ص1     الفهرس    51-60

عنفنا الأليف و مستقبلنا المخيف !

 

محمد الهلالي.

I

تعيش الفلسفة حالة غدر قصوى في "دار الإسلام". لم يطل وقت الزهو بالذات والفخر بالسلاح المسنون الذي جعل أهله يعتقدون أن العقل سيفوز في كل المعارك، وحتى في الحروب الأخيرة على حفظة النصوص وحمايتها.

 بل إن الفلسفة في هذه الديار (أو للدقة إعمال العقل بجرأة في مسائل الإلهيات وعلاقتها بالإنسان) أعلنت الحرب على نفسها حيث قامت على لسان أحد المنتسبين إليها بتكفير المشتغلين بها وفيها.  يقول أبو حاد الغزالي:" ويجب القطع بتكفير الفلاسفة في ثلاثة مسائل وهي: إنكارهم لحشر  الأجساد والتعذيب بالنار والتنعيم في الجنة بالحور العين والمأكول والمشروب والملبوس، والأخرى  قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات وتفصيل الحوادث وإنما يعلم الكليات، وإنما الجزئيات تعملها الملائكة السماوية. و الثالثة قولهم إن العالم قديم، وإن الله  تعالى متقدم على العالم بالرتبة مثل تقدم العلة على المعلول..." (


[1]). وليس التكفير هنا مسألة شرعية أو فقهية تظل على مستوى الرأي الفردي والمذهبي، وإنما هو المدخل الشرعي للإبادة. إن التكفير قتل قبلي، وهو يظل قائما – مهما طال الزمن – منتظرا تحوله إلى فعل عملي. و هذا ما تؤكده الحالة المعاصرة للتكفير: حالة الروائي سلمان رشدي. و لقد ظلت لعنة الموت والقتل تلاحقانه منذ إعلان الإمام الخميني فتواه الشهيرة في حقه في نهاية السبعينيات وإبان انتصار الثورة الإسلامية الشيعية في إيران. وحتى و إن تراجعت الدولة الإيرانية ديبلوماسيا عن الفتوى، فلا أحد يضمن عدم تنفيذها ذات يوم ما دام المعني بالأمر على قيد  الحياة.

 وهو ما يفسر الحماية الدائمة له من طرف بريطانيا التي يحمل جنسيتها.

وأمام خطورة التكفير المؤدي إلى القتل حتما يستدرك أبو حامد الغزالي قائلا:" والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا. فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ. و الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ يف ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم"([2]). إن التعصب المتغلغل  في العوام لا يجعل لهذا النداء صدى، ولا يبقى له قيمة، خاصة وأن الغزالي نفسه يقول في "القسطاس المستقيم" بأن "المقلد لا يصغي". وهذه أمة مقلدة لا تنفع معها الدعوات التي تثني على  الحرية والديمقراطية. ولقد سبق لمحمد عابد الجابري أن كتب أن " الحاجة الى "بيان من أجل الديمقراطية" قائمة فعلا... غير انه لن يكون لهذا "البيان" أي مفعول تاريخي، ولن يكون هو نفسه في المستوى المطلوب،  ما لم يسبقه، أو على الأقل  يرافقه "بيان من أجل العقل"([3]). ولعل بيان العقل المطالب به هنا  سيصطدم لا محالة بمسألة شروط إمكانية قيام عقل في دار الإسلام، أمام سلطة النص المقدس ودونية الجسد والحياة الدنيا.

لا مجال لكي يفرض العقل السليم سطوته في مناخ معاد له، وفي ديار ارتكزت على ضحده، إلى الحد الذي وصل الأمر بممجديه إلى تمجيده من أجل استعباده. بالإضافة إلى مضاعفة الأزمة حينما تصبح تاريخية. يقول عبد الله العروي: " جرب المجتمع الإسلامي مفارقة الفكر للواقع عندما ظهرت الفرق وأولت حقيقة واحدة مبثوثة في كتاب منزل تأويلات متضاربة، ثم عمت التجربة و تعمقت  بعد أن تحاربت السنة والشيعة مدة قرون دون أن يتمكن أي فريق من إقناع الفريق الآخر. فتساءل كل منهما: كيف يمكن أن يتعصب المرء تعصبا أعمى لأفكار لا يرتاح لها العقل السليم"([4]).

ويصبح الوضع أكثر تعقيدا إذا ما تم الانتباه للبعد العدواني المتأصل يف الفرد. وهو ما تبرهن عليه الدوافع التدميرية التي تتجسد في كل أشكال القتل و الذبح والإفناء، حتى وإن اتخذت تبريرات مبدئية. بل إن كونها تتخذ أقنعة جد محكمة لتضفي  عليها شرعية قدسية ومقدسة، دينية أو قبلية هو بالأساس ما يفضحها. يقول فرويد: " وعندما نقرأ عن المذابح الجماعية التي كانت ترتكب في الماضي، فإنه يبدو أحيانا كما لو أن الدوافع المثالية كانت مجرد ذريعة للشهوات التدميرية، و أحيانا كما في حالة الفظائع التي ارتكبت في محاكم التفتيش يبدو كما لو أن الدوافع المثالية قد تقدمت في الشعور، بينما اكتسبت الدواقع التدميرية تعزيزا لا شعوريا وقد يصبح  كلاهما"([5]).

