الأسئلة الغائبة في الديمقراطيات العربية
سؤال المرجعية وأسئلة المجال
كمال عبد اللطيف
اعتنت المناقشات
النظرية المتعلقة بموضوع الديمقراطية في الفكر السياسي العربي، خلال
الربع الأخير من القرن الماضي، بقضايا محاذية للأسئلة الأساس، المرتبطة بالديمقراطية
فكرا وممارسة، من قبيل النظر إلى الديمقراطية كأداة ووسيلة ليس إلا محاولة
تعليل قبولها أو رفضها بنوعية علاقاتها بالشورى الإسلامية، كما هو عليه الحال في
الأدبيات السياسية الإسلامية، أو التفكير في علاقاتها بموضوعات التنمية والوحدة
في الأدبيات السياسية القومية.
وظل الحديث
عن الديمقراطية يتكرر متجنبا الخوض في الإشكالات الفعلية المرتبطة بموضوعها
النظري والتاريخي، دون أن يراكم ما يتيح إمكانية تجاوز هذه القضايا، ببناء نظر
سياسي جديد قادر على التأثير في واقع الممارسة السياسية القائمة في أغلب البلدان
العربية.
نعتقد أن
تجاوز هذا المنظور، وتجاوز التركة النظرية التي ما فتئ يعمل على مراكمتها، يمكن أن
يحصل عن طريق تشخيص واقع السلطة السائدة في الأنظمة العربية، بتشريحها، ونقد
كيفيات إعادة إنتاجها للنخب السياسية المتسلطة، وكذا تحليل التجارب
السياسية الثقافية المواكبة لها، ودراسة البنيات المرتبة لنوعية علاقاتها
بالمجتمعات العربية. إضافة إلى البحث في جوانبها النظرية، حيث يمكن التفكير في
الأسئلة الغائبة أو المهمشة في موضوع تطوير وترشيد المشروع الديمقراطي
في الثقافة السياسية العربية المعاصرة.
نهتم في هذه
الورقة ببعض الإشكالات النظرية ذات الصلة بتجارب الانتقال الديمقراطي في
العالم العربي، ونتجه بالذات نحو فحص المرجعية السياسية النظرية
المواكبة لأشكال هذا الانتقال، حيث ينصب تفكيرنا بصورة مباشرة على الخلفية
النظرية المصاحبة لعمليات التفكير في الديمقراطية والمشروع السياسي الديمقراطي،
أما التجارب الديمقراطية في تطبيقاتها العينية، فقد تحضر في سياق التحليل على سبيل
التمثيل والتوضيح.
إن بحثنا في
الأسئلة التي لا تطرح، أو تطرح بطرق ملتوية في موضوع الديمقراطيات العربية، يتوخى إثبات
محدودية المرجعية الناظمة لمبادئ وأصول الفكر السياسي الديمقراطي في الفكر
العربي المعاصر.
ونحن نروم
من وراء مقاربة هذا الموضوع والتفكير فيه، المساهمة في إنعاش المرجعية السياسية
الديمقراطية، وذلك ببناء الأسئلة التي يتم تغييبها أو تتم مخاتلتها استنادا إلى
تجارب وممارسات لا ترى في الفعل السياسي الديمقراطي أكثر من وسيلة وأداة لمواجهة
إشكالات الواقع السياسي العربي، وذلك دون الاستناد إلى رؤية سياسية واضحة،
رؤية تعتمد أوليات في النظر موجهة ومقعدة للممارسة، حيث يصعب التقدم في مجال
الإنجاز الديمقراطي في نظرنا دون بناء هذه المرجعية المؤسسة والمؤطرة للفعل
السياسي الديمقراطي، الذي يعد بشكل من الأشكال امتدادا لها، وامتحانا لمبادئها
وأهدافها على أرض الواقع، حيث تنشأ جدليات الفكر والممارسة في قلب التاريخ.
