ص1     فهرس   51-60

برامج الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي

"مسألة اللاتوازن بين الكم والكيف"

 

جمال هشام

لقد اتضح اليوم أن الحاجة أصبحت ملحة للتفكير في مسألة نظام التعليم والتكوين بالمغرب، سؤالا ونقدا وتقويما وتجاوزا. وهنالك صيغ مختلفة للنظر في هذه المسألة بصرف النظر عن طابعها الرسمي، خاصة إذا تبينا أن هذه المسألة نشأت وتطورت داخل حقل صراعي تفاعلت داخله قوى مختلفة ومتعددة خلال المرحلة الاستعمارية، التي نمت الإحساس بالأنا كمشروع حضاري شامل في علاقته بمحدداته الداخلية، لا كوحدة متجانسة، بل كهوية تحلق فوق أوجه-أرضيات إثنية ولغوية وثقافية يطبعها التناقض والصراع، ثم في علاقته مع الآخر كمشروع حضاري آخر بكل أبعاده وعناصره الحضارية ومكوناته التاريخية، وكمؤسس لنظام مغاير من الدلائل غير في الحقيقة طبيعة الدليل، وبدل الكيفية التي بإمكان الدليل أن يؤول بها[i].


وبعد تلك المرحلة، أي ما يمكن تسميته تجاوزا بمرحلة الاستقلال السياسي، وضمن هذا الحقل الصراعي تعددت مرجعيات مقاربات المسألة التعليمية، وتباينت خلفيات تناولها مؤطرة بأسئلة سياسية تارة، وبأخرى ثقافية تارة أخرى. واختزالا لكل هذه الأسئلة يمكن أن نصوغ سؤالا أساسيا عاما وموجها: ما الذي نريد أن يحققه لنا نظامنا التعليمي داخل كل هذا النسيج المعقد من التفكير والقول والممارسة؟ وكيف؟

وغرضنا من هذا القول ليس هو أن نفحص مختلف مكونات نسيج نظامنا التعليمي، وكل ما حققه من تراكمات خلال صيرورته الطويلة، وإنما نروم النظر إلى جانب محدد داخل هذه المسألة، ويتعلق الأمر بمسار الدرس الفلسفي ومختلف مراحل-محطات صيرورته، كمكون من مكونات نسقنا التعليمي التربوي بصورة عامة، في الثانوية والجامعة. ومن حيث اعتباره جانبا أساسيا من الثقافة الوطنية داخل مجتمعنا بشكل عام.

ومن ثمة فإن النظر إلى الفلسفة، كثقافة وكدرس، لا يمكن أن يكون إذن مجردا على مستوى النظر المحض والتفكير التأملي الصرف. إن هذا النظر لا يمكن العثور عليه إلا من خلال تطور الفكر الفلسفي نفسه، تدريسا وتنظيرا، وتحليل ذلك الإنتاج، اعتبارا أن لكل حقبة على اختلاف ملابساتها التاريخية تصورها الخاص بها للفلسفة، إن على مستوى الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي أو الجامعي أو على مستوى الإنتاج النظري (التأليف)، وهو تصور عادة ما يكون محكوما بطبيعة تلك الظرفية التاريخية التي تمر بها حلقة من حلقات تطوره على خلفية مقومات هذا التطور الحضارية والمادية والفكرية. وكل محاولة للنظر في هذه الإشكالية نظرة سكونية، أو اتخاذ أي موقف لا تاريخي من هذا التطور يضرب صفحا عن حقيقة أساسية، وهي أنه لا بد للفكر والأشكال النظرية المختلفة أن تنشأ وتتطور بتطور المجتمعات ومؤسساتها البشرية عبر التاريخ الحي للإنسان. وفي هذا الإطار، فإنه لا يمكن بأية حال أن ننظر إلى مشكلة فلسفية ما في ذاتها (بالرغم من إمكانية الاستقلال النسبي لهذا النظر عن الشروط المادية-التاريخية..) نظرة معزولة عن التطور الاجتماعي والنشاط العملي للبشر. وعلى هذا الأساس، فإن لكل ممارسة للفلسفة –تدريسا وتنظيرا- بانخراطها في الإطار الواقعي للنشاط الإنساني، إنما تشكل تعبيرا نظريا عن لحظة تاريخية محددة بشروطها ومستويات تفاعلها مع مكونات النسيج المجتمعي ماديا، وتعكس فكريا فعالية الموجود ضمن ظروف حياته الموضوعية.

