ص 1              فهرس      51-60

العشاء السفلي(*)


ملتقى الروائي والشعري

محمد أدادا

تتوفر رواية العشاء السفلي على ملامح نص إبداعي لا يعرف كيف يسمي نفسه ولا أين يمكن وضعه ضمن خريطة الأنواع الأدبية المعروفة. إنها رواية تندرج ضمن تلك الأعمال الإبداعية الأدبية التي تتعدد تسمياتها وتتراوح بين كونها تعبيرا عن تجارب خاصة Essais، أو كتابات مضادة للذاكرة Anti-mémoires، أو مرآة للذات Miroir أو نزهة إبداعية Promenade..إلخ[1].

إن هذا العمل يمتد على الحدود الفاصلة بين عدة أنواع أدبية. فهو يحمل ملامح من الرواية الكلاسيكية، كما يحمل خصائص من السيرة الذاتية والبيوغرافيا. هذا ما يتضح من خلال هيمنة ضمير المتكلم في سردية الرواية، وتماهي هذا الضمير مع شخصية الكاتب الحقيقية، إلى حد بعيد. إنها تتصف بخاصية تجعلها تند عن التصنيف في خانة الجنس الروائي، إذ تحمل عناصر كثيرة من أجناس أدبية أخرى، وبخاصة جنس الشعر والقصيدة منه تحديدا. ويتضح هذا الأمر جليا من خلال انزلاقات وتنويعات في أشكال الكتابة تتحقق فيها، ومنها الميل إلى الشكل الكاليغرافي الشعري.

إن رواية العشاء السفلي تعتبر عملا إبداعيا يفتتن بالمقومات الجمالية والفنية، إن على مستوى القصة أو المكونات السردية "الخطاب". وهذا ما سنحاول إبرازه في هذه الدراسة.

1 – شعرية قصة العشاء السفلي:

يتمثل وضوح المتن الحكائي/القصة في رواية العشاء السفلي من خلال قدرة القارئ على الإمساك بموضوعها والإحاطة بعناصره ودلالته. فهي تحكي-وعبر ثلاثة مقاطع- عن لقاء عجائبي، تم بين البطلين/مغران وميزار. لقاء اتسم بالغرائبية، إذ تم خارج زمن محدد وفي فضاء مفارق للأمكنة الواقعية. قصة هذا اللقاء هي مدار اشتغال الرواية، ومن خلالها تمت معالجة إشكالات وجودية وفلسفية عميقة. ويمكننا أن نورد هذه القصة مختزلة فيما يلي:

ينفتح السرد في الرواية من خلال المقطع الأول المعنون بـ"وجه ميزار" بحالة ابتهاج انتابت مغران وانتشلته من أزمته مع الزمن/الآن، لتحمله إلى أزمنة أخرى ذات طابع شاعري تتحقق فيها المستحيلات وتتعايش فيها المتناقضات. لقد شكلت رسالة ميزار، التي تتلخص في الإعلان عن عودتها ولليلة واحدة "لقد عدت إلى الدار الكبيرة بقصبة النوار وليس لي سوى الليلة.. تعال لأراك"(ص12). لحظة انقطاع صلة مغران بالزمن الحاضر وميوعته. من هنا بدأت رحلته العجائبية إلى أزمان مفارقة، تتصف بالخروج عن الديمومة وتنخرط في عوالم المطلق. لقد هب مغران لتلبية نداء ملهمته "ميزار"، فراح يخترق الفضاءات (مقبرة ابن عربي – باب المحروق – قصبة النوار) والتي بدأت تتبدد أمامه وتبرز مقابلها عوالم أسطورية وسحرية، انتقلت به إلى حالة من الاستيهام، فتواترت في ذهنه التجربة الإنسانية عبر تاريخها الطويل. تلك التجربة التي تصل الماضي بالحاضر وتكشف عن هول المفارقة بينهما. هكذا حضرت إلى ذهنه إشراقات وومضات نقرأ من خلالها تاريخ الفن والمقاومة والاستبداد وجميع أشكال المعاناة الإنسانية وما تختزنه الذاكرة من لحظات الألق.

