ص1      الفهرس     41-50

مشكلة تدريس تاريخ الفلسفة

مصطفى كاك

"إن نسق كل معرفة فلسفية هو الفلسفة. ويجب أن نأخذها موضوعيا إذا كنا نفهم بها صورة الأصل لمحاكمة كل محاولات التفلسف، محاكمة يجب أن تصلح لإصدار على أي فلسفة ذاتية يكون بنيانها كثير التنوع والتغير".

كنط، نقد العقل المحض

"تستمد الفلسفة أصولها من تاريخ الفلسفة. والعكس بالعكس. الفلسفة وتاريخ الفلسفة كل منهما مرآة للآخر. ودراسة هذا التاريخ هي دراسة الفلسفة ذاتها، وللمنطق على الخصوص".                      هيغل، دروس في فلسفة التاريخ

تقديم – استعارة:

يبدو تلميذ الباكلوريا، في نهاية المطاف، وبعد سنتين من دراسة الفلسفة، كمن دخل الغابة وخرج منها، دون أن يعرف ماهية الغابة وحقيقتها؛ فهو يجهل أسماء الأشجار التي رآها ولا يعلم أسرار الدروب التي مر منها، وحتى تلك الإضاءات الخاطفة التي تنبلج حوله من حين لآخر، بين صفوف الأشجار، لا تثير انتباهه واهتمامه.

لقد رأى ذلكم المتعلم العابر، أشجارا كثيرة ولمس جذوع بعضها، وربما جذب فرعا صغيرا أو ورقة قريبة من رأسه، لكنه لا يفهم لماذا رتبت الأشجار بتلك الطريقة، ولماذا زرعت بالضبط في تلك الأماكن، وربما تساءل، ذات يوم، بينه وبين نفسه عن الفائدة من تلك الأشجار، وعن حياتها، وهل هي خالدة أم فانية، وربما فكر حتى في مشروع مستقبلي، عندما يكبر، لإحراقها واستعمال أوصالها للتدفئة أثناء شتاء قارس.

من المعلوم أن الشجرة التي كان ديكارت يتحدث عنها بوصفها "شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسية هي الطب والميكانيكا والأخلاق..".


[1] هذه الشجرة المشهورة أصبحت اليوم غابة[2].

وبما أن المرء لا يجني الثمرات من جذور الأشجار ولا من جذوعها، بل من أطراف فروعها، فإن هيغل سيكتب في مقدمة "علم ظهور العقل"[3] مستعيرا نفس الصورة، وفي عرض جدلي للحقيقة، في ظهورها المتكثر، كاشفا عن المشكل الجوهري في تاريخ الفلسفة وتدريس الفلسفة "هنا" و"الآن"، وهو مشكل استيعاب المجموع الحي في حركته: "إن البراعم تختفي إذا تفتح الزهر وإنه ليحق لنا القول بأن الزهرة تدحض البرعوم. كذلك الثمرة إذا ظهرت كأنها صورة زائفة من صور وجود النبات تحل هي محلها كأنها حقيقته. فكل شكل من هذه الأشكال لا يتميز فقط من الأخرى بل يصدها صدا لأنها على تنافر فيها بينها. ومع هذا فطبيعتها السائلة تجعل منها أيضا لحظات من وحدة عضوية يزول فيها التنافر، ولا يزول وحسب بل إن كلا منها لتصبح لها ضرورة كضرورة الأخرى، وهذه الضرورة المتساوية هي حياة المجموع"[4].

إن طبيعة الحيوية لتاريخ الفلسفة كتاريخ يسوده التناقض، لكن مع وحدة عضوية بين جميع لحظاته، وبمقتضى الضرورة التي تحكم الظهور والاختفاء، وتنظم الارتباطات، هذه الطبيعة التي يسميها هيغل "حياة المجموع"، هي التي تفرض طرح السؤال بصدد تدريس "تاريخ الفلسفة"، وهي مسألة حياة أو موت درس الفلسفة، على الأقل وبصفة خاصة في الثانوين حيث يلتقي التلميذ لأول مرة بهذه المادة التي كانت إلى وقت قريب تعتبر مادة تتويج.

ما يزال السؤال المحرج في درس الفلسفة هو "ما هي الفلسفة؟". ونحن نعرف حكاية جول لاشوليي، المدرس الشاب الذي تم تعيينه في أكتوبر من عام 1860 أستاذا للفلسفة بإحدى ثانويات تولوز، فقد بدأ لاشوليي درسه بطرح السؤال "ما هي الفلسفة؟" وأجاب توا، أمام اندهاش تلامذته "أنا لا أعرف". فكان هذا الجواب مدعاة لسخرية ساكنة تولوز من هذا الفيلسوف اليافع، القادم من باريس، ليدرس الفلسفة لأبنائهم، وهو لا يعرف حتى ما هي المادة التي تكلف بتدريسها.

والحال أن ملاحظة لاشوليي غنية بالدلالات، فهي تشير إلى أزمة الوعي الفلسفي الذي ما فتئ، طيلة قرن بكامله، يتضخم إلى يومنا هذا. وقد انعكست هذه الأزمة مبكرا على مستوى التعليم الفلسفي ووضعية درس الفلسفة، من حيث أهدافه وبرامجه، وبصفة خاصة مضامينه. إن المشكل البيداغوجي في درس الفلسفة يتمثل في خيبة الأمل التي تصيب تلميذ الباكلوريا الذي يحس بالحرج لعدم امتلاكه معرفة صارمة يتباهى بها ويعتمد عليها بكل ثقة واطمئنان في حالة المساءلة، وخاصة عند الامتحان.

قديما كتب أرسطو، في الميتافيزيقا، أن "الفيلسوف هو من يملك، بقدر الإمكان، المعرفة في كليتها"[5] وكرر هيغل في العصر الحديث القول "إن الحق هو الكل"[6]. لكن المعرفة اليوم صارت إما معرفة علم une connaissance أو معرفة عرفان (أو وجدان) un savoir، حتى أن نيتشه تساءل: "هل الفلسفة فن أم علم؟"، وأجاب: "إنها في غاياتها وفي منتوجاتها فن، أما من حيث وسيلة التعبير فهي تشترك مع العلم"[7]. فهل ما تزال للفلسفة اليوم معرفة خاصة بها؟ وهل هي معرفة علم أم معرفة وجدان؟ وبعبارة أخرى، هل الفلسفة معرفة؟ وهل هناك حقائق فلسفية؟ وبالتالي هل يمكن البرهنة فلسفيا؟

يحيل سؤال المعرفة، في درس الفلسفة، إلى السؤال الجوهري عن تاريخ الفلسفة: هل يمكن الحديث في الفلسفة عن الشكل والمضمون كزوج قابل للانفصال؟ وهل للمنهج الفلسفي كيان مستقل عن تجربة الفيلسوف وحياته الفكرية ومذهبه العام؟ باختصار هل توجد معرفة فلسفة خارج تاريخ الفلسفة؟ وهل يمكن التفكير بمعزل عن الأفكار والتصورات؟

ينطوي مشكل تدريس تاريخ الفلسفة، في الثانوي، على مشكلتين أساسيتين الأولى فلسفية تتصل بالخوف من التاريخ والتصورات المغلوطة عن تاريخ الفلسفة واستعمالاته المغرضة، أما المشكل الثاني فهو بيداغوجي ويتصل باختيارات التدريس ووضوح أو غموض تلك الاختيارات، سواء في وضع البرامج أو في منهجية التدريس أو صيغ التقويم.

معرفة تاريخ الفلسفة:

تواجهنا في البداية قضية معقدة: ما قيمة تاريخ الفلسفة؟ وما معنى التقليد الفلسفي؟ ولأي شيء يصلح تاريخ الفلسفة؟ وما الفائدة من الحوار مع الفلاسفة الذين عاشوا خلال خمسة وعشرين قرنا من الزمان؟[8].

يمكن القول إن تاريخ الفلسفة موجه بالدرجة الأولى إلى الطلبة الذي يريدون أن يتهيئوا للبحث أو التعليم، ويجب إذن أن يمدهم بما يسمح بفهم النظريات لا أن يكتفي باختصارها، وأن يسهل عليهم قراءة مؤلفات الفلاسفة بتحليله لموضوعاتها وبيان غاياتها وسياقها[9].

بهذا المعنى يعتبر تاريخ الفلسفة قاعدة لازمة للبحث الفلسفي، ويطرح بطبيعته مشكلا نوعيا يتعلق بالأنساق التي تتعايش فيما بينها وتحافظ على راهنيتها رغم مرور الزمن، والتناقضات التي تصنع تلك الأنساق في مواجهة بعضها البعض. وقد لاحظ مارسيال غيرو الفرق بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم، فالأنساق الفلسفية في نظره لا تحقق انتصارات نهائية على الأنساق المناوئة لها، ولا يتم تفنيد نسق منها بصفة تامة، بل إنها تتعايش على المستوى الأفقي للتاريخ. أما في تاريخ العلوم، فإن النظرية أو القانون الجديدين يلغيان النظرية أو القانون القديمين بلا رجعة. إن علما من العلوم الدقيقة يمكنه التخلي عن تاريخه الملموس. فالعلم يتشكل من جديد وبشكل كامل عندما يجتاز أزمة، ويعيد تنظيم ماضيه، كاشفا عما كان خصبا فيه وما كان مجرد عائق. فتاريخ العلوم لا ينظر إلى الماضي مثلما يفعل تاريخ الفلسفة. ففي الفلسفة، ينبغي دائما إعادة قراءة أفلاطون وديكارت وكنط، كما كان يفعل آلن Alain في تعليمه. ومع ذلك فالنسق الفلسفي ليس اعترافا شخصيا ولا حدسا يمتنع عن القول، ولا هو بالعمل الفني الذي يميل إلى الإيحاء بدل البرهنة[10].

