المحو الذي نحياه
قد يجرنا
الحديث عن موقع وخصوصية التجربة الشعرية الجديدة بالمغرب، بالنظر إلى مسار القصيدة
المغربية الحديثة، إلى استحضار جملة من المعطيات الفنية والصيغ الإبداعية
والجمالية التي شكلت، منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي حتى هذه اللحظة، بعض
الملامح الكبرى والأساسية لهذه التجربة. ذلك أن هذا الحيز الزمني، رغم قصره، يكاد
يختصر تاريخ تطور القصيدة العربية الحديثة برمتها، بالشكل الذي ظهرت به مع الشعراء
الرواد والمؤسسين،كوجه لعملة مختلفة عما كان سائدا من قوالب شعرية مستكينة إلى
هدوئها الشكلي النمطي القاتل، في كثير من نماذجها.
فبالإنصات
إلى صدى أصوات هذا التاريخ الشعري الخاص بالقصيدة المغربية الحديثة، نستطيع أن نضع
اليد على تلك الكتابات الشعرية الباكرة التي ابتدأت رومانسية، عاشقة وحالمة،
لتنتقل إلى الاحتكاك بنار الالتزام السياسي المحلي والقومي العربي، وذلك من خلال
استضافة كل أنواع الانكسارات والإحباطات الجماهيرية المأزومة، داخل تجارب شعرية
اعتمدت على تقنيات إيقاعية جربها شعراء انتسبوا، حسب التصنيفات الصحفية الإجرائية
المعتمدة، إلى جيل الستينيات والسبعينيات، بل هناك شعراء جاءوا بعد هذين الجيلين
المؤسسين، ممن بقيت تستهويهم بعض تقنيات هذه التجربة الإيقاعية السابقة، التي تم
تجاوزها بالتدريج، انطلاقا من بعض التجارب التي تحسب، تبعا لذات التحقيب الإجرائي
دائما، على جيل الثمانينات.
هذا الذهاب
بعيدا في اختبار وتجريب الأقصى، بما هو تصور انقلابي، حداثي و مغامر، قد أنتج، مع
بعض التجارب، التي تحسب إجرائيا دائما على جيل التسعينيات، نصوصا شعرية تنحو منحى
جديدا في التعامل مع التفاصيل الدقيقة والحارة للحميمي والخاص، تلك التفاصيل التي
لا يلتفت إليها في الغالب إلا الأطفال، أو أولئك الطاعنون في صداقة الأرض والأرصفة
والنسيان.
ربما كان
حقيقيا أن هذه العودة إلى صداقة المهشم في الذات الفردية العزلاء، لشعراء صدَّقوا
في وقت كاذب، شعارات كان لها مفعول الفاليوم على الرؤوس الطرية، قلت، ربما كانت
هذه العودة للالتصاق بحرارة الحميمي، الخاص و القدري، بمثابة محاولة لإعادة ترتيب
مستقبل الأرض، بما يعنيه هذا الترتيب من احتراس وحذر من كل ما هو غير شعري، كل ما
يجعل الكائن تاليا.
ولعل أهم ما
ميز انطلاقة هذه التجربة الشعرية المختلفة، مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، هو
صداقتها لتجارب ونماذج إبداعية مختلفة، وذات مرجعيات لغوية، إبداعية وحضارية
مغايرة لما كانت تعتمده الأجيال الشعرية السابقة ( دون اعتبار ذلك نوعا من التقييم
المعرفي لكل جيل في علاقته مع الجيل الذي يليه ). من هنا نفهم تلك الارتماءة
الهائلة لجيل التسعينيات في مختلف بحيرات الخلق والإبداع، بدءا بالصورة، سواء
المتحركة منها أو الثابتة، مرورا بالتشكيل ووصولا إلى كل حقول الكتابة الإبداعية
المتعارف عليها تقليديا، هذا إلى جانب توطيد شروط تلك العلاقة الخجولة مع الغرب
المبدع، هذه العلاقة التي كان ينظر إليها، وإلى وقت قريب، من خلال أسطرلاب
الإيديولوجيات الاستيلابية، والنظريات السياسية الاستعمارية التي عرفها القرن
الماضي.