ولقد شكلت تلك الاسترجاعات أنجع وسيلة لجأ إليها مغران لتزجية الوقت ومقاومة وطأة الانتظار وتقريب المسافة الزمكانية بينه وبين الموعد الأكبر، الذي سيقوده إلى عوالم أسطورية وأمكنة مفارقة للواقع. كما حملته ليرحل إلى أزمنة سحيقة، تربطه بماضيه، الذي شكل موضوع بداية لقائه مع ميزار. فقد حكت له عن طفولته، فاستلذ ذلك الاتصال الحميمي مع ذاته قبل أن تدنس. كما حكت له كذلك عن ماضيها وتجربة أسفارها عبر مختلف بقاع العالم. وهو ما شكل وسيلة اتصالهما بعوالم الأسطورة واندماجهما فيها.

وفي المقطع الثاني من الرواية نلتقي مغران في عرصة ميزار ومعه مخلوقات عجائبية وأموات يحدثونه عن تجارب الماضي السحيق. ولقد ورد الحديث عن كل تلك الفضاءات بطريقة ملخصة وبصيغة قيامياتية، حيث استعرضت مختلف فضاءات العرصة وما تزخر به من مؤثثات أسطورية دالة.

أما المقطع الثالث من الرواية، والذي يحمل عنوان "عشاء ميزار"، فهو تكملة للقاء الأول، وإن هناك عاملا أساسيا يمكن أن يجعلنا نميز بينهما، حيث يمكن اعتبار اللقاء الأول هو لقاء ابن بأمه/حاضنته ومرضعته، بينما اللقاء الثاني لقاء عاشق بمعشوقته.

إن طقس العشاء مناسبة للقاء حميمي بين مغران وميزار. لقاء سيحقق الاتصال الكبير والعودة إلى الأصل. عودة لا تتاح إلا للخالدين، أو عبر اللاشعور. إنها عودة إلى جوهر الوجود الإنساني وهدفه الأسمى، كما يؤكد علماء النفس. هكذا تبددت مساحة الفراق بين ميزار الأم وميزار المعشوقة، وهو ما أفصحت بنفسها قائلة: "كنت أعرف أن ما حدث في السابق لا بد أن يحدث مرة أخرى.. أعطيتك صدري صغيرا وأعطيتك إياه هذه الليلة كبيرا.."(ص56).

ولأن تحقيق هذه المعادلة أمر يصعب في الحياة الواقعية، لأنه يسقط في قمة الرذيلة، فإن الكاتب قد أفلح في تجاوز التناقض بأن عمد إلى أن تموت ميزار في ذات الليلة. هذا الموت يبدو بدوره شاعريا، لأنه محدد سلفا، لقد أخبرته به سلفا عندما قالت له: "(…) سأموت قبل طلوع الفجر، أخبرتني بهذا عرافة الجنوب التي لا تخطئ، سينتهي عويلي بعد ساعتين.."(ص56). هذا الموت تواقت رمزيا مع موت مغران، حيث انطفأت أمامه أنوار السعادة وعاد إلى جحيم الواقع. لذا عبر عن حزنه العميق لفراق ميزار فقال: "قبلتك وأنا أنتحب من الحزن(…) لن تعودي يا ميزار"(ص61).

من هنا يتضح أن رواية العشاء السفلي رواية شعرية بامتياز. ويبرز ذلك أن الحكي فيها يمزج بين الأزمنة ويداخلها. فهو يأتي من الماضي ويتصل بالحاضر، فيعمل الأول على الكشف عن عيوب الثاني وتسليط الأضواء عليه. كما يتضح هذا الحس الشعري من خلال استثمار الأسطورة إطارا مرجعيا يسهم في فهم الحقيقة. فضلا عن ذلك نجد توظيف الأبعاد الصوفية، لما لها من مردودية شعرية، وخاصة توظيف السفر لتحقيق الوصال والاتصال بين العوالم المتناقضة.

