قراءة في "أسئلة
الفلسفة المغربية"
فوزي بوخريص
–1 أسئلة
الفلسفة المغربية" وكتاب الجيب:
كتاب الجيب ظاهرة ثقافية جديدة ببلادنا. رأت النور قبل سنوات
مع منشورا وكالة شراع، وتعززت فيما بعد مع إسهامات منشورات الزمن. ويراهن كتاب
الجيب، كما هو معلوم، على جعل الثقافة ملكا مشاعا. فبثمنه الرمزي يراعي القدرة
الشرائية لغالبية فئات المجتمع، وبابتعاده عن تقديم المواد الثقافية. يروم
الاقتراب من المستوى الثقافي لغالبية القراء، بالاستجابة لحاجاتهم الثقافية كما
وكيفا.
بيد أن هناك من يرى أن جوهر هذه الظاهرة الاقتصادي والتجاري.
يفرغ الشعار الثقافي الذي ترفعه (الثقافة للجميع) من محتواه، ذلك أن توفير الكتاب
بثمن بخس لمحدودي الدخل، الذين يشكلون غالبية مجتمعنا، يتم على حساب تقليص حجم
الكتاب والتضحية بجودته ووضوح كتابته. فأمام الاعتبارات المادية تصير الثقافة أو
الفكر آخر ما يفكر فيه.
والواقع أن كتاب الأستاذين إدريس كثير وعز الدين الخطابي،
الذي يمثل –بما يحتوي عليه من مادة فكرية دسمة حول الفلسفة المغربية وأسئلتها-
واحدا من كتب الجيب الاستثنائية، يضعنا أمام اختبار فعلي للمفارقة السالفة الذكر.
ولعل قراءة الكتاب تشكل المناسبة الفعلية للاختبار..
–2 الخطابي/كثير وتجربة
العمل المشترك:
يقول دولوز متحدثا عن تجربته في العمل المشترك مع فليكس
غاتاري "لقد سرقت فليكس، وأمل أن يكون قد فعل نفس الشيء معي". وهو بهذا
القول يقر بأن العمل المشترك بين الباحثين لا بد وأن يقوم على التضحية. التضحية بالذات
لأجل الآخر. لكن دون أن تصل التضحية إلى حد تماهي الذات مع الآخر. ذلك أن العمل
المشترك يفترض أيضا ألا يكون عملا مشتركا بين ذاتين/أو ذوات، بقدر ما يكون عملا
فيما بينهما/أو بينها. يوضح دولوز ذلك بقوله: "إننا لا نشتغل معا، وإنما
نشتغل فيما بيننا". والأصح أنهما يتفاوضان ولا يعملان.
هناك إصرار إذن لدى دولوز على تفرد الذات بذاتيتها، لكن مع
الحفاظ دائما على جسور التواصل مع الذوات الأخرى، ومعنى هذا أن التفرد لا يصل إلى
حد تسييج الذات وعزلها عن العالم الخارجي وعن الآخرين والإلقاء بها في عزلة مطلقة.
ولو أن دولوز يقول أنه "عندما نعمل نكون بالضرورة في عزلة مطلقة". بيد
أن العزلة التي يتحدث عنها دولوز ليست هي عزلة الكوجيطو الديكارتي، وإنما هي عزلة
يقتضيها منطق العمل والخلق، أي أنها في جوهرها عزلة مسكونة، لأن العمل هو عمل
مشترك يفترض بالضرورة لقاءات.
ولعل المفارقة التي نقف عليها، فيما يتعلق بظاهرة العمل
المشترك في الحقل الثقافي المغربي والعربي بشكل عام، هي ارتباطها بمجال الإبداع
الأدبي الذي هو مجال الذاتية بامتياز. حيث نعاين أسماء كثيرة خاضت عمار الإبداع
المشترك، سواء في مجال الشعر أو في مجال الرواية، ومن هذه الأسماء نذكر: قاسم حداد
وأمين صالح في "الجواشن". وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا في
"عالم بلا خرائط" على المستوى العربي، أما على مستوى المغرب ندرك تجربتي
كل من الغرباوي/الصغير في مجال الرواية، ولقاح/فريد الأنصاري في مجال الشعر..