تسلم هذه
الورقة بأن أغلب التجارب الديمقراطية القائمة في مختلف البلدان العربية، خلال
الربع الأخير من القرن العشرين، تشكل مرحلة انتقالية في طريق بناء المشروع
الديمقراطي، وهي تنظر إلى علامات التحول الجارية بكثير من الحذر والاحتياط،
وذلك رغم افتراضنا أن تجارب ما يقرب من نصف قرن من المعارك السياسية، التي دارت
رحاها في أغلب المجتمعات العربية، قد أفرزت جملة من المعطيات والنتائج التي يمكن
أن تستثمر في مجال تطوير وتسريع وتيرة الانتقال الديمقراطي في اتجاه
إبداع تجارب سياسية ديمقراطية، قادرة على حل إشكالات السلطة وشرعيتها في كثير
من الأقطار العربية.
نعود بعد
هذه التوطئة إلى موضوع الأسئلة الغائبة في الممارسات الديمقراطية في العالم
العربي، ونحاول بلورة بعض هذه الأسئلة، من خلال التفكير في المحورين الآتيين:
1) التفكير
في سبل ووسائل دعم الحداثة السياسية.
2) إعادة
بناء المجال السياسي في الفكر العربي المعاصر.
1 – سبل دعم
الحداثة السياسية:
نادرا ما
يتم بحث المشروع السياسي الديمقراطي العربي، في أبعاده النظرية الكبرى، أي
باعتباره أفقا من آفاق التحديث السياسي الشامل.
إن الاهتمام
بالطابع الأداتي للديمقراطية والاكتفاء بالجوانب العملية في نظام الحكم
الديمقراطي، يغيب المرجعية الفلسفية والسياسية الأساس، المرجعية المؤطرة
للفعل الديمقراطي. ولعل مراجعة سريعة لكيفيات تشكل التجربة الديمقراطية في تاريخ
الفكر والممارسة السياسية في الغرب الأوروبي، سواء في الديمقراطيات القديمة
(الديمقراطية الأثينية) أو في الديمقراطيات المعاصرة، (التداولية والجماعاتية)،
يثبت بجلاء المواكبة التي حصلت وما فتئت تحصل في هذا التاريخ بين المرجعية
الفلسفية الحداثية، وتجلياتها في الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي.
إن المواكبة
المقصودة هنا ليست فعلا ميكانيكيا، بل إنها في العمق جدلية تاريخية مركبة،
تتضافر فيها الجهود وتتداخل، وهذا الأمر أكسب ويكسب مشروع العمل السياسي
الديمقراطي أرضيات إسناد تاريخي اجتماعي فلسفي، عملت وتعمل على تعزيزه، في
إطار من التطور وإعادة البناء، المؤدي إلى مراكمة الخبرات والتجارب، مع
السعي المتواصل للاستفادة من هذه الخبرات، بتجاوز عثراتها وأخطائها، وتقليص
سلبياتها، وبناء البدائل القادرة على الحد من الأزمات المتولدة في قلب صيرورتها
التاريخية، في أفق من العمل التاريخي الموشوم بالإرادة والطموح البشريين، والمرتب
في إطار من التدبير العقلاني.
ولم يعد
بإمكاننا بناء على ما سبق، أن نتصور نجاح وتطور الممارسة الديمقراطية، دون إيمان
بقدرة الإنسان على صناعة تاريخه، وكذا إيمانه بالنسبية في المعرفة، ثم تسليمه
بدور التوافقات التاريخية في ترتيب مجال الصراع السياسي في المجتمع. وهذه
المبادئ العامة، التي تقف وراء بناء وإعادة بناء المشروع السياسي الديمقراطي، هي
التي تبرز أيضا أن هذا المشروع لا يتجلى فقط في فضاء العلاقة بين المجتمع والدولة،
بل إنه آلية سلوكية عامة، يفترض أن تجد لها في مختلف فضاءات المجتمع منافذ
تسمح بتعميمها وترسيخها، للتمكن من تحويلها إلى أفق في الفعل التاريخي الإنساني
الجامع، داخل الأسرة وفي المدرسة والمصنع والحزب، ثم في مجال تدبير الشأن
العام بمختلف مستوياته وأشكاله.
