ص1         الفهرس      51-60

 

التنمية وتيه الإنسان*

 

عزيز بومسهولي

عبد الصمد الكباص

1 ـ المفارقة تعبير أصيل عن تيه الإنسان

يمكن القول بأن المفارقة هي تعبير أصيل عن التركيب الأنطولوجي للإنسان باعتباره تأليفا للصيرورة، فوجود الإنسان في العالم يحمل في ذاته أساس عدمه. و هذا التآلف التركيبي يبرز خاصيتين أساسيتين للصيرورة بما هي وحدة الوجود و العدم العينية، وهما الولادة أو النمو، و الموت، فالخاصية الأولى تعبير عن انتقال من العدم إلى الوجود، و الثانية تعبير عن انتقال من الوجود إلى العدم، إن هذا الأساس الذي يعتبر الاختلاف مستلزما للهوية هو ما يشكل الأرضية التي يقف عليها وجود الإنسان،فالهوية تستند على الاختلاف، و الاختلاف يستند على الهوية، كما أن الموجب و السالب يعتمد كل منهما على الآخر. و هذا الاعتماد المتبادل هو ما يعطي الوجود العيني.

هل معنى هذا أن المفارقة تقيم في الإنسان و تكشف عن أساسه ؟ و إذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن اعتبار التاريخ الإنساني تاريخا للتيه ؟

إن ظهور الإنسان في حد ذاته في العالم هو علامة على التيه، فتاريخ الظهور يبدأ لحظة انسحاب الوجود، فالظهور هنا يستند على الاختفاء، و ترك الإنسان يعرض في الظهور معنا تركه يواجه التيه. و لا شك أن قدر الإنسان هو أن يتجلى في التيه. إن مكر التاريخ يحول التيه إلى فعالية تتجلى عبرها القدرة الإنسانية المتمثلة في إخضاع الطبيعة و المصير الإنساني للسيطرة التقنية.

و مكر التاريخ ذاته هو الذي يعطي الإنسان الإحساس بالرغبة، كما أ،ه يلهيه في البحث عن الغاية، فيتحول من مستوى الكائن البيولوجي، إلى مستوى الكائن الأخلاقي، و هذا التحول المتعالي ليس إلا وجها للمفارقة العميقة التي تؤسس صيرورة الإنسان، فانكشاف الغاية يقود الإنسان نحو تأسيس أخلاق الواجب، تلك التي تنتظم عليها السلوكات البشرية الرامية إلى تحقيق التلاؤم مع الغاية، أي تحقيق الشرط الأخلاقي، الذي يجعل السلوك العملي مستجيبا للغاية، لكن إذا كان النزوع إليها الواجب الأخلاقي باعتباره تجليا لمبدأ كوني أي لغاية أخلاقية لا مشروطة كما هو الشأن في التصور الكانطي، فإن مبدأ الغاية ذاته يكشف عن مفارقة أساسية تكمن في الأساس اللاغائي للغاية ذاتها، و هنا يمكننا الحديث عن الغاية بدون غاية، أو عن لا غائية الغاية، و هذا تجل آخر للتيه، و هو تعبير عن هذا الازدواج التركيبي المحايث و المتعالي، كما هو تعبير عن ازدواج الضرورة و الحرية. و بما أن الإنسان يحيا في التيه، و هو يعي مصيره ككائن تائه، فإنه يؤسس وجوده التاريخي بالبحث المستديم عن الإمكانية الكيفية لحياة أفضل، تحقق الإشباع من جهة، ( إرضاء الضرورة) كما تحقق إبداع فن الحياة ( انكشاف مبدأ الحرية).

و من هنا فإن الخطاب المؤسس للتنمية فإنه يستند على هاتين الإمكانيتين. الأولى و تتمثل في الرفع من المستوى المادي للشعوب، و الثانية في انكشافها كنمط جديد منظورا إليه كقيم جديدة، تعاش كيفيا، بمعنى أنها تجل للإبداعية و الفاعلية الإنسانية.