II

لكن مجيء الفلسفة إلى "إمكانية الغدر بها: يدعو إلى التفكر في مغزاه. فلا بد - عدا الوهم- من أنه وجدت من الأسباب ما  تجعله فئة من ذوي الميول إلى "الحرية" الفردية، وإعمال الفكر الشخصي في قضايا تصل الفرد بالله تقتنع بصواب مهنتها وصحة وجهتها.

إن السؤال الذي يدعو فعلا للحيرة هو كيف أمكن لسيل من الانتقادات وبحر من الشكوك أن تتعايش مع التعظيم والتقديس والتحريم بكل أشكالها فالنص المقدس غض الطرف، لزمن طويل، على هوامشه  المقلقة، وعلى التشكل الجنيني لبراكين العقل. ولم يكن المنع والحبس والاغتيال دائما في حجم خطورة التهديد الذي تمثله الهوامش التي تحولت،أحيانا، إلى مراكز مؤقتة أو دائمة (مثل مركز الشيعة الفارسي بإيران)

كان النص المقدس هو رهان مركز كل الشرعيات، ومن المدهش أن الشرعية السائدة هي تلك التي كانت أبعد عن المعنى المتعارف عليه للنص الشرعي، وهي التي شرعت وأضفت الشرعية على قتل الخصوم.  يمكن اعتبار تاريخ مركزية النص المقدس هو تاريخ إعدام الخصوم. فعلاقتنا ( في دار الإسلام) بالعنف تبدأ بالخلاف حول الخلافة من منطلق غياب ما يضبطها في المرجع الأعلى.

iii

يوصف الجسد في دار الإسلام بالدونية والمادية والضعف وبملجأ الأهواء وبمستودع الغرائز. إنه دابة مخيفة تنحو مباشرة نحو الشهوات والملذات، وهذا لأن أصله المادي حرمه من أية صفة إيجابية (ما عدا التسوية الخلقية) التي تذوب في خضم السلب والسب. وما هو مأساوي في وضعية الجسد هو مآله: الدمار. وهذا ما ييسر إلحاق الأدى به في الحياة وفي القبر.

يمكن القول إن الجسد، ورغم كونه مستقر  الآلآم والشقاء ومقصدا للعقاب، يكون دائما عرضة للتحقير والتدمير في نهاية المطاف. لابد بعد تحقيق القطيعة مع المجتمع من تعيين هدف للعنف، هدف مبرر وشرعي قبل أن يتم الانخراط في مسالكه. وهذا الهدف وجد مع وجود النص المقدس.

ولا يبدو أن وسطية الدين قد أدت إلى موقف وسط من الجسد : فالجلد والرجم والقتل وقطع اليد أو فقأ العين...هي عمليات تستهدف الجسد كمجال لتنفيذ الحكم، ولكنها لا تنتهي عند القصد الشرعي منها، وإنما تمتد إلى جعل الجسد عرضة سهلة لكل اعتداء بحيث يستحيل في مجتمع النص المقدس تحقيق حرمة الجسد (ما دام هو الواجهة الوحيدة التي يمكن التعامل معها، أي استحالة معاقبة الروح بجلدها مثلا أو رجمها أو سجنها أو عزلها عن الجسد..)

iv

 لم يدخل العنف بيوتنا خلسة، لم يتجسس علينا كاللصوص ليفاجئنا عند الفجر. لم يكن مضطرا، وهو الذي ألفنا، دون أن يألفه الكثير منا، أن يدهشنا بضربته الأخيرة (ولا نعرف أين ومتى بدأنا نعد ضرباته؟) هو عنفنا كبر بين ظهرانينا، احتسى معنا كؤوس الشاي وهو يرتدي ألبسة يختارها بعناية من أمكنة مختلفة مكة، كابول، باكستان...

 لفعل العنف علاقة بمكان العنف، فهو عنف له بداية زمنية، نسب، مسالك، أجندة، خصوم، وأحبة. تاريخه هو الحاضر، المليئ بماضيه، هو ألآن، الغاص بالبدايات، بكل تفاصيله  التي هي دوامة من المفارقات. ويعتبر توخي تحقيق المثال المتخيل- والذي يستمد سحره من لا تاريخيته ولا زمنيته هو المحرك/ متعدد الأوجه، المحرك الأولي/ والنهائي، المحرك الرمزي/ والمادي: ذلك أن الانخراط في زمن العنف هو خروج وانفصال ثان واع (بعد الخروج والانفصال القهري عن المجتمع عبر الإقصاء الفئوي و المجالي ) عن وعي الشقاء الذي هو: وعي الفقر /الغنى، الحاكم/المحكوم، المضطهد/ المضطهد.

