(1974-2000)
".. وهاك
هذه الورقة البيضاء ضعها في آخر الكتاب واترك القراء يقرؤونها أو يتلقونها كما يشاءون
ألا يملأ النقاد الدنيا هذه الأيام ضجيجا بنظرية التلقي فليتلقوا ما طاب لهم.."
حكاية
وهم مغربية، ص135.
تأطير:
1 – لا نهدف انطلاقا من
هذه الدراسة إلى محاولة رصد العلائق المحتملة والممكنة بين الحداثة والتلقي. لأن هذا
الأخير في حد ذاته وبوصفه مفهوما مجردا، لا يعدو في تقديرنا سوى مجرد واحدة من بين
أهم انتصارات الحداثة وما بعد-الحداثة وذلك بنقلهما من مجال الاهتمام من الكاتب والنص
إلى المتلقي والقارئ باعتبارهما طاقة محتملة من المعاني في تعدديتها. سواء تم ذلك على
يد "جمالية التلقي" أو على يد غيرها من المغايرات الأخرى المشكلة لنظرية
التلقي بصفة عامة: سيميولوجية القراءة، بلاغة القراءة، سوسيولوجية القراءة، ظاهراتية
القراءة، نقد استجابة القارئ، أسلوبية القراءة.
2 – كما أننا لا نهدف إلى
تحديد مفهوم الحداثة ودراسته. لأننا ببساطة نؤمن إيمانا راسخا بأنها مفهوم شائك يستعصي
على الحد؛ تتداخل فيه، كما هو معلوم، أسئلة التحديث بأسئلة الفكر وأسئلة علم الاجتماع
وأسئلة علم النفس-السلوكي (المرتبط مثلا بالموقف من العائلة والمرأة والمعتقد..) ثم
أسئلة الإبداع عامة المرتبطة بتصورات جمالية، وطيمية، وشكلية. غالبا ما تنزع نحو خلخلة
السائد والمألوف.
مقابل ذلك، سنفترض أن لكل
واحد، مهما كان وضعه الاعتباري: كاتب، قارئ، عالم اجتماع، مفكر، جمالي..، فهمه الخاص
للحداثة، وذلك للخروج من مأزق حد هذا المفهوم. إن لم يكن ذلك من صلب تأمله الشخصي،
فسيكون ناتجا، بالضرورة، عن قراءاته لكتابات الآخرين في هذا المجال وتفاعله معها، سواء
ممن تناولوا دراسة تمظهرات الحداثة في الغرب(وهم كثر)، أو تناولوها في العالم العربي
بأوهامها المتنوعة، أو في أي منطقة أخرى من هذا العالم. رغم إقرارنا مبدئيا باختلاف
الأسبقية وخصوصياتها.
3 – فضلا عن هذا كله، فإننا
لا نروم أيضا دراسة تجليات الحداثة في بقعة جغرافية مثل المغرب. لأنه اتضح لنا من منظور
حس تاريخي أن المغرب لا "يرغب" بالفعل في ولوج عوالم هذه الحداثة منذ
1844 إلى الآن. وذلك على الأقل من باب عزوفه عن تبني إحدى المغايرات الأخرى للحداثة
–أي التحديث- على الصعيد التقني والاقتصادي والسياسي بصفة خاصة. فبالأحرى عصر ما بعد-الحداثة!
نظرا لقوة مؤسساته –فوق- الأدبية وتماسكها، والتي يمكن التمثيل لها بالزاوية، والفقيه،
والمخزن، وباقي المؤسسات الأخرى ما قبل-الرأسمالية، إن لم نقل ما قبل-العلمية، كالقبيلة
والعشيرة وما يرتبط بهما من مختلف الأعراف والقيم التي تفرز رؤى للعالم، تكون إما متفتحة
(تقبل الآخر كيفما كان نوعه) وإما متعصبة ومنغلقة من منظور أنثروبولوجي محض، ما دامت
كل "نزعة قومية تعتبر، على مستوى الميتافيزيقا، نزعة أنثروبولوجية"، بحد
تعبير هيدجر فيلسوف غربة الوجود.
4 – إننا في المقابل نسعى
إلى دراسة كيفية تفاعل Interaction التلقي مع طيمة "الحداثة" على صعيد الإبداع الروائي المغربي بصفة
خاصة، مع اعتماد مبدأ مناقشة المعطيات، وعدم التسليم بمفهوم واحد للحداثة بشكل خاص،
حتى في المجال الذي يهمنا هنا، استنادا إلى كل من التلقي والحداثة. لأننا لو اعتمدنا،
مثلا، الحداثة كما تبلورت لدى "دائرة الشعراء الملعونين": بودلير
(1)، رامبو، نرفال.. لنفينا
في الأصل الحداثة عن الرواية العربية ككل، فبالأحرى عن المغربية الحديثة العهد نسبيا.
وذلك بناء على خصوصية المجتمعات العربية معقل "الطابوهات" بشتى أنواعها بامتياز.
ولعل القارئ العربي يعرف جيدا مآل هذا النوع من الإبداع "الحداثي": إصدار
فتوى الحكم بالإعدام على سلمان رشدي، وما أثير مؤخرا حول رواية وليمة لأعشاب البحر،
وقبلها رواية أنا أحيا، والخبز الحافي التي لم تحصل على شرعية "مؤسساتية"
في المغرب إلا في أواخر العقد التاسع. ومع هذا كله، فنحن نقر مسبقا بأن الحداثة في
الشعر ليست هي نفسها في الرواية.
علاوة على أن وجود رأي
–أو آراء- يذهب إلى نفي حداثة الرواية المغربية أو إثباتها، بدعوى قلة في تراكم تجربتها
الجمالية، وقصر عمرها الزمني، ويقظة وعي مبالغ فيها لأفق توقع بعض القراء والكتاب
(ناهيك عن رأي ينفي نمط وجودها، كان سائدا إلى حدود العقد الثامن بصفة خاصة بناء على
فرادة وعي أفق توقع هذا النوع من القراء)، زاد من تشبثنا في تبني مبدأ المناقشة أساسا
للتحليل.