وفي نفس الاتجاه ينحو ألكسندر كواريه في مقال له بعنوان "في مفهوم تاريخ الفلسفة"، حيث يؤكد أنه إذا "كان تاريخ العلوم ليس بالقطع تاريخا ميتا يشكل في جملته أشياء ميتة، فإن علم الفلك الكوبرنيكي أو النيوتني لم يعد يهم أحدا وليس له أية قيمة راهنة. وهو في ذلك يختلف اختلافا عميقا عن تاريخ الفلسفة. إذ أننا نعتبر، عن خطأ أو عن صواب، أن أفكار أرسطو أو أفلاطون لها قيمة راهنة"[11].

يشكل تاريخ الفلسفة إذن عنصرا أساسيا في التكوين الفلسفي للطالب والمتعلم، سواء من حيث تحصيل المعرفة الفلسفة أو التهيؤ لفعل التفلسف. إن تعلم الفلسفة عبر الإطلاع على مراحل تطورها وتعاقب مذاهبها يمكن أن يشكل أساسا لثقافة فلسفية تمكن صاحبها من تمثل النتاج الفلسفي ومن معرفة هذا النتاج في نسبيته وتاريخيته، كما قد تمكنه من القدرة على تبليغه إلى الغير.

وتبدو الحاجة ملحة إلى تاريخ الفلسفة، لأنه المصدر الأول لتكوين الثقافة الفلسفية وإثبات نسبية تلك المعرفة وتاريخيتها، وبالتالي فإنه "لا غنى لكل تكوين فلسفي عن تاريخ الفلسفة، فهذا التاريخ وحده يقود الفكر نحو إدراك الأفكار الفلسفية في تعاقبها"[12].

إن تاريخ الفلسفة كما يلخص ياسبرز مفهومه، في "المدخل إلى الفلسفة"، هو تاريخ لحظة الوعي بالذات والحوار والمناقشة وصراع الحقيقة والخطأ: "إن تاريخ الفلسفة في مجموعه، الممتد على ألفيتين ونصف، مثل اللحظة الفريدة والعظيمة، حيث حصل الإنسان على الوعي بذاته. وهذه اللحظة هي كذلك عبارة عن نقاش لا ينقطع، تتظاهر عبره القوى المتصارعة، والمشاكل التي تبدو غير قابلة للحل، وأسمى الإبداعات والضلالات، الحقيقة العميقة وزوبعة الأخطاء"[13].

يشبه ياسبرز تاريخ الفلسفة بالسلطة التي يتمتع بها التراث الديني، مع التأكيد أنه لا يوجد في الفلسفة كتب مقدسة أو قوانين عليا، كما هو الحال في الأديان، مثلما لا توجد سلطة لاتباعها وحسب، ولا توجد حقيقة نهائية. لكن مجموع التراث الفلسفي قد ترك لنا، كما يقول يابرز، بقايا ثمينة من الحقائق لا تنفذ، وأظهر لنا الطرق التي ستمكننا من التفلسف في الحاضر. غير أن الجدية وحدها، في البحث الفلسفي الراهن، تسمح بالاتصال مع الفلسفة الخالدة من خلال ملامحها التاريخية.

يتضمن البحث التاريخي درجات معينة من القرب والابتعاد. والفيلسوف اليقظ هو من يعرف دائما مع من يتعامل، عندما يقوم بدراسة النصوص. فالمعطيات الخارجية ينبغي أن تكون معروفة بوضوح ودقة وتبصر. غير أن ما يمنح الإدراك التاريخي معناه وكماله إنما هو لحظات الاتصال والاتحاد مع الأصل، "إذ يشع عندئذ النور الذي يعطي القيمة والوحدة لكل تلك الأبحاث السطحية. وبدون مكان اللقاء هذا، الذي هو أصل الفلسفة، فإن تاريخها بأكمله يرتد في النهاية إلى مجرد تقرير تتسلسل فيه الأخطاء والغرائب"[14].

إن التاريخ كما يفهمه يابرز، هو التاريخ-المرآة، حيث يرى كل واحد فيه انعكاسا لما نحن عليه بالذات. وبذلك يكون تاريخ الفلسفة بدوره بمثابة الفضاء الذي ينفس داخله الفكر، ويمنح للبحث النماذج المثلى للدراسة.

لكننا عندما ندرس تاريخ الفلسفة، فإننا نفعل ذلك لكي نتمكن من وضع المفاهيم المتنوعة في مكانها التاريخي. ولهذا ينبغي أن تكون هذه الدراسة شمولية إذا أرادت أن تكشف عن الكيفية التي ظهرت بها الفلسفة في التاريخ، داخل شروط اجتماعية وسياسية وفي وضعيات شخصية تتسم بالتنوع.

هكذا نجد أن تاريخ الفلسفة سيوفر للمتعلم-الباحث إمكانية طرح مجموعة من المشكلات الفلسفية الأساسية[15]. أولها مشكلة وحدة تاريخ الفلسفة، هل توجد وحدة في تاريخ الفلسفة؟ فهذه الوحدة ليست معطى في الواقع، بل هي مجرد فكرة. ثانيا، مشكلة الأصل ودلالته، فنقطة الانطلاق هي اللحظة التي بدأ فيها التفكير، والأصل هو الحقيقة التي تؤسس وتدعم في كل لحظة عملية البحث. ثالثا مشكلة التطور والتقدم في الفلسفة، إذ يمكن، في تاريخ الفلسفة ملاحظة بعض التسلسل أحيانا، كما هو الحال مثلا بين سقراط وأفلاطون وأرسطو، وبين كنط وهيغل أولوك وهيوم، لكن مثل تلك السلاسل تصبح خادعة عندما ندرك أن آخر مفكر قد احتفظ وتجاوز الحقيقة التي عثر عليها سلفه. رابعا، مشكلة التراتب، فأثناء التفلسف يتم الوعي بنوع من التراتبية السائدة عند المفكر المنعزل وبين التصورات العامة التي تميز حقبة من الحقب. وتاريخ الفلسفة، بهذا المعنى، ليس حقلا مستويا رصفت فيه، وفق حقوق متساوية، مؤلفات ومفكرون لا حصر لهم[16].

والحالة هذه، فإن مشكلة تاريخ الفلسفة، الأكثر إحراجا، سواء من الوجهة الفلسفية أو البيداغوجية، تبقى، فيما نعتقد، هي مشكلة المعرفة الفلسفة، هل توجد اليوم معرفة فلسفية خارج تاريخ الفلسفة وبدون تدريسه؟ هل يمكن التفلسف بمعزل عن الأفكار والتصورات؟ وهل نتعلم التفلسف حقا بدون الفلسفة كتاريخ تتخلله المذاهب المختلفة، وكثير من الفلاسفة، في حركة متوترة، من الماضي إلى الحاضر؟

مشكلة المعرفة الفلسفية:

لم يكن للسؤال عن المعرفة الفلسفية من معنى فلسفي، بل لم يكن لهذا السؤال من الناحية المنطقية أي اعتبار ضمن الأسئلة الأساسية للتفكير الفلسفي الكلاسيكي. ففي كتاب "مبادئ الفلسفة" لديكارت، نجد أن المعرفة واحدة والفلسفة هي كل معرفة عقلية بغض النظر عن موضوعها. لكن ابتداء من القرن الثامن عشر سيتسرت شيء من الشك "الفعلي" إلى "وحدة الفلسفة"، ومن ثمة إلى وحدة المعارف التي تضمها داخل النسق الكبير. هذا الشك سيترسخ بعد النقد الذي وجهه كنط للميتافيزيقا –بوصفها وحدة المعارف- بحيث يتشكل السؤال عن المعرفة الفلسفية، لا كسؤال عن طبيعة المعرفة وأصلها والطرق الموصلة إليها، ولكن كسؤال عما يمكن للمرء معرفته فلسفيا. والتعبير الفلسفي عن هذا السؤال لا نجده في فلسفة ديكارت، الذي جعل من الشك منهجا للمعرفة، وإنما في فلسفة كنط النقدية، حيث طرح السؤال بصيغة ترنسندنتالية: "ماذا يمكنني أن أعرف؟" فلسفيا[17].