نريد في هذا
السياق إبراز أهمية الدفاع عن الحداثة السياسية، في إطار المعركة
الديمقراطية القائمة في أغلب الأقطار العربية. فلا يمكن في نظرنا أن نفقر
الممارسة الديمقراطية بتحويلها إلى جملة من التقنيات، أو أن نختزلها في
تطبيقات انتخابية، مشخصة في صورة مساحيق مشوهة للمشاهد السياسية، ومطورة في العمق
لآليات جديدة في الاستبداد السياسي المقنع.
إن
الديمقراطية كفلسفة وكممارسة تعد محصلة من محصلات المشروع السياسي الحداثي. الذي
يسلم بجملة من المقدمات النظرية الكبرى، وتوجهه قواعد محددة تم إبداعها كما
قلنا آنفا، داخل سيرورة معقدة من الصراع السياسي التاريخي العقائدي الطويل، حيث
تبلورت قناعات ومبادئ سياسية جديدة، في فكر وواقع النخب السياسية المتصارعة في
التاريخ الحديث والمعاصر. ومن هنا صعوبة عزل هذه التجربة عن مجراها التاريخي النظري
العام، وكل عزل لهذه التجربة عن هذا المجرى، يفقرها، ولا يولد ما يكفي من
التصورات القادرة على إسنادها وتعزيز مساراتها الواقعية.
ونظرا لأننا
نعتقد بأن النظم والممارسات السياسية في التاريخ الإسلامي عبر عصوره المختلفة،
لم تكن نظما ولا ممارسات قريبة ولا مشابهة لنظام الحكم الديمقراطي، بمرجعياته
وآلياته المؤسسة في سياق الأزمنة الحديثة والمعاصرة، فإننا نرى أن الاستفادة
من هذه التجارب، تقتضي التفكير في سؤال الحداثة في الفكر العربي المعاصر.
لا ينبغي أن
يفهم مما نحن بصدد توضيحه هنا، أننا ندافع عن هذه التجربة وعن الفلسفة التي
تبلورت وتشكلت في إطارها، بمنطق العقيدة الشاملة والجامعة، أو الفكر الوحيد
المطلق والمغلق، قدر ما ينبغي أن يفهم أننا أمام محاولة لإبراز درجات التداخل
بين الفكر والممارسة الديمقراطية، وعلاقاتهما معا بأفق الحداثة السياسية
كمبادئ فلسفية عامة، واختيارات سياسية كبرى، ثم مجموعة من التوجهات
التطبيقية والتقعيدات القانونية، القابلة للتطوير والتجاوز، انطلاقا من قناعات
الأفراد، وقدرتهم على الاجتهاد المطابق للأسئلة النظرية والإجراءات العملية،
الكفيلة بغرس قيم وتجارب الفعل الديمقراطي في التاريخ.
ولا بد من
التوضيح هنا أيضا، أننا عندما نتحدث عن ضرورة استحضار أفق الحداثة ومقدماتها عند
التفكير في المشروع الديمقراطي العربي، فإن ذلك لا يعني ولا يفيد أننا ندعو إلى
نسخ تجارب بعينها، قدر ما يعني الاستئناس بتجربة محددة في التاريخ، ومحاولة
إبداع الوسائل الذاتية القادرة على ترسيخ المنظور الحداثي، وخاصة عندما نكون
مقتنعين بأن مرجعياتنا التاريخية، وتجاربنا في العمل السياسي، لم تنتج لأسباب
تاريخية وموضوعية معطيات في ممارسة العمل السياسي، قريبة من تجارب الحكم
الديمقراطي الحاصلة في التاريخ.