5 – في هذا السياق نفسه،
فإننا نشير إلى أننا نحتفظ بموقفنا الخاص، وفق أفق توقعنا الخاص، بصدد "حداثة"
الرواية المغربية أو لا-حداثتها (ليس بالمعنى الزمني). لأننا لسنا ملزمين بالإدلاء
بذلك من جهة، ولإيماننا بنسبية هذين المعطيين من جهة أخرى. لهذا، فنحن نؤكد، فضلا عن
كل ما تقدم أيضا، على أننا لا نتوخى من هذه المحاولة عامة إثبات "الحداثة"
أو نفيها بشكل مجرد. سواء من منظور التلقي مجردا بدوره، أو بوصفه إجراء، أو من منظور
غيره رغم إيهامنا بذلك. ونكتفي، عوض ذلك، بدراسة المعطيات كما هي باعتماد "أسلوب
سجالي" بين الفينة والأخرى، نعترف مسبقا بأنه غير موجه لأي جهة معينة إلا من باب
نواياه الإيجابية والمعرفية، وفاء منا لمبدأ المناقشة أعلاه. لذلك فإن وضعنا لمفهوم
الحداثة بين مزدوجتين، لا يعني مثلا أننا ننفيها عن الرواية، أو العكس، بقدر ما يعني
ببساطة أننا نعبر فقط عن إيماننا أعلاه. تماما مثلما نعبر عن نسبية هذه الدراسة ذاتها.
وكما وردت –أي المعطيات-
لدى القراء المغاربة الذين لا نشترك معهم إلا في الانتماء إلى نفس الوضع الاعتباري
كقراء. مع احترام خصوصية كل نوع من القراء بطبيعة الحال، ووضعيته في حقل تلقي الرواية
المغربية ككل. فالقارئ، كما هو معلوم، أنواع متعددة. لكن أفضلها في اعتقادنا، هي أن
يكون مجرد "قارئ كسول" "يشتغل" على نمط اشتغال نص أمبرطو إيكو
الكسول. وليس على نمط وصف خالدة سعيد للقارئ العربي(2).
1 – بصدد أفق توقع الرواية
"الحداثية":
1-1-نماذج من روايات العقد
السابع والثامن:
في الوقت الذي كان فيه
"الجمهور المغربي الواسع"(3) Grand public يعيش بالكاد مرحلة "الدهشة الجمالية" في
مجال تلقي الرواية والاستئناس بها بوصفها "جنسا أدبيا مستوردا ببنيته وأنماطه"
وبوصفها "تعبيرا عن نثرية العلائق الاجتماعية في مجتمع غابت عنه الآلهة"
بتحديد جورج لوكاش، زهرت بشكل فجائي وسابق لأوانه المحاولات الروائية الأولى في إطار
ما يعرف بـ"التجريب" الذي شكل –ولا زال يشكل- بالنسبة لعدد كبير من قراء
الرواية المغربية، خاصة قراء العشرية التاسعة، مصدر إغواء في ربط بعض نماذجها مباشرة
بإحدى "خانات" الحداثة. ولم يكن ذلك الظهور الفجائي، فيما يبدو، إلا استجابة
لواقع معيش عرفه المغرب خلال العشرية السابعة، تميز بالنزوع نحو الرفض –المصاحب بنوع
من القلق Angoisse- الذي لم يكن إلا نتيجة من نتائج خيبات متتالية تعود أصولها السوسيو-سياسية
إلى مرحلة ما قبل-العقد الستيني (صدمة الاستقلال 1956، هزيمة يونيو 1967..). وقد زاد
من حدة هذا الرفض وتفاقمه تصاعد الحركات التحررية في العالم، وتأثير جماعة "tel
quel" على النخبة الطلائعية
في المغرب، فضلا عن تأثير "الرواية الجديدة"(4) التي بلغت أوجها خلال هذه الفترة في فرنسا.
في سياق هذا الأفق، كتب
سعيد علوش (حاجز الثلج، 1974) وأحمد المديني (زمن بين الولادة والحلم، 1976)، ومحمد
عز الدين التازي (أبراج المدينة، 1978). ولعل المظهر الخارجي Habitus لأفق توقع كل كاتب على حدة، يعد المسؤول، بكل تأكيد،
عن اختلاف تصور كل واحد منهم عن "الكتابة" الروائية وقتئذ.
لهذا، نسجل بدءا أن موقف
الكتاب الثلاثة من محاولاتهم هذه، لا يبتعد عن فهم أولي لمبدإ التجريب (علوش والتازي)،
ومبدأ "البحث المضني" عن أشكال روائية غير مألوفة لدى الذائقة المغربية في
مجال تلقي الرواية. وذلك بالميل نحو تدمير جميع ثوابت الشكل الروائي التقليدي(5)
وغير التقليدي (المديني ومشروعه الروائي عامة)، إلى درجة يمكننا معها القول على أعقاب
رأي أحد القراء الفرنسيين في روايات روب غرييه: إن أي قارئ ربحه روب غرييه "يعتبر
بمثابة قارئ خسره الأدب الروائي". (وقس على ذلك مع مراعاة للأسبقية واختلافها).
بناء على ذلك، فإن مضامين
وعي أفق توقع المحاولات الثلاث تجعل من "الحداثة" مرادفة للتجريب ومرادفة
للبحث عن اللامألوف.
والتجريب في أبسط تعاريفه
لدى المغاربة كتابا وقراء ذوي نفس الأوفاق بطبيعة الحال، يعد إجراء ملازما لديهم لمبادئ:
الخلخلة، أو "التشويش"، والتجاوز، والمغايرة والاختلاف، والأفق المفتوح دوما
على الأسئلة، والانطواء على الذات: سردية كانت أم غير ذلك، سوية أم مرضية.. أو بعبارة
أخرى، فالتجريب يعد إجراء ملازما للحداثة ذاتها، وفق رغبة أفهام المغاربة، كي لا نقول
هو الحداثة ذاتها على أعقاب قراء العشرية التاسعة، كما سوف نرى.
إن هذه المحاولات الثلاث،
لم تستقبل في حينها كما يجب، بل إن إجماعا برفضها –خاصة زمن بين الولادة والحلم وحاجز
الثلج- قد وقع بنسب متفاوتة، كما سوف نرى ذلك أيضا. وعلى هذا الأساس، فإن التحققات
Concrétisations السلبية لمحاولتي المديني وعلوش خلال العشرية السابعة
هي التي أفضت، فيما نعتقد، إلى تلقيات إيجابية لدى كتاب الموجة الثانية من الرواية
التجريبية خلال العشرية الثامنة(6) التي لم
تقم إلا بتعميق الوعي بمبدأ "التجريب" في الرواية المغربية، ومن ثمة، تشريعه
في حقلي إنتاج الرواية وتلقيها.
