ص1     الفهرس    41-50

"أممية" الاحتجاج على العولمة أو

في عولمة الاحتجاج على العولمة

يحيى اليحياوي

1-تقديم:

من النادر (أو هكذا يبدو) أن تفرز الظواهر الكبرى نقائضها بالسرعة وبالقوة (لدرجة العنف والعنف المضاد) كاللتين أفرزت بهما ظاهرة العولمة عناصر التضاد بداخلها ومكونات الممانعة بصلبها.

والواقع أنه بقدر تقدم الظاهرة وتسارع وتيرتها (خطابا كما في الممارسة)، بقدر تصاعد وتزايد الخطاب المناقض (المناهض) لها والممارسة المعاكسة لتوجهاتها.

لم تعد الظاهرة، ظاهرة العولمة، "مستهدفة" فقط في مرجعياتها ولا في آليات اشتغالها (ولا في طبيعتها حتى) بقدر ما أصبحت "مصدر تخوفات" في أبعادها و"مكمن مخاطر" في آثارها وما قد يترتب عن صيرورتها.

والعبرة هنا لم تتم قياسا إلى ما أفرزته هذه الظاهرة من أفعال هذه الجهة وردود أفعال تلك، بل أيضا وبالأساس إلى ما يعتزم "فاعلو العولمة"[1] تمريره أو تكريسه أو التأسيس والشرعنة له على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

قد لا يتسع المجال في هذا المقام للقيام بمحاولة تقييمية لحصيلة عقد من اشتغال العولمة وسنتين (أو ثلاث) من تنسيق الاحتجاج ضدها. وقد يطول الحديث أكثر لو نحن آثرنا التركيز فيه على أشكال الاحتجاج وتقنياته أو على مستوى مردوديته بالقياس إلى قوة التيار الذي تسير به العولمة وتصلب فاعليها الكبار بإزاء ما يعتبرونه "حتميا"[2] أو "موضوعيا" أو ضروريا لدورة الاقتصاد، لدينامية المال والأعمال.. لدينامية رأس المال.

2-ثلاث حقائق كبرى للاستهلال:

منذ بدأت الإرهاصات الأولى لظاهرة العولمة تبرز وتتكرس "بتكرس انهيار منظومة المعسكر الشرقي وتقوية مؤسستي بروتن وودز وإنشاء منظمة التجارة العالمية وتفجير حرب الخليج الثانية و"انتصار" الليبرالية واقتصاد السوق على سواهما من مرجعيات وتزايد الطفرة التكنولوجية.. الخ" بدأت الأصوات تتعالى (خطابا وأدبيات بالأساس) لا فقط لنقد الظاهرة المتشكلة، بهدف تبيان خلفيتها الفلسفية وتعرية مرجعيتها الليبرالية والميركانتيلية، ولكن أيضا وبالخصوص للتأكيد على "خطورة تصورها الوحداني لسير ومآل إنتاج وتوزيع الخيرات المادية واللامادية على المستوى الكوني"[3].

لم يكن نقد الظاهرة إياها (من لدن الأكاديميين وعلماء المستقبليات ورجال الاقتصاد "الملتزمين".. إلخ) شيئا آخر سوى رد فعل على واقع ساد ولا تريد "السلط الجديدة" لغيره أن يسود حالا أو استقبالا.

وعلى هذا الأساس فإن "الحركات الاحتجاجية"، التي انبعثت خلال السنين الأخيرة، لم تر في إعمال النقد إلا ضربا من ضروب رد الفعل.. تبقى محصورة في "عالم الأفكار" طالما لم تترجم على أرض الواقع على خلفية من الفعل يتغيا التأثير في القرار أو محاصرة متخذيه أو في أسوأ الأحوال الاعتراض على اتخاذه عبر تجييش الجماهير على من يعتزم اتخاذه.

ونعتقد أن هذا التصور (تصور الفعل لا رد الفعل فحسب) هو الذي كان وراء الحركات التي شهدتها "قمم" سياتل ودافوس[4] ونيس وواشنطن وبراغ وملبورن وغوتنبرغ وسالزبوري وغيرها.. وهو الذي دفع المحتجين إلى تنظيم "منتدى اجتماعي عالمي" ببوركو أليغري، عاصمة ولاية ريو غراندي بأقصى جنوب البرازيل، موازاة مع انعقاد "المنتدى الاقتصادي العالمي" بدافوس بجبال سويسرا.