قبل نهاية القرن التاسع عشر، سيطرح من جديد السؤال عن المعرفة الفلسفية مع نيتشه، لكن بكيفية أكثر جذرية مما حدث مع كنط. فرغم أن هذا الأخير أثار مسألة الذات داخل الفلسفة، إلا أن السؤال الذي طرحه بصدد المعرفة بقي مرتبطا بمفهوم الفلسفة كنسق محكوم بإشكالية الانفصال التدريجي للعلوم واستقلالها عن الفلسفة. أما السؤال الذي طرحه نيتشه فقد جاء نتيجة لشرخ جديد حدث لا في "النسق الفلسفي" فحسب، بل في "الذات العارفة" كذلك. فقد تبين أن "الأنا الفكر"، الأنا الذي يتحكم في موضوعه ويدركه بكل وعي وبحرية تامة، والحاضر باستمرار هو مجرد وهم. يقول نيتشه: "ليست الذات في الواقع سوى خيال، إن الأنا الذي نتحدث عنه لا وجود له مطلقا"[18].

جذرية السؤال الذي طرحه نيتشه تتمثل في تركيزه لا على المضمون المباشر للمعرفة الفلسفية، بل على شكل وأسلوب هذه المعرفة، من خلال مقارنتها بالفن من جهة وبالعلم من جهة ثانية. غير أن هناك صيغة ثالثة للسؤال عن المعرفة الفلسفية: ما هي العلاقة بين فلسفة ما والفلسفات السابقة عليها أو المعاصرة لها؟ وهذا السؤال سيطرحه برغسون في النصف الأول من القرن العشرين، مدفوعا بالتحول الحاصل في منهجية البحث بصفة عامة، والمنهج المطلوب تطبيقه في الفلسفة بصفة خاصة.

لاحظ برغسون أن نشأة فلسفة من الفلسفات هي أشبه بجسم حي منها بآلة مركبة، وبالتالي فالحديث عن التطور هو أنسب من التأليف. ومع ذلك فهو يؤكد أنه من الخطأ اعتبار مذهب فلسفي –خاصة إذا كان مذهب معلم كبير- مجرد تركيب لفلسفات سابقة أو أنه فقط "لحظة تطور". يقول برغسون: "إن هذا التصور فضلا عن كونه تصورا يضفي على تاريخ الفكر اتصالا أكبر من الاتصال الذي يتصف به تاريخ الفكر حقا، يعيبه أنه يبقي انتباهنا مشدودا إلى التعقيد الخارجي الذي نلاحظه في النسق وإلى ما قد يكون فيه من أمور يمكن التبؤ بها في صورته السطحية، بدلا من أن يجعلنا نلمس مباشرة ما في أعماقه من جدة وبساطة"[19].

مما لا شك فيه أن الفيلسوف يشتغل على مضامين متنوعة، من أفكار ومفاهيم وأسئلة فلسفية، إلا أنه لا يتناول هذه المعارف ليصهرها في مركب أعلى أو ليمزجها بفكرة جديدة، لأن من يزعم مثل هذا الزعم يشبه إلى حد كبير من يظن أننا من أجل أن نتكلم نمضي باحثين عن كلمات نضم بعضها إلى بعض بواسطة فكرة.

ويمكن القول مع برغسون، إن الفيلسوف يصل بين الأفكار أو المعارف الموجودة في عصره داخل حركة جديدة، هي حركة فكره الخاص، حيث تأخذ معنى جديدا مثلما تأخذ الكلمات معناها من الجملة أو السياق. وهذا المضمون الفلسفي الذي تبلوره حركة الفكر هو حدس وحدس واحد. حدس تولد عن إعصار فلسفي بما يعنيه الإعصار من حركة قوية تراكم في شكل جديد كل ما يعترض طريقها. يقول برغسون: "إن فيلسوفا جديرا بهذا الاسم لم يقل في حياته إلا شيئا واحدا، بل إنه حاول أن يقول هذا الشيء أكثر مما قاله حقا. وهو لم يقل إلا شيئا واحدا، لأنه لم يعرف إلا نقطة واحدة. حتى لقد كانت هذه المعرفة لمسة أكثر مما كانت رؤية. وقد ولدت هذه اللمسة اندفاعه، وولدت هذه الاندفاعة حركة. وإذا كانت هذه الحركة التي هي أشبه، بإعصار ذي شكل خاص، لا تصبح مرئية لأعيننا إلا بما جمعته في طريقها، فهذا لا ينفي أن غبارا آخر كان يمكن أن يعلو، ويبقى الإعصار هو ذاته"[20].

إن مشكلة المعرفة الفلسفية هي مشكلة العلاقة بين الذاتي والموضوعي. وقد انتبه نيكولاي برديائف إلى هذا الازدواج، ولاحظ أننا نخطئ عندما نعتقد أن العاطفة لا يمكن إلا أن تكون ذاتية فحسب، بينما الفكر هو وحده الذي يتسم بالموضوعية، وأن الذات العارفة لا تستطيع أن تدرك الوجود إلا عن طريق العقل بينما تقتصر العاطفة على العالم الذاتي وحده. الواقع أن العكس من ذلك هو الصحيح، كما يؤكد برديائف، فالعاطفة الإنسانية ليست ذاتية إلا في جزء ضئيل، وهي في شطرها الأعظم قد أحالها المجتمع إلى شيء موضوعي، وعلى العكس من ذلك يمكن أن يكون العقل ذاتيا إلى حد كبير، بل هو في أغلب الأحيان أكثر فردية من العاطفة وأقل خضوعا للإحالة الموضوعية التي يقوم بها المجتمع، وإن يكن هذا القول صادقا صدقا جزئيا. يقول برديائف: "إن المعنى نفسه الذي يحمل على كلمتي "ذاتي" و"موضوعي" في حاجة إلى مراجعة بالغة الدقة، فإن مسألة تحديد هل إدراك الحقيقة ذاتي أو موضوعي على جانب كبير من الخطورة"[21].

ولتقديم حل ملائم لهذا المشكل ميز فرديناند ألكيي بين معرفة العلم connaissance، ومعرفة الوجدان savoir، استنادا إلى التمييز الذي وضعه كنط بين الإدراك connaître والتفكير penser واعتبر أن "هناك مجالات تتجاوز فيها المعرفة الوجدانية من حيث اليقين الحاصل عنها المعرفة العلمية ذاتها والتي تبقى كمعرفة لواقع ليس حقيقيا"[22].

إن المعرفة فعل، كما يقول برديائف، وليست مجرد تقبل سلبي للأشياء. فهي تضفي المعنى على الموضوع، وتخلق التشابه، وتنشئ مقياسا عاما بين الذات العارفة والشيء المعروف. والمعرفة هي كذلك إحالة إنسانية بأعمق معنى أنطولوجي لهذه الكلمة. والمعرفة الفلسفية هي معرفة بهذا المعنى. وفي هذا السياق يقول برديائف: "من الحق أن الفلسفة معرفة أولا وقبل كل شيء، ولكنها معرفة جامعة تحيط بكل نواحي الوجود الإنساني، وهدفها الأساسي هو أن تكشف وسائل تحقيق المعنى"[23].

إن كل معرفة، كما يقول آلن Alain مفيدة للفيلسوف بقدر ما تفضي إلى الحكمة، بما في ذلك الأسطورة. فإذا كانت الفلسفة تبدأ أحيانا بتفنيد الأسطورة، فإنها تنتهي إلى الاعتراف بها باعتبارها صيغة تتجمع فيها المعرفة الفلسفية. وقد أثبت أفلاطون هذه الحقيقة حينما انتقل من "المفهوم" concept إلى الأسطورة باعتبارها وسيلة لبلوغ المعرفة الحقة، والفلسفة الهيغلية تبين آثار ذلك الاتجاه في الفلسفة المثالية الألمانية.

وقد بين فرديناند ألكيي في مقال له عن "المعرفة الفلسفية" أن لا أحد يستطيع اكتشاف حقيقة المعرفة الفلسفية إذا لم يفهم أولا أن النسق بكامله هو تعبير عن فلسفة داخل لغة، وأن اللغة تميل دوما حسب قواعدها الإنشائية لأن تصير لغة الموضوعية. والحال "أن الفلسفة ليست معرفة بالموضوعية، وإنما بما يجعل الموضوعية ممكنة"[24].

وفي الحقيقة لا تنكشف الفلسفة إلا داخل مسار وداخل الحركة الكاملة للوعي، ولهذا فإن فكرة الفلسفة لا تنفصل عن فكرة الحكمة. فكم من مرة، ونحن نقرأ أفلاطون أو الرواقيين أو اسبينوزا، نفاجأ بأننا لا نأخذ على محمل الجد ما يقولونه عن الرابط الموجود بين المعرفة والأخلاق والسعادة. إن ذلك يرجع إلى كوننا لم نعد نملك الفكرة الخاصة بمعرفة فلسفية حقة، معرفة لا تنفصل عن الحركة الشاملة للوجود. فنحن لم نعد نتصور من المعرفة إلا ما هو علمي، أي ما يحمل مضمونا خارجيا يعقب حالة استلاب أولى، إنه الموقف الذي بواسطته نختار العالم وحده موضوعا للتفكير، ونأخذه كمجموعة من الأشياء القابلة للمعرفة والتحكم.