في هذا الأفق كتب الميلودي
شغموم (الأبله والمنسية وياسمين، 1982)، و(عين الفرس، 1988)، وأحمد المديني (وردة للوقت
المغربي، 1983)، ومحمد عز الدين التازي (رحيل البحر، 1983)، و(المباءة، 1988)، ومحمد
برادة (لعبة النسيان، 1987)، ومحمد الشركي (العشاء السفلي، 1987)، ومحمد الهرادي (أحلام
بقرة، 1988)، وآخرون كثر…
وكان من أبرز سمات هذا الأفق
النزوع نحو تغليب الثقافي-الأدبي على السياسي الذي بدأت "سلطته" تضعف بالتدريج،
ثم النزوع نحوتكريس الذوق الجمالي على المستوى الشكلي بصفة خاصة، بعدما كان المضمون
يشكل مصدر إغواء بعض القراء المغاربة في فترات سابقة.
2 – بصدد أفق توقع قراءة
الرواية "الحداثية":
2-1-نماذج من قراء العقد
السابع: (القراء الأول)
يذهب القارئ نجيب العوفي،
وأحمد لحلو، وإدريس الناقوري –لاحقا-(7) إلى رفض رواية زمن.. مباشرة. ولم يكن ذلك الرفض،
في اعتقادنا، إلا انطلاقا من انغلاق أفق توقعهم في حدود فهم معين لـ"الواقعية"
ولمبدأ "الالتزام" الملازم لها في العالم العربي عامة. لذلك، نرى بأن أفق
الأسئلة الخاص برواية زمن.. يحتاج إلى أفق أسئلة-أجوبة، يتجاوز أفق الواقعية، على الأقل
وفق فهم هؤلاء القراء لها ولسؤاليها "الالتزام" و"الانعكاس" خلال
العشرية السابعة. "فالإيديولوجية لا تعدو كونها بعدا من بين عدة أبعاد أخرى في
إنتاج الرواية وتلقيها. وهو الأمر الذي لم يتحقق في صفوف هؤلاء القراء، فبالأحرى، في
صفوف أولئك القراء الأول الآخرين كعبد الله كنون، وعبد الكريم غلاب، وعبد الجبار السحيمي..
كانوا قد اعتادوا على تلقي الرواية العربية التقليدية وغيرها(8)، والاستئناس بالمغربية الوليدة، لكن اعتمادا على
تحققات "انطباعية-تأثرية" في تفاعلهم مع هذا النوع من الرواية الذي لما يتشبع
الجمهور المغربي بعد في تلقيها!
في مقابل كل هؤلاء القراء،
اتجه قارئ واحد كان بعد دوره معاصرا لظهور زمن.. نحو قبولها. وذلك باسم قبوله مبدأ
"فوضى الكتابة".
إن دراسة وضع هذا القارئ
في حقل تلقي الرواية المغربية خلال السبعينات كفيلة فيما نعتقد بتسويغ تطابق أفقه مع
أفق رواية المديني الأولى.
فإذا كان القارئ إبراهيم
الخطيب قد اعتمد الواقعية بدوره في تفاعله مع الرواية المغربية بفهم مخالف لفهم بعض
زملائه (الناقوري، العوفي، الشاوي..) استمد بعض أطروحاته من القارئ عبد الكبير الخطيبي،
فإن ظهور زمن.. في حد ذاته وتفاعله الآني معها، قد فتحا في وجهه أفقا طالما انتظره
لتجاوز هذه الواقعية ذاتها. يتضح هذا المعطى في استعداد أفقه الذي كان قلقا ومضطربا
بين أن يذهب مع الشرق العربي أو مع "الآخر" الأوروبي. ففضل الذهاب بعيدا
شأنه في ذلك شأن أفق رواية المديني ذاتها.
ولعل مبادرته إلى تقديم
"نقد ذاتي" لمرحلة قرائية –هي مرحلة الواقعية لديه- وتحوله إلى "البنيوية"
ليجسد أولى تحققاتها في المغرب خلال نفس العشرية، كانا خير تعبيرين عن أفق كان بالفعل
يبحث عن شيء ما، كي لا نقول عن انسجام ما! "أليست تلك وضعية كل "كتابة جديدة"؟
2-2-نماذج من قراء العقد
الثامن: (اللاحقون).
نميز بدءا، في إطار قراء
العقد الثامن، بين نوعين من القراء: النوع الأول هو اللاحق للقراء الأول –قراء العقد
السابع- الذين تلقوا بالسلب أو بالإيجاب روايات الموجة الأولى من الرواية التجريبية
"الحداثية". والنوع الثاني هو المعاصر لظهور روايات الموجة الثانية من نفس
الرواية. بصيغة أخرى، فإننا هنا بإزاء قراءات حدثت تزامنيا وتعاقبيا لروايات الموجتين
كليهما، رغم اعترافنا –هنا- بواحدة من بين العيوب الموضوعية -المؤقتة- للرواية المغربية
والمتجلية في قصر عمرها الزمني كي تكون متنا للدراسة من منظور التلقي الذي يعتمد الإجراءين
التزامني والتعاقبي على فترات تاريخية متباعدة جدا في تتبعه لمسار قراءة العمل الأدبي.
لذلك فإن إجراء توزيعنا هنا للقراء المغاربة يهم الفترة الزمنية الممتدة من 1974 إلى
2000.
لنعد إذن إلى مسار تلقي
رواية المديني. إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها، هي تراجع نسبة تفاعل القراء معها خلال
العشرية الثامنة. سواء لدى اللاحقين أو المعاصرين. في هذا الإطار، سنكتفي بدراسة قارءين
لاحقين تفاعلا مع زمن.. من منظورين مختلفين، والقفز على مجموعة من القراء المعاصرين:
عبد الحميد عقار، حسن بحراوي، سعيد يقطين.. تفاعلوا مع روايات الموجة الثانية بصفة
خاصة (عين الفرس، رحيل البحر، المباءة، وردة للوقت المغربي، أحلام بقرة..) من منظورات
قرائية لا تحيد عامة عن المقاربات الشكلية-البنيوية بمختلف تلاوينها، بفعل إرغامات
إجرائية تعود للتلقي نفسه. لأجل المرور مباشرة إلى العقد التاسع حيث تجلت الحداثة باعتبارها
إحدى أهم العناوين الملازمة لقراءة الرواية المغربية، وأوفاقها لدى جميع القراء تقريبا.