إن إيماننا
بالحداثة السياسية، يصاحبه إيمان مماثل بنظرتنا إليها من زاوية أنها عبارة عن أفق
مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية
تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه العامة يعد
ثورة على مختلف أشكال التقليد.
إن الاقتناع
بالمبادئ الكبرى الناظمة للمشروع الفلسفي الحداثي، في النظر إلى الإنسان
والتاريخ والمعرفة، يتيح لنا إطارا جديدا للتفكير في حاضرنا ومستقبلنا، بصورة
مختلفة عن سقف العقائد المهيمنة على ذهنياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية والسياسية،
ويفتح أمامنا إمكانية تأسيس المشروع الديمقراطي، باعتباره مشروعا
تاريخيا قابلا للتطوير والتجاوز، أي قابلا لبناء وإعادة بناء التوافقات
السياسية التاريخية والعقلانية، المطابقة لإشكالاتنا السياسية والتاريخية.
يتعلق الأمر
في موضوع أسئلة الحداثة السياسية في الفكر العربي، بالتفكير في ضرورة مراكمة رأسمال
رمزي يوطن مشروع الحداثة في فكرنا، لتعزيز فرص التحول الديمقراطي بإسنادها نظريا،
وذلك بفتح نقاش معمق حول مجموعة من الأسئلة، من قبيل: كيف يمكن تفكيك سقف القيم
السياسية المنتشرة والمهيمنة في المجال السياسي العربي؟ كيف يمكن مواجهة العودات
المتوالية إلى الماضي، العودات المدافعة عن الهوية المكتملة والمغلقة؟ ما هو دور
التربية والتعليم في تفكيك الأنماط والبنيات الفكرية التقليدية السائدة؟ كيف يمكن
بلورة وتطوير ثقافة ديمقراطية في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية؟
تفتح هذه
الأسئلة موضوع الديمقراطية على فضاء التاريخ، إنها تفتحه على الفكر الديمقراطي،
فكر الحداثة السياسية، لا لنقوم بنسخه، بل لنعمل على إعادة بنائه في ضوء
الخصوصيات المحلية، والإشكالات المرتبطة بها. ونحن نعتبر أن نجاح المعارك
الديمقراطية في الجبهة السياسية والاجتماعية والثقافية مرهون بتوسيع دائرة
النقاش في الجبهات الأخرى، وفي الأزمة العميقة التي تعاني منها الأنظمة
التسلطية في أغلب البلدان العربية، ما يؤكد أهمية التفكير في أسئلة الحداثية
السياسية في الفكر العربي، وأسئلة التحديث في الواقع العربي.
2 – إعادة
بناء المجال السياسي في الفكر العربي:
حاولنا في
الفقرات السابقة إبراز الغائب الأكبر، في موضوع الصراع من أجل الديمقراطية في
العالم العربي، حيث بينا أهمية المرجعية الفلسفية الحداثية في المشروع السياسي
الديمقراطي، كما تبلور في تجارب التاريخ، وذلك دون أن نغفل الإشارة إلى الارتباطات
الأخرى الحاصلة بين هذا المشروع وبين تاريخ مركب من المعارك الاقتصادية والسياسية
الاجتماعية والفكرية، المواكبة لتشكل هذه الممارسة، وبناء ثم إعادة بناء هذا
المشروع، وخلال قرون متواصلة، في التاريخ الحديث والمعاصر.
ونريد في
هذا المحور الثاني الإشارة إلى أسئلة أخرى نعتقد بحضورها المحتشم داخل مجال
التفكير الديمقراطي الناشئ، في الفكر السياسي العربي المعاصر. نقصد بذلك التفكير
في حدود المجال السياسي، حيث تختلط المعطيات وتتداخل داخل هذا المجال، ولا
تتضح الرؤية، وذلك بسبب تقاطع لغات متعددة، في فضاء الصراع السياسي العربي.