إن هذا الخطاب يقدم نفسه إذن كاستجابة للرغبات المطردة للإنسانية من أجل الرفع من مستواها المادي، و تحقيق اكبر قدر من الإشباعات الضرورية و الحاجيات الإنسانية، بل و في خلق تكافؤ للفرص بين الأفراد و المجموعات البشرية، و إتاحة المجال لاستفادة مختلف الشرائح الاجتماعية من الحد الأدنى من النمو الاقتصادي، و الاستفادة من الخدمات الاجتماعية و الصحية، هذا من جهة، و من جهة أخرى فإن خطاب التنمية يقدم نفسه ككيفية جديدة لفن الحياة، كممارسة ممكنة لفن تدبير الحياة السياسية، إنها ممارسة قائمة على اللعب، بمعنى ما إنها انكشاف للديمقراطية، و من هنا ترتهن التنمية المستديمة بالديمقراطية، و هنا في غياب ديمقراطية لا يمكننا سوى الحديث هن نمو مطرد كما هو الحال بالنسبة للصين، أو عن تنمية مجهضة كما هو الشأن بالنسبة للعديد من المجتمعات النامية في إفريقيا و العالم العربي و أمريكا اللاتينية. عن المشكلة الأساسية ليست متمثلة في كيفية مواصلة النمو الاقتصادي، بل من أجل أي شيء يواصل هذا النمو الذي لا يقود إلى أزمة من شأنها أن تفضي إلى حل ملائم، أو إلى حدوث تحول نوعي، و لكنه يقود إلى انقطاع و تقهقر و فشل، و إجهاض حقيقي لمشروع حداثي، بل إنه ينبئ أحيانا بارتكاسة تهدده بعودة الماضي، ليتحكم من جديد في المستقبل، و إعطاء الفرصة للنزاعات الإيديولوجية الدينية خاصة، من أجل احتكار الواقع السياسي و الاقتصادي و إرجاء مشروع المجتمع المدني إلى أجل غير مسمى، و الأخطر من هذا هو ظهور و انبعاث خطاب الإكراه الذي يبشر بمجتمع الرعية المسنود باللاهوت السياسي و الذي يستهدف بالأساس دولة المؤسسات و الحق المدني، و يشكك في مشروعيتها الحضارية، و غالبا ما يكون خطاب الإكراه السياسي مرتكزا على حركية الجماعات المتطرفة التي لا تتوانى في اللجوء إلى العنف من أجل إعاقة النمو الذي شرعت في نهجه الدولة الوطنية دون اعتماد على الأساس الديمقراطي ( حالة الجزائر). الذي يستلزم نجاح أية تنمية مستديمة، تنمية تحقق رفع المستوى، في ذات الوقت الذي تقدم فيه نفسها على أنها وسيلة لتنمية الإنسان نوعيا، وسيلة يستشعر من خلالها الكائن الإنساني بوجوده الكيفي على نمطه الخاص أي في إرواء رغبته الجمالية باعتباره إمكانية أصيلة للحق، و تجليا لفن الحياة، إنها رغبة مزدوجة يتمتع فيها الفرد بالحياة، كما تبدو من خلالها الحياة جديرة بالاحترام، و هنا تؤخذ الحياة كتنوع كيفي و أساس للتعدد الجوهري، كما تؤخذ على استحقاق الفرد لهذا التنوع الكيفي ما يشكل أساس محايثة الحياة للكينونة الإنسانية.

