع عشر في انحضار نفوذ الدولة داخل مجالات ضيقة ومحدودة للغاية، حينما لجأت جل التكثلات القبلية إلى قطع حبل الطاعة من خلال توقفها عن أداء ما عليها من مستحقات جبائية واستنكافها عن الاستجابة لكل مطلب مخزني، بعدما آنست من نفسها القوة من جديد في إطار ظروف الانقسام السياسي والخلاف بين الأمراء المتنازعين، ولما كانت المشكلة الجبائية أيضا من أبرز القضايا الاقتصادية التي أزاحت عن الدولة حجاب القوة وأفقدتها كل إمكانية لضمان الاستمرارية واكتساب المناعة ضد عوامل الانهيار، فإن ذلك كله يدفعنا إلى تسجيل الملحوظات التالية:

ـ إن العلاقة بين الجباية وحقل "المشروعية السياسية" للدولة هي علاقة متلازمة تلازم على بمعلول. ذلك ما تؤكده التجربة الجبائية السعدية عبر سيرورة تطورها التاريخي. فعند بدء الإمارة السعدية كإمارة جهادية، يلاحظ أنها اعتمدت نظاما جبائيا شرعيا متطابقا إلى أبعد حد مع مقتضيات النظام الضريبي الإسلامي. وهذا ما أكسبها طبعا في التصور الاجتماعي للمنظومات القبلية سواء بالمناطق السوسية أو غيرها من الجهات الأخرى، طابع الدولة القائمة على نظام "المشروعية الإسلامية" باعتبار الانسجام والتوافق الحاصل بين ممارستها السياسية وروح التعاليم الدينية (الجهاد). ونزوعها هذا المنزع هو ما ضمن لها بالنتيجة شرعية التوسع اجتماعيا داخل مختلف المجالات القبلية في أجواء مفعمة بالتعاضد والالتحام الجماعي من دون أية صعوبات أو عراقيل تذكر.

بيد أنه على عهد محمد الشيخ الذي دشنت فترة حكمه منعطفا حاسما في صيرورة تطور الدولة السعدية، تم استحداث مجموعة من الأصناف الضريبية غير الشرعية كالنائبة والمؤونة والمكوس وغيرها، قصد الزيادة في المداخيل المالية لتغطية العجز الحاصل في موارد بيت المال من جهة، واستكمال عمليات البناء السياسي لأجهزة وهياكل الدولة الناشئة وإنجاز الإصلاحات العسكرية والاقتصادية الضرورية لأجهزة وهياكل الدولة الناشئة وإنجاز الإصلاحات العسكرية والاقتصادية الضرورية بهدف مواكبة التطورات الجديدة وضبط الديناميات الاجتماعية القبلية من جهة ثانية. غير أن استحداث تلك الأنماط الضريبية الجديدة وتوسيع مجال تطبيقاتها اجتماعيا وجغرافيا، خلف استياء بالغ الأثر في أوساط أغلب الشرائح الاجتماعية وخاصة في صفوف شريحة الفقهاء ومشايخ الزوايا التي كانت تمثل المستفيد الأول من نظام الامتيازات والإعفاءات الضريبية في ظل التنظيم الجبائي السابق، مما جعل مفهوم "المشروعية السياسية" للدولة يتصدر واجهة الأحداث التي تخللت الساحة الاجتماعية في هذه الآونة التاريخية، خصوصا بعد أن تزعم الأولياء ورجال الزوايا حركات المعارضة القبلية في البوادي لعرقلة تطبيق هذا الإصلاح الجبائي الذي أضر بمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية أشد ما يكون الضرر. غير أن إصرار محمد الشيخ على تعميم هذا الإصلاح بغية الرفع من قيمة المداخيل الضريبية وتنويعها لم يثنيه عن مجابهة رموز المعارضة الصوفية.