المفارقة
هنا تنشأ وتتعملق بسبب الانقلاب المفاجئ الذي حصل في التاريخ العربي الإسلامي
المعاصر، حيث انتصرت إرادة الهيمنة الغربية على العالم في القرن الماضي،
فيما يعرف بالحقبة الاستعمارية، حقبة المد الإمبريالي، فانتصرت معها قيم
الثقافة الغربية على البلدان المستعمرة. فاتجهت هذه البلدان تحت ضغط الهيمنة إلى
بناء مؤسسات الدولة الوطنية العصرية، بدون أن توفر الشروط القاعدية اللازمة
لهذا البناء. وهذا الأمر ولد ازدواجيات عديدة في مختلف مشاهد الواقع
العربي والفكر العربي، وحصل تعايش متوتر بين كثير من القيم المتناقضة والوقائع المتنافرة.
ولعلنا اليوم نعيش في حاضرنا المركب نتائج الازدواجيات العديدة التي ترسخت في
تاريخنا المعاصر. ولم ينج حقل الممارسة السياسية من هذه الازدواجية، حيث تعايشت
التصورات والقيم والطقوس المتناقضة في هدنة تدعو إلى العجب. وهذا الأمر أضاف
إلى معاركنا القديمة في المجال السياسي الموروث، معارك جديدة، حيث أصبح هذا المجال
فضاء للصراع المفتوح على جبهات عديدة، أبرزها في نظرنا الصراع المتعلق
بموضوع تحديد وتعيين فضاء المجال السياسي، مجال التنافس على حسن تدبير
الشرعية والسلطة، وقواعد الأداء السياسي داخل المجتمع.
تتيح أسئلة
التفكير في رسم حدود ومعالم المجال السياسي في الفكر العربي، إمكانية
التخلص من كثير من الظواهر التقليدية الموروثة، حيث تنصب هذه الأسئلة على أشكال
الاختلاط والتداخل القائمة في الفضاء السياسي العربي.
إن الدفاع
عن استقلال المجال السياسي، ومحاولة بناء وترتيب المكونات المحددة لملامح هذا
المجال وبصورة عينية، تجعلنا نفكر في إشكالات فلسفية هامة، من قبيل
أشكال التقاطع القائمة بين المجال الأخلاقي ومجال القيم السياسية، تقاطع المقدس مع
السياسي، وعندما نضيف إلى هذه القضايا النظرية الكبرى الأسئلة الفرعية
المتعلقة بالصراعات السياسية الاجتماعية والثقافية القائمة في الواقع، في مستوى
مواجهة التأخر التاريخي المتواصل نتأكد من درجات الاختلاط الحاصلة، ونتبين أهمية
الأسئلة المرتبطة بموضوع تعيين قسمات وملامح الفضاء السياسي في الفكر العربي
المعاصر.
قد يتبادر
إلى ذهن البعض، أن مساعينا المتعلقة ببناء أسئلة المجال السياسي في الفكر
العربي، تشكل نوعا من الهروب، بالتخلص من مواجهة واقع الأنظمة الاستبدادية،
ونحن نرى أن هذا البحث لا ينهض وحده بمواجهة واقع هذه الأنظمة، لكن مواجهتها تصبح أقل
نجاعة وأكثر فقرا، عندما تتجنب الخوض في مثل هذه الأسئلة.
إن تحويل
الجدل السياسي العربي إلى جدل مستقطب فقط من طرف محورين مختزلين وبصورة مبسطة في الدولة
والمجتمع العربي، يفقر هذا الجدل، ولا يبحث في مختلف الأسئلة التي يطرحها
المجال السياسي العربي، الذي تندرج في إطاره أنظمة الاستبداد المهيمنة على السلطة،
بتسويغاتها المختلفة، ولغاتها المكتفية بإنعاش خطابات التبرير، وبدل ذلك نعتقد أن
صياغة الأسئلة الجذرية، والتفكير فيها، يقربنا أكثر من مساعي إعادة التأسيس
النظري، الذي يمكننا في حال حصوله، من بلورة وبناء الأهداف التي نتجه صوبها بأقصى
ما يمكن من الوضوح والاتساق النظري.