يندرج القارئ بنعيسى بوحمالة
في إطار شعار لا نشك في أن المديني يعتبر واحدا من الروائيين الذين يرفعونه، هو:
"يكفيني قارئ واحد". لماذا؟ لأن تطابق أفقه مع أفق الرواية زمن..، يجد مسوغه
في تداعي قراءته بدورها رغم انبنائها على إجراء "القيمة المهيمنة" لدى ياكبسون،
وإجراءي "التقطع" و"التدمير" أو الحجز، وهما في اعتقادنا ما يعطي
لقراءة بوحمالة صفة القراءة المتداعية التي لم تكن، فضلا عن ذلك، مهووسة بالبحث عن
معنى أو معاني الرواية. عكس القراء الآخرين الذين ارتبط رفضهم للرواية بغياب المعنى
فيها، وذلك لانشغال أفقهم دوما بالبحث عن معان لروايات "إيديولوجيا الامتلاء"
في أقصى أوصاف روب غرييه بلاغة للرواية الكلاسيكية.
عوض ذلك، فقد انشغل أفق
توقع بوحمالة بـ"تفكيك" شكل الخرق أو "فوضى الكتابة" اللذين أتى
بهما المديني في زمن..، وتبسيطهما بإعادة بنائهما لقارئ آخر مفترض للرواية ولقراءة
بوحمالة كليهما؛ إذا كان هذا القارئ من الراغبين مثلا في التمييز بين ما قامت به قراءة
بوحمالة "المنتجة" وبين ما كان نص زمن.. يعد به.
لقد دأبت "جمالية التلقي"
في صيغتها التأويلية Herméneutique بصفة خاصة، على التمييز بين ثلاثة أزمنة من القراءة.
زمن القراءة الأولى المرادفة للفهم والإدراك الجماليين وزمن القراءة الثانية المرادفة
لزمن التأويل الاستيعادي وأخيرا زمن القراءة الثالثة المرادفة لزمن التطبيق؛ حيث تتم
فيها إعادة البناء التاريخية لتأويلات العمل الأدبي ككل.
وبما أن فهم القارئ حميد
لحميداني وإدراكه الجماليين لرواية زمن..، قد تما خلال العقد السابع –زمن القراءة الأولى-
بالإيجاب لتطابق أفقه مع أفق رواية المغامرة اللغوية كما يسميها، فإنه أعاد تفعيل Réactualiser هذه الرواية خلال العقد الثامن –زمن القراءة الثانية-
لتسويغ قراءته الأولى، لكن استنادا إلى "البنيوية-التكوينية"، أي إلى الواقعية،
على اعتبار أن مبدأ "التناظر البنيوي" الذي قدمه لوسيان غولدمان أدى به إلى
اعتبار "الوسائط" شكلا من أشكال "الانعكاس" الأكثر نقاء
"Plus sophistiquée". لذلك فإن تفعيل القارئ غولدمان للرواية الجديدة مثلا، لم يكن
يهدف إلا إلى إنجاز بحث تناظري بين بنى ذهنية-روائية وبنى اجتماعية وواقعية.
والنتيجة التي توصل إليها
القارئ غولدمان هي أن الرواية الجديدة أكثر واقعية من الرواية الواقعية ذاتها.
وبذلك، فقد تبدى لنا أن
أفق توقع القارئ لحميداني ينسجم وأفق توقع رواية المديني. كما أنهما لا يبتعدان عن
نفس أفق توقع غولدمان والرواية الجديدة. لأن رواية المديني ليست إلا جوابا على إدانة
الواقع الاجتماعي على شكل مقالة انطلاقا من منظور أفق أسئلة لحميداني. ومن ثم، فهي
أكثر واقعية من رواية الدار البيضاء الجديدة (عفوا عزيزي القارئ إن سهونا هنا فنحن
نريد الإحالة إلى رواية القاهرة الجديدة). رغم أن هذا لا يعني أفق توقع الكاتب المديني
في شيء.
2-3-نماذج من قراء العقد
التاسع: (المتأخرون)
رغم حرصنا على تتبع تحققات
نموذج روائي واحد عبر الزمن، هو زمن.. انتبذناه مجرد تمثيلية، فإن اضطراب مسار تلقيه
الذي تبدى لنا أنه غير خاضع لمنطق تسلسلي ومستمر على مدى عشريات ثلاث، وفق ما توفر
لدينا من وثائق، جعلنا نتورط في تحليل بعض الخطوط العامة لتلقي المشروع الروائي للمديني
وكيفية تفعيله من قبل القراء وتحققاتهم بالدرجة الأولى. بناء على رغبة صاحب المشروع
نفسه نتبع مسار واحد في الكتابة الروائية لا يختلف إيقاعه تقريبا من رواية إلى أخرى،
رغم اختلاف أسئلة-أجوبة كل رواية.
في هذا السياق نفسه، نشير
إلى أن لمشروع المديني الروائي قراء خلصا من المشرق العربي "الهنا الثاني.. أو..
نصفنا الثاني" بتحديد المديني نفسه، تعذر علينا إدراجهم هنا بفعل إكراهات ضيق
المجال، مثل "محمد عزام، 1990" و"سمير أبو حمدان، 1990" و"محسن
جاسم الموسوي، 1999".. بينما دأب القراء المتأخرون المغاربة على إعادة إحياء المحاولات
الأولى لكل من المديني والتازي، وإعادة الاعتبار إليها بوضعها في سياق قبولها الموضوعي،
وهذه واحدة من بين انتصارات التلقي.
يقول أحد القراء المتأخرين:
"فحينما أخرج المديني والتازي أعمالهما الأولى كانت الأغلبية تصادر هذا الطموح
وتتصور أنه سيصير إلى متناه آجلا أم عاجلا، وكأن "التشويش" الذي خلقه هؤلاء
كان مجرد "نعرة" لن تفضي إلى سبيل. حقا لقد كانت نصوص هؤلاء "مؤذية"،
ومؤذية بخاصة بالنسبة للمقاربات النقدية التي كانت لها إلى حدود منتصف السبعينيات سلطة
ضاغطة" [ عثماني الميلود، 1996: 13].
وفي الواقع، فقد اتضح لنا
أن الروائي أحمد المديني لم يكن مع ذلك في حاجة إلى أن ينتظر حلول العقد التاسع كي
يعترف له بـ"حداثية" لا-روايته أو تجريبيتها، استنادا إلى تصريحات المديني
وحواراته ومقالاته التي أبدى فيها تشبثا، حد الهوس، بنوع من الكتابة يريدها تعبيرا
عن "فرادة" مظهره الخارجي. فالكاتب في أسوء الأحوال الروائية يعتبر أحسن
قارئ لعمله. ألم يسم المديني نفسه رواية زمن.. رواية شاذة؟ [المديني، حوار، بول شاوول،
1979: 77].