هكذا إذن نخلص من خلال قصة هذه الرواية إلى أنها ترجمة لرؤية أسطورية تعالج الحقيقة الإنسانية في تنافرها وتناقضها. فهي توائم بين المقدس/الأمومة والمدنس/العشق، بين الواقعي والأسطوري. ويتحقق ذلك في إطار رؤية، لها جذور في تاريخ الأمم، كالفينيقيين والإغريق، وحكت عنها الأساطير القديمة مثل أسطورة عشتروت وأدونيس والأسطورة المصرية إيزيس وأوزوريس وحورس. كما أنها تقتبس من أسطورة أوروفيوس وتموز. ولعل هذا هو الذي يبرر الحضور الكثيف للعنصر الأسطوري فيها.

2 – شعرية خطاب العشاء السفلي:

يشكل الخطاب مفهوما مركزيا في الدراسات السردية الحديثة، فهو الذي يفسح المجال لدراسة المقومات التي تجعل نصا ما يندرج في إطار الخطاب السردي. فعبره يمكن دراسة الفضاء والرؤية السردية والشخصيات…إلخ. ويمكننا أن نستند في تحديد هذا المفهوم إلى أطروحة جماعة "مو" البلجيكية، التي تحدد الخطاب بكونه العلامة السردية التي تتشكل من العلاقة بين الخطاب والحكي، أي العلاقة بين شكل التعبير وشكل المحتوى، مما يسمح بإدماجها[2].

2-1- شعرية الفضاء المكاني:

يعتبر الفضاء المكاني بؤرة لتركيز البعد الشعري في الكتابة الروائية. ويتأتى للمكان أن يستقطب الشعري لأنه يرتبط بالوصف. ولشدة هيمنة وصف الأمكنة في العشاء السفلي فيمكن أن نطلق عليها "رواية فضائية". فالوصف يخترق طولية الرواية، ويقف عنده السرد كثيرا، مما يجعل القارئ ينتقل عبر فضاءات يخلقها الوصف. هذه الفضاءات يمكن تصنيفها كما يلي:

الفضاءات اللاواقعية/العجائبية: وهي تلك الأمكنة التي يصعب تمثل إطار مرجعي لها. فهي كلها تقع في العوالم السفلى المنقطعة الصلة كليا مع الواقع، مثل "الدار الكبيرة" و"عرصة ميزار". فالأولى تبدو مكانا مطلقا لا مساحة له ولا أبعاد Hors dimensions. وقد همها الوصف كثيرا وتغلغل في مختلف تفاصيلها ومكوناتها واحتل حيزا نصيا طويلا يمتد عبر صفحات كثيرة نتعرف فيها على مختلف الأبهاء(ص 21) والردهات (ص24) والقاعات (ص25) والغرف الموجودة فيها. هذا الوصف يتسم بميسم شعري ملحوظ يقوم على اعتماد آليات إنتاج الشعري، مثل الاستعارة القائمة على المشابهة (خيالات ظل خنثوية تفترش أعشابا (ص..) لهب عيون شهوانية (ص..) وتوظيف الرموز الموحية بدلالة الحدث الجنسي مثل (الثعابين – عرق عشتار – دموع إيروس)(ص..). أما عرصة ميزار فقد انساب وصفها في الرواية بشكل مسهب ينم عن اشتغال الحاسة الشعرية لدى الكاتب. يتمثل ذلك في اعتماد لغة تقوم على المجاز والمفارقة وارتباط المقدس بعالم الطبيعة (القصور – القباب – المعابد – الشموع/الأشجار، الجبال، الغابات). كما استغرق الوصف في تدقيق تفاصيل المقامات الموجودة في العرصة (غابة الأعمدة (ص38) –الدهليز(ص40) – القبة الخضراء(ص45).

إن وصف هذه الأمكنة في الرواية يتولد عند تشغيل لغة الرواية لذاتها واحتفالها بنفسها. من هنا هيمنة الوظيفة الشعرية. كما يمكن أن نسجل بأن الوصف هنا يهدف إلى خلق الدلالة العامة للرواية. فالانفتاح على عالم الطبيعة لا يهدف إلى إعادة إنتاجها، بل لكي تستثمر إمكانات خلقها للصورة الشعرية.