بينما تكاد تغيب ظاهرة العمل المشترك عن مجال الإبداع
الفكري. ولعل تجربة الأستاذين الخطابي وكثير، تعد من التجارب القليلة في حقلنا
الثقافي. هذا ولا ننسى طبعا تجربة بنعبد العالي وسبيلا الرائدة.. إن المتتبع
لأعمال الثنائي الخطابي/كثير، سيلاحظ أنهما يشكلان من خلال ما أبدعاه حتى الآن من
أعمال مشتركة في مجال البحث الفكري، ترجمة وإبداعا، استثناء داخل الحقل الثقافي
المغربي وربما العربي أيضا.. فقد أمكن لكل واحد منهما أن ينتزع الآخر من ذاته على
حد تعبير دولوز، لينخرطا معا في إنتاج أعمال غنية ومتنوعة كما وكيفا.
3- مشكلة أسلوب
الكتابة في الفلسفة:
لا شك أن القارئ وهو يستقبل كتاب أسئلة الفلسفة المغربية سيراهن على أن يشكل هذا
الأخير إضافة نوعية وكمية في مجال الإصدارات التي تعنى بالفكر الفلسفي في المغرب.
وذلك بالنظر إلى الاعتبارات التي تحكمه، من قبيل أنه كتاب صادر عن سلسلة كتاب
الجيب ذات النزوع الجماهيري. ثم لأنه كتاب حول الفلسفة المغربية، أي خطاب وسيط بين خطاب الفلاسفة الحبابي، الخطيبي وطه
عبد الرحمن، وبين القارئ.. كتاب يروم تفجير ينابيع الأسئلة حول متن هؤلاء المفكرين
لإرواء ظمأ القارئ المغربي والعربي.
لكن يظهر أن المعاينة الأولى لهذا الكتاب كفيلة بتكسير أفق
انتظار القارئ حيث سيكتشف هذا الأخير أن الباحثين ركبا موجة الكتابة
"الإيكزورسيستية" وامتطيا موجة الغموض والتعقيد كما لو أنهما
"يعزمان" لإخراج عفريت المعنى الذي يسكن جسد الفلسفة المغربية!
لماذا إذن هذا الغموض في الكتابة؟ هل ترتبط الفلسفة دائما
بالغموض والتعقيد؟ أم أن الغموض ضرورة تمليها صعوبة بعض المباحث الفلسفية (خاصة
مبحث الأنطولوجيا)؟ لكن أليست الفلسفة وضوح كما يقول أب الفلسفة الحديثة؟
لقد سبق للمفكر العربي علي حرب أن أثار هذه المشكلة المتعلقة
بأسلوب الكتابة في الفلسفة وأبرز أن "هناك من يرى بعين سلبية إلى الميزة
البيانية في العمل الفلسفي، اعتقادا منه بأن جمالية النص تتعارض مع دقة الفهم وقوة
السبر والاستقصاء". ويظهر من خلال ما سبق ذكره أن الباحثين يتبنيان وجهة
النظر هاته.
ويرى علي حرب، باعتباره من أبرز من خاض في موضوع أسلوب
الكتابة الفلسفية، أنه ليست كل فلسفة مهمة كتابة رديئة، مثلما أن كل كتابة جميلة
ليست بالضرورة فلسفة ضعيفة.
والواقع أن تاريخ الفلسفة زاخر بالنماذج المغتلفة والمتضاربة¡ فيما يتعلق
بأسلوب الكتابة الفلسفية. والمؤكد أن الفلسفة لا ترتبط دائما بالتعقيد وبوعورة
الأسلوب. بل على العكس نجد أن الكتابة الفلسفية لدى فلاسفة كبار مثل أفلاطون¡ ديكارت
ونيتشه¡ شفافة
وواضحة وجميلة. لكن صحيح أيضا أن هناك من الفلاسفة المعاصرين من ينتصر لنمط
الكتابة الآخر المتسم بالتعقيد¡ سيما في مجالات فلسفية محددة كالمجال الأنطولوجي
وفي هذا الصدد نجد هايدغر يعتبر "أن عملية نحث المفاهيم وصياغتها في المجال
الأنطولوجي تملي "وعورة الأسلوب". يعزو إذن هايدغر أمر الكتابة المعقدة¡ الكتابة
الحالية من أي مسحة جمالية إلى "كون البحث الأنطولوجي وغايته إدراك الكائن في
كينونته¡ إنما هو
مهمة يتعذر شرحها والإبانة عنها".