إن انعطاف الرواية
"الحداثية" في المغرب خلال العقد التاسع نحو اعتناق الحداثة وأسئلتها، كما
يرغب أفق توقع القراء المتأخرين وغيرهم من الأول واللاحقين(9) –رغم تحفظات بعضهم- جاء نتيجة لكون "نصوصها
ذات القدرة التمثيلية من الناحية الأدبية والاستيطيقية ما فتئت تبلور وعيا حداثيا شديد
البروز. هذا الوعي يجد سنده القوي في النزوع التجريبي الغالب على العديد من نصوص الرواية
المغربية.." رغم حداثة سنها، فيما يذهب إليه أحد قراء الرواية المغاربية المخبرين.
[ عبد الحميد عقار، نقلا عن، عبد الرحيم العلام، 1999: 117].
لذلك فإن مبدأ التجريب،
في تقديرنا، قد تعاظم بالتدريج في أجل ستة وعشرين سنة أو يزيد، إلى أن ولد الحداثة
بقوة الأشياء ليس عنوانا لأكثر من قراءة فحسب، بل لأكثر من ندوة –من ملف- تمت أطوارها
خلال العقد التاسع، سواء لدى قراء –أعضاء (مختبر السرديات، الدار البيضاء)، أو قراء-
كتاب مجلة (مقدمات، الرواية المغاربية ورهان التجديد، 1998)، أو المركز الجامعي للأبحاث
السردية (فاس). حيث تم تفعيل الرواية المغربية كما لو أنها "أما للحداثة"
أو كما لو أن "الحداثة أما لها"، باسم "السرد" الذي ألف بين عدد
كبير من أوفاق توقع الروايات "الحداثية" أو غيرها، مع اختلاف أوفاقها حتى
على صعيد أفق لغة الرواية، حيث تم تفعيل الرواية المغربية المكتوبة بالعربية إلى جانب
زميلتها المكتوبة بالفرنسية ندا للند تقريبا، من قبل بعض القراء المتأخرين الذين لا
يعتبرون في هذا الإطار سوى مجرد امتداد لقراء أول، عرفوا في حقل التلقي بتفعيلهم للروايتين
معا على فترات مختلفة منذ العقد الخامس إلى الآن: عبد الله العروي، محمد برادة، رشيد
بنحدو، عبد الرحمان طنكول..
والنتيجة، هي اختزال مضامين
وعي أفق توقع معظم القراء المتأخرين الحداثة في التجريب والتجريب في الحداثة، في إطار
تفاعل أوفاق متطابقة ومتراضية بعضها عن بعض مما سبب في غياب رواية قد تستطيع أن تغير
هذه الأوفاق كلها. بناء على أن معيار "التغير" في أدبيات التلقي يعد مرادفا
لأصالة العمل الأدبي وجماليته.
3 – محاولة تفكيك ما تم
إعادة بنائه:
3-1-لقد حرصنا على أن نعتبر
التلقي، كما الحداثة، مفهوما مجردا. لكن ذلك لم يحل دون ميلنا إلى اعتماد بعده الإجرائي،
رغم ضعفه لدى "جمالية التلقي" بشكل خاص. بحيث أجبرنا هذا البعد في علائقه
بالحداثة وفق سياق هذه الدراسة وإرغاماتها، على عدم تتبع مسار تلقي روايات الموجة الثانية
كما تحقق تزامنيا لدى كل من: عقار، وبحراوي، ويقطين، أو كما تحقق تعاقبيا لدى قراء
آخرين. وذلك لاعتمادهم على تحققات لم تكن منشغلة بالتفاعل مع "حداثة الرواية"
بقدر ما كانت منشغلة بتأويل استعمالات التجريب المتعددة خلال العقد الثامن وتفعيلها.
مع اختلاف فهم كل واحد منهم للتجريب. تماما مثلما أهملنا التحققات الصحفية للرواية
المغربية "الحداثية"، استنادا إلى ارتباطها بمبدأ "Fast
reading" المميز لنوع
من هذه التحققات التي تكتفي فقط بخلق توقعات Attentes راهنة وآنية تبقى في حدود الدهشة الجمالية؛ ما لم
يتم اللجوء إلى تفعيلها في زمن القراءة الثانية والثالثة من طرف القارئ-المتلقي.
لذلك، فإننا نسجل عامة أن
"الحداثة" في مضامين إدراك أفق توقع القراء اللاحقين والمعاصرين، لم تكن
حاضرة في تفاعلهم مع الرواية "الحداثية" استنادا إلى خلو وثائقهم المعتمدة
هنا من أي إحالة إلى أي من التحديدات المعروفة للحداثة (أو للحداثة بحصر المعنى). اللهم
إلا إذا اعتبرنا تحققات عقار، وبحراوي، ويقطين، وكذا تحققي بوحمالة والحمداني، المستوحاة
كلها من الغرب في إطار المثاقفة غير المعوقة، تندرج زمنيا في سياق "حداثة الغرب"
و"ما بعد-حداثته" بناء على أن التحول من البنيوية، خلال أواخر العقد السادس
بفرنسا، إلى ما بعد-البنيوية: السيميائيات، والشعرية، والتفكيكية، والتلقي.. يوازيه
تحول من الحداثة إلى ما بعد-الحداثة، رغم إقرارنا على أعقاب المؤرخين الغربيين أنفسهم
بصعوبة تحديد هذا التحول.
كما أجبرنا البعد الإجرائي
كذلك، حتى في حال روايات الموجة الأولى، على افتراض أن لها تحققات في إطار البنية الثلاثية
لزمن القراءة، انطلاقا من العقد السابع (زمن القراءة المرادفة للرفض عامة) مرورا بالعقد
الثامن (زمن القراءة المرادفة للقبول المسوغ) وصولا إلى التاسع (زمن القراءة المرادفة
للوضع في سياق القبول الموضوعي)، وذلك على الرغم من اعترافنا باضطراب مسار تلقيها خاصة
في حال تلقي بعض نماذج المشروع الروائي للمديني. الشيء الذي جعلنا نعيد بناء أفق توقع
بعض القراء: العوفي ولحلو والناقوري من جهة. والخطيب وبوحمالة ولحميداني من جهة أخرى
بشكل نسقي. واتضح فيه رفض زمن.. بوعي واقعي تارة وقبولها بوعي تجريبي تارة أخرى، أي
دون الحداثي. هذا في الوقت الذي اكتفينا فيه بإعادة بناء عامة وضمنية لأوفاق توقع القراء
المتأخرين الذين ارتبط لديهم التجريب بالحداثة. وذلك لتعددهم و"تمأسسهم من ناحية،
واستحواذ روايات أخرى، سواء للمديني أو غيره، بنصيب أكبر من التلقيات لديهم كـ"الضوء
الهارب" مثلا، من ناحية ثانية.
