تأملات فلسفية في ثنايا العنف
محمد الدكالي
" لا تحب الأزمنة الحديثة التحكم في الذات
"
لا يمر يوم أو ساعة إلا و تطالعك الأخبار في معظمها بما
يحدث، هنا وهناك، من شتى أنواع الاضطراب، من اضطراب الأعصاب إلى اضطراب أحوال
السياسة؛ فيبدو العالم حولك مجالا واسعا ينتصر فيه الاضطراب بوقاحة على كل رغبة في
السكينة والاطمئنان التعايش.
و لا يعني هذا أن كل ما في الوجود اضطراب؛ أقول إنها
الأخبار؛ وإنها، في الوقت ذاته، الوقائع المؤثرة، هنا وهناك.
تنبني السياسة، كل سياسة، على ادعاء أو وعد بأن تجعل حياة
الناس الجماعية والفردية أقرب إلى السكينة والطمأنينة والتعايش. لكن كثيرا ما
نلاحظ أن السياسة، هنا وهناك، تلك السياسة أو الأخرى، تكون مصدرا لعكس ذلك؛ فتصنع
السياسة، بشكل إرادي أو غير إرادي، اضطرابا قد يعم الناس جميعا. إن هذه الحال،
حالة الاضطراب المنتشرة بين الناس، لا بد و أن نفترض أن لها أسبابا ودواعي و ما قد
يحكمها من إرادة ورغبة وقوة. فعالم مضطرب كهذا، إذا ما قبلنا هذا التصور، ولو
مؤقتا، هو عالم يكون مجالا رحبا، تتسابق وتتلاحق فيه تيارات وأنواع متعددة
ومتناقضة و متنافرة من العنف: عنف الإنسان ضد الطبيعة؛ عنف الإنسان ضد نفسه بواسطة
الطبيعة؛ عنف الطبيعة ضد نفسها وضد الناس؛ عنف الأغنياء ضد الأغنياء؛ وعنف
الأغنياء ضد الفقراء؛ وعنف الفقراء ضد الأغنياء؛ وعنف الفقراء ضد بعضهم البعض؛
وعنف ليس له من غرض سوى العنف. قد يبدو مغريا، أن يتخيل المرء أن في هذا الاضطراب
إفلات تام من منطق القوة الذي يتحكم في عالم اليوم.
إن تأمل تطور الأمور والأحداث يؤول بنا إلى فهم غير هذا؛
فمنطق القوة، إذا كان يهدف إلى ضبط الناس وبسط نفوذه عليهم، فهو يستطيع التحكم في
مصائرهم بشكل أكثر دهاء، إن هو استطاع الزج بهم في اضطراب مستمر. فكلما ساد
الاضطراب و عم و وصعب التخلص منه، سار منطق القوة أكثر قدرة على التحكم في الوضع
المضطرب، بل يلجأ منطق القوة إلى تأجيج الاضطراب للتحكم أكثر في مآل المضطربين.
فالطب العقلي يتحكم أكثر في المريض عندما يصل اضطراب هذا الأخير درجاته القصوى؛
والمحكمة تتحكم في مصير الجاني عندما يخل بسلامة الآخرين، أي عندما يحدث اضطرابا
لدى الآخرين. فكلما لجأ الناس إلى الفوضى سهل على القضاء سلبهم حرياتهم وضبطهم
أكثر رغما على إرادتهم و تطلعاتهم.
إن منطق القوة المتحكم في العالم لا ينتظر أن تسمح له الفرصة
للقيام بمثل هذا الضبط، بل إنه يصنع، نظرا لقدارته الهائلة، هذا الاضطراب، هنا
وهناك، حتى يتحكم أكثر في مصائر الناس و الطبيعة وما عداهما. لقد أغلقت الرأسمالية
كل الآفاق وكل الأبواب، ولم يعد هناك من تطلع سوى إلى الاستفادة أو على الأقل،
تجنب الضياع و الإبادة. أغرقت الرأسمالية العالم في بحر من إمكانيات المتعة: متعة
الصحة السليمة، و متعة السفر، ومتعة المال و المعرفة الخ؛ وأحاطت هذا البحر بمحيط
من الحرمان. وهذه العملية متلازمة لا ينشطر الفصل الأول منها عن الثاني. وضع غريب:
فبقدر ما يكثر الغنى، بقدر ما يتعاظم الحرمان؛ وضع يدعو إلى فقدان الصواب وانتشار
الاضطراب. في مناخ كهذا، تراجع التطلع إلى العدل، ولم يعد أحد يأمل في التحلي
بالحكمة؛ وأصبحت النزاهة مرادفا للبله؛ وصارت "السعادة الذكية" تعني
الرغبة الجامحة في الاستحواذ و الاغتناء كيفما اتفق.
كتب أبيقور إلى مليسي قائلا: "الحكمة هي المبدأ. وهي
أكبر الخيرات، هي أكبر خير. ولهذا فهي تحظى بتقدير أكثر من الفلسفة لأنها هي مصدر
كل الفضائل؛ وهي تعلمنا أنه لا يمكن أن يكون المرء سعيدا دون أن يكون حكيما ونزيها
وعادلا؛ ولا يمكن أن يكون حكيما ونزيها وعادلا دون أن يكون سعيدا"
قد يسخر كثير من الناس من هذا القول، ومن هذا التلازم، إلا
أن الأحداث، ماضيا وحاضرا، تذكرنا بأن مآسي الإنسان والطبيعة تنحدر مباشرة من جبة
هاته السخرية.
كتب إبيكتت في إحدى مقابلاته:"هذا هو منطلق الفلسفة:
إدراك للنزاع الذي يجعل الناس يصطدمون فيما بينهم؛ البحث عن أصل النزاع؛ شجب الرأي
الجاهز؛ والتحفظ اتجاه نوع من نقد الرأي الجاهز لتحديد إذا ما كنا على صواب في
التشبث به؛ اختراع خيط القياس لتميز ما هو مستقيم عما هو معوج، تماما، كما اخترعنا
الميزان لتحديد الوزن. هل هذه هي نقطة انطلاق الفلسفة، هل كل ما يبدو لنا من
الآراء صحيحا ؟ وكيف تكون الآراء المتناقضة صائبة؟ ليست كل الآراء، بل تلك التي
تبدو لنا نحن، ولماذا تبدو لنا صائبة، وليس للمصريين والسوريين ؟ الآراء السديدة،
هل هي تلك التي تبدو لي أنا أم هي التي تبدو لغيري؟ لا هذه و لا تلك. فرأي أي كان
ليس كافيا لتحديد الحقيقة. لا نكتفي، كلما تعلق الأمر بالوزن أو بالقياس، بمجرد
المظاهر، بل اخترعنا معيارا( نلجأ إليه في) كل هذه الحالات.
وفي الحالة الراهنة، أليس هناك من معيار أسمى من الرأي؟ وهل
من الممكن أن لا تتوفر أية وسيلة لتحديد أو العثور على ما هو أكثر ضرورة للناس
جميعا؟ إذن، فلا بد أن هناك معيارا؟ فلماذا، إذن، لا نبحث عن هذا المعيار ونجده،
وبعد العثور عليه نستعمله بكل صرامة دون أن نبتعد عن ذلك قيد أنملة؟ "
يتم عرض وتحليل هذا السؤال من خلال المحاورات. و ينبهنا النص
الذي بين أيدينا إلى الفرق بين الرأي الجاهز وبين الحقيقة. و هو فرق ذو أهمية
كبرى، لأن كثيرا من الناس يعتبرون ويعتقدون، بأن آرائهم هي الحقائق، وأنه لا فرق
بين رأي المرء و ما يمكن أن يعتبره حقيقة. و القول بأن هذا الرأي أو ذاك هو
الحقيقة، يكون بمثابة مرتع خصب للتعنت والتصلب؛ والتصلب في الآراء يشبه تصلب
الشرايين، فكلاهما يسبب الألم. إن البحث عن معيار للحقيقة الذي يحدثنا عنه إبكتيت
يتم عن طريق الحوار مع أشخاص آخرين سواء أكانوا واقعين أو متخيلين (حاضرين أو
غائبين). إلا أن المحاورة ليست هي ما يعرف اليوم بالنقاش أو المناقشة. ففي النقاش
يبحث كل فرد عن هدف مسطر مسبقا، هو إقناع الآخرين بما هو مقتنع به، و الهدف هو جعل
الآخرين يقتنعون أو ينصاعون تحت ضغط البلاغة أو الأسلوب أو التخويف أو المحاباة. و
كثيرا ما نلاحظ أن هذا النقاش يطبعه اللجوء إلى الحيلة والخداع. يرى شبنهاور أن كل
حوار تسربت إليه الحيلة أو الخداع يفقد تماما صفة المحاورة. كما يرى ميرلوبونتي أن
الحوار صعب جدا لأنه ليس عرضا ناجحا لأفكار المرء في مقابل أفكار الآخرين، بل هو
خروج عن الذات، ابتعاد عن الآراء التي نعتقد فيها؛ وكم يصعب هذا الابتعاد بالنسبة
لجل الناس. فكثيرا ما يتشبث الناس بآرائهم، حتى لو كانت فاسدة كتشبثهم بأعينهم.
أما المشاكسة والشتم اللذان يطبعان كثيرا المناقشات، فهما أبعد ما يكونا عن منطق
المحاورة. إنهما انغماس في التعنت والتصلب، و إخبار بعنف وشيك.
يشير إبكتيت إلى أهمية البحث عن معيار لتحديد الحقيقة؛ و ما
لم نجده يظل الحوار هو الأسلوب الذي يتبنى في الاستماع إلى آراء الآخرين. ونحن
نأخذ نفس المسافة والحيطة، من آرائنا، نفس تلك المسافة التي نضعها بيننا وبين
الآراء الأخرى التي ليست لنا. ويشير إيكتيت إلى أن هذا المعيار قد نجده عندما
نهتدي إلى ما هو ضروري بالنسبة للناس جميعا. فإذا حصل الاتفاق، بعد الحوار الخالي
من المشاكسة والحيلة والخداع، حول ما هو ضروري بالنسبة للناس جميعا، اعتبرنا هذه
الضرورة قاعدة لتمييز الحقيقة عن غيرها. إلا أن هناك من قد يتحايل على هذا الرأي،
و الفلسفة لا تحتمل هذا التحايل، فيقول: معيار الحقيقة، لقد وجدته، هو رأي أنا. و
لكن هذه خدعة قد تفيد صاحبها في لحظة، لكنها لا تتحول أبدا إلى ضرورة تعنى الناس
جميعا.
موضوع العنف :
كثيرا ما تكون الأحاديث حول العنف عنيفة، لأن العنف مثير، و
ينشر الهلع والترقب والارتياب والاتهام. والعنف مثير و مفزع، وتحيط به الألغاز
والأسرار، و يلف أسبابه الجهل، وتنتشر حوله المعارف المغلوطة أو المغالطة. إن
موضوع العنف يقتضي كثيرا من الحيطة حتى لا يكون الحديث عنه مشاركة في العنف بشكل
إرادي أو غير إرادي.
يقول روسو: "لكل إنسان الحق في المجازفة بحياته للحفاظ
عليها. هل قال أحدهم يوما ما إن الشخص الذي يلقي نفسه من النفاذة هربا من النار،
متهم بالانتحار؟"
إذا ما رأى المارة شخصا وهو يلقي بنفسه من نافذة دون أن يعلموا
بأنه يفعل ذلك انقادا لحياته، سارعوا إلى اتهامه بالانتحار وأغرقوا في التعليق
والحديث و الحكي. فالانتحار هو نوع من أنواع العنف القصوى التي يوجهها المرء ضد
نفسه. وهذه الصورة، إن لم تقترن بالبحث والتمحيص والرغبة في الإطلاع، ومعرفة
الحقيقة قادت إلى إدراكات وتصورات وتعليقات خاطئة.