وتأسيسا على هذا الفهم، بدا لنا أن المسار والتطور التاريخي للممارسة الفلسفية بالمغرب لا زال لم يحصل بعد على نصيبه من الأسئلة والنظر والتفكير، حتى من طرف المشتغلين بهذه الممارسة منذ الاستقلال إلى اليوم، اللهم إذا استثنينا محاولة جادة في هذا الإطار قام بها الأستاذ كمال عبد اللطيف[2] في ثلاثين حلقة بجريدة الاتحاد الاشتراكي، خلال شهر رمضان الماضي؛ وهي فعلا محاولة جادة وهادفة لأنها كشفت في الحقيقة عن لحظات أساسية، من خلال قضايا وإشكاليات وأقطاب، من ذلك المسار…

وإذا كان هذا هكذا فإن مساهمتنا هذه تدخل في إطار الوقوف على أحد مكونات هذا المسار، وخاصة على مستوى التدريس الفلسفي بالتعليم الثانوي، من حيث مختلف ما تضمنته برامج مادة الفلسفة والفكر الإسلامي على مدى أربعة عقود من التاريخ الفعلي لهذه الممارسة، وعيا منا بأن هذا التتبع قادر على أن يكون كمساهمة تكشف لنا الملامح والاتجاهات الرئيسية من حيث مضامين تلك البرامج في صيرورتها التاريخية، ومن حيث أغراضها وأهدافها ومختلف الأسئلة التي يمكن أن تطرح علينا في علاقاتها المتعددة والمختلفة، سواء مع المشتغلين بذلك الدرس، أو مع السلطة، أو مع المؤسسة، أو مع المجتمع ومؤسساته.

وإذا كان هذا المجال لا يتسع ليشمل تفاصيل هذا المشروع والنظر إليه من زوايا متباينة –رغم أنها متكاملة فيما بينها- سوسيولوجيا وسياسيا وإيديولوجيا ومدرسيا، الشيء الذي نطمح إلى الاشتغال عليه وتقديمه في بحث مستقل وقائم بذاته، فإننا –على الأقل- سنقاربه مؤقتا وبشكل مختصر من خلال المحاور التالية:

ـ محور سنعرض خلاله مختلف ما تضمنته برامج مادة الفلسفة والفكر الإسلامي، خلال أربعة عقود من الزمن المدرسي-التربوي بالمغرب-.

ـ محاولة تشخيص عام ومجرد لوضع الثقافة المدرسية الفلسفية بالمغرب، من خلال عرض مختلف القضايا والإشكاليات والمفاهيم والموضوعات التي بلورت تلك الثقافة.

ـ النظر إلى إشكالية اللاتوازن بين الكم والكيف الذي ظل يحكم تلك البرامج والمقررات.

ـ آثار ذلك اللاتوازن على الدرس الفلسفي.

ـ استشراف آفاق وضع الدرس الفلسفي بالمغرب، في ضوء الإصلاحات التعليمية المبرمجة في ميثاق التربية والتكوين.

لنبدأ، إذن بعرض كرونولوجي لبرامج الفلسفة في التعليم الثانوي:

1 – برنامج 1969:

ـ الفلسفة:

*أصناف المعرفة البشرية والنظرة الفلسفية:

+ ما الفلسفة؟

+ أصناف التفكير:      التفكير السحري. التفكير الديني. التفكير العلمي. الإيديولوجيا. التفكير الفلسفي.

+ الاتجاهات الفلسفية: الواقعية الفلسفية. المثالية. المادية الجدلية.

*أسس المعرفة ومناهج العلوم:

+ الأسس العامة للتفكير المنطقي: مبادئ المنطق الصوري. المنطق:طبيعته وتطوره.

+ مناهج العلوم: الرياضيات. لعلوم التجريبية. علوم الأحياء. العلوم الإنسانية.

+ سيكولوجية المعرفة: الإدراك. التذكر والنسيان. الذكاء. التعلم.

+ سوسيولوجية المعرفة: المعرفة والأطر الاجتماعية. الوظيفة الاجتماعية للمعرفة.

+ المشاكل الإبستمولوجية في الفكر المعاصر: الديالكتيك والبنيوية. الديالكتيك بين العلم والفلسفة. التحليل البنيوي والتحليل التاريخي. فلسفة العلوم ووحدة المعرفة.