وفي هذا الإطار، فإن ظهور
"المتلقي المؤسسة" خلال العقد التاسع في مجال تفعيل الرواية المغربية يحتاج
في اعتقادنا لمقاربات من منظور "سوسيولوجيا القراءة"، ليس في صيغتها التجريبية
لدى مدرسة بوردو (إسكاربيت)، بل في صيغتها لدى بورديو خاصة في التحليل بمبادئ
"الحقل الأدبي". ذلك لأن صراع التأويلات داخل حقل للتلقي وإلغاء قراءة لأخرى،
قد يجدان مشروعيتهما في بنية هذا الحقل ومنطقه.
3-2-لقد حاولنا أيضا تجاوز
تحديد المفاهيم: الحداثة، والتلقي، وأفق التوقع، والتفاعل، والتفعيل، والتحقق، وإجراء
البنية الثلاثية للقراءة.. لا لشيء إلا لاختيارنا التعامل مع المعطيات في أرقى مستوياتها
التي تفترض لدى القارئ معرفة بدهية بكل أطراف الظاهرة التواصلية-الأدبية مجسدة هنا
في الرواية وقارئها، كيفما كان نوعه ضمنيا أو فعليا من دم ولحم، وما يشكل نقطة تفاعلهما
بتحديد آيزر لهذا المفهوم، سواء على صعيد معرفتهما –الرواية والقارئ- بالقضايا التجنيسية
(ما يهم تفرعات جنس الرواية من داخله)، والشكلية، والطيمية، والجمالية، والتخييلية،
بما في ذلك الموقع الافتراضي الذي من المحتمل أن تشغله طيمة "الحداثة" وأسئلتها
ضمن هذا التواصل والتفاعل اللذين لا تشكل ضمنهما، في خاتمة المطاف، إلا موضوعا من بين
عدة مواضيع أخرى تختزنها "القدرة التناصية" للرواية وللقارئ كما يفترض أن
يمتلكاها. ألسنا نعيش عصر انتصار القراء بمختلف أنواعهم؟
وانطلاقا من هذا المنظور،
فقد تعمدنا عدم حصر أنفسنا بأي من الحمولات النظرية لهذه المفاهيم واكتفينا مقابل ذلك
على اعتماد مبدئي المرونة والتجريد، والميل نحو توظيف البعد الإجرائي Procéduralle لهذه المفاهيم عامة عدا مفهوم الحداثة.
3-3-إن وضع القارئ في ظرف
زمني محدد ومظهره الخارجي، هما المسؤولان عن طبيعة تفاعله مع الرواية "الحداثية"
بالرفض أو القبول. وبناء على بقايا مخلفات التخلف المضاعف بتحديد العروي حتى على صعيد
الأدب، فإن أغلب قراء العقد السابع (الأول) لم يستطيعوا تفهم زمن.. وقبولها، لأن دهشتهم
الجمالية أمام نوع من الرواية الواقعية لم تستطع بعد المرور إلى مرحلة التأويل الاستيعادي،
فبالأحرى مرحلة التطبيق كي يمكنها أن تتفاعل مع نوع روائي جديد. والمطلوب خلال فترة
السبعينيات، رغم أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، أن يراهن الكتاب على محاولة تدمير
أفق توقع القراء، وتغييره من داخل سجل الرواية الواقعية ذاتها، نظير ما فعله أحد الكتاب
خلال العقد التاسع في مجال الرواية التاريخية، بحيث استطاعت رواية جارات أبي موسى مثلا
أن تغير أفق توقع القارئ المغربي الذي لم يكن معتادا –بل نسي- على تلقي الرواية التاريخية،
نحو البحث بشغف عن مثل هذه الرواية. وهذه أيضا واحدة من بين انتصارات التلقي. فلقراءة
رسالة الغفران للمعري، كي لا نقول الكوميديا الإلهية لدانته، فليس ضروريا أن يعيش القارئ
تجربة في الآخرة، أو في..
بينما تفهمها قراء العقد
الثامن بوعي أدبي حاد، أملته شروط تغليب الثقافي-الأدبي على السياسي. مع العلم أننا
نؤمن أن العقد بوصفه معيارا زمنيا، لا يعتبر كافيا لضبط مثل انفصال هذه العلائق بالتدقيق،
خاصة في حالة كحالة المغرب. ليرتبط تفهمها أخيرا –أي زمن..- لدى قراء العقد التاسع
المتأخرين بمبدأ إعادة البناء، سواء من منظور الحداثة أو التحديث أو التلقي.
3-4-إن استحواذ الحداثة
أساسا لتفاعل القراء مع الرواية المغربية وتفعيلها خلال العقد التاسع، لم يثر مع ذلك
أي ردود فعل من طرف "القراء المؤسسين" (عبد الكريم غلاب(10)،
أحمد اليابوري، عبد الله العروي، محمد برادة، حسن المنيعي، محمد السرغيني..) إزاء هذه
القضية. باستثناء القارئ-الكاتب محمد برادة الذي اعتمد، بشكل أو بآخر، أسلوب التوصية
في توجيه تفعيل الرواية تفعيلا يحفظ لها وضعها المتوازن في المغرب، والعالم العربي،
ثم العالم ككل. كي لا تتيه –ربما- وسط تهويمات الحداثة ذاتها. لذلك فهو يفضل التحديث
كما يفهمه عن الحداثة، ويميزه عنها.
3-5-لاحظنا ارتباط
"الحداثة" لدى أفهام أغلب قراء العشرية التاسعة بالتجريب. وقد استغربنا لعدم
تطرق أي أحد منهم، وفق ما توفر لدينا هنا من وثائق، لمفهوم "الحساسية الجديدة"
مثلا، كما نحته (إدوار الخراط 1984) نقلا عن أحد الأنجلوساكسونيين، رغم أنه يبدو كشكل
من أشكال التجريب والحداثة كليهما وفق رغبة هؤلاء القراء. يقول الخراط: "الكتابة
الإبداعية، لسبب أو لآخر، قد أصبحت اختراقا لا تقليدا، واستشكالا لا مطابقة، وإثارة
للسؤال لا تقديما للأجوبة، ومهاجمة للمجهول لا رضى عن الذات بالعرفان"، ألأن المغرب
قد أصبح بالفعل "أفقا للحداثة" كي لا نقول أفقا للتفكير بتعبير الخطيبي،
منذ أن بدأ خلال العقد السابع يبتعد عن سحر الشرق؟
4-ختاما، فإن الكاتب بوصفه
مثقفا قد يحمل رؤية للعالم تكون حداثية Moderniste أكثر –ربما- من حداثية بودلير، والقارئ أيضا بنفس
الوضع الاعتباري قد يحمل نفس الرؤية. لكن انتماءهما إلى مجتمع غير حداثي قد ينفي عنهما
هذه الرؤية. إن لم يكن على صعيد الإبداع، فعلى صعيد "إيطيكي" Ethique على الأقل.