لو كان لنا أن نستمد العبرة، في مقاربة أولية، من الحركات الاحتجاجية ضد العولمة (التي لا مجال هنا لاستعراض تطوراتها الكرونولوجية) لوقفنا إجمالا عند ثلاث حقائق لا بد من الوقوف عندها لفهم السياق العام:

+ الحقيقة الأولى وترتكز على القول: إنه بصرف النظر عن ظاهرة العولمة في حد ذاتها (قديمة أو حديثة أو جديدة، ذات طبيعة ليبرالية أو رأسمالية أو نيوليبرالية، استعمارية أو تحريرية، تكرس التخلف أم هي أداة تنمية.. الخ)، فإن الثابت أن إشكالية الاحتجاج ضدها إنما هي في الأصل (ولربما في نهاية المطاف أيضا) إشكالية احتجاج ضد مؤسسات معينة وقضية تنديد بسياسات محددة:

ـ هي احتجاج واعتراض على مؤسسات أريد لها أن تكون "عالمية" وتعاملت دول العالم برمتها معها على أساس من كونها عالمية: منظمتي بروتن وودز، منظمة التجارة العالمية، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، المجموعة الأوروبية، المنتديات العالمية..إلخ.

لم يكن الاحتجاج عليها يوما احتجاجا على طابعها المؤسساتي أو على البعد التنسيقي الذي تتبناه وتعمل في إطاره، بقدر ما تأتى من بعد "الهيمنة" الذي دفعت به وبعد "الفكر الواحد"[5] الذي لم تتوان يوما في تقديمه وتبريره وشرعنة مرجعيته. حركات الاحتجاج التي تواكب انعقاد هذه "التجمعات" إنما هي إذن وبالأساس حركات احتجاج ضد الفلسفة التي تتبناها وفي وجه مرجعية الفكر الذي لا تريد لغيره، بأي حال من الأحوال، أن يسود أو ينبعث حتى.

ـ ثم هي احتجاج على ممارسات وسياسات فرضتها المؤسسات إياها فرضا بقوة الترغيب حينا وبقوة الترهيب في أحيان كثيرة: سياسات فتح الأسواق وتحرير المبادلات، سياسات تقويض المرفق العام والقطاع العام عبر الخوصصة واللاتقنين والتحرير، سياسات تدمير دور الدولة على حساب دور القطاع الخاص، سياسات تحويل مبدأي التقنين والتنظيم من الفضاء العام لفائدة الفضاء الخاص باعتبار هذا الأخير المقنن الطبيعي والمنظم العفوي لكل أنشطة الاقتصاد والمجتمع والثقافة والبيئة والصحة والتعليم.. الخ.

هي إذن "نهاية التاريخ"[6] بكل المقاييس: نهاية المؤسسات الوضعية، نهاية السياسات الوضعية، ثم "الشرعية الطبيعية" لمؤسسات لا تريد لغير اقتصاد السوق ومنطق السوق وليبرالية السوق و"ديموقراطية" السوق أن تتكرس وتسود و"تنتشر" بقوة الأمر الواقع.

+ الحقيقة الثانية وتنطلق من التصور: أنه بغض النظر عن طبيعة العولمة وطابعها، وبغض النظر عن طبيعة الاحتجاج وطابعه، فإن هذا الأخير لا يتم من خارج النظام بقدر ما ينطلق من داخله ويتبنى الاشتغال من بين ظهرانيه. فالحركات الاحتجاجية، التي عايشناها طيلة السنين الأخيرة وتكفلت وسائل الإعلام بموسطة مراسيم تطوراتها، لم تطعن في مرجعية النظام القائم ولا في شرعيته (اللهم إلا بعض "الجيوب الشيوعية" وبعض "الفوضويين".. الخ) بقدر ما نددت ببعض ممارساته (المضاربات المالية بالنسبة لـ أطاك[7]، الإضرار بالبيئة بالنسبة للخضر، الأخطار البيوتكنولوجية المترتبة عن الاستنساخ بالنسبة لبعض رجال الدين.. إلخ) وطالبت بضرورة إصلاحه (1 بالمائة من الضرائب على التيارات المالية ذات الطبيعة المضارباتية بالنسبة لـ أطاك[8]، ضريبة على المؤثرات البيئية بالنسبة للخضر، ضرورة احترام قدسية الإنسان بالنسبة لرجال الدين.. الخ).