ويتساءل ألكيي، في نفس المقال، "هل ينبغي أن نفرق، بناء على معايير محددة، بين فلسفات المعرفة وفلسفات الوهم، ونحكم تبعا لكنطوديكارت، بإدانة هيغل واسبينوزا باعتبارهما غريبين عن المعرفة الفلسفية؟ إن في ذلك عودة إلى الدغمائية الواهية، وإقامة التعارض مجددا، عبر سبل أخرى، بين الفلسفة وتاريخها، وهو ما يشكل في نظرنا مصدرا للضيق الذي توجد عليه الميتافيزيقا في الوقت الراهن"[25].

لكن كيف يمكن للميتافيزيقا أن تنفلت من هذا الضيق الذي يحاصرها؟ يلزم، في نظر ألكيي، القيام بمحاولة لاكتشاف الخصائص النوعية لتاريخ الفلسفة، والتساؤل إلى أي حد تعتبر المعرفة الفلسفية، التي ترغب في أن تكون خالدة، هي بدورها ذات تاريخ. وفي هذه الحالة يكون الباحث في تاريخ الأفكار معرضا ولا شك لإغراءات هيغل.

الخوف من تاريخ الفلسفة:

لتاريخ الفلسفة إذن مهمة مزدوجة، فهو من جهة أولى يدرس العلاقات بين الفلسفة واللا-فلسفة، فيتساءل عن مصير التجربة، التجربة الساذجة والعالمة كذلك، عندما تنعكس في فكر الفيلسوف. وجميع الأنساق الفلسفية، حتى عندما تشكك في براءة التجربة الطبيعية، كانت دوما تقصد اللقاء بين الفكر والوجود، وتبحث عن الحقيقة الضرورية عبر تقلبات الوجود الفعلي. غير أن تاريخ الفلسفة لا يفتأ أن يتحول إلى تاريخ بالفعل من خلال إعادة النظر في التراث الميتافيزيقي. فبالرغم من أن الأنساق الفلسفية تحافظ على وجودها إزاء تحولات الزمن، فإن شيئا مع ذلك يكون قد تغير في مسار ذلك التاريخ. وإذا كانت الميتافيزيقا تعود في أصلها إلى بداية الفكر اليوناني حيث ارتبط اسمها بأرسطو، فمن المؤكد أن سؤال الميتافيزيقا لم يطرح إلا ابتداء من كنط، وهو سؤال إمكانية الميتافيزيقا من حيث هي كذلك. إذ مع كنط تضع الميتافيزيقا نفسها موضع سؤال من حيث مبدئها ومعناها وتاريخها إلى حد أصبح من المستحيل اليوم فصل الفكر الفلسفي عن عملية الانعكاس على ذاته.

وقد لاحظ إميل بريهيه أنه مع بداية القرن التاسع عشر شرع الفكر الفلسفي، سواء في أوروبا أو خارجها، في تساؤل منتظم حول ماضيه الخاص، وذلك بدافع البحث عن المعرفة الجيدة بذاته أكثر مما هو اهتمام بالبحث الخالص، مع حصول اليقين أن المذهب الفلسفي لا يمكن أن يتشكل إلا في علاقته بالتيارات السائدة في التاريخ. وهذا معناه أن "العمل الفلسفي دائم الاتصال، والتاريخ وحده يستطيع إزالة وهم البداية المطلقة"[26].

ومع ذلك فثمة خوف من التاريخ، لا بوصفه نظاما متخصصا له قواعده، وإنما التاريخ كأداة أو وسيلة لتحصيل الثقافة الفلسفية، ولأسباب متعددة، بعضها يتوقف على التاريخ والبعض الآخر على الفلسفة ذاتها. ذلك أنه "من الممكن اليوم –كما يقول شاتلي- استخدام الإحالة إلى فلاسفة الماضي، في اتجاه نزع القداسة وإزالة وهم الخطابات الراهنة للنظام القائم"[27].

 ويعتقد بريهيه وجود تصور ضيق لتاريخ الفلسفة في مقابل تصور واسع. ويدخل تاريخ الفكر الأوروبي في نطاق التصور الأول، أما التصور الثاني فيتكون من تاريخ الحضارة. ومع أنه بمقدورنا حصر تاريخ الفلسفة في دراسة المؤلفات التقنية للفلاسفة، فإن ادعاء التقنية يطرح بحد ذاته مشكلا فلسفيا، إذ ما هي التقنية في الفلسفة؟ وما هو الجانب التقني المقصود في العمل الفلسفي؟

إن الأعمال التي تكتسي أهمية كبرى، في نظر بريهيه، هي تلك التي تتخلص من تقنية مدرسية غالبا ما تكون سببا في تقلص الفكر وجموده. ونموذجه في ذلك أفلاطون وديكارت وشوبنهاور وبرغسون. فهؤلاء كلهم جعلوا من الفلسفة مبدأ الحياة الروحية ينعكس فيها الفكر على ذاته وعلى جميع مظاهره في الحياة الإنسانية[28].

بهذا المعنى يدافع بريهيه عن تعليم تاريخ الفلسفة، كتعليم مطالب بإظهار أن الفلسفة كانت دائما، وفي أسمى مظاهرها، تأكيدا وإثباتا للقيم الروحية والكونية، وحمايتها من الوقوع في النزعة المدرسية التي تتهددها باستمرار، "فلا وجود لتاريخ الفلسفة بدون فلسفة التاريخ، أي بدون ما يثبت الوجهة التي يتخذها معنى التاريخ"[29].

وقد ميز شاتلي بين موقفين بارزين في استخدام تاريخ الفلسفة، موقف لا يعترف بتاريخ الفلسفة، بل يدينه بوصفه من الماضي غير الضروري، وموقف يخضع تاريخ الفلسفة لاستخدام انتقائي حسب معايير الحاضر[30].

إن التأويلات المتناقضة والمتضاربة بشأن تاريخ الفلسفة، والمعنى الذي يعطى للتاريخ في هذا السياق، تجعل "مسألة تاريخ الفلسفة" تطرح في كل مرة طرحا جديدا، لأن "تاريخ الفلسفة ليس منطقة مستقلة داخل حقل التاريخ، إنه غير معزول عن تاريخ الإيديولوجيات، وبنفس الدرجة غير معزول عن تاريخ المجتمعات وتحولاتها"[31].

وفي ضوء ما سبق، يبدو أن مختلف أشكال التردد إزاء تاريخ الفلسفة وكذا التأويلات المتناقضة والاستخدام السيء لفلسفة التاريخ، وما ترتب عن ذلك من أضرار في تعليم الفلسفة، إنما ترجع إلى سوء فهم موقف كل من كنط وهيغل، وهو سوء فهم أو سوء تفاهم، راج مع الأسف لوقت طويل بين المشتغلين بدرس الفلسفة.

كنط وهيغل:

يشكل كنط وهيغل قطبين مرجعيين في تدريس الفلسفة. وكان لأفكارهما، الفلسفية والتربوية، دور حاسم في بلورة تصورات وصيغ لتدريس الفلسفة سواء في الثانوي أو الجامعي. والحال أن ما يجمع بينهما هو محاولة الكشف عن منطق للفلسفة وتاريخ الفلسفة. وقد كشف باحث متخصص هو (يرم ياهو يوفل Yirmi yahu Yovel) وجود تشابهات صارخة بين نظرية كنط في تاريخ الفلسفة ونظرية هيغل[32].

صحيح أنه توجد فروقات كبرى بين الفيلسوفين. فكنط مثلا لا يتوفر على نظرية متماسكة تفسر، في نفس الآن، الثنائية الجادة بين ما هو تجريبي وما هو قبلي، وكيفية ترسيم Schématisation الأول بواسطة الثاني. إن كنط لا يتوفر على منطق جدلي يجعل من القطبين لحظات من كل واحد هو في طور الانكشاف والتجلي. بل إن نظريته في التطور أعلن عنها فقط، ولم يتم تأسيسها بواسطة منطق دينامي متطابق، وهو ما يفسر عدم قدرة كنط، في نهاية التحليل، على إبراز أهمية الزمان كوسط ينمو داخله العقل.

ويبدو أن كل ما يستطيع كنط البرهنة عليه هو كون الأنساق التاريخية عبارة عن لحظات ضمنية في مجموع واحد، دون أن يتمكن من إظهار الأهمية الكبرى للتتالي الزماني لتلك اللحظات. فتاريخ الفلسفات السابقة بالنسبة له لا يلعب أي دور في تبرير النسق النهائي. فنسق العقل لا يبرره سوى الوسائل القبلية المحضة، أما السيرورة التي أدت إلى نشأة العقل، فيمكن أن تفسر فقط ضرورته الثقافية، لكن دون إعطاء تفسير للحقيقة التي يتضمنها[33].

من المعلوم جيدا أن كنط، رغم تبحره في أكثر من ميدان، لم يكن يملك معرفة كاملة ومفصلة بتاريخ الفلسفة[34] رغم اطلاعه على الفلاسفة الكلاسيكيين والمحدثين، ودراسته للفلسفة الإنجليزية، فضلا عن انغماسه في الفلسفة المدرسية بألمانيا على عهده، والتي تتوفر على كمية هائلة من المواد التاريخية.