الفضاءات الجسدية: يتدفق المنسوب الشعري للفضاء المكاني في رواية العشاء السفلي عن طريق وصف الجسد الإنساني بمواصفات مكانية تجعل منه فضاء خاصا. هذه الخاصية الإبداعية يمكن أن نطلق عليها "شعرنة الجسد" Metaphorisation du corps هذا يجعلنا إزاء إعادة تشكيل صورة الجسد الإنساني، من خلال نعته وتشبيهه بفضاءات ذات حمولة شعرية قوية.

ولقد هيمن وصف جسد ميزار في هذه الرواية، فاتخذ منه مغران إطارا لممارسة هندسته وعشقه لجمال الفضاءات. من هنا أعاد تشكيل ذلك الجسد بطريقة إبداعية متقنة، جعلته يتجرد من مواصفاته الإنسانية، وتصبح له تضاريس ومواقع. وقد استقصيت تفاصيل جسد ميزار في الرواية فوجدناه حاملا لكل الأمكنة الموجودة في التاريخ والجغرافيا:

ـ "ساقاك مثل عمودين آشوريين(…)

ردفاك مثل برجين قديمين

هرمي صدرك"(ص19).

ـ "قارة جسدك (…) عميقة المناطق، غرائبية الذرى والمنحدرات"(ص53)

ـ "ساقاك مثل عمودين آشوريين(…)

ردفاك مثل برجين قديمين

هرمي صدرك"(ص19).

ـ "قارة جسدك(…) عميقة المناطق، غرائبية الذرى والمنحدرات"(ص53).

ويتجسد البعدالشعري لهذا الجسد من خلال اعتماد صور من الجغرافيا لها إيحاءات قوية. فالتضاريس والأمكنة التي شبه بها ذلك الجسد ذات دلالة عميقة في مجال التاريخ والفكر الإنسانيين. ولقد عبر الشركي عن هذا الارتباط العميق بين المكان والجسد بقوله: "المكان متداخل مع الجسد ببعديه العضوي والرمزي، متداخل معه حد الاحتلال المشفوع بالتواطؤ..".

2-2- شعرية الزمن:

إن الزمن الذي يضفي الطابع الشعري على الكتابة الروائية هو الزمن الزائف Pseudo-temps الذي يتنكر للزمن الحقيقي. وتخترق رواية العشاء السفلي صيرورة الزمن القائم فترحل إلى أزمنة أخرى. هذا هو الذي جعل الفعل الزمني فيها يتصف بالمحدودية واللحظية والأسطرة، مثلما نتبين فيما يلي:

المحدودية: نلاحظ أن الزمن السردي للعشاء السفلي يقف عند لحظة محددة تمتد من الغسق (ص13) إلى مطلع النهار (ص61). هذه المدة الزمنية تتحدد بما يسمى "الليل"، والذي وقعت فيه كل أحداث القصة. وفي اختزال الرواية في ليلة واحدة سعي إلى تجاوز الزمن الفيزيقي واللحاق بالزمن المطلق، حيث ينخرط الإنسان خارج نسقيته الفيزيقية ويتصل بأصوله الأولى. هذا ما يدل عليه الغياب المطلق للحاضر والارتماء في أحضان الماضي أو الاتجاه إلى زمن الحلم القائم في المستقبل.

اللحظية: مما يترتب عن محدودية الزمن، ظهور اللحظة كإطار زمني يشتغل بكثافة، من هنا اشتغال لحظتين مهمتين في رواية العشاء السفلي، هما لحظة مثلما تستلذ ميزار الحديث عن طفولتها. ونلاحظ أن الزمن الطفولي يحضر عبر رؤية طفولية لا تتقيد بالزمن، إذ يتم استرجاع ماضي طفولتهم وكأنه حي في ذواتهم وتجسده لقاءاتهم. بمعنى أن الماضي ينظر إليه باعتباره زمنا ثابتا ودائما. فالعودة إلى الطفولة هي العودة إلى الزمن الأول, هذا الأخير يحضر فينا دائما عن طريق الحلم، فكلما أعوزتنا السعادة التجاءنا إلى ماضينا وطفولتنا أي إلى "النموذج الأعلى الحقيقي للسعادة"[3]. إن الطفولة كما قال باشلار: "شيء لا يموت فينا أو يجف بمجرد ما ينهي دورته، إنها ليست ذكرى، لكنها أكثر الكنوز حيوية وتستمر في إثرائنا دون أن نعلم"[4].