هي إذن حركات لا تطعن في مرجعية النظام القائم ولا في آليات اشتغاله (ولا في شرعيته فوق كل هذا وذاك) ولا تشكك فضلا عن ذلك، في سلامة هياكله التنظيمية (اقتصاد السوق، الديموقراطية الليبرالية.. إلخ) ولا في قوة نجاعته (قياسا إلى ما سبقه من هياكل أو وازاه من أشكال تنظيم) بقدر ما تندد بتجاوزاته وإقصاءاته وتهميشاته لدول وقارات، لمدن وبوادي، لجهات وفضاءات.. الخ.

هي بالتالي ودون شك، حركات من أجل أنسنته وإدخال نسب من الإصلاح من بين ظهرانيه لا ثورة على بنياته وطعن في مشروعيته وبنياته.

+ الحقيقة الثالثة ومفادها القول بأنه بقطع النظر عن اختلاف انتماءاتها السياسية وطبيعة نشاطاتها الجمعوية وتمايز مرجعياتها الإثنية والثقافية والدينية ولربما تضارب مشاريعها المستقبلية، فإن الحركات الاحتجاجية التي "طفت على السطح" خلال السنين الأخيرة إنما انطلقت من مرجعيات جغرافية وقطرية محصورة مؤسساتيا (لدرجة الانصهار) في مظاهرات احتجاجية ضد العولمة الليبرالية ومؤسساتها وسياساتها والقائمين عليها.. لدرجة يذهب الاعتقاد معها إلى نشوء "مجتمع مدني عالمي" يرفع شعارا محددا، مسالما وبسيطا: "من الممكن إقامة نظام آخر".

هو إذن "مجتمع مدني عالمي" لا يؤمن بالنمطية ما دام يضم في مكوناته النقابات بكل تشكلاتها، والحركات "الفوضوية"  بكل أطيافها والتنظيمات النسائية والأقليات العرقية والمنظمات الشيوعية وذات التمثلات العدمية.. الخ.

وهو "مجتمع مدني عالمي" تتقاسم مكوناته (بغض النظر عن درجة تقدم الدول الوطنية التي ينتمي إليها) كل أشكال التنديد بالتهميش والفقر والميز والحرمان والاستغلال.

وهو، فضلا عن كل ذلك، "مجتمع مدني عالمي" يتطلع لعالم جديد تنتصر في خضمه قيم التوزيع العادل للثروات المادية واللامادية المتوفرة[9]، ويتم في إطاره الاعتراف للآخر بالحق في العيش، بالحق في الحرية، بالحق في تقرير المصير.. وبالحق في المواطنة.

هذه الحقائق الثلاث إنما سقناها هنا لتبيان مدى "وعي" الحركات الاحتجاجية بالرهانات القائمة ودرجة تنسيقها على المستوى العالمي لمناهضة العولمة النيوليبيرالية المتشكلة والتنديد بفاعليها والدافعين بتوجهاتها.

3-في "عولمة" الاحتجاج على العولمة:

قد يكون من الجائز الاعتقاد بأن الحركات المناهضة للعولمة، التي عرفها العالم طيلة السنوات الثلاث الأخيرة (غالبا على هامش أو بموازاة انعقاد المؤتمرات الدولية الكبرى) لا تدفع بمطالب فئوية محددة (على عكس المنظمات النقابية التي تعمل داخل دولة/وطنية معينة أو في إطار تجمع جهوي ما) وأنها لا تتوفر على مشروع اقتصادي أو سياسي (كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب والتنظيمات السياسية المعارضة). ومن الجائز الاعتقاد بأنها لا تتوفر على سلطة تقريرية لها القدرة على فرضها وإشاعتها على المستوى الكوني. لكنها مع ذلك تبقى في قلب المطالبة بضرورة "إقامة عولمة أخرى" على خلفية من تخليص العولمة الحالية من المستويات المهيمنة بداخلها:

 - فالمنددون بالعولمة النيوليبيرالية القائمة يطالبون بضرورة تخليص السياسي من هيمنة وتسلط الاقتصادي، ليس فقط على اعتبار تطلع هذا الأخير المستمر لاستصدار سلطة القرار (والتقرير) من بين يدي السياسي[10]، ولكن أيضا وبالأساس كونه يتطلع إلى تحييد الدول والحكومات والبرلمانات[11] ورهن قراراتها بما يتماشى ومصالح الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدائرة في فلكها. بالتالي فما يتظاهر المحتجون من أجله إنما هو تظاهر من أجل تغليب الشأن العام (المبني على تغليب القيم المشتركة) على المصالح الفئوية المتبنية لحرية الأسواق والمال والأعمال. يقول روني باسي: ".. إننا لا نرفض، بل نؤكد على وجود عقلانية فردانية اقتصادية. لكن الذي لا نقبله إطلاقا هو اختزال الحقيقة الاقتصادية في هذا المنطق وتحديد الاجتماعي في كونه تجميعا لعقلانيات فردية"[12].

 - ثم هم يحتجون لفك هيمنة البعد المالي على البعد الاقتصادي وفك هيمنتهما مجتمعين على سلطة السياسي أو ما تبقى منها.

ليس التلميح هنا إلى الحجم الضخم من المضاربات المالية (قياسا إلى ما يحتاجه الاقتصاد الواقعي)، ولا إلى تيارات الرساميل (المتحركة في إطار أسواق/شبكات)[13]، ولكن أيضا إلى عمليات الخوصصة الكبرى (التي تختزل القطاعات الاستراتيجية في بعدها المالي وفي نسب تطور قيمتها ببورصات العالم) وكذا إلى عمليات تبييض أموال المخدرات (حوالي 600 مليار دولار) والتهرب من الضرائب أو الانتقال إلى بلدان لا تلزم الشركات بالضرائب (برمودا وغيرها).. الخ.

- المناهضون للعولمة النيوليبيرالية لا يكتفون بالمطالبة بالحد من عمليات المضاربات المالية من خلال فرض بعض الرسوم عليها، ولا بضرورة تعقب الشركات الكبرى بالمناطق المعفاة من الضرائب، لكنهم ينددون أيضا باستصدار القطاع العام والمرفق العام اللذين حولتهما سياسات الخوصصة والتحرير واللاتقنين إلى مجرد بنيات وأنشطة إنتاجية لا وظيفة اجتماعية أو سياسية لهما تذكر (تقدر الإحصاءات "سوق الخوصصة" لسنة 1999 بحوالي 145 مليار دولار). بالتالي، يقول روني باسي، "فطالما أن السلطة الدولية للمال والشركات متعددة الجنسيات لا تجد أمامها إلا الحكومات الوطنية، فإن هذه الأخيرة ستبقى ألعوبة، وليس حكما، بيد القوى الاقتصادية توظفها كيفما تشاء. إن تنسيق الحكومات، المفروض من لدن الشعوب، هو الذي من شأنه أن يرفع من القوة السياسية على المستوى الكوني على حساب السلط التي يتغيا كبح جماحها"[14].

-  والواقفون في وجه تيار العولمة النيوليبيرالية ينددون أيضا بالنظام النقدي والمالي الدولي (نظام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) الذي حول "الأنظمة" النقدية والمالية الوطنية إلى آلات وظيفتها المركزية البحث عن مصادر للوفاء بمستحقات الدين الخارجي[15].

المتظاهرون ضد العولمة وفاعليها لا يتحاجون، على هذا المستوى، انطلاقا من إكراهات الدين الخارجي التي ترهن سبل التنمية بدول العالم الثالث[16]، ولكن أيضا إلى تمركز الثروة بين يدي عدد جد محدود من الأفراد[17]. والمؤسسات تجعل الغالبية الساحقة من المواطنين عبيدا لمؤسسات القرض والسلف.. تشجعهم في ذلك (بالدول المتقدمة بالأساس) الطفرة التكنولوجية التي طالت ميدان المال وأساليب الاستهلاك[18].

لا يقتصر الأمر، في تصور المحتجين على العولمة، على ضرورة تخفيف الديون على دول العالم الثالث في أفق إلغائها، وإقامة نظام نقدي ومالي عالمي عادل ومنصف، بل يتعداه إلى المطالبة بضرورة توزيع الثروات الكونية بطريقة عادلة وإعادة توزيع الثروات الوطنية (داخل الدول) بما يضمن لأفرادها وجماعاتها الحيلولة دون فاقات الفقر والجوع والتهميش والإقصاء والأمية وسوء التطبيب وغيرها[19].