لا يتعلق
إشكال تعيين حدود المجال السياسي، بموضوع السياسي المشخص في الدولة، إنه ينسحب
أيضا على تصورنا للسلطة داخل مؤسسات المجتمع المدني، حيث يشكل موضوع هذا المجال
داخل الأحزاب السياسية في الفضاء السياسي العربي على سبيل المثال، واحدا من
القضايا التي لا نفكر فيها، وهو ما يعني أن الإشكال أعم من أن يختزل بحصره في
علاقاتنا بالدولة السائدة.
إن مطلب
فك الارتباط بين العناصر المختلطة والمتداخلة داخل المجال السياسي، والتدقيق
في طبيعة هذا المجال باعتباره مجالا معرفيا مستقلا، يعد من المهام الأساسية
المطروحة في الفكر السياسي العربي المعاصر. وتزداد أهميته اليوم ولعلها تتضاعف وسط
ارتفاع أصوات المنادين بـ"الصحوة الإسلامية" و"الإسلام
السياسي".
وقد لا نكون
مجازفين إذا ما اعتبرنا أن استمرار الحنين المتواصل إلى النموذج السياسي الإسلامي
للسلطة، يعود إلى عدم إنجاز مهمة التفكير في أسئلة السياسي في الفكر الحديث، بصورة
عميقة وجذرية، بما يتيح لنا إعادة إنتاج المجال السياسي في ضوء أسئلة واقعنا،
ومقتضيات النظر السياسي الحديث والمعاصر، وهي مقتضيات تهمنا من حيث إنها نتاج
لتجربة إنسانية، بيننا وبينها صلات من الوصل والتقارب لا يمكن إنكارها أبدا، إلا
إذا تنكرنا لتاريخنا خلال المائتي سنة التي تنصرم الآن، ونحن في بدايات القرن
الواحد والعشرين.
لا ينبغي أن
ينظر إلى توجهنا الرامي إلى إنشاء أسئلة المجال السياسي في الفكر العربي، باعتباره
مجرد مسألة نظرية عامة، إنه في العمق مسألة نظرية سياسية مرتبطة بأزمة
الدولة التسلطية السائدة في البلدان العربية. ولأننا لا نعتقد بوجود نموذج جاهز
وثابت في الممارسة الديمقراطية، فإننا نحاول الاستفادة من تجارب التاريخ،
بالصورة التي تسعفنا ببناء مقومات الجدل السياسي الديمقراطي المطابق لأسئلة
واقعنا، وعلى مختلف الأصعدة والمستويات.
لنأخذ في مجال
تعيين الفضاء السياسي في الفكر العربي مسألة حضور واستحضار لغات المقدس
ومفاهيمه عند التفكير في الشأن السياسي، فقد اتخذت هذه المسألة صيغا مختلفة
ومتناقضة في الفكر السياسي العربي، ولم يتطور التفكير في موضوعها بالصورة التي
تمكن من بناء ما يحدد نوعية العلاقة ويركبها بما يساعد على تطوير الممارسة
السياسية.
فإذا كنا
نعتبر مثلا، انطلاقا من مبادئ الحداثة السياسية، أن العلمانية تدبير سياسي يكمل
الديمقراطية الجمهورية، ويعني الحياد الديني للدولة، والعمل على الفصل
بين المؤسسات الدينية وتنظيمات الدولة، مع ما يترتب عن ذلك من نتائج تتعلق
بوحدة التشريع، ورعاية الدولة للتعليم المدني، دون تدخل في الحقوق المكفولة
للعقائد داخل المجتمع، فإن هذا الأمر يجعلنا نؤكد على أهمية استقلال المجال
السياسي عن مجال العقائد الدينية، وبهذا المعنى تتمم العلمانية الديمقراطية،
دون أن يعني هذا بالضرورة إلغاء المقدس، بل إن هذا الأخير قد يستمر حضوره في
التاريخ باعتباره شأنا من الشؤون الخاصة، التي لا يمكن أن يتنكر له إلا من لا يعير
أي اهتمام لشواهد ومعطيات التاريخ، حيث يتواصل حضور المقدس في المتخيل الفردي
والجماعي، معبرا عن ذاته بصور مختلفة.