أما لحظة الممارسة الجنسية فيتعمق بها البعد الشعري في الرواية وتسهم في تشييد الطابع الجمالي. فهي تندرج في إطار وصف اللحظة السعيدة، التي تحرر الإنسان من زمنه الخاص وتحمله إلى أزمنة أسطورية (صص57-59).

الأسطرة: تسافر بنا رواية العشاء السفلي خارج الزمن وتحلق بنا في أجواء أسطورية خارجة عن نطاق الديمومة. إنها بذلك تحملنا إلى لحظة الزمن الأكبر[5]. فهي تعود للاتصال بالزمن المطلق والأزمنة الأسطورية. هذه الأخيرة هي الكفيلة بالإحاطة بمختلف أصناف الزمن: ماضيه وحاضره ومستقبله. ويتم ذلك عن طريق الذاكرة التي تتجه إلى البدايات والأصول. ونلاحظ بأن ذاكرة ميزار تعيش ذلك الزمن وتتماهى معه، في حين أن مغران يعيشه فقط.

2-3- شعرية الشخصية:

يعتبر دال الشخصية المادة القابلة للدراسة، لأنه تجل نصي، مما يجعله ذا أهمية في تشكيل شعريتها. وفي رواية العشاء السفلي يمكننا أن نقف، انطلاقا من دوال الشخصيات، على ثلاثة أنماط من الشخصية، تكشف كلها على طابعها الشعري وهي:

ـ الشخصية التي تحيل على مرجع واقعي، له حمولة شعرية.

ـ الشخصية التي تحيل على مرجع أسطوري، ذي وظيفة شعرية.

ـ الشخصية التي تركزت حولها السمات الشعرية.

فبالنسبة للشخصية الشعرية التي تحيل على المرجع الواقعي، والتي لها حمولة شعرية، فإننا نجد أسماء لشخصيات معروفة في المتخيل الجماعي باعتبارها علامات إشارية، تتجرد من علميتها، وتدخل في الخطاب كصورة شعرية. ومن الشخصيات التي وقفنا عندها في العشاء السفلي بهذه الصورة نذكر:

ـ شخصية لسان الدين بن الخطيب: فإلى جانب معرفتنا لهذه الشخصية شاعرا وأدبيا، فقد وظفت في الرواية برمزية شعرية واضحة. من هنا تشبيهه بطائر الفنيق، الذي ينبعث من الرماد، "خرج لسان الدين من رماده"(ص13). كما أن توظيفها يقصد إلى استثمار الحمولة الدلالية التي توحي بها. فهي تدل على شموخ الثقافة العربية القديمة، وعلى معاناة المثقفين من الاستبداد.

ـ شخصية علال: ورد هذا الدال في سياق لا تخفى شعريته. ففي سياق انسياب كاليغرافي، ذي نزوع شعري، نباغت بورود اسم علال الفاسي، الذي نعرف أيضا أنه شاعر كبير.

ـ شخصية إبراهيم: التي ذكرت على لسان ميزار، وهي تحدث مغران عن ماضيه. ونعتقد أن استحضار شخصية هذا النبي لا يخلو من دلالة شعرية، ولذلك ركزت ميزار على أن له علامة فارقة توحي بدلالات عميقة.

هذا، إذن، هو المظهر الأول لحضور دال الشخصية شعريا في العشاء السفلي. ونلاحظ أن القيمة الشعرية لهذا النمط من الدال تبدو خافتة، خاصة إذا ما قارناها بدال الشخصية الأسطورية.