*السلوك الإنساني:شروطه وفاعليته:

+ الأسس البيولوجية والنفسية للسلوك: الوراثة البشرية. الدوافع.  الانفعال. الصراع النفسي. الإبداع.

+ النظم الاجتماعية والفاعلية الإنسانية: الأسرة. الطبقات الاجتماعية. الدولة. الشغل . التقدم والتخلف. الحرية والالتزام.

ـ الفكر الإسلامي:

*الفكر الإسلامي: نشأته وعوامل تطوره.

*العقيدة والشريعة بين العقل والنقل:

+ العقيدة بين النص والتأويل

+ الشريعة بين التقليد والاجتهاد

*الدين وتنظيم المجتمع.

*بين الأصالة والاقتباس

*عصر الانحطاط

*الفكر الإسلامي الحديث.

وقد تضمن هذا البرنامج كتاب مدرسي من تأليف الأساتذة: محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي ومصطفى العمري.

2 – برنامج 1980:

        *مصادر الفكر الإسلامي ونشأة الفكر الفلسفي في الإسلام

        *المعتزلة والأشاعرة، وإشكالية العقل والنقل في الفكر الفلسفي والصوفي.

*الفكر الإسلامي من النهضة إلى الانحطاط وحركة التجديد والفكر الإسلامي المعاصر.

        *إشكالية الفكر والواقع: المادية والمثالية.

        *إشكالية العلاقة والتغير: الوضعية – الجدلية – البنيوية.

        *مسألة الزمن والتاريخ: الطبيعة والثقافة. العقل والتاريخ. الإيديولوجيا.

        *إشكالية المعرفة:  اللغة كوسيلة أساسية. المعرفة العلمية وتكون مفاهيمها: الرياضيات. العلوم الطبيعية. البيولوجيا.العلوم الإنسانية.

*الأبعاد الإنسانية: البعد السيكولوجي. البعد الاجتماعي:الدولة-الملكية-الشغل-النمو والتخلف.

وتضمن هذا البرنامج كتاب مدرسي من تأليف لجنة أشرف عليها الدكتور علي سامي النشار، وشارك فيها الأساتذة: عبد المجيد الصغير، برادة البشير، عبد الله تروال.

3 – برنامج 1989:

*مكونات الفكر الفلسفي الإسلامي وإشكالية العقل والنقل:

                      -المكونات

                      -إشكالية العقل والنقل

*إشكالية الفكر والواقع:

                      -خصائص الفكر المثالي. خصائص الفكر المادي.

*المعرفة: اللغة. المعرفة العلمية وتكون مفاهيمهامن المنطق إلى الإبستمولوجيا. الرياضيات. العلوم الطبيعية. البيولوجيا. العلوم الإنسانية.

*الأبعاد الإنسانية: البعد السيكولوجي (الشعور واللاشعور.  البعد السوسيولوجي (النمو والتخلف)

وتضمن هذا البرنامج كتاب مدرسي موقع من طرف: مجموعة من المؤلفين.

4 – برنامج 90-91:

اللغة. البيان والمعرفة. المعرفة العلمية. الحقيقة. الشخصية. الشغل والملكية. القيم الأخلاقية والجمالية.

وتضمن هذا البرنامج كتاب مدرسي موقع بدوره من طرف لجنة التأليف.

5 – البرنامج

اللغة. العقل. الحقيقة. النظرية. السعادة. الشخصية. الغير. الحق. الشغل.

…تخص هذه البرامج السنة النهائية للباكالوريا، والشعبة الأدبية تحديدا. ولم تكن الشعبة العلمية تختلف عنها كثيرا. ومن جهة أخرى هناك برامج تخص السنة الثانية ثانوي، أي أول مستوى دراسي تدرس فيه مادة الفلسفة، وهذه نماذج من دروس برامج هذا المستوى، وفي مراحل مختلفة:

ـ التفكير الفلسفي – المحاور الرئيسية في الفلسفة – الحقيقة العلمية – الحقيقة الحدسية – الحقيقة بين المطلق والنسبي – الإبداع – العدالة – المنهاج القرآني – الطبيعة والثقافة – الحكمة والشريعة – الوعي – الفن – الفاعل..