- ثم إن المناهضين لتوجهات العولمة يحتجون على "إيديولوجيا الاستهلاك" وتدمير البيئة وتقويض الغلاف الجوي على خلفية من اعتبارات الإنتاجية والمردودية والتنافسية والنجاعة وغيرها.

هم لا يحتجون فقط على "الأكل القبيح" الذي جاءت به ماكدونالد وغيرها[20]، ولا على الإفرازات الصناعية التي تلوث البيئة وتهدد الحياة على الكوكب، ولكن على مبدأ أن منطق "التنمية من خلال التنافسية" من شأنه أن يكون خلف حرب اقتصادية وتجارية وبيئية[21] واجتماعية وغيرها.. لأنه يضع الأفراد والجماعات، الدول والجهات، تحت رحمة ما قد يترتب عما يسمونه "الإنتاجية إلى ما لا نهاية" و"الربحية إلى ما لا نهاية" و"المردودية والتنافسية من أجل حصص الأسواق إلى ما لا نهاية" وهكذا.

هم إذن يحتجون على "ديكتاتورية الأسواق"[22] وتجاوزاتها. ويحتجون على هيمنة التقنية والعلم في تطبيقاتهما الاقتصادية وتوجههما باتجاه تعويض عناصر الطبيعة بمواد اصطناعية تحت مسوغة الزيادة في العرض وتوفير الإنتاج[23].

نلاحظ بناء على ذلك، بالمحصلة المؤقتة على الأقل، أن الحركات المناهضة للعولمة لم تحتج بسياتل ودافوس ونيس وواشنطن وسالزبوري وبورطو أليغري وغيرها، تطلعا منها في تغيير النظام الرأسمالي أو تقويض هياكله التنظيمية وهياكل اقتصاد السوق والديموقراطية الليبرالية بداخله، بقدر ما "انتفضت" ضد تجاوزاته وتناقضاته الصارخة والمخاطر التي من شأنه أن يجرها على الإنسان والطبيعة والبيئة والكون. هم يحتجون ويتظاهرون وينتفضون وينددون ويناهضون من داخل النظام لا من خارجه أو على هامشه.. بالتالي فالمطلوب لديهم هو الإصلاح وليس.. التغيير[24].

4-في الحصيلة الأولية للحركات الاحتجاجية ضد العولمة:

لم تكن الحركات الاحتجاجية ضد العولمة بذات مطالب فئوية محددة حتى يمكن الاحتكام إليها في تقييم الحصيلة. ولم تكن تنظر إلى عملياتها تلك (بدافوس كما ببورطو أليغري أساسا) من منطق كسب الرهان على خلفية من منطق "الربح والخسارة". وهي في كل الأحوال لم ولا تدعي كسب الرهان إياه أو الصمود طويلا بوجهه. الحركات الاحتجاجية إياها تموقعت وتتموقع دائما كإحدى قوى الضغط ذات البعد الجماهيري، سبيلها إلى ذلك الاحتجاج وطريقتها للتعبير على ذلك التجمهر أمام أماكن انعقاد القمم مناهضة ومطالبة بتنظيم الانتفاضة على فاعلي العولمة الكبار وعلى سياساتهم وممارساتهم. هي من هنا بالتالي صعبة التصنيف، لا فقط بحكم تمايز مكوناتها وتمثلات هذه المكونات بداخلها، ولكن أيضا بجهة مدى استقلاليتها وصدق نوايا منظميها، فلربما، يقول البعض، تكون "صنيعة" فاعلي العولمة أنفسهم على خلفية من تبيان "ديموقراطية النظام" القائم وتسامحه. ولربما تكون من تشجيع النظام إياه لتسهيل الاستقطاب وبعث الإحساس بأن "الكل شركاء ومتضامنون لإنقاذ النظام".

وإن كانت الأمور هاته لا تدخل في سياق حديثنا هنا، فإن الثابت أن هذه الحركات قد استطاعت إبلاغ صوتها لـ"أصحاب القرار العالمي" بإزاء مجموعة قضايا لا مجال للتشكيك في أنها خلقت اختلالا كبيرا ولا توازنا عميقا في العلاقات بين الدول وداخل الدولة الواحدة (طغيان الاقتصادي على السياسي، طغيان المالي والمضارباتي على الاقتصاد الواقعي، طغيان الربحية والمردودية على أنظمة الإنتاج والتوزيع.. الخ).