ويطرد استعمال هذا النمط الأخير في رواية العشاء السفلي، حيث الشخصيات الأسطورية تنهض بأدوار مهمة وتسهم في بناء الدلالة العامة للرواية. فعلاوة على التسمية التي تحملها الشخصيات المركزية (مغران/ميزار)، والتي لا تخفى أسطوريتها، نجد دوال أسطورية أخرى، ترد كصور شعرية. ومن هذه الدوال نذكر:

ـ شخصيتا بيرسيفون وتموز: فالرواية تستحضر هذين الاسمين الأسطوريين لتشييد دلالة عميقة بإمكانها التعبير عن بهجة لقاء ميزار ومغران. هذه الطريقة التصويرية التي التجأ إليها الكاتب تحمل معاني شعرية قوية. فقد رأى الكاتب بأن الوسيلة الكفيلة بالإحالة على الأسطورة هي استحضارها كعنصر مخبر/ممثل informant(*)، لأن هذه المخبرات الأسطورية هي التي تدلنا على تجربة ميزار ومغران. هكذا يمكننا أن نقرأ تلك الصورة التي أخذت بلب مغران، والتي رسمت على زربية تؤثث القاعة الكبيرة التي احتضنت لقاءهما فوصفها بقوله: "فوق زربية هائلة تصور بهجة بيرسيفون بهبوط تموز (…) أمعنت النظر في الزربية فلاح شعر بيرسيفون متطايرا إلى الوراء ووجهها منخطفا نحو الأدراج التي بدا منها تموز مسربلا بجراحه"(ص25). فهذه الصورة الأسطورية تشخيص للعلاقة القائمة بين بطلي الرواية. تلك العلاقة التي تدل على الأمومة والعشق.

هكذا يتبين لنا أن الدال الأسطوري يوظف في رواية العشاء السفلي باعتباره آلية ذات طابع شعري. فوراء هذا التوظيف، تتحقق المردودية الشعرية للرواية، كما أن وراءه رغبة في تحقيق الاقتصاد اللغوي، الذي يعتبر أحد خصائص الكتابة الشعرية. وإلى جانب هذا يسهم دال الشخصية الأسطورية في ترسيخ شعرية شخصيات الرواية، وبخاصة شخصية ميزار، إذ نجدها تتعالق مع أسماء أسطورية كثيرة، بل إنها تندمج معها وتؤكد انتماءها إلى عالمها. ويمكننا أن نقف عند سياقات متعددة في الرواية تدل على هذا الأمر، من قبيل: "(…) في مصر تعرفت على إيزيس مقيمة طقوس الحداد في النيل الأعلى قرب مدفنها أقفاص الإوز الطائر وأوزيريس منثور الجسد حتى المنابع السفلى يحلم بأخته وحبيبته، لكن بعد البحر الأحمر تصاعد دخان آسيا ملمع قبر جلجماش في صدره أزهرت النبتة الهائلة، زمجر ثور السماء…إلخ"(ص27). فهذا المقطع السردي يدل على أن الإحالة إلى الدوال الأسطورية ليس أمرا اعتباطيا، بل إن المعرفة الأسطورية وحدها هي الكفيلة بتفسير العلاقة القائمة بين ميزار ومغران. كما أن ما تؤكده ميزار يدل على أن المسافة بينها وبين العالم الأسطوري قريبة جدا.

بهذا نخلص إلى أن للأسطورة دورا أساسيا في قراءة رواية العشاء السفلي. فبالرغم من كثافة هذه الرواية وقصرها، فإنها تتسع عن طريق الأسطورة لاستحضار قصص أسطورية عميقة نذكر منها: (إيزيس/أوزوريس – بيرسيفون/تموز – سيبيل/آتيس – عشتروت/أدونيس…إلخ).

وإلى جانب هذا النمط من الشخصيات التي تناولناها، والتي تشترك في أن لها اسما علما، هو الذي تتحدد لنا به شعريتها، فإننا نجد شخصيات ذات سمات شعرية عديمة التسمية. في هذا الإطار يمكن أن ندرج الشخصيات الصوفية. ولعل ما يضفي الطابع الشعري على هذه الشخصيات هو أنها مفارقة للواقع، حيث تأتينا جميعا من العالم الآخر ومن أزمنة أخرى. ومثلما قامت الأسطورة بدور تجلية شعرية شخصيات الرواية، فإن الشخصيات الصوفية تقوم بذات الأمر. ومن النماذج التي نقف عندها بهذا الصدد نذكر:

ـ النساء المرتديات المآزر الخضراء: والتي ورد ذكرها في سياق الجولة التي قام بها مغران لعرصة ميزار، حيث قادته تخيلاته إلى لقاء ومشاهدة شخصيات ذات طابع شعري واضح. ومن تلك النماذج نجد "النساء بمآزر خضراء.. حللن شعورهن ورفعن أيديهن في حركة منسجمة وبطيئة"(ص36). فهذا التصوير الشعري يدل على أن هذه الشخصيات ذات طابع صوفي.

ـ الشاب الأعمى صاحب الألواح: والذي التقاه مغران في عالم العرصة، وتحاور معه واطلع على ألواحه التي كتب عليها شعرا يتمثل به تجربة كبير أقطاب الصوفية "جلال الدين بن الرومي". وقد صدرت تلك الألواح بأحد الإشراقات الشعرية المعروفة لهذا الأخير: "المعشوق هو الحي، أما العاشق فميت"(ص42).

وبالإجمال يمكن القول بأن دال الشخصية، إن بصيغته الجاهزة نصيا، أو بالسمات التي نستكشفها عبر الوصف، يجعلنا نقف عند مظهر من مظاهر شعرية الشخصية الروائية. بهذا يغدو الدال كونا مؤسسا، لا يتجرد من كل الدلالات التي يحملها، وذاك ما يجعل اسم الشخصية مليئا بالمواصفات الشعرية.

ولئن كان دال الشخصية أمرا قابلا للرصد، بفعل تجليه النصي، فإن مدلولها يمكن أن يكون كذلك. من هذه الزاوية سننظر إلى الشخصية باعتبارها وحدة دلالية لا يتعرف على مدلولها النهائي إلا عند نهاية الرواية. من هنا متابعتنا إياها باعتبارها بناء تسهم فيه هي (ما تتلفظ به حول نفسها) أو يقوم به الآخرون (ما يتلفظ به عنها). فنحن إذن سنتجاوز دال الشخصية، باعتباره تكثيفا سرديا واقتصادا دلاليا. هكذا سنعتبر تسميتي ميزار ومغران مجرد مورفيمين فارغين، لا يتصور امتلاؤهما إلا عند نهاية النص وحدوث كل التحولات المتنوعة، التي كانت فيها هذه الشخصيات فاعلا وسندا. وتأتلف الشخصية، من زاوية مدلولها، حول ثلاثة أنماط هي: الشخصية الهلامية وشخصية الطفل ثم الشخصية الفنانة. هذه الأنماط من الشخصيات هي التي وقفنا عندها في رواية العشاء السفلي، انطلاقا من متابعة الحركة السيميائية لمدلولات شخصياتها الرئيسية: ميزار ومغران.

ـ الشخصية الهلامية: نقصد بالشخصية الهلامية ذلك النمط من الشخصية التي نجدها في الحكي تحمل أسماء حقيقية، لكنها تحيل على مواصفات وأدوار ووظائف تختلف عن تلك التسميات. من هنا نجد الشخصية تتميز بطابع مفارق للواقع La déréalisation، وتحيل على مرجع مغلوط، يتجاوز حدود إنسانيتها.

وتبرز هذه الصورة الشعرية للشخصية بكثافة في رواية العشاء السفلي، إذ نتابع شخصياتها الرئيسية بهذه المواصفات، وبخاصة شخصية ميزار، التي رصدنا لها صورا متعددة للتماهي مع حيوانات وشخصيات أسطورية.

إن تمثل شخصية ميزار، انطلاقا مما وصفت به نفسها أو من خلال ما وصفت به من لدن السارد، لكفيل وحده بتحديد الطابع الهلامي لها. لهذه الغاية يمكننا أن نقدم الأمثلة الدالة على أنها تتجرد من إنسانيتها لتظهر باعتبارها حيوانا مثلا: ذئبة نازفة الأثداء (ص22)، قطة هائلة (ص23)، البجعة البرية(ص26).