ولعل ما كان من حصيلة
لهذا المسح الجزئي، الذي مارسته الأجيال الشعرية الجديدة، على طرف من مائدة
الإبداع المغربي و العربي على حد سواء، هو ما أدى إلى اختفاء تلك القطبية أو
المركزية السابقة، التي كانت تجعل من محور الشام - العراق - مصر بوصلة الخلق
والإبداع، وما عداه ليس سوى هامش مقلد وناقل للعدوى. وفي مقابل ذلك، لم يعد، أمام
إكراهات عولمة العنف وهيمنة القطب الإمبريالي الأوحد وإفرازات سياسات اقتصاد السوق
والمناطق الحرة، لم يعد هناك من سبيل لبلورة سؤال شعري مختلف، حداثي ومتقدم سوى
المراهنة على قابلية التشظيات الخاصة والحميمية في أن تكون انعكاسا للآخر، داخل
مرجعياته اللغوية، الإبداعية والحضارية المختلفة، بعيدا عن تلك التواطؤات
الشوفينية الضيقة المرهونة بأسئلة الخصوصية، سواء المحلية أو الإقليمية أو
القومية، التي ما عادت تنتج، في الغالب، إلا مزيد من الأعطاب النفسية والإعاقات
الذهنية والخواء الحضاري، الذي يقتات على كوابيس الأمس. كما لم يعد أمام المرء،
انطلاقا من هذا الواقع الضاج بالخوف والغموض واللاجدوى، من الوقت ما يكفيه
للالتفات إلى حومة أو عشيرة أو قبيلة إبداعية بعينها، ولا صار بإمكانه اختيار جهة
فنية إقليمية دون أخرى، طمعا في تحالف لغوي أصبح أمرا أثريا محزنا وفي القاع، لأن
ما باتت تتطلبه اللحظة، حيال هذا العنف العالمي، الذي أصبحت تباركه المواثيق
الدولية المتحضرة، هو ذلك النوع من المراهنة الإبداعية، والشعرية تحديدا، على كل
ما يصنع لحمة الإنسان في بعده الكوني، وفي إنسانيته الخالصة، النائية والبيضاء،
تلك التي لأجلها نحاول أن نحكي بعض أسرار وهواجس طفولاتنا الصغيرة، التي لم تلوثها
بعد رياح المحو الذي نحياه.
قصيدة:
لسبب طبقي ناضج. أقرأ كتبا لا أكملها. وأحلم في
الغالب بنساء ورقيات. طباعي ضاحكة و عصية على الفهم. رغم أني واقعي. ولا أركض (
بساقي نعامة ) خلف الأحلام. أحلامي سهلة وأليفة. كما أنها لا تنام جائعة على
الأفكار. وكمن يتسلق فراغاته بامتلاء كاسر. أؤجل صداقاتي إلى آخر العمر. حين أصبح
جديرا بهندسة السرطان.
ولأن شهواتي متعبة بي. لا أعرف كيف أصلح للعالم. حزين وصفيق. وليس في نيتي
أن أفهم. ( الفهم كثيرا يؤلم الخيال). ولشرط ما في الحِمْية. لا أقرأ الأسباب.كما
لا أترك فظاعاتي تنام حزينة في الأمس.
لست
أكثر حماسا لأكون مفيدا لأحد. ولا شيء في مقدوري أن أرممه. خوفي من السعادة أمر شائك.
لذلك لا أمشي خلف التأمل بمنتهى الحواس. أستطيع مثلا أن أفهم شيئا آخر غير
الأفكار. كأن لا أعير أعصابي لثرثرات خاسرة. أو أحزن هكذا لمجرد القطيع. وبسهولة
نادرة. بإمكاني أن أكون نشازا. وهذا قليل في اللغة.
قناعاتي
سائلة وهشة دائما. حتى إنني لا أذهب كل يوم إلى الأديان. أفضل ما أمكن ألا أفهم.
رأسي سقط مصادفة بين قرنين. قلبي ضعيف وجبان. وبسبب هذا العطب بالذات. أحب
الدواجن. والغموض. والبروليتاريا. وأمرض حقيقة في ماي.
أنا الخرتيت. الحيوان
الذي بلسان. مظهري مازال يخدع لقرن آخر. رغم أني مخيف ولا أضحك. حزني بحاجة دائما
إلى قطعان. وإلى صداقات لا تغرق في الحذر. لكني قليلا ما أفعل. أصابعي التي أخبئها
عادة في الرمل. هي الغرق الذي يصيبني في اللطف. متهورة وسمجة. لكنها دائما لي. كيف
لي أن أتقافز في السعادة. دون أن أبعثر الأرض؟! شخص ما في يدي. قد أكون أنا
بالذات. لكني غائب وكثير. من أين لي بكل هذه الدربة؟!
ولأني حزين في كل هذا الأكل. أنسى دائما أن
أشبع. جوعي كبير وسائب. وله أيضا أسنان.
وحين أعترف
بصوابي. فلأني وحيد هذا القرن. ولا عمر لي. هكذا أرى الأشياء. وأنسى.
ياه!
كم كانت
فكرة طيبة
هذه الدنيا!
" فاتني أن أكون
ملاكا "