وبصفة عامة، اهتم كنط بتاريخ الفلسفة لا كعالم بل كفيلسوف. فقد كان يرى في تاريخ الفلسفة جردا من المفاهيم والمناهج والحجج النموذجية، ويعتقد في نفسه القدرة على إعادة تجميعها وتصنيفها من زاوية المصلحة الفلسفية التي كان يتوخاها، والتي كان يعتبرها هي "مصالح العقل" ذاته. وهذا ما يبرر إهمال أو تجاوز التفاصيل والتلوينات النسقية الدقيقة التي يلح عليها الباحث المتبحر.

في هذا السياق المعقد والملتبس، كشف يوفل Yovel لدى كنط وجود وعي قوي بتاريخية استمرار لما سبق، وفي نفس الوقت يمثل تحولا جذريا. فالثورة الكنطية، في نظر يوفل، ترتبط بالتاريخ السابق للفلسفة، لا فقط من حيث موادها الخاصة، وإنما كذلك من حيث البرنامج الفلسفي والأساس الجديد للنسق. لكن من جهة أخرى نجد أن النسق الكنطي يحاول تجاوز تاريخية الفلسفة والوصول بمسلسله نحو غاية محددة. فبواسطة هذا النسق سيكون على العقل الإنساني القيام بتفسير ذاته والتعرف عليها، كما أن سلسلة آراء الماضي ينبغي أن تنتهي لتصبح علما فلسفيا[35].

لكن والحالة هذه، كيف سنفهم قولة كنط الشهيرة: "لا يمكن تعلم الفلسفة على الإطلاق (اللهم إلا تاريخيا) وفيما يخص العقل فإن أقصى ما يمكن أن نتعلمه هو أن نتفلسف"[36]. وهي الصيغة التي سيخفف من حدتها، ويتراجع عن إطلاقيتها بعد ذلك في العبارات التالية: "لا يمكن أن نتعلم أي فلسفة. إذ أين هي؟ ومن يملكها؟ وكيف نتعرف عليها؟ لا يمكننا سوى تعلم أن نتفلسف، أعني أن نمرن موهبة العقل في تطبيق مبادئه الكلية على بعض المحاولات التي تمثل لنا إنما دائما مع هذا التحفظ لجهة الحق الذي للعقل في أن يفحص هذه المبادئ حتى في مصادرها فيؤكد عليها أو يرفضها"[37].

إن هيغل هو من أول عبارة كنط، بغرض نقد فلسفته، عندما كتب أثناء إقامته في يينا أن "كنط قد ارتكب خطأ فادحا عندما أكد أن المرء لا يتعلم الفلسفة بل التفلسف، كما لو كان المرء يتعلم "النجارة" لا كيف يصنع مائدة أو كرسيا..". غير أن ملاحظة هيغل كانت عرضية إزاء كنط، الذي نعلم نقده لأصحاب الإلهام والحدس في الفلسفة، وهم أنفسهم خصوم هيغل، الذي انتقدهم بشكل لاذع في مقدمة "علم ظهور العقل"، حين كتب: "إذا كان كل ذي عينين وذراعين ليس بأهل لأن يصنع حذاءين متى وجد الجلد والعدة، فقد عم رغم ذلك الاعتقاد في أيامنا بأن التفلسف يدنو مباشرة لكل وافد كما يتيسر له تقدير الفلسفة وذوقها ما دامت له من عقله الطبيعي الوحدة التي يقيس بها الأمور –كأن كل امرئ لم يكن له أيضا في قدميه مقياس حذاء- لكأنا عدنا نحصر امتلاك الفلسفة في انعدام المعارف والدراسة تحديدا، ولكأن هذه جميعا تنتهي متى بدأت الفلسفة"[38].

إن امتلاك الفلسفة في نظر هيغل لا يتأتى إلا بقبول المشقة وبالجهد المبذول من أجل تعلمها والتدرب عليها، وهو ما ألح عليه كنط بدوره في مقال بعنوان "نبرة تسيد لا مثيل لها من قبل في الفلسفة"، كتبه عام 1795، وانتقد فيه أصحاب الإلهام الذين يزعمون عدم الحاجة إلى العمل وبذل الجهد بالإصغاء إلى النبوءات الصادرة من داخل الذات واستغلالها لامتلاك تام لكل حكمة منتظرة من الفلسفة. إن نبرة التسيد والتعالي التي يظهر بها هؤلاء، إنما الغرض منها، كما يقول كنط، "التميز عن أصحاب النمط المدرسي، الذين يعملون من أجل تقدم بطيء وحذر انطلاقا من نقد ملكتهم في المعرفة وصولا إلى معرفة وثوقية"[39].

ساهم نقد هيغل لكنط –وهو نقد لم يفهم في سياقه الخاص- في شيوع فهم مغلوط لمعنى التفلسف عند كنط، حيث تم الفصل بين تعلم الفلسفة وتعلم التفلسف. وقد كشف يوفل Yovel هذا الخطأ انطلاقا من نصوص كنط، وبين بقوة أن هذا "الرأي غير المؤسس، والذي يفيد أن كنط لا يرى أية فائدة فلسفية في تاريخ الفلسفة، مصدره التمييز المشهور بين المعرفة العقلية والمعرفة التاريخية، بين "التفلسف" وتعلم الفلسفة. إذ فهمت هذه التمييزات كما لو أن التفلسف يتعارض مع دراسة تاريخ الفلسفة وأن المعرفة العقلية تستبعد أية فائدة للتاريخ. لكننا نسجل بعض الضعف في ذلك بمجرد إعادة فحص النص بعناية إذ يتبين أن قوة الحجة التي يقدمها كنط إنما توجد على النقيض من ذلك. فالمعرفة العقلية يمكن أن تنطبق كذلك على المادة التاريخية، وهي أبعد ما تكون عن إقصاء دراسة تاريخ الفلسفة، بل على العكس، إن مفهوم "التفلسف" إنما يتأسس على تلك الدراسة"[40].

إننا لا نستطيع بالفعل إلا التفلسف، وهذا معناه إعادة التفكير في مذاهب الفلاسفة السابقين، وفي نفس الوقت من وجهة نظر المبادئ التي تخصهم ومن وجهة "النموذج" المضمر للعقل الذي يمكن بالنظر إليه وبالمقارنة معه محاكمتهم ومجاوزتهم بطبيعة الحال. إن جوهر مفهوم "التفلسف" يقوم إذن في إعادة التفكير عقليا في تاريخ الفلسفة. وهذا ما أكده كنط في المنطق: "إن من يريد تعلم التفلسف يلزمه.. اعتبار جميع أنساق الفلسفة بوصفها تمثل تاريخ استعمال العقل، وبوصفها كذلك موضوعا يمرن بواسطته موهبته الفلسفية"[41].

كتب برتراند رسل، في مقدمة كتابه "حكمة الغرب": "إنه من العبث أن نمارس التفكير الفلسفي في الوقت الذي نكون فيه قد فصمنا كل الروابط التي تربطنا بالمفكرين العظام في الماضي"[42] وبالفعل إنه من العبث ادعاء تدريس الفلسفة بالتفلسف اعتمادا على مفاهيم أو قضايا عامة، ليس لها جذور تغذيها وليس لها جذع يسندها ويمنحها القوة الضرورة لتتفرع وتورق "الحكم النقدي"، المستهدف بالفعل التربوي، خاصة عندما يطلب من التلميذ أو الطالب، في نهاية المطاف، أن يقدم "وجهة نظره" أو "رأيه الشخصي" في مسألة عامة.

يتطلب هذا الوضع تفكيرا عميقا وجديا في بيداغوجيا تدريس تاريخ الفلسفة بالثانوي، والسؤال المطروح: هل تدريس الفلسفة بواسطة برامج مكونة من "مفاهيم" أو قضايا عامة هو الاختيار السليم؟ (بالنظر طبعا إلى الثقافة الفلسفة السائدة وإلى مستوى تكوين المدرسين)، ألا يقتضي الأمر العودة إلى الحكاية، وتقديم القصة البيداغوجية للفلسفة؟[43] ألا يعتبر تدريس تاريخ الفلسفة، اليوم بالثانوي، مطلبا ضروريا بالنسبة للتلميذ والأستاذ معا؟

تاريخ الفلسفة في الثانوي:

يمكن هنا الانطلاق من ملاحظة لفرانسوا شاتلي، وإن كانت غير صائبة تماما، تقول إن الدروس في مقرر الفلسفة لأقسام الباكلوريا "تركز أكثر على المفاهيم.. وأن تحليل مفهوم ما يحيل في غالب الأحيان إلى تاريخ هذا المفهوم من بارمنيدس إلى جان بول سارتر"[44].