و تأتي صعوبة موضوع العنف من كونه لصيق بالحياة، حتى وإن كان
مسا بها، فالعنف مرافق للكراهية والرغبة وإرادة الانتقام والتدمير، لكنه ملتصق
كذلك بالحب؛ وهو يتواجد في كل حركات الاستغلال والاستبعاد والاستعمار، ويوجد،
أيضا، في قلب حركات التحرر والانعتاق. وهنا يطرح السؤال التالي: إذا كان العنف
كذلك فلماذا يثير نوع من العنف الانتباه أكثر من غيره؟ تردد وسائل الإعلام مكتوبة
ومرئية ومسموعة عبارات ك: "الطريق تقتل"، "حرب الطرق"، أليست
عبارة "حرب الطرق"، و حقيقة "حرب الطرق"، وحقيقة "الطرق
تقتل"، من أقصى أنواع العنف؟ لكن التعبير عن هذه الحقيقة، والحقيقة نفسها لا
تثير الانتباه الذي قد يثيره نوع آخر من العنف، لا يكون بالقوة المرجوة، فلماذا؟
ربما يبدو لي مهما قبل الجواب عن هذا السؤال أن آخذ المسافة اللازمة و أبتعد
الابتعاد الضروري عن بعض الآراء السيارة، كأن يقول أحدهم: نحن مجتمع لا يعرف
العنف؛ أو أن ظاهرة العنف ظاهرة غريبة عنا. نعم. هناك أشكال وأنواع من العنف قد
تبدو غريبة ومفاجئة. و قد نقول كذلك إن بعض المجتمعات أو بعض الجهات أو بعض الفئات
أو بعض الأشخاص، أكثر عنفا من غيرهم، لكن يصعب القبول بكون مجتمع ما أو جهة ما هي
أو/ و هو بمنأى عن العنف، و لا يعرف أي شكل من أشكاله.
و نستنير في الابتعاد عن هذا القول المداعب للخواطر والمخادع
في نفس الوقت، بآراء تتناول طبيعة العنف بشكل جذري. كتب جوزيف دوميسر: "ليست
هناك لحظة واحدة لا يفترس فيها كائن حي من طرف كائن آخر. وفي أعلى سلم الكائنات
الحية يوجد الإنسان الذي لا يفلت شيء من قبضة يده المخربة. فهو يقتل لكي يتغذي،
ويقتل لكي يكتسي، ويقتل لكي يتظاهر، ويقتل لكي يتعلم، ويتل لكي يدافع عن نفسه،
ويقتل لكي يتسلى، و يقتل من أجل القتل. هل يتوقف هذا القانون (قانون القتل) عند
الإنسان، أي قيل الإيقاع بالإنسان؟ طبعا، لا. فمن هو هذا الكائن الذي يستطيع
القضاء على هذا الذي يقضي على الكائنات جميعا (الإنسان)؟ إنه الإنسان المكلف بذبح
الإنسان.
"لكن كيف يستطيع الإنسان أن ينفذ هذا القانون، قانون
القتل، وهو كائن أخلاقي متسامح، وهو الذي ولد من أجل أن يحب، وهو الذي يبكي
الآخرين كما يبكي على نفسه، والذي يجد متعة في البكاء، والذي يخترع حكايات وتخيلات
لكي يبكي، وهو الكائن الذي قيل له إنه سيحاسب على آخر قطرة دم أراقها ظلما، إنها
الحرب، إنما هي الحرب التي ستقوم بتنفيذ هذا القرار"
إذا قبلنا برأي دومستر هذا، فإن ازدواجية ما يمكن أن نسميه
"الطبيعة الإنسانية"، إن كانت هناك طبيعة إنسانية، أمر لا يقبل الجدال
رغم غرابته الشديدة. فالإنسان الوديع، المحب، المتسامح الذي توجهه و تبكيه المآتم
ورحيل الأقارب، وموت الناس، حتى أولئك الذين لا يمت إليهم بصلة، قد يتحول هو نفسه
إلى ما يسميه فرويد وحشا ضاريا وقاتلا. وهذا ما أكده العالم هنري لا بوريت عندما
قال إن الإنسان هو النوع الوحيد من بين الثدييات الذي يقتل ضمن جنسه. إن تاريخ
البناة والعظماء في التاريخ مطبوع بهذه الازداوجية فلويس الرابع عشر مثلا، كان
مولعا بالهندسة والبناء الضخم والفخم، مولعا بالأكل والشراب والحب، مولعا بالرقص
ومحب للحياة وللملذات في أرقى صورها؛ وهو في نفس الوقت رجل قضى جل حياته الطويلة
في الحروب والتآمر والتدمير، ألا يصعب على المرء، بعد هذه الصورة المعروفة، أن يرى
أن هناك جزءا من الناس، أو جهة من المعمور تبتعد ابتعادا كليا، وتنسلخ عن العنف؟
إن المجتمع السويدي لم يعرف الحرب منذ أكثر من مائتي سنة،
وهذا لم يمنع من أن يتقل وزيره الأول أولف بالم الذي كان محبوبا لدى الناس، و لم
يحل دون اغتيال وزيرة الخارجية مؤخرا، وهي امرأة كانت تحظى بتقدير كبير في بلدها.
و لنجد دعما لهذه الآراء التي قد ينعتها البعض بالمتشائمة.
كتب فرويد في قلق الحضارة:
" ليس الإنسان ذلك الكائن الهادئ و المسالم ذو القلب
المتعطش للحب، والذي يقال عنه إنه يدافع عن نفسه إذا ما هوجم؛ إنه على العكس من
ذلك، كائن يختزل في أعماق ذاته قدرا من العدوانية. فالإنسان هو بالفعل ميال إلى
إشباع حاجاته العدوانية على حساب بني جنسه، واستغلال عمله دون تعويض، واستعماله
جنسيا دون رضى منه، والاستحواذ على كل ما يملكه الآخر، وإهانته، وتعذيبه، وتقتيله
كقاعدة عامة. فعدوانية الإنسان الشرسة قائمة إما تنتظر إثارة تأتيها من الخارج، و
إما أنها تندرج في الوصول إلى هدف يكون من الممكن الوصول إليه بأساليب غير عنيفة.
فكلما ضعفت القوة الأخلاقية التي تحد من هذه العدوانية وتحدها، صارت الظروف مواتية
لكي تظهر هذه العدوانية بشكل تلقائي، و تكشف أن وراء الإنسان حيوان مفترس لا يقيم
أي اعتبار لبني جنسه. فكل من استعادت ذاكرته الفواجع التي واكبت نزوح الشعوب أو
غزوات جنكزخان و قبائل المغول وحروب تيمورنك أو تلك التي تسبب فيها استيلاء تقاة
الصليبيين على القدس، دون أن ننسى فواجع الحرب الأخيرة (1914-1918) ينحني احتراما
أمام تصورنا هذا ويعترف بصحته".
يرد فرويد بنفسه على الاعتراضات الممكنة التي قد تستعمل نعث
التشاؤم والسوداوية للتخلص من قوة وجرأة رأيه؛ فيذكرنا بالأحداث التاريخية الكبرى،
تاريخ نزوح الشعوب الكبرى، قديما وحديثا، تاريخ الحروب والغزوات الهالكة، قديما
وحديثا، ليؤكد أن العدوانية الشرسة التي تطبع الجنس البشري تقفز إلى السطح
كالنيران الملتهبة كلما ضعفت القوى الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية التي تحد
من فضاعتها. قد تبدو هاته الآراء قاتمة، لكنها عميقة وجريئة وصارمة، و تجعلنا نفلت
قبضة الآراء المداعبة و المخادعة و التي لا تفيد في فهم موضوع العنف؛ و تجعل من
النقاش في الموضوع نوعا من التسلية. هل نحن في منأى عن العنف دون غيرنا؟ هل نحن
أقل أم أكثر عنفنا من غيرنا ؟ هل تاريخنا، غير التواريخ الأخرى، لا يعرف العنف و
لا أشكاله؟ هذه أسئلة تقود إلى نوع من التسلية والمداعبة والمخادعة. بينما الآراء
والأفكار التي تعرض لها كتابات دومستر و فرويد مثلا، تقودنا في اتجاه أخر.
إذا قبلنا بأن العنف ينغرس، عميقا، في الطبيعة الإنسانية،
إذا ما كانت هناك طبيعة إنسانية، يصبح السؤال عندها كيف يمكن أن نتخلص من العنف؟
كيف يمكن أن نحد من آثاره؟ كيف يمكن أن نصل من خلال الفهم والتحليل إلى الأسباب
المؤدية لهذا النوع أو ذاك من العنف، علما بأن الأساليب التي قد تستعمل في معالجة
ظاهرة العنف، هذا النوع أو ذاك من العنف، قد تكون صائبة، و قد تكون صائبة بهذا
النصيب أو ذاك، و قد تكون غير صائبة تماما. و لهذا يكون البحث على أنسب وأنجح
السبل، في هدوء واتزان، هو سبيل النجاح والتبصر والتعقل والحكمة.
مسألة العنف، أي كان مستواه أو مجاله، أي كانت درجة حدته،
مسألة تثير ارتباكا واندهاشا وانفعالا. إنها حالة تخرج الناس، سواء مسهم العنف أو
لم يمسهم، من المألوف، حتى وإن كانت هناك أشكال مألوفة من العنف كعنف الطريق،
مثلا. وهذا قد يقود إلى مزيد التوتر و كثير من الخلط. إن العنف يحيط نفسه دائما
بكثير من الألغاز والمبهمات، مهما كان ادعاء العارفين بطبيعته. و هنا يطرح سؤال
مزعج نوعا ما: لماذا لا تستطيع المجتمعات أو الفئات أو الأشخاص تجنب العنف أو
تفادي الوقوع في حباله وهي تعلم أن أضرار العنف كثيرة، وجراحه عميقة، وقد لا تضمد
بسرعة. هل في هذا قصور؟ هل حدوث العنف في هذا المجال أو ذاك، ليس بالضرورة العنف
ذو الطبيعة السياسية، يعتبر إشارة واضحة إلى قصور الفعل السياسي ومحدودية الإدراك
و الفهم وعدم تحمل المسؤولية الفردية والجماعية في تجنبه؟ أظن أن هذا السؤال يظل
مخيما على كل محاولة لفهم العنف وتجنبه. ولنقترب الآن، أكثر من مسألة القصور هاته.
"إنه من السهل أن يكون المرء قاصرا"
يقول كانط : "إنه من السهل أن يكون المرء قاصرا".
نقول، على مستوى فهم ظاهرة القصور هذه، وإذا ما كانت لها علاقة بالعنف، إنه لابد و
أن يكون هناك إما إدراك أو قصور في إدراك الإشارات الأولى أو بعضها التي توحي
بإمكانية حدوث عنف ما كالذي لا ينتبه إلى الإشارات المنبهة لقدوم العاصفة. في
رواية الأطلنتيط، ينبّه المرافق بوجمعة الضابطين الفرنسين اللذين كان يقودهما في
الصحراء، إلى الإشارات الأولى المتمثلة في حبات الرمل المتراقصة أمام أعينهم،
قائلا: "إنها الإشارات الأولى لحدوث عاصفة أو فيضان. وبفهمه وإدراكه هذا،
استطاع بوجمعة بصعوبة جمة أن ينقد صاحبيه ونفسه من الفيضان المهول؛ بهذا المعنى،
لا يمكن القول إن القصور لا يتسبب في حدوث عنف ما، بل ما يمكن قبوله هو أن القصور
يزيد من إمكانيات عدم القدرة على تجنب العنف وتداركه قبل حدوثه. لكن ما القصور؟
وكيف نفهم قول كانط "إنه من السهل أن يكون المرء قاصرا"؟ سنحاول فهم
حالات و أوجه يكون فيها القصور أكثر قربا من العنف و حميمة معه.