لذلك، فالكاتب مهما أبدع
الرواية فهو لا يسعى إلا للتعبير دوما عن اغتراب Aliénation هذا العالم وغربته. بينما القارئ يقرأ دوما لقهر
هذا الاغتراب في الرواية والعالم كليهما. فهل من مزيد؟
النصوص الغائبة في متن هذه الدراسة:
1) النصوص العربية والمترجمة:
1 – الرواية المغربية، عبد الكبير الخطيبي، المركز
الجامعي للبحث العلمي، عدد 2، الرباط، 1971، ترجمة محمد برادة.
2 – (الرواية المغربية المكتوبة بالعربية، الرغبة
والتاريخ)، إبراهيم الخطيب، أقلام، عدد 9، 1977 (تاريخ كتابة المقال هو يونيو
197).
3 – (زمن..، المغامرة اللغوية والبناء الروائي)،
حميد لحمداني، أقلام، عدد 7، 1977.
4 – (تركة الماضي وشرعية التساؤل)، إبراهيم الخطيب،
الثقافة الجديدة، عدد 9، السنة 3، شتاء 1978.
5 – ("زمن.." وانعكاسات الوعي الشقي)،
أحمد لحلو، أقلام، عدد 1، فبراير 1978.
6 – علامات من الثقافة المغربية الحديثة، بول شاوول،
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1979.
7 – درجة الوعي في الكتابة، نجيب العوفي، دار النشر
المغربية، البيضاء، 1980.
8 – الرواية العربية، واقع وآفاق، جماعة من القراء،
دار ابن رشد، ط1، 1981. (مع مراعاة تاريخ وقائع الندوة).
9 – (سطوة اللغة وشعرنة الخطاب أو ليبرالية الاقتصاد
السردي، مقاربة لرواية "زمن..")، بنعيسى بوحمالة، آفاق، عدد 3-4، دجنبر
1984.
10 – الرواية المغربية، ورؤية الواقع الاجتماعي،
دراسة بنيوية-تكوينية، حميد لحمداني، دار الثقافة، ط1، البيضاء، 1985.
11 – دراسات مغربية، عبد السلام بنعبد العالي، (ومن
معه)، المركز الثقافي العربي، ط1، البيضاء، 1985.
12 – القراءة والتجربة، حول التجريب في الخطاب الروائي
الجديد بالمغرب، سعيد يقطين، سلسلة الدراسات النقدية رقم 4، دار الثقافة، ط1، البيضاء،
1985.
13 – الرواية والواقع، جماعة من القراء والكتاب،
منشورات عيون، ط1، البيضاء، 1988، ترجمة رشيد بنحدو.
14 – ("عين الفرس"، قراءة الواقع بالخرافة)،
حسن بحراوي، آفاق، عدد 1، 1989.
15 – ("المباءة"، رواية فضاء)، سعيد يقطين،
آفاق، عدد1، 1989.
16 – ("عين الفرس"، الشكل والدلالة)، عبد
الحميد عقار، آفاق، عدد 2، صيف 1989.
17 – (مأوى التراث الظليل)، عبد الفتاح كيليطو، حوار،
آفاق، عدد 2، صيف 1989.
18 – وعي العالم الروائي، دراسات في الرواية المغربية،
محمد عزام، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 1990.
19 – النص المرصود، سمير أبو حمدان، المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 1990.
20 – الرواية المغربية، أسئلة الحداثة، جماعة من
القراء، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، 1996 (ندوة مختبر السرديات 1995).
21 – المغرب: الإسلام والحداثة(1)، الكاتب المخزني،
عبد السلام حيمر، مطبعة سندي، مكناس، ط1، 1997.
22 – (تمثلات الحداثة في الرواية المغربية)، ندوة
مجلة الآداب، عدد 5-6، مايو-يونيه، السنة 45، 1997.
23 – (الرواية العربية: إشكالات التخلق ورهانات التحول)،
ندوة مجلة الآداب، عدد 7-8، يوليوز، غشت، السنة 45، 1997.
24 – (السرد الواقعي ومشروع التحديث في أدب المغرب)،
أحمد المديني، فكر ونقد، عدد2، السنة 1، 1997.
25 – (الرواية المغاربية ورهان التجديد)، مقدمات،
عدد مزدوج 13-14، صيف-خريف، 1998.
26 – انفراط العقد المقدس، منعطفات الرواية العربية
بعد محفوظ، محسن جاسم الموسوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999.
27 – (الرواية المغربية:
بين الإنتاج النصي والتلقي النقدي)، ندوة غير مطبوعة من تنظيم المركز الجامعي للأبحاث
السردية (فاس)، بمساهمة اتحاد كتاب المغرب (فرع أكادير) ومجموعة البحث الأكاديمي في
الأدب الشخصي (أكادير)، يومي 28-29 أكتوبر 1999.
28 – سؤال الحداثة في الرواية المغربية، عبد الرحيم
العلام، منشورات أفريقيا الشرق، البيضاء، 1999.
2) النصوص الأجنبية:
29 – Pour un nouveau roman, Alain
Robbe – Grillet, 1963, Eds. Minuit, Paris.
30 – Sociologie
de la littérature, Robert Escarpit,
1978, Ed. P.U.F., Paris, (1958 pour la première édition).
31 – Pour
une esthétique de la réception, H.R. Jauss, 1978, trad. Fr., Ed. Gallimard,
Paris.
32 – Questions
de sociologie, Pierre Bourdieu, 1984, Eds. Minuit, Paris.
33 – Lector
in fabula. Le rôle du lecteur ou la coopération interprétative dans les textes
narratifs, Umberto Eco, 1985, Trad. Fr., Ed. Grasset, Paris.
34 – Acte
de lecture, théorie de l’effet esthétique, W.Iser, 1985, trad. Fr, Ed.
P.Mardaga, Bruwelles.
35 – Manuel
de sociocritique, P.Vaclav Zima, 1985, Ed. Picard, Paris.
36 – Pour
une herméneutique littéraire, H.R.Jauss, 1988, Trad. Fr, Ed. Gallimard, Paris.
37 – Les
règles de l’art, Pierre Bourdieu, 1992, Eds, Seuil, Paris.