والواقع، أنه على الرغم من الصورة التي تكونت لدى أغلب الفئات الاجتماعية عن الدولة في هذا الإبان بوصفها جهازا جابيا ليس إلا، فإن محمد الشيخ وخلفاؤه من بعد استطاعوا أن يؤسسوا نمطا خاصا من "المشروعية السياسية" يستمد مضمونه هذه المرة من المواصفات والمقومات الذاتية للسلطان الشريف نفسه. على أنه مع التطور السياسي والعسكري الذي عرفه واقع الدولة السعدية على عهد المنصور وما استلزمه من مطالب مالية باهضة حتم من جديد مضاعفة قيمة الضرائب والزيادة في أنواعها[54]، وهو ما رح من جديد مشكلة مشروعية الدولة، التي استطاع المنصور بحكم ما أوتي من قوة اقتصادية وعسكرية أن يجد لها الحل الأنسب والملائم وإن بصفة مؤقتة، وذلك من خلال التقرب من الأولياء وشيوخ الزوايا المتنفذين داخل المجتمع بالأعطيات والإنعامات المختلفة (منح ظهائر التوقير والاحترام، إقطاع الأراضي، زيارة قبور الأولياء الخ).

غير أنه ما لبث أن توفي المنصور حتى عادت هذه المشكلة لتطرح بحسساية كبرى بعد أن لم يستطع أبناؤه من بعده أن يحافظوا على وحدة البلاد بسبب الصراع والتقاتل الذي نشب حول ولاية العهد. ولما كانت ظاهرة القهر الجبائي بكل ما تحمله من دلالات سوسيو-نفسية ومادية، هي السمة الأساسية التي أصبحت تميز علاقة السلطة بالرعايا سواء بمراكش أو بفاس، فإن ذلك كان من أهم الدواعي التي حركت في السكان نوازع الانفصال عن السلطة المخزنية والالتفاف حول المتصوفة ورجال الزوايا الذين أصبحوا يشكلون زعامات جهوية مستقلة تتنازع مجال السيادة مع الحكم السعدي من خلال طرحها "لمشروعيات سياسية" بديلة[55].

لذلك يمكن القول أخيرا، إن الجبية ساهمت بصفة ملحوظة على امتداد السيرورة التاريخية للدولة السعدية في تنميط حقل "المشروعية السياسية" بأنماط سياسة محددة اختلفت طبيعتها باختلاف خصوصية كل مرحلة تاريخية على حدة، كما ساهمت أيضا في توجيه مصير الدولة سواء في طور النشأة أو العظمة أو في طور الاندحار والأفول مما يسمح لنا بالقول إن "الدورة الجبائية" التي تكلم عنها ابن خلدون في سياق حديثه عن نظرية "تطور الدولة" تنطبق أيما انطباق على تطور النظام الجبائي السعدي، منظورا إليه في إطار علاقته بتطور الدولة ككل. الأمر الذي يثبت مرة أخرى أن الدولة السعدية، وإن كانت لم تنهض على أساس العصبية القبلية من حيث أصول نشأتها الاجتماعية كما هو الحال بالنسبة للدول المغربية الوسيطية، فإنها ظلت خاضعة مع ذلك لنفس الثوابت والخاصيات التي ميزت تطور نظام "دورة الجباية" كما حددتها الأطروحة الخلدونية فيما يرجع لدولة العصبية القبلية، مع فارق أساسي يتمثل في كون ابن خلدون ربط مسألة النفقات المالية بالتحولات الداخلية التي تطرأ على الدولة حينما تنتقل من طور البداوة إلى طور الحضارة وما يرافق تلك الصيرورة من مصاريف باهضة دون أن يشير إلى أثر ومضاعفات العوامل الخارجية على تلك النفقات سلبا أو إيجابا. ويعود هذا طبعا إلى كون المغرب لم يكن عهدئد قد شهد بعد ذلك التحول الحاسم في ميزان القوى الذي سيطرأ على علاقته مع القوى الدولية في البحر الأبيض المتوسط ابتداءا من القرن الخامس عشر، وهو التحول الذي انتهى في حصيلة ما انتهى إليه باحتلال مجموعة من القواعد والمراكز المغربية التي كلف تحريرها خلال القرن السادس عشر وما بعده نفقات مالية على قدر كبير من الأهميةn



[i] - انظر بهذا الشأن: ضريف (محمد): (مساهمة في تحديد مفهوم المشروعية)، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، السنة الأولى، العدد 4، خريف 1987، ص8.