إن وجهة النظر هاته لا توحي بأن كانط يحصر القصور في مسألة
السن؛ إن المعنى المتضمن في هذا القول هو أن المرء يمكن أن يكون و أن يظل قاصرا
طيلة حياته، حتى لو عاش عمرا طويلا. فالقصور، هنا، هو عدم قدرة المرء على التحكم
في سلوكاته، وعدم استفادته من الملكات والإمكانيات المتوفرة لديه، و عدم قدرته على
التلاؤم مع محيطه.
يتميز القصور الملتصق بالفرد بقلة أو انعدام المسؤولية.
مسؤولية الفرد اتجاه نفسه أولا، كذلك الذي يعلم علم اليقين أن بسيارته عطب، وأن
هذا العطب سيصعب إصلاحه إذا لم يسارع إلى إصلاحه، ومع ذلك لا يفعل شيئا؛ وهو يعلم
أن هذا العطب سيضر به وبالآخرين. في هذه الحالة، نحن أمام قصور في السلوك، قصور في
احترام الفرد لنفسه وللآخرين.
و هنا، لابد أن نزيح خلطا فنميز بين القصور و العجز. قد يكون
المرء عاجزا على القيام يعمل ما، لأن المال ينقصه أو لأن قواه الجسيمة أو العقلية
لا تسعفه، لكن هذا العجز ليس قصورا. و إزاحة هذا الخلط هامة جدا، لأن كثيرا من
الناس يستعملونه استعمالا مقصودا لفرض الحالة القصور على الآخرين؛ فبعض الناس
يعتبرون أن من يعانون من إعاقة جسدية هم بالضرورة قاصرون؛ ويستعملون وسائل شتى،
سنتعرض إليها فيما بعد، في تحويل القصور إلى عجز فعلي. ليس العجز هو القصور، إذ أن
القصور قد يحدث ويدوم دون أن يكون هناك أي عجز، فالسائق الذي يقود سيارته بشكل
جنوبي، وهو يدرك خطورة فعله دون أن يستطيع التخلص من قبضة هذا السلوك الجنوبي، هو
في حالة قصور وليس في حالة عجز.
يقترن القصور الفردي بنوع من الخوف، خوف المرء من نفسه، من
قدراته وملكاته، و من أن يخرج من حالة القصور هاته. فقد يستأنس المرء بنوع من
الخنوع يحيط المرء بسياج من المخاوف، قد تكون فعلية و حقيقية، و قد تكون وهمية، و
تصبح إرادته فاعلة في تقوية هذا السياج، و في الانغماس أكثر فأكثر في الانصياع
والخنوع. وقد يجد المرء القاصر، بهذا المعنى، "لذة" في قصوره هذا،
فيستأنس في الاتكال على الآخرين و اتهامهم بكونهم يتحملون مسؤولية أوضاعه، بينما
هو لا يبدل أي جهد للخروج من حالة قصوره هاته. فالذي يلجأ إلى الغش في مجال
الصناعة أو الخدمات بشكل مستمر دون أن يحيد عن ذلك، يجد في ذلك "متعة"
و"استفادة" في الإيقاع بالآخرين(لأن في الغش إضرار مقصود بمصالح وذوات
الآخرين). إن هذا القاصر يقضي مآربه وأغراضه ويصل إلى أهدافه بوساطة قصوره لهذا
يظل شديد الالتصاق بما قد ينظر إليه آخرون بأنه سلوك رخيص. ثم إن هناك أشكال أكثر
سلبية للقصور الذاتي كذلك الذي يطبع سلوكات من يستسلم لقصوره فيصير مضرا بنفسه و
بذويه دون أن يحرك ساكنا حتى لو توفرت له القدرة على ذلك، إن في هذا السلوك نوع من
الإضرار وربما من العنف الموجه ضد الذات. هذا القصور يمكن تسميته بالقصور الصغير .
إذ أن هناك نوع آخر من القصور يمكن تسميته بالقصور الكبير، قد يشمل كثيرا من
الناس، وهو كثيرا ما يفرض فرضا. و تكون أساليب فرضه متنوعة ومتداخلة؛ فقد تقع
جماعات وفئات بل و شعوب في حبال القصور الكبير بفعل التحايل والمخادعة والمغالطة،
إذ يستطيع القائمون على القصور الكبير أن يقنعوا و أن يوحوا للناس أنهم غير مؤهلين
للاهتمام بقضاياهم ومصائرهم، وأنه لابد من أناس يتميزون عنهم بميزات لا يكتسبونها
بالمرة؛ فالجماعات، في منظور القصور الكبير هذا، هي إما جاهلة، أو هي غير متعلمة
بما فيه الكفاية، أو هي فوضاوية، أو هي غير متحضرة ومتوحشة، أو هي متبعثرة لا يجمع
بين أفرادها جامع، أو ليس لديها إدراك لمصالحها؛ لكل هذه الأسباب يقتضي الأمر أن
تكون خاضعة وتابعة حتى تستطيع الإفلات من ضياعها الجماعي. و يكون الخوف من أكثر
الآلات قدرة على انتشار هذا القصور الجماعي فيجعل الناس يخافون من يومهم وليلهم
وغذهم، و يخافون على مستقبل أبنائهم، فتجعلهم حالة الخوف المركبة في حالة تقاعس
وارتباك؛ فينظرون إلى بعضهم و إلى أنفسهم نظرة الريبة والتخوف.
و تكون أحيانا الآمال، آلات أخرى يتم بواسطتها الزج
بالجماعات في الدائرة الملتهبة للخوف: فيخاف الفرد، وتخاف الجماعات، و يخاف الجميع
من مخاوفه، و من أن لا تتحقق الآمال؛ فتحل خيبة قد تجعلهم يفقدون الصواب. كثيرا ما
يكون الخوف المدعم للقصور الكبير خوفا "مقصودا" و "منظما"
يقوم على صناعته وترويجه صناع محترفون. و سيكون من الخطأ اعتبار أن صناع الخوف
هؤلاء، لا يوجدون إلا في موقع واحد من مواقع المجتمع المتحركة. إذ قد توجد هنا
وهناك آلات دقيقة وضخمة تنتج أنواعا شتى من المخاوف والآمال تسهر على
"تسويقها" و ترويجها داخل كل النسيج الاجتماعي.
يحتاج المرء في حالة القصور الصغير إلى الكثير من القدرة على
الإساءة إلى ذاته و ذويه حتى يبقى في حالة القصور هاته؛ وقد يلجأ الفرد القاصر
بهذا المعنى إلى كثير من الكذب على نفسه، حتى أن هذا الكذب على الذات يصبح هو
حقيقة الفرد. وإذا كان الفرد يلجأ إلى الكذب، بهذا القدر أو ذلك، فإن القصور
الكبير لا محيد له على استعمال الكذب على مستوى أكبر، وهو استعمال ينبني على أساليب
وأدوات للمخادعة والمغالطة والتضليل.
أوكد، مرة أخرى، أن هذا الأسلوب لا ينحصر في هذه السياسة أو
تلك، بل يجب البحث عنه في ثنايا السلوكات البشرية المتضاربة. إن دهاء وخبث أساليب
القصور الكبير، تكمن في كونها تنجح كثيرا في جعل الناس يعتقدون أن أوضاع قصورهم هي
وضعهم الطبيعي. و قد لا تكون أساليب الكذب والمغالطة والمخادعة كافية للزج بالناس
في حالة القصور والإبقاء عليهم في هذه الحالة، عندها تلجأ آلات القصور الكبير إلى
أكثر من هذا: نلاحظ اليوم، مثلا، أن الرأسمالية، وهي تخطو مرة أخرى خطوات عملاقة
على درب العدوانية الكونية، تخوض في نفس الوقت حروبا ضد شعوبها؛ فهي تلقي بآلاف
ممن "يصنعون الثروات" خارج منطقة "المنفعة المتبادلة"،
فتحولهم إلى عاطلين، أي إلى جماعات قاصرة على التلاؤم مع متطلبات هذه الرأسمالية
نفسها.
و تعيدنا هذه المسألة إلى العلاقة بين القصور بنوعيه ومسألة
العنف. فمن يمارس الكذب على نفسه، من يخادع نفسه، من يبقى نفسه في حالة قصور
مستمر، يخوض حربا عنيفة ضد نفسه وملكاته وقدراته؛ وقد يضر بذويه. أما علاقة القصور
الكبير بالعنف فهي أكثر يسرا في الفهم والتحليل، لأن هذا القصور لا ينبني على
الكذب والمخادعة فقط، بل يلجأ إلى أساليب عنيفة في واضحة النهار. يفرض القصور
الكبير فرضا، إما بالجهل، ففي الجهل قصور على الإطلاع و الاستفادة والاستمتاع
بالمعارف، و في الجهل إضرار بالفرد وبالجماعة وبالآخرين؛ و إما بالفقر، ففي الفقر
قصور على الاستفادة والاستماع بالخيرات المتواجدة، قصور على المشاركة في إنتاج هذه
الخيرات؛ و إما بإشاعة التوتر والاضطراب، ففي إشاعتهما قصور على الاستمتاع بحياة
الطمأنينة و السكينة، باعتبارها شرطا أساسيا لتفتح الملكات. و هذه أساليب يلجأ
إليها القائمون على القصور الكبيرة لنشره ودعمه.
إذا قبلنا أن في القصور الصغير نوع من الحماقة أو نوع من
الخساسة، فإن القصور الكبير يتميز بالقصدية. تكون المخاوف، مثلا، أكانت واعية أو
غير واعية، بالنسبة للقصور الصغير، حالات ضعف تنتاب المرء وتحول بينه و بين الحياة
الإيجابية، بينما يكون الخوف بالنسبة للقصور الكبير، "خوفا منظما"، و
"خوفا ديناميكيا". و لكن هذا الخوف، حتى لو كان على هذه النمطية، يخفي
خوفا آخر يخص القائمين على صناعة الخوف الكبير؛ فهؤلاء (صناع الخوف الكبير) يخافون
من الآخرين، و من تفتح ملكات الناس وقدراتهم على الفهم والفعل، ومن ذكائهم؛ إنهم
يخافون من أن يستمتع الناس بحياة نظيفة، إدراكا منهم بأن هذا التفتح و الانعتاق من
القصور يتعارض تعارضا كبيرا مع "أوضاعهم المتميزة". فكلما كبر هذا الخوف
لدى القائمين، ولدى صانعي القصور الكبير، كلما كبرت شراستهم. فللنظر، مثلا، إلى
مسألة "امتلاك الأسلحة" في العالم. فهذه المسألة تثير لدى
"كبار" العالم جميعهم، ردود فعل متشنجة وجنونية لأن "امتلاك
الأسلحة" ( و الكبار يملكون أسلحة قدراتها التدميرية لا توصف) دليل فعلي على
الخروج من حالات القصور الكبير التي يفرضها "الكبار". لاشك أن العدوانية
الكونية ستعرف تصاعدا ملحوظا، وستنوع من أساليبها، وستلجأ أكثر فأكثر، إلى خلق
الاضطراب هنا وهناك، ضمانا لإبقاء "الآخرين" في حالات القصور الكبير
والصغير المتنوعة، لأن الناس كلما انغمسوا في الاضطراب ابتعدوا عن كل مساهمة
إيجابية، وعن كل حياة نافعة وذكية. ولهذا، يبدو لي، أن نبذ الحرب وإدانتها أكانت
بين شعوب أو داخل وطن أو بين الأوطان، و بين "البلدان الصغيرة"، أي معظم
العالم الموجود خارج "نادي الكبار"، إن نبذ الحرب ضرورة وجودية، لأنه لا
يمكن لهذه المجتمعات أن تتحكم في دواليب الحرب ومصيرها. إن نبذ الحرب هو أكثر
الأساليب نجاعة في مقاومة العدوانية الكونية. و لا يعني هذا القول أن يظل من تفرض
عليه العدوانية الكونية كابوسها مكتوف الأيدي. و لكن لابد من القول إن انغماس
الشعوب والأوطان في حروب فيما بينها، يفوت عليها فرصة الانتباه إلى المخاطر الكبرى
التي تحملها هذه العدوانية الكونية، فالشعوب الإفريقية المسكينة، مثلا التي يزج
بها في الحروب "التافهة" تنغمس أكثر فأكثر في القصور بنوعيه: فهل أصبح
هذا الفريق أم ذاك بعد مجازر روندا المروعة أكثر غنى، وأكثر مناعة، و أكثر ذكاء،
وأكثر قدرة على الاستفادة من وجوده في هذه الحياة؟
إن من بين ما ترمي إليه قصدية القصور هو تحويل سلوكات الناس
إلى سلوكات بهيمية بليدة. وهنا، نلاحظ نوعين من السلوك: النوع الأول هو الاستسلام
التام، و النوع الثاني هو المراوغة. السلوك الأول، هو خوف و هلع و انبطاح أو هو
تقمص لكل هذه الأدوار. يصف تشيكوف بروعة حالة موظف روسي بسيط وجد بنفسه يوما،
جالسا مساء في المسرح إلى جانب رئيسه في الإدارة التي يعمل بها؛ فجعله قصوره
الصغير يعتقد أنه لا يستحق أن يجلس إلى جانب رئيسه في المسرح، وأن في هذا الأمر
خطيئة؛ فقضى ليلته يفكر في الاعتذار لرئيسه لكونه جلس إلى جانبه بمحض الصدفة، فما
إن عاد إلى عمله صباحا، حتى ذهب إلى مكتب رئيسه، على غير عادته، ليقدم اعتذاره.