لم تتمكن
إذن المعطيات الفكرية المواكبة لعمليات التحول الديمقراطي في العالم العربي من
صياغة أسئلة التنظير السياسي، المساهمة في تحديد الحقل السياسي، فقد ظلت
مشدودة إلى برامج الإصلاح، إلى شعاراته ودعاويه، ذات الصبغة السجالية الإيديولوجية
والمستعجلة، بحكم ارتباطها بحركات موصولة بمجال الصراع التاريخي، وظل الفكر يلهث
وراء مستجدات الخطاب السياسي، دون أن يتمكن من بناء مشروع في النظر السياسي،
المفكك لبقايا النظر السياسي التقليدي المهيمن، والمعبر في الوقت نفسه عن
الوعي الجديد بإشكالات السياسة، كما يمارسها الفاعلون (النخب المتصارعة في
المجال السياسي). ويتمثلها المنظرون للسلطة وللإصلاح السياسي الديمقراطي.
ولن نتمكن من
بناء وإعادة بناء السياسي في الفكر العربي المعاصر، إلا بالاستعانة بتجارب
الآخرين، فالتناقضات التي نعيشها في الواقع العربي، في ظل الظروف الجديدة التي
تؤطر تاريخنا المعاصر، تحتم محاورة الآخرين، والتعلم من تجاربهم. فالتجارب
السياسية الإنسانية مهما تنوعت واختلفت تظل مشدودة إلى قواسم مشتركة جامعة،
وقراءة نقدية وتاريخية لكيفيات تشكل فضاء السياسي في الفلسفة السياسية الحديثة
والمعاصرة، في علاقاته المعقدة والمتداخلة مع صيرورة الدولة الفعلية، وتطور
المجتمع والتاريخ، تمكننا من بناء ما يسعف في ترتيب فضاء نظري سياسي جديد،
فضاء يجعلنا ننفتح على ذاتنا بانفتاحنا على الآخرين، حيث لا يصبح دفاعنا
عن استقلال السياسي مجرد نسخ لتجارب حصلت قبلنا، بل فعلا من أفعال الإبداع الذاتية،
اقتضته وتقتضيه كما قلنا درجات الاختلاط الحاصلة في نظرنا السياسي، ولعلنا
نستطيع انطلاقا من ذلك، صياغة أسئلتنا السياسية، وإنجاز توافقات تاريخية حولها،
بما يسمح لنا بالتدبير العقلاني النسبي والتاريخي لظواهرنا السياسية.
* * *
انصب
اهتمامنا في هذه الورقة على جانب محدد من الإشكاليات التي تطرحها تجربة الانتقال
الديمقراطي في العالم العربي، يتعلق الأمر بموضوع الإطار النظري المرجعي،
الذي تبلور في إطار المشروع السياسي الديمقراطي، حيث حاولنا من خلال أسئلة محددة
إبراز أوجه القصور الحاصلة في هذا الباب. وقد سمح لنا سؤال الحداثة، وأسئلة
المجال السياسي، التي حاولنا بناء البعض منها بتبين جوانب النقص والتقصير
الحاصلة في الثقافة السياسية الديمقراطية السائدة.