ـ بولانتزاس (نيكولاس): السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية، ترجمة عادل غنيم، دار ابن خلدون، الطبعة الثانية، 1983، ج.الأول، ص41.

[2] - بلاندييه (جورج): الأنتروبولوجيا السياسية،  مركز الإنماء العربي، 1982، ص37.

[3] - ابن خلدون (عبد الرحمن): المقدمة، دار القلم، بيروت، الطبعة الرابعة، 1981، ص180.

[4]  - Berque (Jacques) : Ulamas, fondateurs Insurgés du Maghreb XVIIè siècle, Sindbad, Paris, p38.

[5] - انظر بهذا الخصوص: مزين (محمد): فاس وباديتها، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى 1406/1983، ج2، ص209.

ـ الشادلي (عبد اللطيف): الحركة العياشية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1982، ص15.

ـ حجي (محمد): الحركة الفكرية في عهد السعديين، منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، 1396-1976، ج1، ص81.

ـ حسن (إبراهيم شحاتة): وقعة وادي المخازن في تاريخ المغرب، دار الثقافة، البيضاء، 1979، ص2.

[6] - راجع بهذا الصدد:

ـ القبلي (محمد): (مساهمة في تاريخ التمهيد لظهور دولة السعديين) ضمن كتابه مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1978، ص80-120.

[7] - راجع العلاقة بين المال والجهاد عند ابن تيمية: الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية، مصلحة المؤيد، 1318هـ، ص23.

[8] - الوزان (الحسن): وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي، محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ج1، ص119.

وهو نفس الموقف الذي يؤكده مارمول في فترة متأخرة إذ يقول: "على إثر هذا النصر الذي كتب للشرفاء (بعد معركة أبي عقبة) هب سكان المنطقة لمبايعتهم ودفعوا إليهم المعونة والزكاة. وفي السنة التي تلت هذه الأحداث، اجتاز الشرفاء الأطلس الكبير على رأس قوات أكثر عددا وأهم عتادا مما مضى..".

ـ كاربخال (مارمول): إفريقيا، ترجمة محمد حجي، محمد زنيبر، محمد الأخضر، أحمد توفيق، أحمد بن جلون، دار نشر المعرفة، الرباط، 1409/1989م، ج3، ص459.

[9] - اليفراني (محمد الصغير): نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تصحيح هوداس، مكتبة الطالب، الرباط، الطبعة الثانية، 1888، ص39 وما يليها.

[10] - اليفراني، نزهة الحادي، ص39.

[11] - رسائل سعدية، تحقيق عبد الله كنون، دار الطباعة المغربية، 1954، ص133-135.

[12] - اليفراني: نزهة الحادي، ص41.

[13] - نفسه.

[14] - كان الصلحاء قبل محمد الشيخ يقتسمون الحقل السياسي مع السلطان الشريف. إذ كانوا يضطلعون بمهمة العمل الديني، بينما كان الشرفاء السعديون ينهضون بالعمل السياسي، غير أن هذه الآية قد انقلبت وأصبح السلطان الشريف منذ محمد الشيخ يحتكر السلطة في المجالين الديني والسياسي دونما حاجة للصلحاء أو الأولياء موظفا في هذا الإطار مجموعة من الرموز المؤثرة على مستوى الشرعية "الدينية-السياسية" في سياق علاقات الدولة مع الجماعات القبلية. وكان أبرز تلك الرموز لقب "المهدي" الذي حاول من خلاله محمد الشيخ أن يجسد مفهوم "المشرف الأعلى" على الحياة الدينية توجيها وتنظيما. ولعل ما قام به سنة 1551 حينما أقدم على ضم أموال وممتلكات الأحباس بمدينة فاس إلى خزينة الدولة، يعتبر بلا شك تعبيرا سياسيا عن "السلطة المطلقة" التي أصبح يملكها على الصعيد الديني. نفس الأمر يمكن ملاحظته بالنسبة لتبنيه للقب "خليفة" فقد وظف محمد الشيخ هذا اللقب في إطار صراعه السياسي والإيديولوجي الخارجي مع الخليفة العثماني. وهو لقب يؤكده مرة أخرى، التصور الذي أصبح يتمثله السلطان الشريف في مجال الممارسة السياسية بوصفه السلطان الذي يوجد فوق الجميع.