لكن الرئيس الذي كان منشغلا، طلب منه أن يعود فيما بعد؛ وعاد مرة ثانية وثالثة
ورابعة، فذّكره المدير، بنوع من الصرامة، أن عليه أن يمر عن طريق السلم الإداري،
دون أن يعلم أن الرجل جاء ليقدم اعتذاره عن ذنب لم يرتكبه. و عاد إليه مرات أخرى،
فأصبح المدير يعتقد أن الموظف الصغير يزعجه لسبب تافه، فنهره مرة بشدة، فسقط
الموظف على قفاه ومات من هلعه. تمثل هذه الواقعة حالة القصور الصغير الذي يسكن
الذوات، الأجساد و الأرواح.
و هناك النوع الثاني، و هو الذي يلجأ فيه القاصرون سواء
كانوا جماعات أو أفرادا إلى المكر، فيلبسون في كل الحالات أقنعة الخدم، ويعيشون
بعقلية الخدم، ويتظاهرون بالطاعة والولاء، وهم في ذلك يمكرون ويخادعون.
هذان النوعان من سلوكات القصور تنجم عنهما ظاهرة المخادعة
الشديدة، فسواء أكان القصور مطبوعا بالهلع الشديد أو بعقلية الخدم، فإنه يوحي بنوع
من الطمأنينة والسلم، والاستقرار والسلم، وهي أمور جد خادعة، لأن حالة القصور ليست
هي حالة السلم والاستقرار و السكينة. ربما يساعدنا إدراك طبيعة هذه المغالطة على
فهم الطبيعة المفاجئة لهذا النوع أو ذاك من العنف.
يوحي القصور بنوعيه بوجود السكينة و السلم داخل المجتمع، و لكن
هذا الإيحاء خادع. و يبقى السؤال مطروحا: كيف يمكننا الإفلات من قبضة القصور
الصغير؟ وكيف نجد أنجع الوسائل لمجابهة القصور الكبير المدعوم اليوم بالعدوانية
الكونية؟
يميز اسبينوزا بين الانفعال الذي يطبع بالغموض والخلط
والسلبية، وبين الرغبة التي هي، في نظره، جوهر الحياة؛ فأكبر رغبة لدى المرء ولدى
الكائن الحي عموما، هي الرغبة في الوجود و في البقاء و في الحفاظ على حياته. بهذا
المعنى يكون القصور منافيا للرغبة في الحياة، وفي البقاء و في الوجود، بينما يكون
الانفعال مجالا و مرتعا خصبا للقصور. فاسبينوزا يرى في قصور المرء عن التخلص أو
التقليل من حدة انفعالاته نوعا من العبودية. يقول: "أعرف العبودية بأنها
انعدام القدرة لدى المرء على أن يتحكم ويقلل من انفعالاته. عندما يصير الإنسان
خاضعا لانفعالاته يصبح منفصلا وغريبا عن نفسه". إن الأفراد و الجماعات الذين
لا يتحكمون في انفعالاتهم، و لا يقللون من ميلهم إلى الحقد والكراهية، و من إرادة
الإساءة والانتقام، يكونون أفرادا وجماعات أقرب إلى العنف و أبعد من الرغبة في
التماسك والتعايش. فحالة الغضب أو الكراهية القصوى تنسي الفرد والجماعة إدراك
الأخطار المحدقة بالسلوك المدفوع أو المحكوم بهذه الانفعالات. فقد يرتكب الفرد أو
الجماعة، تحت وقع الانفعالات، أخطاء لا ينفع معها الندم بعد وقوعها. تظهر
الانفعالات لدى الأفراد أو الجماعات ليس كسلوكات ساكنة، بل على عكس ذلك، كسلوكات
دينامية شديدة الحركية والانفعال. و تبدو الجماعات و الأفراد و كأنهم يمتلكون
قدرات هائلة على الفعل والتأثير، بينما هم دمى في يد الانفعال، كما يقول كانط. إن
حركية و ديناميكية الانفعالات و النزوات تكشف عن قصور الأفراد و الجماعات، وعن
انغماس الكل في القصورين، الكبير والصغير. و يزداد هذا الانغماس أو الانحصار قوة
بفعل الخلط و الارتباك والاضطراب الذي يطبع كل الانفعالات و النزوات. فالذي يشتم و
يجرح الغير بفعل الغضب، سواء ندم على فعلته أو لم يندم، يكون سجين القصور الذي
فرضه عليه انفعاله؛ والذي يعتدي على الناس بدافع الكراهية يجد نفسه في قبضة
القضاء؛ ففي الحالتين يكون هؤلاء قاصرين عن الخروج من الأوضاع المؤلمة التي يزجون
بأنفسهم فيها بفعل انفعالاتهم و نزواتهم. أما المكر والخبث والمخادعة والغش
والضغينة فهي نزوات و انفعالات من نفس الطينة، حتى و إن بدت مطبوعة بطابع الدهاء.
فمن تحكم هذه الانفعالات و النزوات "الذكية" سلوكاتهم يكونون في حالة
قصور تام، فلا يدركون أن الحياة يمكن أن تعاش بشكل آخر مطبوع بالإيجابية، و أن
العلاقات بين الفرد ونفسه، وبينه وبين الناس يمكن أن تقام على قواعد سليمة و
مغايرة لطبيعة الانفعالات المضرة هذه.
يبدو الناس الذين تحكم سلوكاتهم وتطلعاتهم الانفعالات و
النزوات وكأنهم هادئون، رزينون، ومسالمون ولا يمتون إلى التوتر والاضطراب بصلة،
يبدون و كأنهم لا يلجأون إلى ما يمس الآخرين بأذى، بينما تجعلهم انفعالاتهم و
نزواتهم في حالة حرب مستمرة ضد أنفسهم وضد آخرين. و هذا نوع من المخادعة التي يكشف
عنها اسبينوزا فيقول: "إذا كان الناس في مجتمع ما لا يحملون السلاح، أو لا
يلجأون إلى السلاح لأنهم يعيشون تحت وطأة الرعب، فيجب أن نقول إن السلم لا تسود في
هذا المجتمع، بل يتعلق الأمر فقط بغياب الحرب. إن السلم ليست مجرد غياب للحرب،
إنها فضيلة تجد أصلها في قوة النفس أو الروح، لأن الامتثال إرادة مستديمة لدى
الناس للقيام بما يجب القيام به، تبعا لقانون ذلك المجتمع. إن مجتمعا تكون فيه
السلم نتيجة لجمود الناس وتقاعسهم، و يقتاد أناسه كالقطيع، لأنه لم يتم إعدادهم
سوى للطاعة، مجتمع كهذا لا يمكن أن يسمى مجتمعا بل عزلة (Une solitude).
يبدو مجتمع ما هادئا و مستكينا ومسالما لأن مكوناته، أفرادا
و جماعات، لا تلجأ إلى السلاح و يخلو مجالها الحيوي من الاقتتال، فلماذا لا تبدو
هذه الظاهرة، كافية، في نظر اسبينوزا، للقول إن هذا المجتمع ينعم بالسلم؟
يرى اسبينوزا أن السلم ليست هي مجرد غياب الحرب أو انعدامها،
بل إن السلم أكثر من ذلك. فجمود الناس، هنا وهناك، وتقاعسهم أو خوفهم أو وقوعهم
تحت تأثير الرعب يجعلهم خاضعين أو متظاهرين بالخضوع و العيش في السكينة. إن هذا
الخضوع، أو التظاهر بالخضوع، هو ما قد يفسر اللجوء المفاجئ لأشكال قاسية من العنف،
ذلك أن الناس هؤلاء الذين يطيعون أو يتظاهرون بالطاعة لم يتم إعدادهم إلا لذلك،
لقد تم "تطويعهم" بوسائل شتى منها الرعب، والخوف، والمس بمصالحهم، ومنها
أساليب قد يغيب عنها الرعب في الظاهر، ويبقى في الخفاء يحرسها، كما نجده في وسائل
التربية والحياة العائلية والسلوكية اليومية.إن أناسا لم يتعودوا إلا على الطاعة،
قد يطيعون فعلا، و قد يمكرون. و في كل الحالات، فهم يخضعون لأي جهة ولأي قوة تستبد
بهم. وهذا أمر يخالف حالة السلم الحقيقية. و هناك مسألة أخرى يلح عليها اسبينوزا
في هذا النص، و هي أن حالة السلم تتميز بوجود أناس يقومون بواجباتهم حسب ما تمليه
عليهم شروط الحياة الجماعية والفردية، و بمحض إرادتهم وليس خوفا من أية جهة كانت؛
يحترمون القوانين التي يعمل بها في مجتمعهم رغبة منهم في الحفاظ على أنفسهم
ومصالحهم، ويقصدون نفس الشيء بالنسبة للآخرين. فالذي لا يحترم القوانين إلا مكرها،
قد يتحايل، وقد ينجح في التحايل على القانون، وهذا منتشر جدا. فمجتمع الخضوع
والمخادعة ليس بمجتمع تسود فيه السلم لمجرد انعدام الحرب، بل ليس هو بتاتا مجتمع
في نظر اسبينوزا، لأن الناس يعيشون في عزلة. فخوفهم من الآخرين، وربما خوفهم من
أنفسهم يجعل رغبتهم في التعايش الفعلي والإيجابي ضعيفة، فيسود الاضطراب والارتياب
والانطواء والاحتياط المبالغ فيه والزائد عن الحد. فيسود في المجتمع اللجوء إلى
المكر و الضغية، إما "حفاظا على الذات"، و إما لاتقاء شر الآخرين
وضررهم.
إن تجمعا للناس كهذا، لابد و أن تسود فيه الأفكار الناقصة
والمغلوطة والمشوهة، فينعدم فيه ذلك التمييز الذي يعتبره ديكارت يميز الإنسان عن
غيره، أي التمييز بين الخطأ والصواب. و يصل هذا الخلط إلى عدم تمييز الناس بين ما
هو صالح لوجودهم و بين ما هو شديد الضرر لهذا الوجود.