والولوج إلى مسالكه هو الانزياح من الحياة إلى الموت مع قلب جذري لمعناهما: الحياة تأخذ معنى الموت بكل ما لها من سلبيات، والموت تأخذ معنى الحياة بما تتيحه من إمكانية التخلص من عذاب "الدنيا"، وبما تسمح به نمن التموقع في الخلود (الموت الأبدي). ومن ثمة لا يمكن ممارسة صمت مريب حول علاقة التهميش الاقتصادي (في السكن، والتعليم، والشغل) والسياسي (العدالة، كرامة الفرد في مواجهة البيروقراطية، المشاركة في صنع مستقبل البلد) بكون أفراد وجماعات يختارون ، بعد توفر الأسس لذلك، القطيعة مع مجتمعهم. هذه القطيعة التي هي إما بداية الحمق أو بداية العنف. ولعل العنف  يحتاج لحمق ما لكي يمتلك شرط التحقق.

v

فجر العنف عنفا في القول، تجاوز  حدود الإخبار والتفسير إلى ممارسة عنف آخر يتسلل فيما بيننا بيسر لأن دماءه لن تسيل إلا بعد زمن طويل. و كأن المطلوب، وبأي ثمن، هو تحقيق "وحدة" كيفما كان أساسها، ومهما كان ثمنها، ضد خصم لم تتبين بعد ملامحه.

إنه منطق الحرب الذي يجعل "الكل" ينخرط في عملية تستهدف تحقير وشتم "العدو". يقول فرويد: " حتى العلم نفسه فقد حياديته المبرأة عن الهوى، فإن خدامه يسعون، وهم يعمقون مشاعر المرارة لديهم، إلى الحصول منه على أسلحة يسهمون بها في إلحاق الهزيمة بالعدو، فعالم الانتروبولوجيا مدفوع إلى أن يعلن أن الخصم دنيء ومنحل، والطبيب العقلي مدفوع لأن ينشر تشخيصه لمرض العدو العقلي أو الورحي([6]).

ربما من ألأجدر التساؤل عن عنف آخر سهل الضبط والتعريف، يلقي بأعراضه يوميا من كل مكان، إنه عنف السلم لقد اخترعت فكرة/وضعية الديمقراطية (مهما كانت وهميتها) لجعل الناس يعرفون ويشاركون ويستفيدون ولو رمزيا، تلك الرمزية التي تثني الناس عن اللجوء إلى مواقف تدميرية. وإذا كانت السلطة الحاكمة في المغرب (بدعم من ذوي الثروة والجاه) قد اختارت نموذجا سياسيا مستوحى من الغرب، فإنها عجزت عن جعله نظام الجميع، وبالخصوص ذلك النظام الذي يحتكم إليه خصومه. ولقد ظل الكثير من خصومه خارج شرعيته (حتى وإن لم يكونوا يطالبون دائما بإسقاطه).

ولا يمكن لعمليات الإدماج الأخيرة (في نهاية التسعينيات) أن تكتسي الفعالية المرجوة منها لأنها قامت على اعتبارات سياسوية. ولأن إدماج فئة يقود، في وضعية الالتباس ودوام المشاكل الأصلية، إلى انشقاق فئة أخرى عنها، وتبني مواقف متصلبة وأحيانا جذرية. وينطبق هذا الأمر على كل من اليساريين والثوريين والإسلاميين و الأمازيغيين.

يبدو أن ما يستوجب التحليل أكثر هو عنف السلم. فمن أحشائه ولد العنف. لم يكن أحد يتوقع أن هناك إمكانية ما، في المغرب، تجعل بعض الأفراد يلجئون إلى تفجير "الأنا" التي اعتبرت (و إلى حدود ما قبل هذا الحدث المرجعي: 16 مايو 2003) مقدسة دينيا. فلا بد أن شيئا ما قد حدث في صلب أحشاء السلم دون أن يلتقط ذلك أحد.  إن ظاهرة تكرار و استمرار والتضحية بالنفس عبر المغامرة بحرا، لدخول "جنة" الغرب المسيحي، هي عرض بارز كان عليه أن ينبئ بمجيء ظاهرة أفظع و أعنف: تفجير "الغير" عبر تفجير "الأنا".

 



[1] - كتاب الإقتصاد في الاعتقاد، دار الكتب العلمية – الطبعة 1، 1978 ص 157.

[2] - نفس المرجع، نفس  الصفحة

[3] - الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة، ط 1، بيروت 1982 ص 76.

[4] - مفهوم الإيديولوجيا، المركز الثقافي العربي ، ط 2، 1984، ص 19.

[5] - أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، ط 1، 1977، ص 53.

[6] - أفكار لأزمنة الحرب والموت، مرجع مذكور سابقا  ص 9