وهي، فضلا عن هذا التحسيس، استطاعت أن تقف في وجه بعض القرارات التي كان من شأنها أن تمأسس لانتصار المال والتجارة والأعمال على الإنتاج والمواطنة والديموقراطية كوقوفها في وجه الاتفاقية المتعددة الأطراف حول الاستثمار ودفعها بحتمية إنقاذ بعض الدول من الإفلاس (سيما في إفريقيا جنوب الصحراء) جراء تراكم ديونها لحد التهام "نواتجها الداخلية الخام".. إلخ[25].

ثم هي ليست حركات مناهضة للعولمة تتخذ من الاحتجاج وسيلة وهدفا في آن معا، بقدر ما هي أيضا "تنظيمات" ذات قدرة اقتراحية عالية[26] وتصور للاقتصاد والمجتمع والسياسة كامل ومتكامل كما هو الشأن بالنسبة لـ أطاك وسواها. وهي أيضا حركات "تبنى" مخاوفها رؤساء دول وحكومات الدول المتقدمة نفسها وكذا المنظمات المالية والاقتصادية الدولية والشركات الكبرى[27] حتى وإن كان معظم الرؤساء أولئك والمنظمات الدولية تلك لا يتبنون وسائلها في التعبير وطريقتها في إيصال رأيها[28].

وهي فضلا عن كل هذا وذاك، لقيت تبنيا ضمنيا واضحا من لدن لقاءات القمة لبعض دول العالم الثالث[29] التي عبرت في بياناتها عن اللاعدالة في "توزيع منافع العولمة" و"حذرت" من مخاطر العولمة النيوليبيرالية الحالية و"دعت" إلى ضرورة أنسنة[30] هذه الأخيرة ومنح الدول إمكانيات بلوغ الأسواق والمساهمات في صياغة وبلورة قواعد اللعبة بداخله.

هذه الحركات الاحتجاجية خلقت إذن مفارقات كبرى:

ـ بين جهات "تتفهم" مطالب الحركات إياها، لكنها لا تتبنى وسائلها لإبلاغ ذلك إلى "صناع القرار".. وهي من هنا لا ترى مانعا في الاستماع إليهم وإشراكهم (من منطلق الاستقطاب لا من منطلق المشاركة في اتخاذ القرار).

ـ وبين جهات تتبنى طروحات (طروحات الحركات إياها) وتطالب فاعلي العولمة (دون الإشارة إلى مصدر تلك الطروحات) بضرورة أخذ المطالب تلك بعين الاعتبار للحيلولة" دون انهيار النظام" وتزايد التنديد من حوله والاحتجاج من داخله.

من هنا تبقى الجهتان معا (والحركات الاحتجاجية بينهما أو ضمنهما) محاولة للفعل من داخل النظام لا من خارجه، إذ الاحتجاج على النظام لا يعني الطعن فيه أو في صيرورته، كما أن التنديد بذات النظام لا يعني المطالبة بتغييره وإقامة نظام جديد على أنقاضه.. هي كلها جزء من نظام تطالب بإصلاحه ولا تتطلع إلى إقامة نظام جديد على أنقاضه أو بموازاة معه.

 

 



[1] - "فاعلو العولمة" هم، فضلا عن المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية الفاعلة مباشرة في الاقتصاد والمال، "نخبة السياسيين القياديين والمستشارين في عالم السياسة والاقتصاد ومالكي إمبراطوريات الإعلام ومديريها وأصحاب الشركات العالمية المتعددة الجنسيات وأفراد البيوتات المالية وأصحاب ومدراء البنوك الكبرى في العالم وقادة عسكريين استراتيجيين وعلماء وباحثين اجتماعيين وتربويين" وغيرهم.

[2] - يقول جيمس وولفنسن رئيس البنك العالمي، عشية انعقاد المؤتمر النصف سنوي للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي بواشنطن في 16 و17 أبريل 2000: "لا أعتقد أن في استطاعتنا التراجع عن العولمة.. إنها واقع".

[3] - يحيى اليحياوي، العولمة: أية عولمة؟، إفريقيا الشرق، بيروت، الدار البيضاء، 1999.

[4] - دافوس هي ملتقى المنتدى الاقتصادي العالمي حيث يجتمع فاعلو العولمة بصفة دورية بداية كل سنة.

[5]  - El Yahyaoui Y., La mondialisation : communication-monde, ultra libéralisme planétaire et pensée unique, Ed. Boukili, Kénitra, 1998.