يرى الفيلسوفان كواتري و دولوز، في كتابهما : ضد-الأوديب
"أن المشكل الأساسي للفلسفة السياسية يبقى ذلك المشكل الذي افترضه اسبينوزا و
اكتشفه من جديد ڤلهايم رايش فيما بعد، لماذا يكافح الناس من أجل عبوديتهم
كما لو تعلق الأمر بخلاصهم؟ " لعل في هذا القول إشارة واضحة إلى أقصى درجات
الخلط والنفور وللابتعاد عن الحقيقة وعن التعقل، إشارة إلى الدرجة الأقصى من
القصور الصغير والكبير. ويبقى السؤال: كيف، والحالة هذه ( الناس يخلطون أو قد
يخلطون بين مصالحهم وبين ضياعهم)، يستطيع العمل السياسي، أو التفكير السياسي، أو
أي نشاط يمت إلى السياسة بصلة أن يجعل الناس قادرين على إدراك مصالحهم والابتعاد
عن كل ما قد يسبب ضياعهم ويتلف مصالحهم ويعبث بمصائرهم؟ ينضاف إلى هذا السؤال
العريض سؤال آخر: هل يستطيع العمل السياسي، هنا وهناك، النهوض بهذه المهمة دون أن
يفشل، أم هو يقوم بعكس ذلك، فينغمس الناس في قصور أكبر فأكبر؟
يرى ديكارت أن "الحس السليم" أو العقل أو النور
الذي وضعه الله في كل إنسان، هو أعدل قسمة بين الناس، وأنه هو الشيء الأكثر توزيعا
بين الناس بالعدل. وبعد عرضه لهذه الفكرة الرئيسية من فسلفته يرد ديكارت على ما قد
يعترض عليه: وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نجد أناسا عقلاء ونجد، في الوقت ذاته،
وربما بعدد أكبر، أناسا آخرين ينعدم عندهم تماما هذا الحس السليم، وتتميز سلوكاتهم
بالحماقة والجنون؟
يرد ديكارت على هذا الاعتراض قائلا إن الأمر يتعلق بشيئين:
الاستعمال و الأغراض. فإذا استعمل "الحس السليم" جيدا أعطى نتائج طيبة،
وإذا كان الاستعمال سيئا كانت النتيجة عكسية، كأن يستعمل الإنسان صحته أو سلامته
أو ماله بشكل سليم فينتفع بذلك هو ومن حوله، وإذا أساء استعمال صحته أضربها؛
والمسألة الثانية هي الأساليب والأغراض التي يستعملها "الحس السليم"
فإذا كانت الأغراض جيدة وطيبة كان الحس السليم قد استعمل استعمالا طيبا لغاية
طبية، وإذا استعمل في الإساءة والإضرار والإكراه، فسد هذا الحس السليم الموزع بشكل
عادل ومتكافئ بين الناس. أما اسبينوزا فيرى أن استعمال الناس لقدراتهم وملكاتهم
العقلية التي تستطيع أن تسير سلوكاتهم بشكل سليم، مسألة شديدة الوضوح، فقليلا ما
يلجأ الناس إلى الاستفادة من هذه الملكات أكانت موزعة بشكل عادل بينهم أم لا. يقول
:"نادرا ما يعيش الناس حياتهم تحت إمرة العقل، فأكثرهم يحسدون ولا يحتملون
بعضهم البعض، لكنهم لا يستطيعون أن يحيوا حياتهم في عزلة، لدرجة أن معظمهم يتلذذون
بالتعريف القائل إن الإنسان حيوان سياسي" إن انتساب الناس إلى قصورهم بنوعيه،
وانغماسهم في الانفعالات و النزوات يحول دونهم ودون الاستعمال السليم لملكاتهم
العقلية التي قد تملي عليهم سلوكات تتعارض وما تدفع إليه نزواتهم و انفعالاتهم.
وفي هذا النص، وتبعا لطريقته، يضع اسبينوزا يده على مفارقة أخرى تطبع ما يمكن أن
نسميه بالطبيعة البشرية. يميل الناس إلى المشاكسة والمخاصمة والمنافسة وربما إلى
التطاحن، لكن ميولاتهم و سلوكاتهم هاته تغرقهم في العزلة. والعزلة تجعلهم عاجزين
عن قضاء مصالحهم. فمن يكره غيره لا يستطيع إقامة علاقة تجارية، أو الحصول على
منفعة بواسطته. و لا يستطيع الناس احتمال هذه العزلة. فهم يقبلون على العراك
والصدام، لكنهم لا يحتملون نتائجه المتمثلة في القصور والعزلة. و يرى اسبينوزا أن
معظهم لايلجأون إلى العمل السياسي لمحاولة الخروج من هذه الأوضاع الموجعة. بل
يكتفون بالتلذذ قائلين: "إن الإنسان حيوان سياسي". و تعنى عبارة
"إن الإنسان حيوان سياسي" أن الإنسان قادر على ابتكار أساليب تضمن
التعايش و التساكن، و تضمن التوصل إلى إدراك سليم للمصالح المشتركة، أكانت مصالح
الفرد أم مصالح الجماعة. إن الإنسان قادر على تحقيق العيش الطيب، على اعتبار أن
الحياة الطبية هي جوهر السياسة لدى أرسطو. هذا الجوهر الذي كثيرا ما تتناسه
السياسة. لنحتكم، مرة أخرى، لتعريف اسبينوزا للسلم حتى نرى إذا ما كان النوع
البشري قادرا على الرقي إلى درجة العمل السياسي كما تعرفنا عليه في هذه السطور
الأخيرة، أم أنه يكتفي بترديد هذا الكلام، والتلذذ بترديده.
يعرف اسبينوزا السلم قائلا: "السلم تعني هنا القدرة على
التوصل إلى غياب المعارك والعنف والصراع انطلاق من القدرة العاقلة في الإنسان
والمعرفة المنتشرة في المجتمع" طبعا، إن السلم تتمثل في غياب الاقتتال بجميع
أنواعه. لكن اسبينوزا يضع شرطين يضمنان أكثر من غيرهما استتباب السلم:
الشرط الأول، يخص قوة العقل وقدرته، وهو عكس ما أشار إليه في
النص السابق الذي يصور فيه تظاهر الناس بالسلم، خوفا أو خضوعا. فقوة العقل تجعل
الأفراد و الجماعات يدركون أهمية السلم بالنسبة لوجودهم ولوجود أقاربهم و ذويهم. و
تجعلهم يدركون أن السلم هي المناخ الوحيد الذي يتيح فرصة التطور والاستمتاع بملذات
الحياة. تكون السلم نتيجة لإدراك وتطلع ورغبة، وليست مجرد غياب الاقتتال تحت طائلة
العقاب أو الرعب.
أما الشرط الثاني فهو انتشار المعارف، لأنه كثيرا ما تقود
الأفكار الناقصة المشوهة إلى نزاعات وصدامات ناجمة عن الجهل أساسا. والمجتمع الذي
تطبعه هذه الأفكار وتسود فيه، يسهل فيه، دفع الناس إلى الصدام و التوتر والعنف. و
نجد في فكرة اسبينوزا هاته، اعترافا بقدرة العقل، إذا ما حسن استعماله، على تجنيب
الناس الوقوع في حبال النزوات و الانفعالات الهالكة. و تلتقي هذه الفكرة مع فكرة
مضيئة أخرى لأبيقور ترى أن الحياة ليست هي تلك " النشاطات المستمرة من أكل
وشراب و محبة للنساء وموائد فاخرة بما تقدمه من سمك وأكل هي التي يمكن أن تعطي
الحياة السعيدة، بل إنما هو العقل اليقظ الذي يبحث بكل دقة في أسباب ما يجب أن
نختاره، وما يجب أن نتجنبه وتركه، والتي تبعد الأفكار غير الصالحة التي تجعل
بمستطاع الاضطراب الأكبر أن يستولي على أفئدة الناس".
يشير هنا، أبيقور إلى أهمية العقل ودوره؛ و لكنه لا ينسى أن
يشير بقوة إلى المتعة و شهوات الأكل والشراب التي قد تحول دون ذلك، والتي حتى و إن
بدت مدعاة للراحة والسعادة، و مظهرا من مظاهر التمدن والتحضر فهي لا تضمن الحياة
السعيدة لا بالنسبة للفرد ولا بالنسبة للجماعة.
يقر اسبينوزا بإمكانية الإنسان إذا ما استعمل قدراته العقلية
والمعارف المنتشرة في مجتمعه وزمانه بأن يرقى إلى مرتبة الكائن السياسي القادر على
صنع الانسجام في المجتمع. و ليس الانسجام مسألة خيالية أو مثالية، كما يقال عادة،
إنما هو شرط للوجود الجماعي المعاش إيجابيا. هذه النظرة الإيجابية للسياسة و
لإمكانيات العقل، يشخصها اسبينوزا في مسألة الدولة التي تعتبر، في نظره، أسمى حالة
للسياسة. يضع اسبينوزا الحرية كغاية للسياسة. وهذا يعني أن ما يبرر وجود الدولة،
أية دولة كانت، هو قدرتها على تحرير الناس من القصور بنوعيه، الكبير والصغير، و من
الاصطدام والضغينة والتناحر. فعندما تستطيع دولة ما أن تحرر الناس من هذه حبال
الأهواء و النزوات تكون قد بلغت غايتها القصوى ألا وهي الحرية.
يرى اسبينوزا: " تؤسس الدولة لكي تمكن الناس من أن
يقوموا بكل بمهامهم، بأن تقوم أرواحهم وأجسادهم بكل المهام الموكلة إليها، لكي
يستعملون عقلا حرا، وحتى لا يتصارعوا بسبب الحقد أو الغضب أو الحيلة أو المكر،
وحتى يستطيعوا احتمال بعضهم البعض دون إساءة. إن غاية الدولة في الواقع هي
الحرية". إذا استطاعت السياسة و مؤسستها الأعلى الدولة أن تحرر الناس من كل
ما أشار إليه اسبينوزا، وتمكنهم من الاستعمال السليم و الحر لملكاتهم، وأن تجعلهم
قادرين على التعايش، و أن يحتملوا بعضهم البعض (و كلمة احتمال تعني المشقة
والصعوبة في تقبل الآخر دون إساءة) تكون الدولة(السياسة في صورتها الأرقى) قد حررت
الناس فعلا، وبلغت غايتها المثلى. و نحن إذ تؤكد على أهمية هذه الأفكار، لابد أن
نعيد على أسماعنا ونضع نصب أعيينا باستمرار الإشارة النبيهة لاسبينوزا: "قد
يكون الاعتقاد في أهمية وضرورة العمل السياسي المحرر مجرد تلذذ؛ أن نتلذذ ونحن
ننغمس في نزواتنا و نكرر قولا مداعبا : " إن الإنسان حيوان سياسي" .
العنف بالتفويض .. صعوبة في الإدراك
هناك عدة صعوبات تعترض المرء في الإدراك والفهم. قد يبدو
الأمر غريبا، مثلا، بالنسبة لمن يستعمل مبيدات الحشرات في حقله أو حديقته، عندما
يقال له إن عمله المعتاد هذا يساهم في تمزيق طبقة الأوزون و يوسع ثقبها، و بأنه
يساهم في تهديد الحياة على وجه الأرض. قد لا تبدو له أية علاقة بين التهديد و ما
يقوم به؛ و قد يجد صعوبة في تقبل هذه الفكرة، حتى لو كانت مؤكدة بالحجج الدامغة.