38 – Approches
de la réception, Georges Molinié & Alain Viala, 1993, Eds, P.U.F, Paris.
(1) من المعلوم
أن بودلير (1821-1867) بصفة خاصة، تجرأ في أشعاره على ضرب جميع المطلقات Les
absolues، بما في ذلك قدسية اللغة وقدسية
أشياء أخرى لا يسمح المجال ذكرها هنا. حيث جاء معجمه الشعري مشحونا بمفردات نتنة و"ساقطة"
إلى الحد الذي جعل قراءه –وهم كثر جدا- يعتبرونه "أبا للحداثة" كما جعلهم
يستطيعون الحديث عن "جمالية القبح" L’esthétique
de la laideur في أشعاره.
(2) تقول خالدة
سعيد: "القارئ كسول. أعني القارئ العربي خاصة كسول، ينام على حرير الأمجاد والكشوف
الماضية يرفع شعار "القناعة كنز". واستراح عن طلب المغامرة في المجهول والمصيري،
ترعبه فكرة العودة إلى البدء، إلى البراءة. "بينما نص إيكو على أن الكسول"
ينام "على فائض إنتاج المعنى بفضل مبدأ "التعاون التأويلي" الذي يقوم
عليه التفاعل بين الكاتب والقارئ باعتبارهما استراتيجيتين نصيتين. وللإشارة فقط، فإن
القارئ النموذج، وفق تصور إيكو له، لا يوجد في الواقع، إن لم يكن إيكو نفسه. وهذه واحدة
من بين عيوب التلقي. وقس على ذلك جميع أنواع القراء المعروفين.
(3) نستعمله بنفس
تحديد روبر إسكاربيت له. لكن مجازيا في حالة المغرب للإحالة إلى القراء-النقاد على
كثرتهم! لأن الرواية المغربية منذ 1942 إلى الآن، لم تستطع أن تخلق هذا النوع من الجمهور
في مجتمع يبلغ حجم الأمية فيه 65%. فوجب التذكير.
(4) لو سلمنا أن
الحداثة "برأسها وبرجليها" قد وجدت موطنها الأصلي في فرنسا، فمن المفارقات
الغربية جدا، ألا يسمى نوع من الرواية ظهر في العقد الخمسيني "رواية حداثية".
وسمي بدل ذلك "رواية جديدة" و"رواية جديدة جديدة" بتحديد أحد أبرز
قرائها المخبرين Informés جان ريكاردو. ولعل يقظة وعي منظمي ندوة "الرواية الجديدة في المغرب"
خلال أوائل العقد الثامن، قد تفطن إلى هذا النوع من التمايز بين الحداثة والجديدة.
فاكتفوا بـ"الجديدة" لتعيين التغيرات التي لحقت الإشكاليات المطروحة على
المجتمعات العربية.. وما كان لها من ظلال وتحويرات في مضامين وأشكال الرواية، في شخص
القارئ محمد برادة.
(5) لو سلمنا أيضا،
على أن الحداثة دوما إزاحة لنمط روائي سائد وإحلال نمط آخر، فإن عبد الكريم غلاب مثلا،
حين أحل الرواية التقليدية محل القصص التاريخية لعبد العزيز بنعبد الله، فقد كتب رواية
"حداثية". وهو نفس ما ذهب إليه روب غرييه تقريبا حين كان يدافع عن الرواية
الجديدة. يقول: "فمنذ أن وجدت الرواية، فهي دوما جديدة. لهذا، فقد كتب فلوبير
الرواية الجديدة لـ1860، وبروست الرواية الجديدة لـ1910. "مثلما كتب روب غرييه
بدوره الرواية الجديدة لـ1967، و Jean d’Ormessonالرواية الجديدة لـ2000. وهذه أيضا من مفارقات الحداثة
حين نعتمد تصورا لا-زمنيا عنها.
(7) أي خلال أوائل
العقد الثامن زمن ظهور دراسته حول "الشكل الفني في الرواية المغربية"، آفاق،
عدد 5، يونيه 1980. حيث عبر عن خيبته من جراء تلقيه روايتي حاجز الثلج وزمن..،
باسم الإحراج الذي نثيرانه لدى القارئ، وسقوط زمن.. خاصة في دوامة التجريب السلبي.
مقابل قبوله مبدئيا رواية أبراج المدينة، لأنها لم تقم في رأيه بتحطيم كل شيء.
ورحم الله قارئا عاش وعرف حق قدره.
(8) نسجل هنا، تفاعل
عبد الكريم غلاب مع رواية موسم الهجرة إلى الشمال وذلك مراعاة للأسبقية التاريخية
للرواية العربية. لكن اعتمادا على تحقق تأثري-انطباعي تجلت فيه علامات التخلف المضاعف
لدى المغاربة على صعيد تلقي الرواية. [ غلاب، مع الأدب والأدباء، 1974]. كما
نسجل أيضا تفاعل عبد الله كنون مع رواية دفنا الماضي [كنون، "خصائص مجتمعنا
العريقة في الحضارة"، ضمن دراسات تحليلية نقدية لرواية "دفنا الماضي"،
مطبعة الرسالة، الرباط، 1980، ص27]. وتفاعل عبد الجبار السحيمي مع أبراج المدينة
[السحيمي، "أبراج المدينة، الحلم فنيا لغياب توازن الواقع"، آفاق،
عدد 4، دجنبر 1979].
(9) عمل أحد القراء
المتأخرين على "توريط" معظم القراء والكتاب الفاعلين في حقلي إنتاج الرواية
وتلقيها، في الإفصاح عن مضامين وعي أفقهم الحداثي وغير الحداثي بصدد "الحداثة"
في الرواية وأسئلتها. فوجبت العودة إلى صنيعه [ عبد الرحيم العلام، 1999].
(10) يعتبر القارئ
عبد الكريم غلاب أحد أبرز قراء الرواية منذ العقد الرابع، هو وبعض مجايليه: أحمد بناني،
عبد الرحمان الفاسي، عبد الله إبراهيم.. غير أن وفاءه لمبادئ حزب يعتبره قدره منذ أن
بدأ كتابة الرواية، حال ربما دون تمثله لكثير من القراءات حققها. فقد قرأ الرواية الكلاسيكية
الفرنسية والعربية والمترجمة عن الروسية والوجودية والجديدة.. استنادا إلى حواراته
وكتبه ومقالاته. ومع أنه لم يستفد من كل ذلك من وجهة نظر تناصية، فإن تجربته في كتابة
الرواية المغربية أصبحت بقوة الأشياء من بين أهم التجارب..