لا يعني
اهتمامنا بهذا الجانب وإلحاحنا عليه في هذه الورقة، أننا نعطي أولوية ما
للخلفية النظرية المرجعية في مجال تأسيس المشروع الديمقراطي العربي، قدر ما
يعني إحساسنا بصعوبة النجاح في توطين هذا المشروع، دون عناية متواصلة بأسئلته
الفكرية الكبرى، الأسئلة التي تفتح معركة الديمقراطية على الجبهة الفكرية،
حيث تسود في الثقافة السياسية العربية دوغمائيات تحتاج إلى كثير من الخلخلة
والزحزحة، لمصلحة أنظمة في الفكر السياسي مستوعبة لمكاسب الفكر والتاريخ
المعاصر.
لا نريد أن
يفهم من معطيات المحورين اللذين بلورنا في إطارهما الأسئلة الضرورية، لدعم
وترسيخ السلوك الديمقراطي في حياتنا، وفي ممارستنا السياسية، أننا نسلم بجاهزية
النموذج السياسي الديمقراطي، قدر ما نعني أننا مطالبون بمباشرة التفكير
في كل ما يسعف في بناء النظر السياسي الحداثي في فكرنا، وذلك بمحاولة صوغ
أسئلة التناقضات الاجتماعية والفكرية القائمة، والتي تعكس جوانب من خصوصياتنا التاريخية،
دون أن تمنع عنا إمكانية الاستفادة من تجارب الأمم، خاصة وأن المعركة الديمقراطية،
لا تنتهي في منازلات محددة في الزمان، ولا تتوقف على جبهة دون أخرى، حيث يمكن أن
نقرأ اليوم مثلا في إشكالات الفكر والممارسة الديمقراطية في التجارب الأكثر
رسوخا وتقدما جملة من المؤشرات التي تدعو إلى مواصلة التفكير في الحلول
والمخارج القادرة على تخطي العقبات والعوائق التي ما فتئت تنشأ، وهو الأمر الذي
نتعلم منه ضرورة تنويع الجهد، سواء في مجال المواجهة، مواجهة أنظمة الاستبداد وفكر
التقليد، أو في مجال المراهنة والمغامرة، حيث تندرج معركة الانتقال الديمقراطي في
العالم العربي، ضمن المعارك التي تحتاج إلى المدى الزمني المتوسط والطويل.
المراجــع:
1- سعد الدين إبراهيم
(وآخرون)، ندوة، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، م.د.و.ع، بيروت، 1984.
2- علي الدين هلال
(وآخرون)، ندوة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، م.د.و.ع،
بيروت، 1986.
3- غسان سلامة
(وآخرون)، ندوة، ديمقراطية من دون ديمقراطيين، م.د.و.ع، بيروت، 1995.
4- علي خليفة الكواري
(وآخرون)، المسألة الديمقراطية في الوطن العربي، م.د.و.ع، بيروت، 2000.
5- كمال عبد اللطيف، التأويل
والمفارقة، نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي، المركز الثقافي العربي،
بيروت، 1987.
6- كمال عبد اللطيف، العرب
والحداثة السياسية، دار الطليعة، بيروت، 1997.
7- كمال عبد اللطيف، في
تشريح أصول الاستبداد، دار الطليعة، 1999.
8- David, Gérard, La Démocratie : Mémoire et
perspectives d’un projet politique, Edition du temps, Paris, 1998.
9- SINTOMER, Yeves, La démocratie
impossible ? : Politique et modernité chez Weber et Habermas, La
Découvert, Paris, 1999.
10- Quilliot,
To, ger, La Démocratie sur la balançoire : Essais de philosophie et de
pratique politique, Belfond, Paris, 1992.
11- KRHMITT,
Carl, Parlementarisme et démocratie, trad. de l’allemand par Jean-Louis
Schlegel, Seuil, Paris, 1988.
12- DUHAMEL,
Olivier, Les démocraties, Régies, histoires, expériences, Seuil, Paris,
1993.
13- Touraine,
Alain, Qu’est ce que la démocratie ? Fayard,
Paris, 1994.