وبالفعل فالطريقة المعتمدة في مقاربة برنامج المفاهيم الفلسفية، والتي تتمثل في عرض مختلف المواقف التي عبر عنها الفلاسفة عبر قرون وفق تسلسل زمني، مطلوبة ولكنها ليست ضرورية. والدليل على ذلك، كما يؤكد شاتلي ذاته أن "المسألة تتعقد أثناء ذلك، ففي هذه العملية التي يقوم بها ثلاثة عناصر وهم التلميذ والفلسفة والأستاذ يكون العنصران الأول والثاني في حالة جمود، محرومان من حق التدخل، بينما العنصر الثالث، وهو المدرس له "حرية الاختيار" التي تمنحه القدرة على إقرار هذا الحل أو ذاك.. ويمكن لهذا المدرس عندئذ أن يخرج بتأليفات حاذقة قد تقلب تاريخ الفلسفة الحقيقي رأسا على عقب، وتجعل الفلسفة خارج الزمن"[45].

والحالة هذه، فإن منهاج مادة الفلسفة والفكر الإسلامي بالتعليم الثانوي عندنا يبدأ بمؤشر صارخ على سوء التفاهم الحاصل بصدد "تاريخ الفلسفة"، فعنوان هذا المنهاج هو شكل من أشكال "قلب تاريخ الفلسفة رأسا على عقب". وقد لاحظ باحث مغربي "أن تدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي يقترن بمادة أخرى يسميها المشرع "الفكر الإسلامي" وفي ذلك كما يبدو تكريس للفصل بين تاريخ الفلسفة العام وتاريخ الفلسفة والفكر الإسلامي وإن لم يكن هذا الفصل من غايات المشرع أو مقاصده المباشرة"[46].

لا شك أن الالتباس الذي خلقه مصطلح "الفكر الإسلامي" كان سببا في الكثير من المخاوف التي يثيرها طرح مسألة تاريخ الفلسفة، وتدريسه في الثانوي، هذا فضلا عن الضلالات التي تسبب فيها ذلك التقسيم وهذا الخلط، عندما تم الانتقال من مفهوم "البرنامج" إلى مفهوم "المنهاج" لمادة الفلسفة، رغم محاولة الحد من آثار ذلك التقسيم. والخروج من هذا الإحراج لن يتحقق إلا بمفهوم واضح وصارم لتاريخ الفلسفة، تكون فيه "الفلسفة الإسلامية حلقة من حلقات تاريخ الفلسفة.. فلا مبرر لفصلها عن سياقها التاريخي. أما مادة الفكر الإسلامي فهي في جانب من جوانبها قريبة الصلة بالفلسفة، ومن ثم فإن من الطبيعي أن تلحق بالفلسفة، على أن تراعى منزلتها من الفكر الفلسفي الخالص وأما الجوانب الأخرى من الفكر الإسلامي البعيدة الصلة بالفلسفة فهي مادة قائمة بذاتها، ولتدرس منفصلة عن مادة الفلسفة"[47].

إن منهاج مادة الفلسفة الحالي لا يتضمن تصورا واضحا لتاريخ الفلسفة، ولا يقدم مفهوما صريحا يمكن للمشتغل بدرس الفلسفة أن يدرج ضمنه برنامج المفاهيم المقررة. صحيح هناك توجيهات تربوية هامة في الموضوع لكن ليس هناك توجهات فلسفية محددة. توجد كذلك لوائح تضم برامج المفاهيم المقررة موزعة حسب المستويات والشعب، بالإضافة إلى الكتب المدرسية التي تضم نصوصا موزعة بدورها حسب مفاهيم المقرر، مع عروض تمهيدية بمثابة تقديم مركز أحيانا لعناصر من تاريخ الفلسفة، اعتبرت ضرورية للاشتغال على "المفهوم" ولاستيعاب النصوص المدرجة "للتحليل" أو "للاستثمار" في بناء الدرس[48].

يفتقر منهاج مادة الفلسفة لمفهوم دقيق لتاريخ الفلسفة، رغم كثرة الإشارات التي تدل على الحاجة إلى تاريخ الفلسفة في الدرس الحالي. فالمنهاج يشير إلى عنصرين يتصلان بتاريخ الفلسفة، هما المستوى المنهجي، والمستوي المعرفي في درس الفلسفة. يتضمن المستوى الأول بناء المفاهيم الفلسفية واستخراج الإشكالات الفلسفية التي تتضمنها تلك المفاهيم، مع ضرورة المعالجة الحجاجية لها[49]. أما "المستوى المعرفي الفلسفي"، الذي يبدو أكثر إحالة إلى تاريخ الفلسفة، فقد جاء مختزلا جدا، بالمقارنة مع المستويات الأخرى. فضلا عن الغموض والتشويش الذي تحدثه بعض المصطلحات المستعملة. فهذا المستوى يهدف، حسب المنهاج، إلى "التعرف على المضامين الفلسفية، وفهمها في سياقها النظري الفلسفي وسياقها التاريخي الفلسفي والثقافي العام"[50]. ولا شك أن المقصود بالمضامين الفلسفية غير واضح، فليس هناك تحديد لهذه المضامين، أما السياق النظري فهو محض تجريد، ولا يقول شيئا، ما دام درس الفلسفة هو في حد ذاته درس في "النظر". كما أن الفرق بين السياق النظري والسياق التاريخي ليس بديهيا، علما أن السياق الثقافي العام يستحق بدوره إجراء المقارنة مع السياقين الآخرين وتحديده بدقة أكثر.

وعندما نطرح السؤال عن مكانة تاريخ الفلسفة ووضعيته في بناء الدرس الفلسفي، على وثيقة منهاج مادة الفلسفة، نجد فعلا عناصر عامة يمكن تأويلها لصالح الإحالة إلى تاريخ الفلسفة، إذ يتم الحديث، في موضع معين، عن "التوازن بين تعليم الأفكار وتعليم التفكير" في درس الفلسفة، ويقصد بتعليم الأفكار عرض "أفكار الفلاسفة على شكل أطروحات ومفاهيم وتصورات ونظريا تجيب عن أسئلة في معالجة المفهوم، ويضعها في سياقها الإشكالي لاستعمالها أداة للتفكير والحجاج.."[51]، ورغم التأكيد الواضح على "التدرج" فإن الأمر يبقى مجردا، لا نعرف ما إذا كان يستهدف بذلك "تطور الفكرة" داخل الدرس أو داخل نسق فلسفي أو داخل نص أوفي فترة معينة من تاريخ الفلسفة.

لكن الالتباس الأكبر يبدأ عندما تتحدث الوثيقة في موضع آخر عن "منطق التراث الفلسفي" باعتبار أن دراسة "المفاهيم دراسة فلسفية تقوم على بناء المشاكل المرتبطة بها من خلال أسئلة وتفريعات تستجيب لمنطق التفكير المنظم ولمنطق التراث الفلسفي المتعلق بها"[52].

يمكن إرجاع هذا الالتباس، في المصطلحات والتصورات إلى عدم المفاصلة بتحديد موقف واضح من مسألة تدريس تاريخ الفلسفة. فالمنهاج الحالي يتعايش فيه، على مستوى الوثائق كما على مستوى الدروس التي تنجز، تصورات متناقضة بشأن "تاريخ الفلسفة". هل يحضر أم يغيب. والحال أنه لا يمكن استبعاد تاريخ الفلسفة، من درس الفلسفة، بل يمكن فقط استبعاد تصور معين، وفلسفة معينة للتاريخ، بناء على اختيار. والاختيار ليس قرارا عشوائيا أو نزوة أو حدسا ملهما، بل هو عرض ومناقشة وحوار حول "مفاهيم" تاريخ الفلسفة، ولإمكانية التدريس بالتعليم الثانوي، فتبرير الاختيار هو الحرية الحقيقية.

لقد شكل مطلب تدريس "تاريخ الفلسفة" منذ سنوات بفرنسا –نموذجنا وشريكنا في تدريس الفلسفة بالثانوي- موضوع نقاش تربوي فلسفي، بين المسؤولين والمشتغلين بالتربية. ويعتبر لوك فيري (Luc Ferry)[53] من أبرز المدافعين على إدخال تاريخ الفلسفة إلى التعليم الثانوي. والحال أن لوك فيري "يدافع" و"يرافع" من أجل تجديد الفلسفة العامة. وهو ينطلق من اعتبار أن هدف الفلسفة –هنا والآن- كما يقول هيغل هو العمل على "فهم ما هو موجود"، وذلك بإلقاء الضوء على الحاضر انطلاقا من الماضي وتقويمه والحكم عليه أحيانا. وهذا يتطلب في نظره "الالتفات أكثر إلى نوع من التبليغ والنقل المعقلن لتاريخ الفلسفة" في الثانوي، لأن "تاريخ الفلسفة ليس مجرد تأريخ فقط، بل هو على الأقل، منذ هيغل تاريخ فلسفي تماما"[54].

لاحظ لوك فيري عدم ملاءمة البرامج الحالية، فهي تتسم بدرجة من العمومية تعادل غياب البرنامج، فبإمكان أي واحد إضافة أو سحب مفاهيم معينة دون أن يتغير أي شيء في البرنامج. ويقدم كمثال على ذلك برنامج الشعبة العلمية حيث لا تبدو أية أهمية لغياب مفهوم "الذاكرة" من البرنامج، ما دام من الممكن دوما تناولها عبر مفهوم آخر، كالتاريخ.