[6] - فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين أحمد أمين، مركز الأهرام ، القاهرة، 1993.

[7] - أطاك هي الجمعية التي تكونت أواسط الثمانينات على خلفية من ضرورة فرض ضريبة بسيطة على المعاملات المالية الدولية (المضارباتية في جزء كبير منها) من أجل عمل مواطناتي، وهي مستقاة من اقتراح للاقتصادي الأمريكي جيمس توبين، جائزة نوبل في الاقتصاد.

[8] - نسبة الواحد بالمائة على المضاربات المالية (والتي تقدر ما بين 1900 و2000 مليار دولار) ستفرز مداخيل ضخمة من شأنها إنهاء آفة الجوع وسوء التغذية وغيرها بمعظم دول العالم.

[9] - يشير تقرير التنمية البشرية لعالم 1999 إلى أنه، في سنة 1820 كان الفارق في الدخل بين خمس سكان العالم ممن يعيشون في أغنى البلدان، وخمس السكان ممن يعيشون في أفقر البلدان هو واحد إلى 3. وفي مطلع القرن العشرين اتسع الفرق سنة 1913 ليصبح واحدا إلى 11. وبلغ في منتصف القرن، عام 1950، واحدا إلى 35، ثم تزايد سنة 1973 ليصبح واحدا إلى 44. وبلغ ذروة أخرى سنة 1993 ليكون واحدا إلى 72. وفي سنة 1997 صار واحدا إلى 74 (راجع في ذلك: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية لعام 1999).

[10] - ما قيمة السياسي أمام الاقتصادي عندما يكون رقم معاملات الشركات المتعددة الجنسيات أكثر بكثير من الناتج الداخلي الخام للدول الوطنية كما يظهر  من المعطيات التالية : الدول/ الشركات المتعددة الجنسيات، و رقم المعاملات /الناتج الداخلي الخام :  إندونيسيا   174,6 .جنرال موطورز   168,8. تركيا   149,8. الدانمارك   146,1. فورد   137,1. إفريقيا الجنوبية   123,3.  طويوطا111,1   . إيكسون   110,0.رويال دوتش-شال   109,8. النرويج   109,6. بولونيا   92,8. البرتغال  91,6. أي.ب.م   72,0. ماليزيا  68,5. فنزويلا   59,0. باكستان   57,1. أونيليفر  49,7. نستلي   47,8. سوني   47,6. مصر  43,9.

المصدر: البنك العالمي، 1995، مجلة الثروة 1996.

[11] - كما كان الشأن بالنسبة لمشروع "الاتفاقية المتعددة الأطراف حول الاستثمار" والذي نجحت الحركات الاحتجاجية في وأده. ولربما سيكون لمشروع "المعاهدة الأطلسية الجديدة" نفس المآل.

[12]  - Passet. R, « Le forum social de Porto Alegre : Manifeste pour une économie à finalité humaine », Le Monde diplomatique, Février, 2001.

[13]  - voir : Rifkin. J,  « La transformation radicale du capitalisme : quand les marchés s’éffacent devant les réseaux », Le Monde diplomatique, Juillet 2001.

[14]  - Passet. R, « Le forum social de Porto Alegre.. », Art. Précité.

[15] - يشير الخبراء إلى أن ديون العالم الثالث تضاعفت أربع مرات خلال عشرين عاما وزادت من 520 مليار دولار عام 1980 إلى 2070 مليار دولار عام 2000، فيما سددت هذه الدول خلال نفس الفترة 3350 مليار دولار أي ستة أضعاف قيمة ديونها كما كانت سنة 1980.

[16] - يقدر الخبراء عجز التجارة الخارجية لدول الجنوب بـ 45 مليار دولار ما بين سنتي 1980 و1990 في حين حققت الدول الصناعية فائضا بقيمة 80 مليار دولار خلال نفس الفترة.

[17] - يوجد بالعالم ثلاثة أثرياء يملكون ثروة تزيد على الدخل القومي لحوالي 28 دولة في العالم. ويشير تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة لسنة 1998 إلى أن عدد أثرياء العالم يبلغ حوالي 225 فردا تقدر ثروتهم مجتمعة بأكثر من ترليون دولار أي ما يعادل الدخل السنوي لأفقر 47 بالمائة من سكان العالم البالغ عددهم 2,5 مليار نسمة.