راجع: حركات (إبراهيم): السياسة والمجتمع، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، طبعة 1408هـ/1987، ص174.

-WATERBURY (J) : (La légitimation du pouvoir au Maghreb, trad. protestation et repression) Annuaire de l’Afrique du nord, T.XVI, 1977, pp413-414.

[15] - ضريف (محمد): مؤسسة السلطان الشريف بالمغرب محاولة في التركيب، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1988، ص44.

ـ كونستان (هامس): (ابن خلدون والدفاع عن الملك الشرعي)، مجلة أبحاث، عدد 28-29/ السنة 1991، ص17-22.

[16] - انظر بهذا الشأن: رسالة السلطان زيدان إلى أبي زكرياء يحيى الحاحي عند: اليفراني، نزهة الحادي، ص221-225.

[17]  - SZIUBINSKI (A) : (L’armée de la flotte de guerre marocaine à l’époque des sultants de la dynastie saadienne). Hesp.tamuda.vol.XIII. Fascicule unique. 1972 p68.

[18]  - LAROUI (A) : Histoire du Maghreb, Edit. François Maspéro, Paris, 1976, p84.

انظر أيضا: SADKI (Ali) : (La montagne marocaine et la pouvoir central : un conflit séculaire mal élucidé), Hesp. Tamuda, Vol.28, Fasc.unique, 1990, pp22-25.           

[19] - القادري (عبد السلام الخياط): التحفة القادرية في التعريف بشرفاء أهل وزان ورجال الشادلية عموما، ج1، مخطوط خ، ع الرباط رقم 2321 ط، ص418.

[20] - نفسه.

[21]  - TERRASSE (H) : Histoire du Maroc, Edit. Attlantides. Casablanca, 1950, p174.

انظر أيضا: شحاتة (حسن إبراهيم): أطوار العلاقات المغربية العثمانية، نشأة المعارف بالإسكندرية، 1981، ص229، وما بعدها.

[22] - الفاسي (محمد): مرآة المحاسن في أخبار الشيخ أبي المحاسن، المطبعة الحجرية، فاس، 1906، ص70.

[23] - ابن عسكر (محمد بن علي): دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، 1976، ص110.

[24] - الفاسي (محمد المهدي): ممتع الأسماع في ذكر الجزولي واتباع وما لهما من الأتباع، تحقيق عبد الحي العمراوي وعبد الكريم مراد، الطبعة الأولى، 1989، ص106. انظر أيضا:

COUR (A) : L’établissement des dynaaties des cherifs au Maroc et leurs rivalités avec les Turcs de la Régence d’Alger, 1509-1830 , Paris, 1904, p101.

[25] - الشادلي (عبد اللطيف): التصوف والمجتمع: نماذج من القرن العاشر، مطابع سلا، 1989، ص277.

[26] - نفسه.

[27]  - DRAGUE (G) : Esquisse d’histoire religieuse du Maroc, Paris, 1951, p61.

[28]  - COUR (A) : L’établissement, p100.

[29] - كورسي (دييكودي): تاريخ الشرفاء،: محمد حجي، محمد الأخضر، مطابع سلا، 198، ص165.

[30] - الفاسي (أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر): ابتهاج القلوب بخبر الشيخ أبي المحاسن وشيخه المجدوب، مخطوط، خ.ع، رقم ك 326، الرباط، ص65.

[31] - إبراهيم شحاتة: أطوار العلاقات المغربية العثمانية، ص230.

[32] - انظر ما قام به أتباع علال الحاج الأغصاوي عند انهزام الجيش التركي عند اليفراني: صفوة من انتشر، المطبعة الحجرية، فاس، ص49.

[33] - اليفراني: نزهة الحادي، ص40.

[34] - حركات (إبراهيم): (الأجهزة السياسية المركزية لدى المخزن السعدي)، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، العدد 11، 1985، ص11-12.

[35]  - BRIGNON (J) : Histoire du Maroc, p210.