إن الغرض من هذا الجرد العام لمختلف قضايا مقررات وبرامج الدرس الفلسفي بالتعليم الثانوي، والتي عمرت مدة ما يزيد على ثلاثة عقود خلت، هو وقوف كل المتتبعين والمهتمين والمشتغلين، الجدد منهم والقدامى، على مكونات حقل معرفي أساسي في الحياة الدراسية داخل نظامنا التعليمي، وظل خلال كل هذا الزمن التربوي موضوع أسئلتنا وأجوبتنا ومقارباتنا واختلافاتنا وتوافقاتنا، ومع كل هذا فإن الذي ظل غائبا أو مغيبا، إما من منطلق التبرير أو من منطلق الدفاع عن الفلسفة، هو البحث عن مواطن القوة والإيجابية والمعنى في تلك البرامج ومكامن الضعف والسلبية واللامعنى فيها، باستثناء ما كان يثار بشكل مناسباتي في هذا الإطار أو ذلك (ندوات تربوية، أيام تكوينية، مذكرات، مجالس تعليمية…) وعادة ما كان محكوما في مجمله بالتوجيهات الفوقية، أو بأغراض وأهداف عامة، وبتواطؤ من كل الأطراف تروم المؤسسة التعليمية والسلطة الوصية عليها تحقيقها على خلفية مرجعيات ما، وتتحكم فيها هواجس ما، بدعوى الحفاظ على السير العادي للنظام وللنسق التعليميين؟؟!!، وكأن الفلسفة كائن من المفروض متابعته عن كثب ومراقبته عوض العمل على إشاعته كتفكير عقلاني حر، وكإبداع إنساني ظل دائما يسعى في مراميه الجوهرية وأغراضه الأساسية إلى تكوين وتنشئة أجيال متشبعة بالتربية الفكرية، تعمل على نشر وبناء وترميم مختلف جوانب تصدعات واقعنا الاجتماعي والثقافي والفكري، والانخراط في الإجابة على أسئلته الكبرى؛ لأن كل معرفة هي بناء مستمر، كما يشهد على ذلك تاريخ الإنسانية: نفكر في ذلك الفعل التنويري-التثقيفي الذي ظل يضطلع به الفكر الفلسفي، منذ أن صيغت الأسئلة الفلسفية التفكيرية الكبرى، في "الأغورا" والأماكن العمومية مع سقراط إلى الآن.

وسيكون من باب العقوق الفكري ألا نسجل بإيجابية، وضمن هذا التصور السابق، المشاركة الفاعلة والهادفة التي اضطلع بها أساتذتنا منذ الستينات من القرن الماضي، وما قدموه من تضحيات فكرية وغيرها، في سبيل ترسيخ ثقافة فلسفية من خلال الفعل التنويري-التثقيفي، كهم وكمهمة، سواء على مستوى الدرس الفلسفي بالثانوية أو الجامعة أو على مستوى الإنتاج والتأليف؛ وذلك من خلال انتمائهم الوجودي للفلسفة في مختلف مراحلها، منذ استئناف القول الفلسفي بالمغرب المعاصر مع أحد أكبر أعمدة هذا القول محمد عزيز الحبابي إلى الآن. ولقد سعى هؤلاء إلى أن ينخرط كل المتعلمين في نظامنا التعليمي في فعل التفلسف، وذلك من خلال وضع مقررات لا زال يشهد لها بفعلها الجاد والهادف ثقافة وتنويرا من خلال تفعيلها. ونذكر في هذا الإطار، مثلا، رواد هذا التأليف المدرسي:

وإذا كانت هنالك تجارب أخرى في مجال التأليف ساهمت فيها أجيال أخرى، فيما بعد نهاية الثمانينات خاصة، فإن عدم ذكر أسماء في هذا المجال يعود بالأساس إلى غياب أسماء أولئك المساهمين وتوقيعهم على ما ساهموا به في هذا المجال..؟؟