هذا التأويل هو ما يجعلنا ننظر إلى التنمية لا باعتبارها نضالا ضد الندرة، و إيجادا للوفرة، و تحقيقا للنمو الاقتصادي، بل إنها فن تدبير المصير الإنساني، الفن الذي يجعل القوى البشرية إيجابية ذات إرادات إثباتية فعالة، و من هذا المنظور تغدو التنمية تعبيرا عن علاقات قوى سياسية وازنة. أي أنها تستطيع توجيه الكيفية، و تدبير الغاية. و هذا البعد الازدواجي للتنمية باعتبارها اقتصادا ( مادة) و فنا ( قيمة جمالية)، هو الذي يجعل منها تأسيسا جديدا للإنسان يتطلب أولا استعادة الإرادة الفعالة، كما يتطلب تدبير العيش بتحقيق النمو الكفيل بإشباع الرغبة المزدوجة للإنسان، رغبته البيولوجية المادية، أو الشهية بتعبير سبيتورا، و رغبته في ممارسة فن العيش، وفق نمطه الخاص أي الرغبة النوعية المؤسسة على الوعي و الإرادة، تلك التي تهدف إلى تحويل الضرورة إلى إمكانية للحرية. بناء على هذا التحليل فالتنمية هي تطويع الضرورة ( الطبيعة)، و تحقيق الوفرة المادية و مستوى أرقى من العيش في سبيل التحرر من إكراهات الطبيعة و إكراهات المجتمع و تقاليده المتحجرة تلك التي اكتسبت عبر التراكم التاريخي إلزامية حتمية تعيق أية انطلاقة نحو المستقبل، من قبيل تحقير المرأة في العالم العربي، و إعاقة اندماجها في التنمية، و رفض مشاركتها في الحياة العامة السياسية، و الثقافية و الاقتصادية، بل إن بعض البلاد الإسلامية مازالت تعتبر سياقة المرأة للسيارة عارا و مروقا دينيا يستوجب العقاب، و يعتبر شأن المرأة جزءا لا يتجزأ من وضعية الفرد في هذه البلدان الريعية التي لا تقوم على الإنتاج و إنما على الهبة الطبيعية، كما أن نظامها الاجتماعي يتأسس على العشائرية و غياب الفرد، بمعنى أنها مازالت تستند إلى مجتمع الرعية، الذي يغيب المواطن الحر المسؤول، و يكرس مبدأ الفرد المطلق الذي يرعى و يسوس الرعية، و يجعل مصيرها خاضعا لمشيئته فهو الوحيد الحر الذي لا يتعرض لأية مساءلة، بما أنه لا يحتكم سوى لذاته، و بما أن الرعية مازالت مقصاة عن تحمل مسؤولياتها التاريخية سوى ما يتعلق بما هو خارج عن نطاق المسؤولية السياسية الفعلية.

إن التنمية من هذا المنظور هي نقيض للنزعة الاستبدادية، و هذا ما يعني أيضا أن التنمية الاقتصادية المستديمة تستلزم فعالية فردية، و أرضية حرة كأساس ليبرالي لديمقراطية تنبني على المساواة الإنسانية كقاعدة للكرامة و الحق، لكنها في الآن ذاته مجال للتفاوت الخلاق القائم على تحرير القدرات الشخصية، و الدوافع الإبداعية التي تحقق مبدأ التفاضل القيمي ذلك الذي يستعيد من خلاله الإنسان وجوده على نمطه الخاص. و هذا ما دفع بعض الاقتصاديين كفيلبير مور(wilbert moore ) على الربط المشروط بين التغيير الاقتصادي الحق و بين التغيير القبلي في سلم القيم السائد في مجتمع من المجتمعات. و يبدو أن طرح هذا التلازم المشروط بين التنمية و القيم يكتسي أهمية بالغة فيما يخص مجتمعنا، فبلادنا تعي بما في ذلك مسؤوليها أن ضعف الاستثمار و فشله في أحيان كثيرة يرجع بالأساس إلى عوامل قيمية مرتبطة بالعقلية المتحجرة من جهة، و بثقافة الريع تلك التي لا تتأسس إلا على ضمان سيولة مادية دون عمل، و من غير ما حاجة إلى بذل الجهد أو التفكير.

إن هذه القيم الثقافية الريعية تتعارض و مبدأ الإنتاجية، فهي قيم للأخذ و الاستنزاف و الإتكالية و الجمود، و ليست قيما للإبداع بعبارة أدق إنها تعبير عن الارتكاسية و العدمية في أجلى صورها.

و بما أن التنمية المستديمة مشروطة بقلب القيم، فإنها لن تتحقق فعلا ببنائها على مبدأ الرغبة الذي يعبر على الإنتاجية و الابتكارية، و معانقة الحياة، و على تلك القوة التي لا تتناهى قدرتها الإيجابية على الفعل و التلاحم بالدينامية الخلاقة الرامية إلى تدبير مستقبل الإنسان في الكون. و جعله جديرا بأن يحيا حياته وفق تجربة الحد الأقصى من التيه.