يقرينا هذا المثال من صعوبة إدراك ظاهرة معقدة كظاهرة العنف،
أي كانت درجته أو مستواه؛ فمثلا، مسألة "الطريق التي تقتل"، أو
"حرب الطريق" هي عبارة يرددها المذياع والتلفاز والكتابات الصحفية دون
أن ينتبه إليها أحد، و كأن "عنف الطريق" أصبح عنفا مألوفا كالسباع
المحروسة وراء قضبان سياجها بحديقة الحيوانات؛ إلا أن عنف الطريق يؤذي و يقتل.
يبدو و كأن الناس استأنسوا بهذا النوع من العنف الهالك، و استأنسوا بالأحاديث التي
تثير انتباههم إليه، و لا أحد يرى أن له قسطا من المسؤولية في انتشار هذه الظاهرة
المخيفة.
نبدي هنا ملاحظات، وهي مجرد ملاحظات لأنه يصعب علينا أن نقر
بغير ذلك، وقد تكون هذه الملاحظات صائبة، وقد تكون مجانية للصواب. وهي تتعلق
بالمسألة التالية:
إن مظاهر التوتر والتعنت والتشنج التي تصبح مناخا يساعد و
يوفر شروط هذا النوع أو ذاك من العنف، إن بؤر التوتر هذه، قد يشارك فيها هذا الفرد
أو تلك الجماعة بقسط ما، طبعا، ليس بشكل مقصود و لا بشكل إرادي، و إنما بسلوكات قد
يتحكم البعض في جزء منها، وقد يعتقد البعض ويظن أنه يفعل كذلك، وربما كثير من تلك
السلوكات تفلت من هذا وذاك، وتساهم في صنع ذلك المناخ.
تشير هذه الملاحظات إلى ما أسميه بؤرا للتوتر، وهي
"تشتغل"، ربما، منفصلة عن بعضها البعض، و ربما تقيم علاقات
"باطنية" فيما بينها لكن "اشتغالها" يؤدي إلى انتشار نوع من
التوتر والتشنج في الجسم الاجتماعي، فما هي بؤر التوتر هذه؟ في مقدمتها، يوجد ما
يعرفه الجميع اليوم بظاهرة الغش. يبدو، حسب ما نقرأه في الصحافة، هنا وهناك، و ما
نسمعه في حياتنا اليومية، أن الغش لم يعد مسألة استثنائية " بل أصبح"
أسلوبا في العمل وفي الإنتاج" يتشبث به الناس في حياتهم تشبثا قويا لدرجة أنه
لا يخطر على بال امرئ ما أن يتخلى في عمله ونشاطه عن هذا "الأسلوب".
ينجم عن اعتماد الغش أسلوبا في الإنتاج والتعامل كثرة الخصومات و الاصطدامات و
التشنج. وإذا كان صحيحا أن هذا الأسلوب انتشر انتشارا واسعا في كل مجالات الحياة
لدرجة أنه أصبح "مناخا للعمل والتبادل"، فهذا يعني، إذا ما كان الأمر
كذلك، أن الظواهر الملتصقة به من توتر وتشنج منتشرة بنفس القدر. وهذا يجعل الجسم
الاجتماعي في مهب الريح، كما لو تعلقت الأمر برجل في قلق مستمر، وسرعان ما ينتقل
من حالة القلق المستديم إلى حالة الصدام والعراك، ففي ظل هذا المناخ لا يطمئن
الناس إلى بعضهم البعض، وهنا نلتقي مرة أخرى بفكرة العزلة التي قد تحل محل
الاجتماع كما ألح على ذلك اسبينوزا.
مسألة التعصب:
كثيرا ما تستعمل عبارات و نعوث وتعريفات التعصب لوصف الآخر.
وكثيرا ما تستعمل في الشتيمة والقذف. وقليلا ما ينظر إليها كمسألة ينبغي الانتباه
إليها بهدوء، إن أمكن ذلك، وفي تطلع صادق إلى الفهم نعتمد فكرة للفيلسوف الفرنسي
آلن، قد تساعدنا على فهم ما نحن بصدده، يقول: " الحكم المسبق هو أن نصدر حكما
سلفا، أي قبل أية معرفة؛ الحكم المسبق يحول دوننا ودون أن نعرف. وهو يجعلنا نتعلم
بشكل سيء. يمكن أن يصدر الحكم المسبق عن الأهواء، فالكراهية تحب أن نصدر أحكاما
مسبقة سيئة، ويمكن أن يأتي الحكم المسبق من الغرور الذي لا يجعلنا نغير آراءنا أو
من العادة التي ترجع كل شيء إلى القوالب القديمة، أو من الكسل الذي لا يحب البحث
والتمحيص، لكن الدعامة الأساسية للحكم المسبق هي الفكرة القائلة بأنه ليس هناك من
حقيقة يمكن أن تكون وتبقى خارج ذواتنا، وهي بهذا، تعتبر كل رأي جديد مناورة ضد
الفكر (العقل). وهكذا يصبح الحكم المسبق، وهو يستند إلى رغبات نبيلة، تعصبا".
إذا ما اعتمدنا فكرة آلن هاته إمكانية للفهم، تساءلنا:
التعصب بهذا المعنى، هل هو كما يقال ظاهرة محصورة لاصقة بفئة ما، بشخص ما، بسياسة
ما، أم هو على العكس من ذلك، نجده ربما حتى في المكان الذي لا ننتظر أن نجده فيه،
وقد يطبع نظرة سلوك الشخص أو الجماعة التي نتوقع أن لا يكون التعصب من طبائعها؟
إذا ما ألقينا و لو نظرة خاطفة على ما يسمى بالحياة السياسية
لدينا، فإننا نجد هذا المجال مطبوعا بقلة بل بضعف القدرة على التفاهم بين أطرافه و
فرقائه، و بأن ما يغلب على سلوكات الناس المندمجين في هذا الحقل هو أمر يجعلهم
أكثر قربا من تعريف آلن للتعصب منه إلى القدرة على الفعل السياسي المنتج للوفاق أو
التلاؤم الاجتماعي كما حدثنا عنه اسبينوزا.
و نجد كذلك، ونحن ننظر إلى هذا الحقل، أن مظاهر الريبة
والخصام والميل إلى الاصطدام والعراك تخترقه وتنتقل إلى أرجائه بكل عنفوان و
عجرفة. فإذا قبلنا بأن جل السلوكات التي تنتسب إلى ما يمكن تسميته بالحقل أو
النشاط السياسي تطبع بطابع هذا النوع من التعصب كما يحدده آلن، فإن السؤال يصبح
هو: كيف يمكن لأناس متعصبين و لأعمال ونشاطات وتطلعات مطبوعة بالتعصب أن تنتج
مجتمع التفاهم؟
كثيرا ما يبدو أنه من الهين أن يسلك الناس مسلك الهدوء
والحوار، وأن يقتربوا أكثر فأكثر من التفاهم، وهم عكس ذلك يركبون رؤوسهم ويتسلحون
بقوة ومنطق التعصب والتصلب المشار إليه. و السؤال المحير هو كالتالي: لماذا يختار
الناس أساليب وطرقا يعلمون أن مآلها هو التشتت والفرقة والصدام، بينما تقول
ادعاءاتهم وتطلعاتهم بالرغبة في خلق أجواء للتطور والرقي والانسجام. سؤال آخر يثير
حيرتنا : لماذا يتشبث الناس بهذه الأساليب، حتى عندما تظهر لهم أثارها السلبية؟ إن
المتعصب هو ذلك الشخص أو تلك الجماعة القابعة بعيدا عني وعن جماعتي. هذا هو شعار
التعصب الأكثر تجدرا فلا أحد يقبل لعبة المرآة بالنسبة لذاته؛ فيصبح التعصب وما
يحمله من أحكام مسبقة تمنعه من المعرفة الحقة، عبارة عن حاجز سميك يستعمله كل طرف
يشوش على معرفة كل طرف بالطرف الآخر.
إذا كان في هذا التحليل نوع من الصحة، وكأن كل واحد من الناس
يبحث عن عزلة تحميه من الآخرين، وتبعده عنهم، إذ يتصور كل واحد منهم أنه لن يجد
"غايته" و "مرماه" إلا في الاعتزال عن الآخرين. إن هذه العزلة
هي ما يسميها اسبينوزا نقيض السياسة، ونقيض المجتمع. أما الأحكام المسبقة المشكلة
للجدار الفاصل المسمى تصلبا، فهي كثيرا ما تكون "فاصلة" و
"نهائية"، حتى لو تبث خطأها. إذا كان الأمر كذلك، وكان التعصب بهذا
المعنى منتشرا بهذا الشكل، فكيف يمكن أن نتحدث فيما بيننا، حتى لو كانت تطلعاتنا
صادقة، عن مجتمع تتوفر فيه عناصر التفاهم المؤدي إلى السياسة الإيجابية؟
يلتقط كل طرف، وداخل كل طرف أطراف، صورة الطرف الآخر عبر
الجدار السميك الذي هو التعصب؛ فلابد، إذن، من أن تكون هذه الصورة مشوهة أو أنها
في جميع الأحوال، غير صورة الطرف الآخر. فيحدثك البعض عن صورة الآخر، صورة هي أصلا
غير "مطابقة" لذلك الآخر. فحتى الإدراك الذي يلتقط تلك الصورة يكون
إدراكا يشوبه الخلل والارتباك. إن هذا النوع من الإدراك يحكم "السلوك
السياسي" الذي يشتغل كبؤرة ضخمة للتوتر، إذ يزيد من كثرة الأحكام المسبقة و
ما ينجم عنها من كثرة التسلط، هذا إذا ما اكتفينا بالنظر إلى ما يسمى بالحقل
السياسي، أما إذا لاحظنا آثار هذا السلوك خارج هذا الحقل، و إذا افترضنا أن له
خارجا (Un
dehors)، فنلاحظ ما يقر به
الجميع الآن: انتشار التذمر والاشمئزاز والنفور من الحقل السياسي. فلو دعاك أحد
إلى حفل شاي، وعلمت أن كل الذين سيحضرون هذه الحفلة سيدخلون في عراك أو صدام، فهل
ستذهب إلى تلك "الحفلة"؟
يميز اسبينوزا بوضوح بين السياسة والتجريح والتشهير، فإذا
كانت غاية السياسة هي إخراج الناس من عزلتهم وجعلهم قادرين على الانسجام والإدراك
السليم لمصالحهم مما يقوى تجمعاتهم، فإن التجريح والشتم يفعلان غير ذلك، فهما
ينتجان بمقادير كبيرة أحقادا وكراهية وضغينة ولجوءا إلى المنكر وإلى القهر وإلى
الإساءة مما يكثر من "فرص" التبعثر والتشتت و التشرذم و الانقسام
والعزلة، حتى لو ظهر الناس مجتمعين ومتآلفين.
إن التجريح والشتم يصبوان إلى غاية معاكسة لغاية السياسة.
إنها "تنوي" إبعاد الآخرين وإقصائهم والتخلص منهم. فالسياسة كما يفهمها
اسبينوزا هي رغبة في خلق الحد الأدنى من الانسجام والوفاق مما يجعل شروط الحياة
الجماعية ممكنة، تنبني على عكس ذلك، فالآخر حتى و إن اختلفت آراؤه وما أقوله به من
آراء يظل إمكانية وفرصة ومفتاحا قد يحتاجه الجسم الاجتماعي، و"التخلص"
منه، هو قضاء على فرص وإمكانيات ما أحوج المجتمع إليها في حاضره، و مستقبله.
يغرق الشتم و التجريح ، تماما كما يفعل التعصب، الجسم
السياسي في السلبية و الجمود، حتى وإن بدا هذا الجسم منفعلا بمحيطه وشديد التوتر.