لكن ليست البرامج وحدها تتطلب المراجعة، بل كذلك التقويم، وبسبب التقويم ينبغي تعديل البرامج، فوضعية التصحيح وتنقيط كتابات التلاميذ في امتحانات الباكالوريا تقول كل شيء: "إن الفضيحة معلنة، وآثارها تنتشر كل سنة في شهر يونيو؛ إن تعليمنا متمركز حول مفاهيم عامة، لا تخضع لإطار زمني، ويمتحن فيها تلاميذ الباكالوريا، بواسطة تمارين الإنشاء أو دراسة النص، وهما تمرينان لا يتم تدريس قواعدهما البلاغية للتلاميذ بل ولا حتى لطلاب الجامعة. وهناك أكثر من مفارقة عندما نطرح على المترشحين للباكالوريا أسئلة لا يطلب منهم فعلا الإجابة عليها (لأن ذلك أمر مستحيل)، ولكن نطرح أسئلة تتطلب معالجتها بالمقابل امتلاك خبرة بلاغية ذات مستوى عال"[55].

وبالفعل تكتسي عملية تصحيح كتابات التلاميذ، في غالب الأحيان، طابعا دراميا، نظرا للمطالب التي تفرضها صيغ التقويم والظروف البيداغوجية التي ينجز ضمنها الدرس، هذا فضلا عن التباين في التكوين الفلسفي للمدرسين، الذين يتحملون مهمة التصحيح. وفي هذا السياق، يعترف لوك فيري، وهو الأستاذ والفيلسوف، قائلا "أحسن نفسي قادرا بشكل كامل على تنقيط شرح نص لروسو أو لكنط أو لأفلاطون. فأنا أعرف ما إذا كان التلميذ قد فهم ما قرأه. لكنني أعلن صراحة أني عاجز عن تنقيط مقالة حول الذاكرة أو الزمان. والسبب بسيط وهو أنني لا أستطيع الإجابة على سؤال مثل "ماهو الزمان؟". وفي هذه الحالة ماذا سأقوم؟ هل سأقوم التراكيب اللغوية أم المراجع. لكن أين الموضوعية في كل هذا"[56].

يقترح لوك فيري برنامجا يستجيب للحالة الراهنة للفلسفة وتعليمها المنضويين تحت شعار "الانتقائية" و"اللاتجانس"، برنامج يضم إلى جانب المفاهيم، عناصر من تاريخ الفلسفة تكون موضوعا للتقويم بواسطة الأسئلة المباشرة (Questions de cours) إلى جانب الإنشاء (Dissertation) يقول لوك فيري "إن أسئلة مثل "ما هي النزعة الاسمية؟"، "ما هي التجريبية؟"، "ما هي الكسمولوجيا الإغريقية؟"، مثل هذه الأسئلة تضفي شيئا من الموضوعية"[57].

أما الاعتقاد بأن التقويم ينصب على الطريقة التي يتبعها التلميذ في صياغة المفاهيم وبناء الحجاج أو باختصار ممارسة رأيه "الشخصي" أو الحر، فهذا كله، في نظر لوك فيري، وهم. إذ "كيف نطلب من تلميذ في السنة النهائية من الباكالوريا أن يكون قادرا على تأسيس عملية الحجاج؟ انظروا كيف يكتب التلاميذ وكيف يفكرون. إننا كفلاسفة محترفين، منذ عشرين أو ثلاثين سنة، ما نزال نتعامل مع جميع الأسماء بسبب عدم قدرتنا على الاتفاق. فكيف بتلميذ سنة الباكالوريا.. إن هذا كله لا معنى له"[58].

لا شك أن هذه الاقتراحات تحمل في طياتها عددا من الصعوبات في التطبيق، ولا شك كذلك أن هذا من يعترض بدعوى خصوصية تدريس الفلسفة في الثانوي، وصعوبات وضع برنامج في تاريخ الفلسفة ملائم لهذا المستوى أو ذاك، لكن من الواضح أن ما يجمع الفلاسفة ويشكل إلى اليوم مركز اشتغالهم، كان وما يزال، هو تاريخ الفلسفة. فسواء أخذنا ليفناس أو ريكور، راولز أو دافدسون أو هابرماس، حتى لا أذكر الجميع، هم قبل كل شيء أشخاص يشتغلون على معارف من تاريخ الفلسفة، مهما كان التيار الفلسفي الذي ينتمون إليه. ولهذا فلا أرى ما يمنع من تدريس تاريخ الفلسفة لتلامذة الثانوي"[59].

في نص لجان هيبوليت، يعود تاريخ كتابته إلى عام 1962، طرح الفيلسوف السؤال التالي: كيف يمكن اليوم تصور دراسة الفكر الفلسفي؟ والجواب الذي يتضمنه هذا النص هو بمثابة "مشروع تدريس تاريخ الفلسفة"[60]. ففي الوقت الذي يتم هجر لفظة الميتافيزيقا، وإذ تصل العلوم الوضعية ومعها العلوم الإنسانية ذروة التطور، وتبدو أنساق الماضي والفلسفات الميتافيزيقية بلا أساس، يتشبث الفيلسوف بتاريخ الفلسفة بوصفه تاريخا للفكر الفلسفي لا يطاله الشك وحتى الحديث عن فشل الميتافيزيقا إذا كان ممكنا، فإن له دلالة خاصة.

هكذا سيقدم هيبوليت مشروعه لتدريس تاريخ الفلسفة انطلاقا أولا من الحالة التي وصل إليها الفكر الفلسفي، خاصة بعدما ثبت فشل الميتافيزيقا، وأصبحت هي بذاتها موضع سؤال، ابتداء من كنط الذي طرح سؤال ماهية الميتافيزيقا؛ وثانيا في ضوء التجديد الفلسفي الذي أحدثه عمل هوسرل من خلال إعادة التفكير في التجربة العلمية والحياة اليومية.

إن تدريس تاريخ الفلسفة، حسب مشروع هيبوليت، يستهدف تحقيق حركة مزدوجة وإن كانت متضادة:

1 – إظهار الماهيات والبنيات المتحكمة في الوجود.

2 – دراسة البنيات المحايثة للعلوم.

 

خلاصة:

تقود المعالجة الفلسفية والبيداغوجية لمشكلة تدريس تاريخ الفلسفة في الثانوي إلى الملاحظات التالية:

ـ فلسفيا، ساهم تضارب التأويلات بصدد مفهوم "تاريخ الفلسفة" في علاقته بـ"فلسفة التاريخ" إلى استبعاد غير مبرر لتاريخ الفلسفة وبحجج واهية. وقد ترتب عن ذلك صمت مريب حول سؤال "المعرفة الفلسفية" ووضعيتها في نظام المعرفة العام.

ـ بيداغوجيا، كشف تدريس الفلسفة اعتمادا على برنامج المفاهيم، سواء في المقررات الفرنسية أو المغربية، عن خلل في التكوين أكدته مرارا نتائج امتحانات الباكالوريا، بحيث أصبح من الضروري مراجعة البرامج وصيغ التقويم.

ولا بد أن نستنتج مما سبق أن تدريس تاريخ الفلسفة في الثانوي ليس فقط اختيارا بيداغوجيا، تبرره وضعية التدريس ونتائج التلاميذ، بل هو كذلك ضرورة فلسفية، فالفلسفة توجد دوما في معترك التاريخ، كما كان يقول ميرلو-بونتي. وهي لم تكن أبدا مستقلة عن الخطاب التاريخي، لكنها استبدلت، من حيث المبدأ، رمزية مضمرة للحياة برمزية واعية، والمعنى الضمني بالمعنى الظاهر. ولم تعد تقنع بتلقي المحيط التاريخي، بل هي تغيره بجعله ينكشف لذاته، وبالتالي تمنحه فرصة ربط الصلة بأزمنة أخرى وبأوساط أخرى، حيث تظهر الحقيقة.

 



[1] - ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة د.عثمان أمين، مكتبة النهضة المصرية، 1960، ص70-71.

[2]  - Desanti (J.T.), La philosophie et les pouvoirs, Paris, Calmann-Levy, p54.

[3] - من المعروف أن هذا الكتاب الذي ترجمه المفكر المصري مصطفى صفوان بدافع "استئناف الصلة بين اللغة العربية والفكر الغربي بعد أن انقطعت أو كادت منذ أن نقل أرسطو إليها. ثم رغبة في اكتشاف ما تختزنه لغة الضاد من طاقات تتسع لأساليب الفكر الحديث"، هذا الكتاب "علم ظهور العقل" هو ترجمة لجزء من الكتاب المعروف بـ"فينومينولوجيا الروح" تبعا للترجمة الفرنسية، وقد نقله صفوان إلى العربية مباشرة عن النص الألماني.

[4] - هيغل، علم ظهور العقل، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، ص12.

[5]  - Aristote, Métaphysique, chapitre II du livre premier.

[6] - هيغل، علم ظهور العقل، ص22.

[7]  - Nietzsche (F), La naissance de la philosophie à l’époque de la tragédie grecque, Trad. Geneviève Bianquis, Idées, Gallimard, p158.