[18] - بلغت ديون العائلات الأمريكية سنة 2000 حوالي 6700 مليار دولار، أي أن هناك مليون و200 ألف أمريكي يقفون كل سنة على حافة الإفلاس جراء بطاقات الائتمان وهوس الإنسان الأمريكي بالاستهلاك.

[19] - لعل مساهمة الشركات الكبرى في تمويل برامج محاربة داء المناعة المكتسب يصب في خانة تخوفها من تراجع الأسواق الاستهلاكية وليس بأي حال من الأحوال بغرض محاربة الداء في حد ذاته.

[20] - والذي عبر عنه المحتجون الفرنسيون بتكسير محلات ماكدونالد وتدمير المزارعين الهنود لبذور شركة مونسنطو المتخصصة في التحويل الاصطناعي (البيوتكنولوجي) للبذور والمحاصيل.

[21] - حوالي 55 بالمائة من النفايات الخطيرة مصدرها أمريكا الشمالية وحدها مقابل 8,5 بالمائة فقط مصدرها الاتحاد الأوروبي.

[22] - هي ديكتاتورية منظمة التجارة العالمية في نهاية المطاف (والتي تتطلع لخلق مجتمعات سوق) على اعتبار أن السوق سابق على هذه المنظمة وسابق على الرأسمالية بحد ذاتها.

[23] - يعتبر إينغو بوتريكوس، المخترع السويسري للأرز المحسن، بأن منظمة "السلام الأخضر".. "ترتكب جرائم ضد الإنسانية".. لأنها تحارب عمل شركات البيوتكنلوجيا التي تعمل على توفير الأكل للبشرية.

Voir : Sinai.A, « Enquête sur une stratégie de communication : comment Monsanto vend les OGM », Le Monde Diplomatique, Juillet 2001.

[24] - أسفر المنتدى الاجتماعي العالمي عن قيام شبكة برلمانية دولية (من 400 نائب) لدعم الحركات الاجتماعية والنقابية والسعي إلى أن "ينعكس كفاحها في التشريعات التي تسن".

[25] - لا يتعدى إجمالي دخل إفريقيا جنوب الصحراء (حوالي 48 دولة) كثيرا دخل بلجيكا.. أو دخل مدينة بدولة غنية يبلغ عدد سكانها 60 ألف نسمة.

[26] - يقول جوزي بوفي (المناهض للأكل القبيح) ببرطو أليغري.. "بعد عام من عقد منتدى سياتل أصبحت الحركة قوية جدا، لكننا أتينا هنا لا لكي نتظاهر ضد أي شيء بل لكي نتناقش".

[27] - يقول جن ماري ميسيي، رئيس شركة فيفاندي يونفرسال: "لا يمكننا تجاهل الاحتجاجات.. إن هذه الحركات ستصبح أقوى وأكثر تنظيما وعلينا أن نطلق حوارا وأن نعمل مع المنظمات غير الحكومية". ويقول ستيوارت إيزنستات مقرر اجتماع دافوس لسنة 2001 والمساعد السابق لوزير الخزانة الأمريكي: "لقد ضاعفنا هذا العام عدد المنظمات غير الحكومية الممثلة، من 35 العام الماضي إلى 60 هذه السنة".

[28] - يقول جورج بوش إن المتظاهرين هم ضد التجارة والحرية والرفاهية، فيما اعتبر مدير الاتصالات بدافوس أنه "من المؤسف أن المتظاهرين يأتون لتعطيل اجتماعاتنا".

[29] - في اجتماعات مجموعة إلى 15، التي تمثل مجموعة الدول النامية المنعقدة بالقاهرة في 19 يونيو 2000، "شدد المجتمعون على ضرورة العمل على إقامة نظام اقتصادي دولي يرتكز على الديموقراطية والعدالة بين الدول وقيام هيكل دولي جديد يتمكن من مواجهة تحديات الفقرة والبطالة والآثار السلبية للعولمة"، انظر بيان المجموعة في: جريدة القدس العربي، الثلاثاء 20 يونيو 2000.

[30] - عن أي أنسنة يتحدثون وميزانية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) أقل مما تنفقه تسعة من البلدان المتقدمة على غذاء القطط والكلاب لمدة ستة أيام، وأقل من 5 بالمائة مما ينفقه بلد متقدم واحد على منتجات التنحيف وإنقاص الوزن؟