إذا كان لهذا الكلام نصيب من الصحة، فستنبني عليه ملاحظة
أخرى تتعلق بقوة الكلام وباستعمالاته المتنوعة. نلاحظ أن الكلام الذي يسبح الجميع
في بحاره المترامية الأطراف ينخرط و يستعمل في خلق تصورات وعلاقات تطبعها الغرابة
كما سنرى في ما بعد.
يكتب نيقولا كريمالدي في الرغبة و الزمن: عن قوة الكلام
وسحره،:
"هناك فتنة وسحر للكلام، وهكذا فكل ما يقال عني يغير
أشكال وجودي حيث أن حياتي تصبح إما ضعيفة مهترئة أو رائعة" و يشرح كريمالدي
قوة الكلام وسحره في الفقرة التالية: "إن القوة السحرية للغة تكمن في قدرتها،
إن القوة السحرية للغة تكمن في قدرتها على الحلول محل الواقع، بحيث تجعل مما تقول
به وجودا فهي (القوة السحرية) أصل لكل تشهير أو مداهنة، لا يمكن أن يصبح التشهير
والتشنيع ممكنين إلا إذا اعتبرنا قدرة اللغة على تفتيت الواقع وتشويهه. فمهما قلت
تبقى آثار التشنيع والتشهير قائمة، وليس هناك من أحد، بما فيه الشخص الذي يتم
التشهير به لا يصدق ما يقال عنه، فبكلمة واحدة يمكن تخريب حياة كاملة، مهما كان
ضعف هذه الكلمة يكون الكلام قد ألقي أذى من السحر على الحياة، من هنا تأتي كذلك
قوة المداهنة ذات الآثار المعاكسة للأولى، فبما أن التشهير يشوه فإن المداهنة تغير
أشكال ذلك الذي تتحدث عنه. فبواسطة الكلام المداهن يتم مسخ الماضي وتغييره، فيجد
الحاضر نفسه وقد ورث ماضيا لم يوجد أبدا. فالوعي المجامل أو المدهون يستمتع
بالمداهنة وكأنما هي قراءة روائية جميلة لحياته"
يلاحظ استعمال مفرط لهذا الأسلوب في الكلام، ففي الجدال
والمخاصمة والمنازعة يلجأ الناس إلى القوة السحرية كما يتحدث عنها كريمالدي. و
يلجئون إلى التشهير والتشنيع، راغبين وقاصدين إيذاء وتحطيم والإساءة إلى من يشهرون
به.و تنتصر، في هذه الحالة، ما يسميه إريك فروم بنزعة التخريب. فيصنعون بتشهيرهم
أشخاصا آخرين وجماعات أخرى لا علاقة لها بالشخص الحقيقي و لا بالجماعة الفعلية. لا
تبتعد كثيرا عن هذا السلوك أو المنحى أساليب المداهنة. فيقوم المداهنون/ المجاملون
بصناعة تاريخ موازي لتاريخ الشخص أو الجماعة، يجعلون كل شيء خافت عظيما، ويصنعون
من التافه العجائب والخوارق. والسؤال الذي يطرح هو كالتالي: لماذا يمثل هذا
الأسلوب، أسلوب التشهير والمداهنة إساءة، للناس جميعا. إن استعمال هذا الأسلوب
والمبالغة في استعماله لا يقود إلى صنع تصورات ذاتية كما يقال؛ فما ينجم عن هذا لا
هو بالتصورات و لا هو بالعلاقات الذاتية و لا بالموضوعية، يفلت من هذا التقابل ما
يصنعه سحر اللغة والكلام و جبروتهما مشوها أو مداهنا، فهي تصورات وعلاقات مغالطة.
فالتشهير بالشخص أو بالجماعة ينوي التخريب والتهديم عبر المغالطة، والمداهنة تقصد
نفس القصد بالمغالطة كذلك.
خطوط التوزيع والاستبدادات الصغرى
يقول: "أليكسس دو توكفيل "يجب أن لا نحتقر الإنسان
إذا ما أردنا أن نحصل من الآخرين و من أنفسنا عن مجهودات كبرى". نلاحظ كذلك
أن خطوط الفصل أو التوزيعات تخترق جسمنا الاجتماعي، تنضاف إلى خطوط الفصل التي
تميز الفقراء عن الأغنياء، والمتعلمين عن غيرهم، والرجال عن النساء، الخ هذه
الخطوط تفصل المجتمع إلى فئتين غير متكافئتي الحجم:الأولى يمكن أن نسميها بأهل
الاعتبار، أي الفئة التي تتكون ممن يحظون بالاحترام والتقدير والمودة، و يشمل هذا
الاعتبار والاحترام جل مجالات حياتهم؛ أما في الجهة الثانية، وهي شاسعة الأطراف،
فيحشر فيها حشرا من له قسطه من الاحتقار. تتقابل الفئتان، و يتقابل الاحترام
والاعتبار مع الاحتقار؛ تتقابل أجسام و أرواح متباعدة ومتنافرة. إن هذا التقابل أو
التعارض هو بالضبط ما يجعل الحوار كما تحدثت عنه في البداية أمرا صعبا، إن لم نقل
مستحيلا، ولهذا فالذي يطفو على السطح هو النقاش الممتلئ حيلة وضغينة ومشاكسة. فما
هو تأثير هذا الانشطار على الحياة الجماعية وعلى تطلعات الناس إلى الوفاق
والانسجام؟
بالنسبة لفئة أهل الاعتبار يحدث أمر يسير في نفس الاتجاه
المنافي للسياسة، حتى وإن لبس لباسا سياسيا. قد يحصل شخص أو جماعة ما على الاحترام
والتقدير والاعتبار بفعل عمله وجده و استقامته والخدمات التي يسديها للناس، وإذا
ما أصبح الحصول على الاعتبار والاحترام ليس نتيجة بل منطلقا، وهو المقصود
والمبتغى، انقلب السحر على الساحر، فيبحث الناس على الاعتبار، أولا، دون أن يكلفهم
ذلك عناء العمل وجدية المثابرة وأهمية النتائج الإيجابية بالنسبة لحياة الناس
جميعا، فيصبح ما يسميه اسبينوزا تجريحا أو مخادعة هي السياسة التي لا غرض من
ورائها سوى الحصول على الاعتبار والانتماء إلى أهل الاعتبار، إذ أن هؤلاء لا يمسهم
أذى وهم في منآى عن المتاعب والمصاعب التي قد يتعرض لها الآخرون؛ مقابل هذا ينتشر
الاحتقار في المساحات الشاسعة التي يحشر فيها كثير من الناس من الفقراء، وكثير من
النساء، وليس كل النساء، لأن بعضهن ينتمين لأهل الاعتبار، من المعاقين إلخ. هؤلاء
قد يسير بهم درب الاحتقار إلى أقصى منتهاه حيث لا يحتقرون بعضهم البعض، بل يعانون
مما يسميه سيرون احتقار الإنسان لذاته. وهذه هي أقصى درجات الاحتقار وإيلام النفس.
ليس الاحتقار مجرد دعوة للعنف، بل إن الاحتقار في حد ذاته عنف شديد.
إن خطوط الفصل هاته تعمل داخل الجسم الاجتماعي السياسي كشروط
مواتية لانتشار ظاهرة الظلم والاستبداد الجزئي والمصغر، فيستبد ذلك الموظف، أو
المسؤول، أو تلك الجهة بأمور الناس عوض السهر على مصالحهم، فالاستبداد الجزئي
يرتكز أساسا على انتهاك القانون، وعلى عدم احترام الحق بأشكال ملتوية جزئية وغير
صريحة، أشكال تعتمد المكر والخبث أسلوبا في الإيقاع بمن تدعى الاهتمام بمصالحهم.
ينتشر هذا النوع من الاستبداد نظرا لكون كثير من الناس يطالهم الاحتقار أي أنهم لا
يستحقون أن يحترم القانون من أجلهم وأن حقوقهم ليست من باب الحق، وإنما هي من باب
المصادفة. إن التفكير في هذه الأمور، حتى و إن بدت شائكة، يرتكز على رغبة في فهم
مكوناتها و دواليبها تطلعا إلى الانفلات من قبضتها المزعجة. وهذا التطلع هو ما
يجعل الناس ينظرون في كثير من الأحيان غير المواتية إلى السياسة بكثير من الرغبة
والآمال في الانعتاق. ومن هنا السؤال: كيف تصير السياسة قادرة على إبعاد الجسم
الاجتماعي السياسي من بؤرة التوتر كما يقدر ربان السفينة أو الطائرة على إبعاد
السفينة أو الطائرة من مناطق الاضطراب الشديد، مما يقتضي رغبة و إخلاصا وتكوينا
ومهارة. ولهذا يتساءل الناس، ماضيا وحاضرا، هنا وهناك، عن طبيعة نظام الدولة
الأحسن الذي يبعد الاضطراب ويحقق الانجسام، وهنا نعود إلى اسبينوزا ونستأنف معه
السير وهو يضيئ لنا طريقنا بنور عقله الثاقب، كتب اسبيتوزا عن النظام الأحسن لكل
دولة:
"النظام الأحسن لكل دولة نعرفه بكل سهولة عندما ننظر
إلى غاية المجتمع المدني. هذه الغاية ليست شيئا آخر غير السلم وطمأنينة الحياة،
وتبعا لذلك فإن أحسن دولة هي تلك التي يعيش فيها الناس حياتهم في وفاق وانسجام
وحيث لا ينتهك فيها القانون. بالفعل، فإن القلاقل والحروب والاحتقار وانتهاك
القوانين لا ترجع إلى خبث الناس بقدر ما لا ترجع إلى سوء نظام سياسي، فالناس
بالفعل لا يولدون مؤهلين للحياة الجماعية، وإنما يصيرون كذلك، وما عدى هذا
فالنزوات الطبيعية هي نفسها في كل مكان. إذن، إذا كان هناك جسم سياسي ينتشر فيه
الخبث ويسيطر والإساءة تكون فيه أكثر من غيره، وترتكب فيه آثام أكثر، فمصدر هذا،
بكل يقين، هو أن الجسم السياسي لم يعمل بالقدر الكافي على توفير شروط الانسجام
والوئام ولم يضع قانونه بقدر كاف من الحكمة والتبصر وبالتالي لم يكتسب الحق الكامل
لجسم سياسي، ذلك أن مجتمعا مدنيا لم يقض على أسباب القلاقل حيث يخشى الناس
باستمرار وحيث تكون القوانين منتهكة ومعرضة للخرق دوما هذا الجسم السياسي لا يختلف
عن حالة الطبيعة حيث يعيش كل حسب أهوائه ونزواته، ومعرضا للهلاك باستمرار، وفي كل
حين".
يؤكد اسبينوزا هنا، بوضوح كبير، أنه يسهل على كل أحد أن
يتعرف على النظام أو أسلوب الحكم الأكثر نجاعة والأكثر قدرة على إبعاد الناس جميعا
عن بؤر التوتر، أسلوب الحكم هذا، كما يصفه اسبينوزا في الفقرة الأولى من النص بكل
دقة، هو ذلك الذي ينجح ويستطيع ضمان الأمن والطمأنينة والانسجام بين مكونات الجسم
السياسي، أي كافة المجتمع. ويحدد اسبينوزا معيار التحقق من صحة هذا الأسلوب، في
الغاية التي يصبو إليها المجتمع المدني. وهنا لا ينحصر المجتمع المدني في الجمعيات
والهيئات ونشاطاتها، بل يعني كافة المجتمع وعموم الناس، مجتمع يود أن لا يكون
مجتمعا متوحشا تسود فيه القلاقل و الاضطرابات والحروب والأحقاد. وهذا هو ما يقصده
اسبينوزا بالمجتمع المدني. والسؤال هو كالتالي: هل ينخرط الناس في هذا الاتجاه،
وهل يعملون جماعة و فرادى على توفير شروط التعايش و التساكن الإيجابيين أم لا، كما
يؤكد اسبينوزا على أهمية احترام القوانين المعمول بها. يمكن الاعتراض على قانون
ما، ويمكن المطالبة بتغييره أو بتصحيحه أو بإزالة نواقصه، لكن الأمر الذي لا يجب
أن يسمح به هو أن يخرق القانون فيصبح السؤال ما معنى انتهاك القانون. فانتهاك
القانون هو عدم القبول بمبدأ التساكن والتعايش والغلو في احتقار الناس، لأن من
ينتهك القانون يؤذي ويمس الناس في مصالحهم، وأحيانا يمسهم في حقهم في الحياة.