2 ـ إتلاف الغاية و إمكان التنمية

تؤكد التقارير التي قدمت في المنتدى الدولي الرابع حول تجديد دور الدولة المنعقد بمراكش في دجنبر 2002 ، أن الجهد العالمي المنسق لتعزيز الديمقراطية يبلغ حوالي مليوني دولار سنويا تقدم للعون الديمقراطي و البرامج المتعلقة به في الدول النامية. و عندما نقارن هذا الرقم بالأرقام الأخرى المتعلقة بالمجهود العسكري أو بتجارة المخدرات أو بالترويج السري للأسلحة فسنجد أن المجهود المادي المرصود لتخريب الديمقراطية يشكل أضعاف أضعاف ما يرصد من أموال لتعزيزها، يمكننا أن نورد فقط مثلا صغيرا يتمثل في الرقم الذي سجلته تجارة المخدرات عالميا و الذي وصل سنة 1994 إلى 500 مليار دولار.. و هذا الوضع يبين السياق العام الذي يرهن أفق التنمية بمفارقات اقتصادية و اجتماعية و ثقافية.. غير أن التساؤل عن التنمية و عن حدودها و عن موقع الإنسان فيها يقود إلى مسألة أساسية تحدد من زاوية فلسفية الإمكانات القصوى التي يمكن أن تكون لهذه الصيرورة و المحددة لأفقها و تتعلق بالإمكان التاريخي للتنمية. و يمكننا صياغتها على النحو التالي: لماذا أضحت فكرة التنمية فكرة ممكنة تاريخيا ؟ لماذا غذت شكلا ناجزا يمكن تصريفه في مخططات و برامج تهم الوجود الإنساني في بعض جوانبه؟ ما هي الدلالة التاريخية و الوجودية لهذا الحدث ؟

سواء نجحت التنمية في تحقيق أهدافها أم أخفقت فهي تحيل أولا على مفارقة أصلية ترتكز إليها و تسندها، تتمثل في كون الإنسان يحيا عبر وجوده الاجتماعي و الاقتصادي وضعا يفلت فيه غايته. بمعنى آخر فكون التنمية موضوعة كرهان للتفعيل التاريخي، فهذا يعني أن الإنسان لم يستطع أن يحقق ما يستجيب لرغباته في الأشكال التاريخية التي يفرزها وجوده. هذه المفارقة بين الغاية و التحقق الواقعي هي التي تشرط الصيرورة البشرية كما تترجم نفسها في الفعل التاريخي. يكفي أن نفترض أن هناك ما يجب تنميته لكي نستنتج أن هناك ما يجب تغييره لأن تحققه لا يشبع الغاية. يمكننا أن نتساءل في هذا الصدد ما الذي لا يرضي في اتساع ظاهرة الفقر و ارتفاع الوفايات و تدهور الخدمات الأساسية و انتشار الأوبئة و تدهور نسبة التمدرس و ضعف الاستفادة من الخدمات الصحية و عدم التوازن في توزيع الثروة و انعدام الحقوق الأساسية و انتفاء المشاركة الديمقراطية إلى غيرها من المظاهر التي تهدف التنمية إلى تجاوزها و تغييرها ؟ الأكيد أنها تظهر حضورا تاريخيا غير طبيعي لعدم انسجامها مع مطلب ضمني محايث للصيرورة البشرية و عملها المنتج للتاريخ، و هذا المطلب يؤدي دور المعيار الذي على أساسه يتم تحديد القيمة التاريخية للوضع الإنساني كما تكشفه الشروط الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية. و كل هذا يطرح سؤالا جوهريا هو: هل يعرف الإنسان الرغبة التي يبحث عن إشباعها في التنظيمات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الغاية التي يجب أن تجد تحققها العيني في شروط وجوده كما هي مجسدة واقعيا ؟