[8] - يصف هايدغر الحوار بين الفلاسفة بأنه "صراع عشق": "كل تفنيد في مجال الفكر الأساسي يكون بدون معنى. وصراع المفكرين "صراع عشق". عشق ذات الشيء، إنه يسعفهم الواحد تلو الآخر، لبلوغ الانتماء البسيط لما هو عينه..". مارتن هايدغر، "رسالة في النزعة الإنسانية"، ترجمة مينة جلال، مدارات فلسفية، عدد 6، 2001، ص61.

[9] - د.الطاهر واعزيز، تاريخ الفلسفة، منهاجه وقضاياه، الرباط، 1991، ص13.

[10]  - Hyppolite (J), Figures de la pensée philosophique, T.II, PUF, 1991, p1006.

[11] - أورده عبد الرحمان بدوي، "تعليم الفلسفة في الجامعة"، ضمن أعمال اجتماع الخبراء حول "تدريس الفلسفة والبحث الفلسفي في الوطن العربي، دار الغرب الإسلامي، 1990، ص33.

[12] - محمد وقيدي، "التكوين الفلسفي وتاريخ الفلسفة"، مقال منشور بجريدة الشرق الأوسط.

[13]  - Jaspers (K), Introduction à la philosophie, traduit de l’allemand par : Jeanne Hersch, Plon, Paris, 1961, p187.

[14] - Ibid, p199.

[15] - تعتبر مدرسة ماربورغ الكنطية الجديدة، تاريخ الفلسفة "تاريخ مشكلات". ينظر مقال غادمر "هايدغر وتاريخ الفلسفة" حيث يشير إلى أن الرؤية الفلسفية الوحيدة لتاريخ الفلسفة، التي صارت منتشرة، وذات تأثير، في بداية القرن العشرين، هي الرؤية الكنطية الجديدة تحت اسم "تاريخ المشكلات" Cahier de l'Herne, Heidegger, 1983, p116.

[16]  - Jaspers (K), op.cit., p192-197.

[17]  - Kant (E), Logique, traduction L. Guillermit, Vrin, Paris, 1970, p25.

يقول كنط "إن ميدان الفلسفة بالمعنى العالمي يعود إلى الأسئلة التالية: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب أن أفعل؟ ما السموح لي أن آمله؟ ما الإنسان؟ وتجيب على السؤال الأول الميتافيزيقا..".

[18]  - Nietzsche (F), Fragments-posthumes, Automne 1887 – Mars 1888, Oeuvres philosophiques complètes, Gallimard, 1976, p65.

[19]  - Bergson (H), La pensée et le mouvant, PUF, Paris, 1941, p122.

[20]  - Ibid, p123.

[21] - نيقولاي برديائف، العزلة والمجتمع، خمسة تأملات في الوجود، ترجمة فؤاد كامل عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982، ص27-28.

[22]  - Alquié (F), « Le savoir affectif », in : Le Monde, dimanche 27 juin 1982.

[23] - نيقولاي برديائف، العزلة والمجتمع، ص23.

[24]  - Alquié (F), « Le savoir philosophique », in : Encyclopédie française, XIX, 1957, p19.04-13.

[25]  - Ibid, p19.04-12.

[26]  - Brehier (E), «L’histoire de la philosophie dans l’enseignement », in : Etudes de philosophie moderne, PUF, 1965, p40.

[27]  - Châtel (F), « La question de l’histoire de la philosophie aujourd’hui », in : Politiques de la philosophie, Grasset, 1976, p34.

انظر كذلك ترجمة لهذا النص ضمن كتاب "درس الفلسفة"، ترجمة الأستاذين عز الدين الخطابي وادريس كثير، منشورات مجلة فلسفة، 1998، ص36.

[28]  - Brehier (E), op.cit, p44.

[29]  - Ibid.

[30] - يمثل الموقف الأول من جهة الماركسية التي تثمن كل جهل بالمؤلفات السابقة، ومن جهة ثانية مالبرانش، رجل الدين الذي يعتبر كل الفلسفات السابقة على ديكارت تنتمي إلى عالم الشيطان. أما الموقف الثاني فيمثله من الفلاسفة فكتور كوزان وليون برانشفيك. انظر شاتلي، "مسألة تاريخ الفلسفة حاليا".

[31] - الترجمة العربية، ص37. Châtel (F), op.cit., p35.

[32]  - Yovel (Yirmiyahu), Kant et la philosophie de l’histoire, Méridiens Klincksiesj, Paris, 1989, p192.

[33]  - Ibid.

[34] - يقول فيلونينكو في هذا الصدد: "كانت لديه [كنط] بدون شك معرفة سيئة بالفلسفة القديمة، وخاصة بأرسطو. أما الفلسفة الحديثة فنعرف أنه كان يجعل أعمال اسبينوزا ولا يعرف سوى جانب واحد من أعمال هيوم، وكانت نظرته إلى ديكارت تتم عبر ليبنتز مصححا من طرف فولف". غير أن فيلونينكو يعقب على كل ذلك بعبارة دالة في هذا السياق، حيث يستدرك أنه "هنا تكمن عبقرية كنط، الذي أسس أكثر من منظور خصب في تاريخ الفلسفة، رغم أنه تجنب كتابة تاريخ العقل المحض، وهو ما سيتكفل به هيغل".

Philonenko (A), L’oeuvre de Kant, T.I.J. Vrin, Paris, 1996, pp17-18.

[35]  - Yovel (X), op.cit, p183.

[36]  - Kant (E), Critique de la raison pure, Traduction A. Tramesygues et B. Pacaud, Paris, PUF, 1968, p561.

والترجمة العربية لموسى وهبة، مركز الإنماء القومي، ص399.

[37]  - Ibid.

أدى سوء فهم قولة كنط، وتأويلها الخاطئ، إلى نوع من الاستهتار البيداغوجي بالمعرفة الفلسفية وبتاريخ الفلسفة، خاصة في التعليم الثانوي عندنا، حيث قاد التهافت الديداكتيكي من جهة والجهل بتاريخ الفلسفة من جهة ثانية إلى تضخم نوع من الخطاب حول المهارات والكفايات والأهداف، كما لو أنه بالإمكان "إجراء تدريب شكلي بغير الشيء وبغير المضمون" كما يقول هيغل.

[38] - هيغل، علم ظهور العقل، ص58.

[39]  - Kant (E), D’un ton grand seigneur adopté naguère en philosophie, trad, Guillermit, Paris, J.Vrin, 1987, p90.

[40]  - Yovel (Y), op.cit, p192.

[41]  - Kant (E), Logique, op.cit, p26.

[42] - برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، الجزء الأول، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1983، ص16.

[43] - اعتقد أنه ينبغي استخلاص الدرس من كتاب عالم صوفي لمؤلفه جوستين غاردر، الرواية التي قرأها العالم أجمع وبمختلف اللغات، وهي بالمناسبة قصة تاريخ الفلسفة، وقد أضيفت إليها عناصر التخييل المناسبة فعل التفلسف من سباته العميق.

[44] -Châtelet (F), op.cit, p33. والترجمة العربية، ص35.

[45]  - Ibid.

[46] - "ورقات حول تدريس الفلسفة والبحث الفلسفي في المغرب "ساهم بها المرحوم جمال الدين العلوي، ضمن اجتماع الخبراء بمراكش، 6-9 يوليو 1987. منشور ضمن كتاب تدريس الفلسفة والبحث الفلسفي في الوطن العربي، ص239.

[47] - نفس المقال، ص240.

[48] - من المعلوم أن العروض التمهيدية التي تتضمنها الكتب المدرسية لمادة الفلسفة، جاءت نتيجة التدهور الذي عرفه مستوى درس الفلسفة، في المرحلة السابقة، عندما وضعت كتب تضم فقط النصوص المقترحة للاشتغال بها على المفهوم، فقد تبين أن "الدرس" أصبح يفتقر إلى الحد الأدنى من المعرفة والمنهج الفلسفيين، وتحولت الحصة إلى مناسبة لتلاوة مقاطع من النصوص والخروج أحيانا بتأليفات غير حاذقة.

[49] - وزارة التربية الوطنية، منهاج مادة الفلسفة والفكر الإسلامي بالتعليم الثانوي، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1996، ص8-9.

[50] - نفس المرجع، ص9.

[51] - نفس المرجع، ص37.

[52] - نفس المرجع، ص11-12.

[53] - لوك فيري فيلسوف فرنسي معروف بأعماله التي أنجزها بالاشتراك مع زميله ألن رونو ، الفلسفة السياسية (ثلاثة أجزاء)، يشغل منصب رئيس المجلس الوطني للبرامج.

[54]  - Luc Ferry, «Transmettre l’histoire de la philosophie », in : Le Monde de l’éducation, n° 224, Janvier 1997, p20-21.

[55]  - Ibid.

[56]  - Le Monde de l’éducation : « Les sujets du Bac », Septembre, 1994.

[57]  - Ibid.

[58]  - Ibid.

[59]  - Ibid.

[60]  - Hypolite (J), Figures de la pensée philosophique, T.II, Quadrige, PUF, 1991.