وبالنظر إلى هذه المقررات، قديمها وحديثها، في مختلف مراحل إنجازها وتفعيلها، نتبين طغيان الجانب الكمي على الجانب الكيفي فيها، وهذا هو أكبر تناقض وأغرب مفارقة عاشها، ولا زال يعيشها نظامنا التعليمي برمته في المغرب المعاصر حتى أضحى هذا اللاتوازن بين الكم والكيف مؤسسا لتوجهات متباينة منها من يروم التبرير، ويرى أن معارف العصر أصبحت تسير على وتيرة لا يمكن حرمان أجيال المتعلمين منها، ومنها من يعتبر أن أهداف النظام التعليمي وأغراضه لا تتمثل في موسعة (جعل موسوعة) المتعلم وشحنه بالمعارف والمعلومات حتى إذا طلب منه توظيفها أبان عن عجزه على التفكير، وعطلت قدرته على التحليل، وفتح فاه "للقيئ الجميل"[3]. فأيهما أفيد وأنفع إذن: أن نعلم المتعلم كيفية اصطياد السمك، أم نملأه بما طاب وبما لم يطب منه، مدركين مسبقا بأنه سيتقيأ ولن يستفيد منه؟؟

صحيح، إذن، أن العصر عصر تطور هائل للمعرفة والمعلومات، ولكننا لا يمكن أن نستفيد من كل ذلك إلا إذا اعتبرنا أن السؤال والنقد والتفكير والإبداع هي الأدوات والمفاتيح الضرورية لكل استيعاب لمستجدات العصر ممكن وفعال وتنويري، وتكيف معها واستفادة منها، وانخراط في إنتاجها ومساهمة في تفعيلها من منطلق النظر إليها كمعارف فعالة وفاعلة في المجتمع والثقافة والاقتصاد والتاريخ الفعلي.

وبالنظر إلى المقررات الفلسفية، التي تمت الإشارة إليها، يمكن أن نسجل طغيانا بينا للكم على الكيف أفرز "لا توازنا" تم التعبير عنه في مناسبات مهنية بأنه أخل ليس فقط بديداكتيك مادة الفلسفة وأهدافها، وإنما ضرب في العمق حتى الأهداف والأغراض التي حددها التعليم الثانوي برمته، ودعا إلى تحقيقها استنادا إلى أن نظامنا التعليمي يجب أن "يستنير بالتوجهات الجديدة لعلوم التربية، ويستثمر التجارب الميدانية المحلية والدولية"؛ وذلك من خلال "تخفيف الحصص الزمنية للتلميذ في اتجاه إتاحة الفرصة له للقيام بالتعلم الذاتي وكذا بالتخفيف من كثافة المقررات لفسح المجال أمام الأساتذة قصد التنسيق وتبادل الخبرة"[4].

لقد وقع اختيارنا على هذه الصفحة من كتيب "هيكلة التعليم الثانوي" لغرض انشغالنا بهذه المسألة. ولربما اندرجت هذه الهيكلة بصفة عامة في إطار محاولة تصحيح وضع "لا معقول" شاذ في الدرس الفلسفي خاصة (دون استثناء مواد أخرى). ويمكننا أن نسوق مثالا في هذا الإطار:

في سنوات نهاية الثمانينات طولب مدرس الفلسفة، والمتعلم أيضا، بالاشتغال على ما يلي:

ـ 13 نصا، في درس بعنوان "اللغة".

ـ 26 نصا، في درس بعنوان "البيان والمعرفة"

ـ 32 نصا، في درس "المعرفة العلمية"

ـ 11 نصا، في درس "الحقيقة".

…تصل هذه النصوص في مجموعها إلى 82 نصا، وتخصص لإنجازها حصص لا تتعدى 80 ساعة تجاوزا، الشيء الذي يعني أن المدرس والمتعلم مطالبان معا بإنجاز 3 نصوص في ظرف ساعتين؟وتصبح مدة الاشتغال على نص واحد هي 40 دقيقة. وظل هذا الوضع قائما إلى أن تم تداركه من خلال التمييز بين ما سمي بنص "أساسي" وآخر "تكميلي"؟

أفي ظل هذه الأوراش اللامعقولة يمكن تنمية كفايات المتعلم، وتزويده بالأساس العلمي والمهارات التي تؤهله لمتابعة دراساته العليا، وتنمية مؤهلاته الشخصية؟؟ أية معارف، وأية مهارات يمكن أن تتوفر لدى خريج التعليم الثانوي؟؟ أي حس فني مرهف يمكن أن يتمتع به المتعلم في ظل هذه الشروط؟؟ وهل يمكن أن نتحدث عن إشباع المتعلم بروح النقد البناء والتفكير السليم، وتعلم قواعد المنهج في التفكير والسلوك والانخراط في المجتمع والفعل فيه إيجابيا؟؟… "ويزداد الأمر تعقيدا، عندما نعرف أن التلميذ، المقبل على دراسة الفلسفة والفكر الإسلامي، لا يتحدد إقباله على هذه الدراسة بعامل السن فقط، وإنما يتحدد كذلك بالموقف العام السائد والرسمي من المادة، والذي يؤدي إلى النفور منها وتهميشها.. وفي أحسن الأحوال يؤدي إلى الحيرة والشك في جدواها وطبيعتها، وذلك نتيجة موقف عدائي أحيانا وسطحي أخرى من مادة الفلسفة"[5].