هكذا يبدو لنا البعد الهلامي لشخصية ميزار، والذي يتكثف أكثر إذا ما أمعنا النظر في الأدوار المتناقضة التي قامت بها في الرواية. هذا الطابع الهلامي نجده مرتبطا كذلك بشخصية مغران، التي شحنت، في أكثر من مناسبة، بمواصفات تجعله كذلك مفارقا للواقع. من ذلك صفات أطلقتها عليه ميزار من قبيل:

ـ "طفل وحشي"(ص22).

ـ "لن تغادر تلك الصحراء أبدا، إنها أنت"(ص22).

وإجمالا يمكن القول: "إن هذا النوع من الأبطال يعيدون إنتاج الكون، ليصير بالصورة التي يجدون ذواتهم فيها"[6].

ـ شخصية الطفل: كما يعتمد الحكي الشعري على الشخصية المفارقة للواقع، فإنه يعمد أيضا إلى اعتماد شخصية الطفل. هذه الأخيرة تسمح للسرد بأن يعود إلى أصول الشخصية، وهو ما يعضد علاقة الشخصيات بماضيها، ويجعلها تتكامل معه وتنشد إليه لكسب الاستمرارية في كل وجودها. ويطرد حضور الشخصية القريبة من ماضيها في رواية العشاء السفلي، فيكثر الحديث عن الطفولة، وتشغل ذكريات الماضي حيزا نصيا مهما. ولعل في الإشارات، التي تتحدث فيها ميزار عن ماضي مغران دليلا على ذلك.

أما البعد الشعري لهذا الحضور المطرد لطفولة الشخصيات فيكمن في كون الحديث عنها يتم عن طريق الرؤية أو الحلم. وعليه فكلما تأهب السرد إلى ذلك الماضي إلا وانقطعت الصلة بالحاضر. كما يبرز ذات البعد بواسطة تشويش الإطار المرجعي للشخصية، فتصبح مجردة من إنسانيتها. هذا هو الذي يجعلنا نصادف أطفالا بمواصفات الملائكة، لم يرتكبوا أية آثام. وهي الصورة التي تحضر بها شخصيتا ميزار ومغران في الرواية.

ـ شخصية الفنان: تعتمد الرواية ذات النزوع الشعري على شخصيات تنجز عمليات فنية متنوعة. خلال شخصيتي ميزار ومغران نتعرف على فنانين يسمان الرواية بإبداعهما. فمغران يتخلى، بين الفينة والأخرى عن دوره كسارد، ويصبح شاعرا. ونقف عند شخصيته وهو شاعر يقدم سرده شعريا في عدة مواقع.

وإلى هذا المظهر، الذي نتعرف فيه على مغران شاعرا وفنانا، نجد أن له لغة تتصف بالطابع الشعري، وذلك بالإكثار من الإيحاء، مما يجعل الوظيفة الشعرية هي التي تهيمن على تلك اللغة. بهذا يمكننا القول بأن السرد في العشاء السفلي قد تولاه فنان كبير، مما يجعل دراسته دونما اعتبار شعريته إخلالا بجماليته وقيمته.



(*) رواية العشاء السفلي، محمد الشركي، دار توبقال للنشر، 1987.

[1]  - Beaujour (Michel), Miroir d’encre, Seuil, Paris, 1980, p7.

[2]  - Groupe U Rhétorique générale, éd. Seuil, 1982, p175.

[3]  - Durant (G), L’imagination symbolique, PUF, col. Sup, 1976, p81.

[4]  - Bachelard (G), La poétique de la rêverie, PUF, Paris, 1960, Rep. 1978, p117.

[5]  - Eliade (M), Images et symboles. Essais sur le symbolisme magico religieux – tel, Gallimard, Paris, 1952, Rep. 1979, p75.

(*) ننوه إلى التمييز بين الشخصية، كمكون سردي له أبعاد نفسية، أي قريبة من الذات الإنسانية، والشخصية باعتبارها ممثلا أو مخبرا informant، والذي يحمل دلالة ممثل، ولكنه لا يحمل عمقا إنسانيا.

[6]  - Tadié (J-E), Le récit poétique, op. Cité, p22.