وانطلاقا مما سبق يمكن أن نسلم مع إتيان سوريو بالحقيقة
التالية، فيما يخص أسلوب الكتابة في الفلسفة: "… إذا كان هناك فلاسفة يكتبون
جيدا (مالبرانش، برغسون…) فهناك أيضا فلاسفة يكتبون بشكل رديء (أوجست كانط
مثلا)". والسؤال الذي يطرح نفسه على كل قارئ للكتاب أسئلة الفلسفة المغربية هو: ما الداعي إلى هذا
التعقيد في الكتابة. أليس الكتاب هو حول "الفلسفة المغربية"، أي قراءة
لها؟
4- علاقة الفلسفة بالأدب:
لم يقتصر الباحثان في تناولهما لفكر محمد عزيز الحبابي على
أعماله الفكرية، بل انفتحا على كتاباته الإبداعية أيضا، بالنظر إلى "أن
الفيلسوف –كما يقول الباحثان- قد يهجر مؤقتا قوله الفلسفي ويعوضه بقول آخر، وتستمر
إشكالاته الفلسفية في لغة جديدة وجنس آخر". لكن ما يلاحظ حول هذا التناول
لكتابات الحبابي غير الفلسفية هو أنه كان انتقائيا. حيث إنه انصب أساسا على
دواوينه الشعرية، دون أن يتعدى ذلك إلى نصوصه السردية (روايتي جيل الظمأ وإكسير الحياة).
يتساءل الباحثان: "أمن اللائق والمطابق القول إن ما لم
يقله محمد عزيز الحبابي في كتاباته الفلسفية الأساسية، قاله في مجاميعه الشعرية؟".
ونتساءل بدورنا: لماذا فقط الدواوين الشعرية؟! ألا يمكن أن
يقل في نصوصه السردية ما لم يقله في كتاباته الفلسفية؟
ومع ذلك يمكن الإقرار بأن هذه القراءة التي أنجزها
الخطابي/كثير لكتابات الحبابي الفلسفية منها والشعرية، تحمل المتن الفلسفي لهذا
المفكر المغربي المتميز، إلى أبعد من ذاته، فهي تفتح أمامه آفاقا غير مطروقة.
لكن نسجل أيضا أن هذه القراءة تنطلق في عمقها، من تصور معين
للفلسفة، تصور لا يعكس طبيعة وحقيقة الفلسفة أو الفكر الفلسفي كما بدأ يتبلور في
أحضان الثقافة الغربية المعاصرة. هذا على الرغم من أن العمل الذي قام به الباحثين
فيهل من المتن الفلسفي المعاصر.
وكما يقول الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي "لم تعد
الفلسفة تنصب اليوم على موضوع بعينه. وإنما غذت استراتيجية. واستراتيجية الفلسفة
هي مراوغة اللغة وتقويض الميتافيزيقا وتفكيك لأزواجها وتشريح لنسيجها". ومن
هذا المنطلق لم يعد من مبرر لتحصين تخوم النص الفلسفي وتمييزه تمييزا مطلقا عن ما
عداه من النصوص الأدبية. لأن الفلسفي يخترق كل النصوص وكل العوالم. وكما يوضح
بنعبد العالي "فسيان أن نقول اليوم أدبا أو فلسفة، فنحن في الحالتين كلتيهما،
أمام كتابة تستهدف" ذات الشيء.
5- سؤال القراءة:
إن قارئ كتابات الخطيبي، سيلاحظ أن هذا الأخير لا يمل من
الإشارة إلى مرجعياته الفكرية، وإلى "فكر الاختلاف" بشكل أساسي، من خلال
الإحالة على أقطاب هذا الفكر الفلسفي في الغرب بدءا بنيتشه وهايدغر وانتهاء بدريدا
وبلانشو. وطبيعي أن يعمد الباحثان إلى تعقب آثار الخطيبي فوق أرض "فكر
الاختلاف"، من أجل استكناه حقيقة مشروعه الفكري. لكن ما يلاحظ على قراءة
الخطيبي/كثير لمفكري الاختلاف، خاصة نيتشه، هو الحضور المكثف للوسائط. فما يقدمانه
هو قراءة فلاسفة ومفكري فرنسا لنيتشه، قراءة دولوز وسارة كوفمان على وجه الخصوص..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل نيتشه الخطيبي هو نفسه نيتشه سارة كوفمان؟ ألا
ينبغي أخذ مشكلة التحوير بعين الاعتبار في مثل هذا النوع من القراءة؟