يمكننا أن نقول أن التنمية كانت النتيجة التاريخية لهذا الوضع الانطولوجي الذي يشرط الإنسان و المتمثل في إتلاف الغاية. عندما نعود إلى الوراء نجد أن الإنسان قد دشن وجوده الحديث من خلال هذه النقلة التي أرست تحويرا جوهريا في بنية العالم بكامله. إذ انتظم الوجود الإنساني في العصر الماقبل الحداثي من خلال غائية مفارقة له. حيث لم يدرك الإنسان بعد الغاية في حد ذاته. بل كان العالم بكامله موجها نحو الله و حينها كانت المنظومة العامة للحق تقوم على أولية حق الله على البشر و ليس حق البشر على أنفسهم. مع العصر الموسوم بالحداثة نزلت الغاية من السماء إلى الأرض و أضحى الإنسان غاية في حد ذاته و بلور الفكر الفلسفي الأنواري الأرضية الفكرية لهذا التغيير الذي صار فيه الإنسان وجودا مستحقا لذاته. و الحداثة نفسها غذت هي تحيين الحرية في الوجود الخاص للإنسان. و بذلك فقد جسدت موقفا من الزمان تنتصر فيه للحاضر و تحرره من وصاية الماضي. و الإنسان بذلك يتحدد إزاء نفسه كحرية تختبر في الحاضر. غير أن الإنسان كان ضحية مفارقة حكمت عليه بالتيه أي بإتلاف الغاية. ففي الوقت الذي أدرك نفسه أنه غاية في حد ذاته و أضحى يتمثل ذاته ككائن ذي كرامة و يعامل على هذا الأساس باعتبار ماهيته تتكون من مجموعة من الحقوق المتأصلة فيه، فإن الأنظمة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي أفرزتها تطورات هذا العصر مثلت نسفا عمليا لهذا الوضع. إذ ظهر أن الأنظمة الاقتصادية تحول الإنسان إلى وسيلة لإشباع غايات لا يعيها مفارقة له. و كشفت الانتقادات التي قدمت بصدد النمو الاقتصادي أنه يحول البشر إلى وسيلة في خدمة الاقتصاد و ليس العكس، و صار الإنسان في تجربته الأكثر عينية مع أبسط تفاصيل اليومي محكوما بمنطق التيه. لأنه أتلف غايته ليس بإرادته و إنما هو مسحوب في مجرى لا يتحكم فيه.

يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن البلدان التي تشكل موضوعا للتنمية كما هي مطروحة في أدبيات الأمم المتحدة هي بلدان كانت خارج تجربة التنوير كحدث تاريخي. لذلك نلاحظ فيها أن المفارقات التي ترهن مشاريع التنمية تنبع من الوضعية التي أنتجها التصادم بين الترسبات الثقافية الماقبل حداثية و بين التغيرات التي تقترحها التنمية على هذه المجتمعات. فإن كانت التنمية تقترح تعديلات إجرائية على مستوى بنية الإنتاج من أجل الرفع من الدخل و تمكين الفئات الأكثر فقرا و إقصاء منه، فهي كذلك و باعتبارها نظاما متكاملا، تقترح في تساوق مع ذلك، تغييرات أخرى تخص الوضعية الحقوقية للأفراد، و هياكل اتخاذ القرارات و أنظمة الحكم. و هي في ذلك تدخل أنظمة معيارية حداثية. يمكننا أن نسوق في هذا المقام مرة ثانية مثال الديمقراطية. فهذا النظام ليس نسقا تقنيا لتوسيع المشاركة في اتخاذ القرارات فقط، بل تأويل خاص للإنسان و لماهيته ولانعكاس هذه الماهية على المستوى السياسي. فالديمقراطية هي أولا " سياسة الذات " كما قال ألان تورين في كتابه " ما هي الديمقراطية ؟ ". و من حيث هي كذلك فهي تفترض مجتمعا يشكله أفراد يتكونون كنواة حرة مستحقة لوجودها و يدركون أنفسهم كحرية عينية تحقق نفسها في التاريخ و على الدولة أن تكون استجابة لهذه الحرية. و بما أن الأفراد الأحرار العاقلين المشكلين للمجتمع متساوون في حريتهم التي تكون ماهية أصلية لوجودهم و ليس هبة من أية جهة غيبية أو رمزية، فإن إرادتهم السياسية يجب أن تنعكس في الحكم. و بذلك فإن الديمقراطية نظام ينفي مجتمع الرعية و يقوم على مجتمع الفرد الحر و المسؤول. بل أكثر من ذلك فهي تضع الدين و الاعتقاد و الميولات الثقافية و القناعات في نطاق الجماعة و سلطتها. فالإجماع البدئي الذي عليه تتأسس هو أن الفرد حر و حريته هي نواة المجتمع و الدولة الديمقراطيين.