وإن كنا لا نشك في مدى تضحيات مدرس الفلسفة ونضاله في الانخراط داخل دائرة ترسيخ الثقافة الفلسفية، من خلال الدرس الفلسفي في المدرسة المغربية، ومحاولته الدائمة والدؤوبة للتوفيق بين الكم والكيف رغم معاناته وقلقه، فإننا في المقابل لا نشك أيضا في "الاجتهاد والجد" الكبيرين للمتعلم في التحايل على ذلك "اللاتوازن" بين الكم والكيف في مقررات المادة وعلاقتها بمواد مدرسية أخرى.

وفي هذا المعنى، وبناء على ما تقدم يمكن الإقرار بأن العديد من الظواهر التي أنتجت داخل نسقنا التعليمي ونماذجنا الاجتماعية التربوية، مثل الغش في الاختبارات بمختلف أساليبه وتعددها والعنف المادي والمعنوي ضد المدرسين والإداريين وبين المتعلمين أنفسهم والنفور من كل فعل تفكيري…، أصبحت بفعل آليات التحريض المدرسي، وبفعل وجود أرضية مساعدة على استنباتها، قيما وسلوكات تسير في الاتجاه المعاكس تماما لوظائف المدرسة وأهدافها وأغراضها، حيث تم خلق انفصام قوي في ذهن ووجدانية التلميذ بين أهمية المعرفة والعلم والتفكير والنقد والإبداع، وبين قيم غريبة ومناقضة لتلك تسللت إلى النسيج التربوي تحت كثافة المقررات وضغطها لتتحول إلى سلوكات نفعية انتظمت داخل أنساق زكتها التمثلات الاجتماعية العامة ومواقف أصبح داخلها المدرس غير ذي قيمة، ومن ثمة التشكيك في خطابه واحتقاره وضرب كل مصداقية لقوله ومجهوداته. وفي المقابل يلجأ المدرس إلى مسألة التنقيط، وتوظيفها أحيانا للدفاع عن موقع المدرس داخل الفصل وفي المدرسة، مما خلق وعيا جماعيا (شعورا جمعيا حسب دوركهايم) انخرطت داخله المدرسة نفسها، وخلق قلقا وجوديا بالنسبة للفاعلين التربويين أنفسهم وجعلهم يبررون سلوكات وظواهر مدرسية شاذة، الشيء الذي سيجعل التلميذ-المتعلم قادرا على إنتاج أنظمة من الدلالات والتأويلات يعمل على إدراك مختلف مستويات الواقع والتعامل معها من خلالها، ومكيفا لها في وضعيات مختلفة ومن ضمنها الوضعية التعليمية التعلمية، حتى أنه، أي المتعلم، يؤول دلالات مجموعة من الظواهر الشاذة إلى ظواهر عادية، بل ومشروعة. ويصبح في موقع على طرف نقيض مع ضوابط المؤسسة ونظامها، نظام دلالاتها وتأويلاتها للواقع هي أيضا، فيتحول ما لا ينبغي أن يكون إلى ما يجب أن يكون، أو أن ما هو كائن هو ما يجب أن يكون في تصوره خاصة إذا أدركنا الاستقالة المبكرة للأسرة عن أداء وظائفها وأدوارها في التربية والتكوين، بسبب هذه الاختلالات التي تحدثنا عنها. ومن ثمة ينتظر ولي الأمر ممن يتولى أمره الحصول على "نتائج جيدة" مهما كانت طرق ووسائل الحصول عليها، لأن هذا الفعل يصبح بمثابة تحويل ما يجب أن يكون: المتابعة – المراقبة – التربية – التحريض على القيام بالواجبات – احترام المدرسين – الانضباط للمؤسسة وقواعدها.. إلى اطمئنان نفسي يقوم على الوهم والتبرير، بل ويؤسسهما، خاصة وأن الأسرة نفسها كمؤسسة اجتماعية تعمل على تبرير قرارات سياسية واقتصادية كبرى، وتعمل على تمريرها من أجل النشر والاستهلاك (هكذا تصبح مؤسسة الأسرة منتجة بدورها لتمثلات تعمل على نشرها وتوزيعها والتحريض على استهلاكها بفعل الدور التحريضي الخطير الذي أصبحت تلعبه وسائل الإعلام المختلفة في هذه العملية (Processus).

وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن خطاب التوازنات الهيكلية الكبرى والتي طال عمرها أكثر مما كان متوقعا، والتي شغلت الرأي العام كأفراد وكمؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية.. بالرغم من خطورتها وآثارها السلبية بالنسبة للكثير من جوانبها على المستويين الاجتماعي والتربوي التعليمي خاصة.

لقد ظلت تلك القرارات الاقتصادية الموجهة من المؤسسات المالية الدولية تخطط وتوجه سياسات تعليمية متتابعة لأكثر من عقدين من الزمن، وكانت نتائجها كارثية بكل المقاييس.

ـ مسألة الخريطة المدرسية.

ـ نسبة التمدرس.

ـ مسألتا الكم والكيف في التعليم والتكوين.

ـ الاختلال الحاصل بين نسب النجاح وتدني المعدلات.

إذن، ما الذي استفاده الدرس الفلسفي، بصفة خاصة، في إطار هذه الوضعيات التعليمية-التعلمية المستحدثة؟

كجواب على هذا السؤال نذكر مسألة واحدة لها دلالة في تفسير طغيان الجانب الكمي على الكيف في الدرس الفلسفي بالتعليم الثانوي، ويتعلق الأمر بأنه خلال السنة الثانية لنظام الأكاديميات دعيت هذه الأخيرة إلى مضاعفة الجهود وتوظيف كل الطاقات التربوية وتشجيعها حتى يعطي ذلك النظام أكله ويحقق أهدافه. وبناءا على ذلك سيتم ترتيب الأكاديميات الجهوية حسب أعلى نسب للنجاح؟؟!

في ظل هذه الشروط أصبحت المؤسسات التعليمية الثانوية أوراشا للقفز الطولي ولجري المسافات الطويلة في أوقات وجيزة، ومختبرات لتناسل أسئلة لا معنى لها: هل انتهيت من إنجاز المقرر؟؟ متى سينتهي المقرر؟؟ كم من نص فلسفي أنجزت؟؟ هل تملي الدروس أم تقوم باستنساخها؟؟ أما أسئلة التلاميذ فكانت أكثر إلحاحا: متى سننتهي؟؟.. وما كان لكل ذلك إلا أن ينتج فضاءات "تعليمية-تربوية" ضاعت من خلالها وفيها التربية الفكرية والإبداع والنقد والتكوين، وأحلت مكانها ثقافة العزوف عن النظر والتعاطي للغش وترسيخ مفهوم التواكل.. ومفاهيم أخرى لا علاقة لها بتاتا بالتكوين والتثقيف النوعي أو الذي ينطوي على بعد كيفي حقيقي.. في هذا الإطار، فإن درس الفلسفة الذي كان من المفروض فيه أن يؤسس لثقافة كيفية تنويرية، ويسعى نحو تربية فكرية أدواتها: الإبداع الحر والنقد والسؤال والحجاج، فقد لعبت تلك السلبيات المذكورة أدوارا ظاهرة وخفية لكي يكون درسا كميا بامتياز، وهو أمر يساهم في الحد من الرسوخ الإيجابي للثقافة الفلسفية ومن انتشارها.



[i] - راجع نظام الخطاب وإرادة المعرفة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي وأحمد السطاتي، ص73.

[2] - تهتم هذه المحاولة بـ"أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب"، ويهيئ صاحبها لإصدارها في كتاب.

[3] - انظر عبد المجيد الانتصار، "سؤال الفلسفة في الباكالوريا ومسألة الأهداف"، مجلة الجدل، العدد 4، صنة 1986.

[4] - هيكلة التعليم الثانوي، وزارة التربية الوطنية، 1994.

[5] - عبد المجيد الانتصار، نفس المقال السابق، ص64.