والسؤال الثاني أي مجتمع هذا الذي يقبل بأن تنتهك قوانينه، فكلما كانت هذه هي غاية
المجتمع المدني( احترام القوانين) استتب السلم كما يشرحه اسبينوزا، و الذي ليس هو
مجرد غياب الحرب. فكلما حاد المجتمع المدني عن هذا المنحى إلا وعادت القلائل و
الاضطرابات لأن تذكرنا بضعف وقصور هذا الجسم السياسي. فعبارة الجسم السياسي لم
يعمل بالقدر الكافي، أو لم يوفر بالقدر الكافي، لا تسد الآفاق بل تشير إلى إمكانية
التدارك بالمجهود والاجتهاد، على أن لا ننسى وقع ما أشارت إليه الملاحظات السالفة
الذكر، حتى وإن اعتبرناها قائمة، وحتى لو لم تحض بموافقتنا.
يهتم اسبينوزا كثيرا بمسألة الأسلوب. فإذا كانت غاية الجسم
السياسي والمجتمع المدني، وهما لا ينفصلان، هي السلم و الطمأنينة وأمن الحياة كما
حددها اسبينوزا، فيكون البحث عن الأساليب الأكثر نجاعة مسألة جوهرية. يكتب
اسبينوزا في هذا الموضوع:
"يمكن للمرء إن هو أراد أن يبقى غيره تحت سيطرته اللجوء
إلى أساليب متنوعة: يمكن ضبط هذا الأخير (من يرغب في إبقائه تحت السيطرة) أو ربطه
بحبال، يمكن أن تنزع منه أسلحته وكل إمكانية للدفاع عن نفسه أو للهرب، ويمكن كذلك
أن يجعله يخاف خوفا شديدا، ويمكنه أن يجعله مرتبطا به وتابعا له وخاضعا بواسطة
الخيرات والمنافع التي يمكن أن يغدقها عليه، لدرجة أن المُسيطر عليه يفضل الامتثال
لتعليمات سيده بدل التعليمات النابعة من نفسه.
عندما نفرض نفوذنا وسيطرتنا بالطريقة الأولى والثانية نكون
قد بسطنا نفوذها على الجسم وحده وليس على روح الفرد الذي أخضعناه، وإذا مارسنا
الطريقة الثالثة أو الرابعة، فإننا نسيطر بذلك على روح الشخص وجسمه معا، وتدوم
سيطرتنا عليه مادامت مشاعر الخوف أو الأمل لديه. فإذا ما انعدمت هذه المشاعر لديه
استعاد استقلاله عنا، وأفلت من السيطرة المفروضة عليه.
إن القدرة الباطنية للحكم والتمييز هي نفسها يمكن أن تقع تحت
سيطرة شخص آخر، باعتبار أن كل نفس، يمكن أن تخدع من طرف نفس أخرى، وينجم عن هذا أن
النفس لا يمكن أن تنعم باستقلال كامل إلا إذا كانت قادرة على التفكير بشكل
سليم"
يبين لنا اسبينوزا بوضوح كامل مسألة أسلوب الحكم، فإذا كانت
الغاية من أسلوب ما في الحكم هي الإبقاء على أحد ما أو على الناس، أو على فئة ما
تحت السيطرة، فاسبينوزا يعرض لكل الأساليب الممكنة فمنها ما هو عنيف، وضاغط،
وعازل، ومنها من يلجأ إلى الهبات والأموال والخيرات، إلا أن اسبينوزا ينبهنا مرة
أخرى إلى قدرة الناس على المخادعة.
فبالنسبة لهذا الأسلوب أو ذاك، قد يتظاهر الناس بالخضوع
والاستسلام والامتثال الأعمى، فيعقتد المتبني لهذا الأسلوب أو ذاك قصد السيطرة أن
كل شيء قد استقر واستتب، إلا أن الناس، أولئك الذين يخافون، ما إن تنعدم شروط
الخوف حتى تراهم منفلتين من قبضة السيطرة، تاركين أقنعة الطاعة والخضوع التي
لبسوها مدة من الزمن. إن الخضوع والطاعة هما من أكثر الأساليب إنتاجا وتدعيما
للمخادعة. والمخادعة، حسب اسبينوزا، قد تطال حتى تلك الحرية التي يسميها الرواقيون
أو سارتر أو ماركيوز الحرية الباطنية التي تفلت من كل القيود. فحتى هذه الحرية
يمكن خداعها من طرف نفس أكثر مهارة وخبثا. وهنا، يرى اسبينوزا أن الامتثال
والانسجام في الجسم السياسي وفي المجتمع المدني ينبع من رغبة الناس في الامتثال
للقوانين المعمول بها رغبة منهم في التعايش و التساكن و التعاون. و هذا لا يتم إلا
إذا استعمل كل واحد منهم بشكل حر و لائق ملكاته وقدراته على التفكير والفهم
والإدراك. وهذا ما يتنافى مع منطق الخضوع والسيطرة.
ويبقى السؤال عريضا: ماذا نعني بالفكر السليم؟ من الذي
يعطينا تعريفا كافيا لا فكر السليم؟ لابد من تجنب التحايل كما نبهنا إلى ذلك
ابكتيت، فلا يعرض أحد منا رأيه باعتباره هو الرأي السليم، والطريقة الوحيدة للفكرة
السليمة، فهذا ما يتعارض مع جوهر الفكر السليم، أي قدرة الإنسان بكل حرية، على
إدراك ما يجول حوله وما ينفعل بذاته. قد يكون للجسم السياسي والمدني، مؤهلات
ورغبات حقيقية في بروز الفكر السليم، ومن أهم هذه الإمكانيات في الأزمة الحديثة هي
المدرسة. إن المدرسة هي من أكثر الإمكانيات المتوفرة في المجتمع المدني لتطوير
التفكير السليم، وجعل الناس أكثر قربا من استعمالاته السديدة والناجعة.
هناك رأي شائع ومعروف للمؤرخ الفرنسي ميشلي يقول : "كم
تدوم التربية؟ تدوم التربية ما دامت الحياة. ويتساءل ما هو الجزء الأول من
السياسة؟ إنه التربية. و ما هو جزءها (السياسة) الثاني؟: إنه التربية. و ما هو
الفصل الثالث؟ إنه التربية". وهكذا نرى أن ميشلي يجعل من التربية كنه السياسة
وجوهرها. لماذا؟
إذا قبلنا أن الاستعمال السليم لملكات العقل ولقدراته
والاستفادة من المعارف المنتشرة هي أحسن الطرق إلى السلم الذي ليس هو مجرد غياب
الحرب. فإن المدرسة تكون هي المجال الأكثر قدرة على تعليم الناس لأحسن السبل و
أرقى الطرق لاستعمال ما يتوفرون عليه من ملكات وقدرات عقلية هائلة. كما أن المدرسة
هي التي تبعد الأفكار المشوهة، وتشبعنا، إن هي نجحت في ذلك، بالأفكار النيرة التي
تجعلنا قادرين على الاستفادة من المعارف أكثر فأكثر، و تجعلنا قادرين على الإفلات
من قبضة التعصب، وتجعلنا قادرين على النظرة إلى الآخرين وإلى أنفسنا في منأى عن
الحاجز السميك الفاصل الذي يصنعه التعصب بكل إصرار. و التأكيد على أهمية المدرسة
باعتبارها كنه السياسة، يكتسي أهمية بالغة بالنسبة للمجتمعات من حجم مجتمعنا. فكما
نلاحظ اليوم، ينقسم العالم بوضوح إلى نادي للكبار يستند على منطق القوة التي يمتلك
وسائلها، وإلى الآخرين الذين يصعب عليهم امتلاك أسباب القوة، ويكون من المجازفة
الخوض في هذا المجال. فنحن نلاحظ بأسى شديد أن تطلع بعض المجتمعات إلى أن تصبح
"مجتمعات قوية"، وهو تطلع لا نناقش مشروعيته و لا أهميته، كان تطلعا غير
صائب. إن التطلع الأكثر قربا من الصواب هو أن تتطلع المجتمعات إلى أن تصبر مجتمعات
ذكية وليست مجتمعات قوية، لأن القوة ترتكز أساسا على قوة الحرب والتدمير، وليست
مجتمعاتنا في حاجة إلى هذا النوع من القوة. إنها مجتمعات في حاجة كبيرة وماسة إلى
قدرة الذكاء ونور المعارف.
لا توجد في الحقل الاجتماعي والسياسي إمكانية تتيح و تضمن
النجاح في هذا المضمار، إنتاج مجتمعات وأناس يتميزون بالذكاء والفطنة والرغبة في
الإطلاع أكثر من المدرسة، نظرا لطبيعتها، وللمدة الزمنية التي يستغرقها التعلم،
وما تحمله من طموح يواكب الفرد والجماعة منذ النشأة وقد يستمر ملازما لهم إلى
نهاية الحياة الشخصية أو الجماعية. فإذا ما قبلنا أن كنه السياسة هو التربية، تصبح
المدرسة هي المعمل الأكثر قابلية والأكثر قدرة على تحقيق هذا الغرض، وبالتالي،
يصبح استثمار أموال الدولة وغيرها في مجال التربية مسألة على قدر كبير من الأهمية.
فإذا ما قبلنا بهذا الرأي، جنبنا هذا الإدراك والتطلع ذلك الضجيج المهول الذي أحاط
بتكاليف التربية الذي ساد في السنوات الأخيرة. وأشير هنا، إلى ما قاله أحد رؤساء
فيدرالية الأساتذة والمربين بفرنسا عندما قال : "إذا كنتم (مخاطبا المسؤولين)
تجدون التربية والتعليم جد مكلفين، فجرّبوا الجهل". إن المدرسة تجعلنا نجرب
تعاطي المعارف وتطوير الملكات وإبعاد الجهل لما يحمله الجهل من مخاطر العنف، بل إن
الجهل كالفقر هو عنف في حد ذاته.
هكذا يُِبقي نص اسبينوزا هذا، كل الأبواب والنوافذ مفتوحة
على الحوار والبحث عن أنجع السبل التي تمكن المرء من ممارسة تفكير سليم.
و يمكن أن تكون هذه الكتابة مناسبة لإبقاء الحوار مفتوحا،
لأن هذه المواضيع شائكة وصعبة. لكن لابد لهذا الحوار أن يتحلى بما سبق من شروط
الحوار، وربما قد يتم على الطريقة التي تحاور بها فرانسوا مورياك و جون بولان إذ
أن فرانسوا مورياك كتب إلى جون بولان يدعوه إلى الانتساب إلى ما يقتنع به هو
(فرنسوا مورياك) من آراء في الاعتقاد والسياسة والفن والفكر، فأجابه جون بولان برسالة
مؤرخة بـ 4 مارس 1929 قائلا:
"إنني لا أستطيع بكل نزاهة أن أسير في أي من الممرات و
المسالك التي تقترحها علي، إلا أن كل ما تشير علي به خارج هذه الممرات يبدو لي
صحيحا وحقيقيا، بشكل لا متناه. فأنت بمجرد ما تتوقف عن محاولة إقناعي تغمرني رغبة كبيرة
في أن أقول لك إنك على حق".