[36] - فالصناعة السكرية التي تعد من أهم الأنشطة الاقتصادية التي كانت تدر على بيت المال مداخيل على قدر كبير من الأهمية تراجعت بصورة ملحوظة، بسبب منافسة سكر البرازيل، وكذلك الأمر بالنسبة للمبادلات التجارية، فالموارد المالية التي كانت الدولة تجنيها من هذه المبادلات التي لم تعد تغطي سوى جزء محدود من احتياجاتها الإجمالية من الأموال. راجع بهذا الصدد: عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1999، ج3، ص60

BERTHIER (PAUL) : Les anciennes sucreries et leurs réseaux hydrauliques, vol. I, 1966, p71.

[37] - رسائل سعدية، ص147-148.

[38]  - ANONYME (Portugais) : Description du Maroc sous le règne de Moulay Ahmed El-Manousr, 1596 (Traduction Henry de castries), Paris, 1909, p98.

[39] - المجهول: تاريخ الدولة السعدية، تحقيق عبد الرحيم بنحادة، دار تنمل للطباعة والنشر، مراكش، الطبعة الأولى، 1994، ص63.

[40]  - Anonyme (portugais) : Description du Maroc, p98.

[41] - مزين (محمد): فاس وباديتها، ج1، ص59، وكذلك الصفحتين 175-180 من نفس الجزء.

[42] - اليفراني: نزهة الحادي، ص158.

[43] - الفشتالي (عبد العزيز): مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا تحقيق عبد الكريم كريم، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافية، الرباط، 1972، ص94.

[44] - على الرغم من أن الثورة تحمل دلالات سياسية متنوعة، وتطرح تساؤلات متعددة الأبعاد، كما يشير إلى ذلك الأستاذ محمد مزين فإننا نرجح أن يكون من بين الأسباب الحاسمة في انفجارها، القهر الجبائي، الذي نال السكان بصورة فظيعة. انظر: مزين محمد: فاس وباديتها، ج1، ص198.

[45] - الفشتالية: مناهل الصفا، ص171.

[46] - المجهول: تاريخ الدولة السعدية، ص63.

[47] - ذلك ما تعكسه مشاركة بعض الأولياء في ثورة الناصر كالشيخ أبي الحسن علي بن منصور الملقب بأبي الشكاوي الذي قال يوم انطلاق الثورة لمريديه وهو سائر على بغلته "يا فقراء اتسمعون ما تقول بغلتي أنها تصبح بالنصر لمولاي الناصر وكذلك الحجر والشجر" انظر اليفراني: نزهة الحادي، ص101.

[48] - انظر: Drague (Esquisse) , p67Justinard (L.C) : Notes sur l’histoire du sous au XVI° siècle, sidi Ahmed ou Moussa, carnet d’un lieutenant del-Manousr Archives- Marocaines, vol. XXIX, 1933, p170.

[49] - السوسي (المختار): إيليغ قديما وحديثا، المطبعة الملكية، الرباط، 1386-1966، ص27.

[50] - راجع ما يورده الفشتالي من وصف حول معلمة قصر البديع المعمارية لتقدير حجم المسروفات المالية التي بذلت في إنجازها (مناهل الصفا، ص254).

[51] - راجع هذه الأصناف الجبائية التي عرفها المغرب بعد وفاة المنصور عند: الفقيه الإدليسي الجباية في عهد الدولة السعدية، مساهمة في دراسة النظام المالي بالمغرب. رسالة لينل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ (مرقونة) فاس 1415/1995، ص144-158.

[52] - انظر مزايا العدالة الضريبية وأثرها الإيجابي على علاقة الدولة بالمجتمع عند نعوش صباح: الضرائب في الدولة العربية، المركز الثافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1987، ص133.

[53] - الراجح أن مقتل محمد الشيخ على يد الأتراك، جاء في سياق استعداداته للقيام بحملة في مناطق الأطلس، لإخماد ثورة قادها هناك شيوخ بعض القبائل ورجال الزوايا احتجاجا على السياسة المجحفة: انظر طوريس (ديكوو): تاريخ الشرفاء، ص219.

[54] - راجع رسالة السلطان زيدان إلى يحيى الحاجي عند اليفراني: مزهة الحادي، ص219-225.

[55] - ضريف محمد: تاريخ الفكر السياسي بالمغرب، مشروع قراءة تأسيسية، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1988، ص132.