في البلدان النامية التي في غالبها لم تبلور تاريخها الحديث في إطار تجربة التنوير، لم يحصل بعد الاعتراف بالفرد كنواة للمجتمع و ليس الجماعة ـ في تشكيلها الديني أو العرفي أو اللغوي و العشائري ـ و من ثمة فكل ما يترتب عن ذلك ( أي عن الاعتراف بالفرد ) سياسيا و ثقافيا يبقى معلقا تاريخيا. فالديمقراطية في وضعية جد مؤسفة حتى استحالت إلى نظام مفرغ من مضمونه التحرري. يمكننا أن نقدم كنموذج لذلك المغرب و لنأخذ بالضبط تجربة ما سمي بخطة إدماج المرأة في التنمية. لنتساءل لماذا أثيرت                     بصددها كل تلك الاعتراضات و النقاشات و الاحتجاجات رغم أن ما تتضمنه لا يتجاوز مستوى إجراءات بسيطة قد تتم إما على المستوى التشريعي أو القطاعي ؟.. إن الأمر ليس بهذه البساطة. فهذه الاعترافات تترجم وضعية مفارقة يتمثل أساها في عدم حصول الاعتراف التأسيسي بحرية الفرد. فالنقاش مازال يفترض أن حرية الفرد يجب أن تخضع للوصاية الدينية و ليس العكس. كما أن مبدأ المساواة لم يتكرس كقناعة عامة و كسلطة مرجعية تحسم في كل تناول إجرائي أو تشريعي يهم الإنسان. و كل هذا يصب في اتجاه واحد هو أن الحرية مازالت متهمة أي الحرية المتحققة عينيا في الفرد.

يمكننا أن نعرج كذلك على النقاش الكلاسيكي الذي يدور في البلاد العربية و الإسلامية بخصوص حقوق الإنسان و الحق في الخصوصية. إن تناول الخصوصية بهذا الشكل يشي بأن هناك رفض ضمني لكونية الإنسان و لكونية حقوقه التي تشكل الأساس الأنطولوجي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالمطالبة بمقاربة خاصة للحق الإنساني معناه إخراج الإنسان من ماهيته الكونية التي شكل الاعتراف بها عالميا من أهم إنجازات عصرنا، ووضعه تحت سلطة انغلاقات دينية و عقائدية و اثنية و لغوية.. فالخصوصية الوحيدة التي يجب أن يتم الاعتراف بها و اعتبارها ركيزة التنمية هي خصوصية الفرد و ليس الجماعة. فالانسياق وراء خصوصية الجماعة يؤدي إلى عالم الطوائف المتعصبة التي تتمركز حول ذاتها كامتياز عن باقي الجماعات و في هذا الوضع ينعدم التسامح و يسود التطرف فينمحي السلم و الاستقرار و الأمن..

نلاحظ من خلال النماذج التي أوردناها أعلاه أن المفارقة التي تطرح نفسها في هذا السياق هي الانخراط في مسلسل التفريد الاقتصادي المرتكز إلى أنماط العقلنة المصلحية التي تفرضها ليبرالية الرأسمال دون الاعتراف بالفرد كنواة للمجتمع أي كقيمة تتجمع حولها مختلف القيم المرتبطة بالحرية و الحق و الواجب. و من ثمة غذت التنمية مفصولة تماما عن هدفها الأساسي الذي لا يتمثل في إحداث التراكم المالي و تضخيم كمية الدخل فقط. و إنما يتمثل أساسا في تفعيل مبدأ التمكين الذاتي الذي يمكن الإنسان كماهية حرة و كحق معترف بكونيته و كرامة متأصلة، يمكنه من نفسه.

إن فكرة التنمية التي عرضناها في بداية هذه المداخلة لا تكون متاحة إلا من خلال ضرورة التنوير التي تشكل أرضيتها. و فصلها عن هذه الأرضية يشكل إفراغا عمليا لمضمونها. و يمكننا أن نقول أن توتر عصرنا يكمن في هذه المفارقة حيث يفرض وهم يقوم على إمكانية جعل شعوب بكاملها تستفيد من التنمية دون تنوير.. و تلك أكبر مهزلة يمكن للفكر الاقتصادي أن يقنعنا بها. 

* نص المداخلة التي تقدم بها الباحثان في الندوة الدولية التي نظمها مركز الأبحاث حول التحولات المعاصرة في موضوع مفارقات التنمية بكلية الحقوق بمراكش يومي 25 و 26 دجنبر 2002.